الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط
الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط - Page 44
إدمان النفط.. ام انه إدمان الحرب؟!
السفير بتاريخ 18 تموز 2008
سمير كرم
(أ.ل) - كانت الولايات المتحدة الأميركية في نحو نصف مساحتها الحالية..
كان ذلك وهي تستعد لخوض الحرب ضد المكسيك بهدف الاستيلاء منها على تكساس. وقبل أن تبدأ الحرب بشهور قليلة كتب جون اوسوليفان في المجلة التي كان يرأس تحريرها »ديموكراتك ريفيو« (صيف ١٨٤٥) يقول:
» ينبغي أن لا يسمح لأي امة على ظهر الأرض أن تتدخل في القدر الواضح لأميركا بأن تنتشر في ربوع القارة بأكملها، من اجل التطور الحر لملاييننا الذين يتكاثرون سنويا وبسرعة، ومن اجل الديناميكية الطبيعية التي يغزون بها الحقول، وكذلك من اجل نظامنا السياسي المتفوق«.
من يومها أصبح اصطلاح »القدر الواضح« جزءا من القاموس السياسي الأميركي بل جزءا من الثقافة الشعبية الأميركية يلجأ إليه الكتاب والإعلاميون.. ولا يزال يدل على ان على أميركا واجبا مقدسا ان توسع حدودها وتوسع آفاق الدفاع عن مصالحها. في تلك الحرب ضمت الولايات المتحدة إليها ٥٢٣ ألف ميل مربع من الأرض شملت تكساس وكاليفورنيا وولايات الجنوب الغربي الأميركي.
بدأت الإمبراطورية الأميركية ولم تتوقف حروب الولايات المتحدة بأنواعها وأهدافها المختلفة .. بل امتدت الى ما وراء المحيطين اللذين يحيطان بها الاطلسي من الشرق والهادي من الغرب.
ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الجدال والخلاف حول ما يسمى سلطات الحرب حتى ان عدد التقارير الرسمية والبحثية التي صدرت حول الموضوع لا يكاد يحصى. وقبل أيام صدر تقرير جديد حول الموضوع نفسه عن لجنة كانت قد تشكلت في العام الماضي برئاسة وزيري الخارجية السابقين الجمهوري جيمس بيكر والديموقراطي وورن كريستوفر. لم يتردد التقرير الجديد في أن يقول صراحة في بدايته إن تقارير الخبراء غالبا ما ينتهي أمرها إلى جمع الغبار فوقها أكثر من التهيئة لتغييرات مصيرية في السياسة وتمنى ان يتجنب هذا التقرير ذلك المصير.
ولست اعتقد ان هذه اللجنة او تقريرها سيكونان اسعد حظا، وبصرف النظر عن نوعية التوصيات التي يرفعها التقرير الى »الرئيس القادم للولايات المتحدة«. والتقرير يقول »ان استطلاعات الرأي العام التي اجرتها مؤسسة غالوب على مدى نصف قرن حول موضوع سلطات الحرب تظهر ان الاميركيين يشتركون في الرغبة في ان تجري مشاورات بين الرئيس والكونغرس (قبل الدخول في حرب)… لكن هذه المشاورات لا تجري في اغلب الأحوال. وهذا أمر غير صحي ولا يدعم حكم القانون انه لا يبعث برسالة سليمة الى قواتنا ولا الى الرأي العام، ولا هو يشجع على الحوار بين فرعي السلطة«. وينتهي التقرير الى اقتراح صيغة جديدة لقانون سلطات الحرب لتصدر في عام ٢٠٠٩ لتكون بديلا عن الصيغة الراهنة التي صدرت في عام ١٩٧٣ في أعقاب نهاية حرب أميركا على فيتنام ونتيجة للخلافات والصراعات التي أثارتها داخل الولايات المتحدة.
قرنان من الزمان بل اكثر مضيا منذ صدور الدستور الاميركي لم ينقطع خلالهما النقاش والصراع الفكري والسياسي حول سلطات الرئيس في الحرب مع ان الدستور يحتوي على نص صريح يمنح الكونغرس وحده سلطة اعلان الحرب مع ذلك من البدايات الاولى والرؤساء الاميركيون المتعاقبون يدخلون الحروب خارج الاراضي الاميركية دون الرجوع الى الكونغرس لأخذ قرار منه وحتى دون التشاور معه. حتى ان المرات التي دخلت فيها الولايات المتحدة الحرب بإعلان من الكونغرس تعد على أصابع اليد الواحدة.
في كل مرة يصدر تقرير جديد بتوصيات جديدة… وكأن الفرق هائل بين حرب توفرت لها الأسانيد القانونية وأخرى بدونها. انما هي مماحكات قانونية بين السلطة والمعارضة يضيع اي معنى ايجابي لها اذا ما تذكرنا ـ مثلا ـ كيف ان الديموقراطيين ركبوا موجة المعارضة الشعبية العارمة للحرب في العراق ونجحوا في انتزاع الاغلبية من الجمهوريين في انتخابات عام ،٢٠٠٦ ولم يلبثوا ان اصطفوا وراء المؤسسة العسكرية ووجدوا أنفسهم يقرون ميزانيات الحرب كما هي ويتراجعون عن مطلب وضع جدول زمني للانسحاب من العراق.. ولم يعد الأميركيون او غيرهم قادرين على التمييز بين الموالاة وهم المحافظون الجدد الجمهوريون والمعارضة »الديموقراطية« ولم تعد حرب بوش كما كانوا يسمونها أيام الانتخابات بل حرب اميركا. لقد شاع في الفترة الاخيرة ـ حتى داخل الولايات المتحدة نفسها ـ القول بأن الهدف الحقيقي من غزو العراق واحتلاله كان النفط فإن اميركا اصبحت مدمنة على النفط ولا تستطيع التخلص من هذا الادمان…وربما الادمان على النفط العربي بوجه خاص.
فهل صحيح انه ادمان على النفط ام انه في الحقيقة ادمان على الحرب لا تستطيع الولايات المتحدة ان تتخلص منه بل انها تغرق فيه أكثر وأكثر بمضي الزمن؟
ان النفط لم يمنع عن اميركا في اي وقت حتى في وقت الحظر النفطي العربي ابان حرب تشرين/اكتوبر .١٩٧٣ ولم تضطر في اي وقت لخوض حرب لان النوبة اصابتها بسبب نقص في امدادات حقن النفط او جرعاته.
انما الحقيقة ان الولايات المتحدة تضحي بالكثير بما في ذلك صدقيتها وسمعتها واقتصادها وحتى الحريات الديموقراطية لمواطنيها من اجل تلبية ما يفرضه عليها الإدمان على الحرب. وصل الامر الى حد ان نفقاتها العسكرية تبتلع نسبة تتجاوز ٥٥ بالمئة من ميزانيتها الاتحادية في حين لا يحظى التعليم الا بنسبة لا تكاد تصل الى خمسة بالمئة. انها تحتفظ بأقوى وأضخم قوات مسلحة عرفها التاريخ على الإطلاق. وقبل سنوات اعلن الجيش الاميركي في تقرير رسمي انه اصبح للقوات الاميركية وجود في اكثر من مئة دولة من دول العالم. وأنه يحتفظ بجنود عاملين وعناصر مدنية مساعدة في انحاء العالم يؤدون مهمات يفوق عددها ١٢٠٠ مهمة. وقد اعتبر تخطي رقم المئة في عدد الدول التي توجد فيها قوات اميركية علامة فاصلة في التاريخ العسكري الاميركي … فإن تعداد سكان هذه الدول يصل الى نحو ثلثي تعداد سكان العالم.
وقبل ايام نشر موقع »فورين بوليسي لن فوكاس« ـ وهو موقع بحثي أميركي ذو اتجاهات يسارية واضحة ـ معلومات مفادها ان الولايات المتحدة تملك ٢٠٠ قاعدة عسكرية في انحاء العالم والبنتاغون عازم على زيادة هذا العدد كثيرا في العلن وفي السر. (العراق اهم المواقع المرشحة لأعداد من القواعد الدائمة كما هو معلوم). بل انه يعتزم اعادة قواعده الى مناطق كان قد اجبر على الانسحاب منها (الفيليبين في مقدمها). وحديث عسكرة الفضاء متداول بدون حرج في اوساط البنتاغون والبيت الابيض.
وبوضوح لم يسبق له مثيل اصبحت المؤسسة العسكرية الاميركية تعمل مباشرة في خدمة النظام الرأسمالي وعلى حساب الطبقات الافقر في المجتمع الاميركي والعالم. ان الميزانية العسكرية الاميركية التي تبلغ الآن اكثر من ٥٠٠ مليار دولار تسحب من رصيد العمال والفقراء والسود وليس من رصيد الشركات العملاقة.
وتسير عملية عسكرة المجتمع الاميركي بخطى اسرع مما يستطيع الرأي العام الاميركي استيعابه.. بالاضافة الى عمليات توسيع حلف الاطلسي التي بدأت بمجرد انهيار النظام المعادي الذي من اجل التصدي له كان هذا الحلف قد أنشئ اصلا. وفي هذا السياق نفسه تتجه الولايات المتحدة نحو عسكرة علاقاتها مع دول اوروبا الشرقية (الاشتراكية السابقة) بإنشاء الدرع الصاروخي الذي يشكل بحد ذاته سواء في جمهورية التشيك او في بولندا قاعدة عسكرية اميركية متقدمة قادرة على ان تصل الى اي هدف في روسيا او اوروبا ككل واي هدف في الشرق الاوسط والصين وجنوب آسيا.
لقد ادى ادمان الحرب الى فرض هيمنة المؤسسة العسكرية الاميركية على السياسة الخارجية الاميركية وبالتالي على السياسات الخارجية (والداخلية ايضا) للدول التي تخضع لتوجيهات واشنطن … على الاقل المئة دولة التي توجد فيها قوات اميركية تؤدي »مهمات عسكرية« .. (سرية في معظمها). لقد اصبحت السياسة الخارجية الاميركية، وبصفة خاصة في السنوات منذ بداية القرن الحالي، تقع بأكملها خارج نطاق »الديموقراطية الاميركية«، وأصبح البنتاغون هو صاحب الكلمة النهائية في قضايا العلاقات الخارجية وليس فقط قضايا الحرب والسلام. فالقوات المسلحة هي المكلفة بحماية مصالح اميركا في العالم في اطار استراتيجية الامن القومي التي صدرت في عام ٢٠٠٢ بعد احداث ايلول/ سبتمبر ٢٠٠١ . وهي تنص على ان الاستراتيجية الاميركية لا تسمح بمنافسة الولايات المتحدة من جانب اي دولة او مجموعة دول او قوى في العالم.
وليس غريبا ان يغيب اي دور حقيقي للرأي العام الاميركي في قضايا السياسة الخارجية. الا في استطلاعات الرأي ويستطيع الرأي العام ان يعبر عن نفسه بشتى الطرق من الاستطلاعات الى المظاهرات الى الاحتجاجات بكافة أشكالها .. ولكنه لا يستطيع ان يغير مسار السياسة الخارجية الاميركية، خاصة في ما يتعلق بقرار الحرب ومسارها. ولقد كانت آخر مرة لعب فيها الرأي العام الاميركي دورا في تغيير السياسة الخارجية دوره في انهاء حرب فيتنام عام .١٩٧٣
وقد قضت النخبة الحاكمة السنوات العشرين التالية لهذا الحدث تحاول ان تحكم قبضة المؤسسة العسكرية على السياسة الخارجية بحيث لا يتكرر »المشهد الفيتنامي«.
وفي سبيل تحقيق هذه الغاية لم يعد المجتمع العسكري ـ الصناعي كيانا ثنائيا كما كان منذ نشأته وإلى وقت قريب. الآن اصبح كيانا واحدا لا يمكن التمييز فيه بين ما هو عسكري وما هو صناعي .. وصارت الهيمنة للجنرالات، بل للجنرالات ذوي الاتجاهات اليمينية المتطرفة. لقد تعسكرت الولايات المتحدة انتاجا وسياسة وثقافة .. وأصبحت هيمنة العسكريين تنذر بظهور فاشية عسكرية اميركية تصنع تحولا عالميا في الاتجاه نفسه. وقد أدت هذه الهيمنة في السنوات الاخيرة الى تدني أوضاع الاقتصاد الاميركي، وها هي الولايات المتحدة تستعد لادارة جديدة ورئيس جديد وهي مقبلة على واحدة من اسوأ ازماتها الاقتصادية منذ الكساد الكبير عام .١٩٢٩
لقد ادى الادمان على الحرب بالولايات المتحدة الى ان اصبحت دولة تثقلها الديون الى درجة خطيرة وانها تعيش ـ بالدين ـ بمستوى أعلى بكثير من قدراتها الاقتصادية الحقيقية. وتجدر الاشارة الى ان اكبر الدائنين لاميركا هي الصين والهند والسعودية (…)
يقول تقرير استراتيجية الامن القومي الأميركي: »ان للولايات المتحدة مصالح دائمة في الشرق الاوسط وخاصة في السعي الى سلام شرق اوسطي شامل يؤمن اسرائيل وشركاء الولايات المتحدة العرب الأساسيين، ويحافظ على التدفق الحر للنفط بأسعار معقولة«. وفي ضوء الظروف الراهنة يصبح من الضروري التساؤل عما اذا كانت الولايات المتحدة ستلجأ للتدخل العسكري في المنطقة لتأمين »اسعار معقولة للنفط«؟ وهذا ليس مجرد سؤال افتراضي.
ولعل الاقرب الى المنطق ان تفكر المؤسسة العسكرية الاميركية في جعل الخلاف الحاد مع ايران ذريعة لمثل هذا التدخل.
لقد بدأ تحميل جدول اعمال الرئيس الاميركي القادم ـ ايا كان ـ ببنود خطط المحافظين الجدد الذين يستمدون الهامهم السياسي والاستراتيجي من المؤسسة العسكرية .. وليس العكس كما يظن.
والمسألة لم تعد الإدمان على الحرب لا يخضع للسيطرة، انما كدافع يطلب الاشباع مع توفر امكانيات عسكرية حتى في غياب الامكانيات الاقتصادية.
انما يبدو ان الدافعين متداخلان: إدمان النفط يفضي الى إدمان الحرب وإدمان الحرب يحتاج الى النفط وذريعة النفط.
فمن يهمه بعد ذلك اذا كانت سلطات الحرب للرئيس ام للكونغرس؟!
___________________
الجــلاد والضحيّــة
(أ.ل) – كتب رئيس المركز العربي للابحاث النفسية والتحليلية الدكتور عدنان حب الله في جريدة السفير في عددها الصادر بتاريخ:30-1-2009 العدد 11209 القسم الثقافي مقال بعنوان الجلاد والضحية تناول فيه النزاع في الشرق الاوسط تاريخيا وردود الفعل الخارجية للاحداث على الساحة وكيف استطاعت ان تدخل ثقافة الهولوكوست في البرامج الدراسية وتبرز نفسها دائما في موقع الضحية امام الرأي العالم العالمي وجاء فيه:
في حزيران ١٩٦٧, وفي اليوم الثاني بعد اندلاع الحرب، خرجت الجماهير في فرنسا وفي بعض عواصم اوروبا، بمظاهرات صاخبة ضد اعتداء الجمهوريّة العربية المصرية، على الشعب الاسرائيلي المستضعف. ونزل في الشارع ما تبقى على قيد الحياة من المعتقلات النازية، بلباس السجن المميز، مربّطين بسلاسل. وصور كاريكاتورية للبكباشي عبد الناصر كما كان يعرف بلباسه العسكري وفي شنباته القصيرة ويده المرفوعة يحيّي الجماهير الصاخبة مذكرا بهتلر.
وصدرت كل الجرائد، بمانشيتات تقول ان السلاح الجوي هاجم اسرائيل لكنه اصيب بنكسة كبيرة. ولم تظهر حقيقة غدر واعتداء اسرائيل الا بعد ستة اشهر.
عرفت الحقيقة بالتفاصيل وهي ان عبد الناصر لم يكن مصمما على الهجوم على اسرائيل، وان هذه الاخيرة كانت هي المعتدية.
كتب العديد من المقالات التي تقول بان اسرائيل مهددة من جميع الدول العربية بالفناء، وهي تمثل الحضارة الغربية في الشرق وهي قلعة الديموقراطية بين شعوب متخلّفة يسودها الطغيان والانظمة الدكتاتورية.
استغلّت اسرائيل هذه الكذبة، وروج لها الاعلام الغربي الى درجة ان الشعب الاوروبي اضحى بأكثريته مؤيدا لاسرائيل، بغض النظر عمّا ترتكبه من اغتصاب واضح للأرض واضطهاد شعب كان يمكن ان يعيش بسلام لولا انها طردته وشردته من ارضه.
اسرائيل عرفت نقطة الضعف عند الضمير الغربي فاستغلّته الى ابعد الحدود، من تأييد سياسي، الى الحصول على احدث الاسلحة، الى المساعدات المالية والاقتصادية.
واضحت في كل مناسبة تشعر بأنها مهددة بالضعف، تتماهى مع موقع الضحية فتعطل أي هجوم يطالها، وتعطل المنطق وتلغي الحق. اصبحت هنالك ثقافة الهولوكوست تبشر بها وتسعى الى نشرها وتعميمها في كل المجالات الثقافية، الروايات، الافلام، المسرحيات، الرسوم واللوحات، واقيمت لها متاحف تعيد الذكرى او تذكر بما حصل للشعب اليهودي من مآس.
الى درجة انها استطاعت ان تدخل ثقافة الهولوكوست في البرامج الدراسية فيتعلمها الاطفال منذ حداثة سنهم تحت عنوانplus jamais ça أي لا يتكرر ذلك ابدا.
اللافت للنظر ان الشعب الاوروبي تجاوب مع هذه الدعاية، لان لا احد يستطيع ان يصدها او يتحداها والا تعرض لأكبر الاهانات والمضايقات المهنية، اذا ما لاحقه القضاء بتهمة اللاسامية.
الشعوب الغربية ساهمت في انماء ودعم هذه الثقافة، تخفيفا للشعور بالذنب وتكفيرا عن جرائمها المخالفة للقيم الجمهورية وللمبادئ التي ترعرعت عليها منذ اندلاع الثورة الفرنسية سنة .١٧٩٢
خطيئة مزدوجة:
اولا: كل بلد ساهم في اشعال المحرقة. وارتكب بحق اليهود جريمة لا تغتفر. القصص والروايات
كثيرة، التي تظهر جريمة الشعب الاوروبي بحق الانسانية منذ حقبة الاستعمار وما بعده.
الثاني: ما حصل ابان الحرب العالمية الثانية اظهرت وحشية وهمجية لم يعهد الشعب الاوروبي انهما موجودتان وكامنتان في نفسه رغم القيم الانسانية التي كان يبشر ويعتبرها صدا منيعا ضد البربرية.
من هذا المنطلق تغاضى الأوروبيون عن جرائم اسرائيل وعتّموا عليها في اعلانهم، كما لو كان في اللاوعي حاجة الى طرف ثالث يدفع عنه فاتورة بربريتهم، فالشعب العربي والفلسطيني بصورة خاصة اصبحا ضرورة لتصحيح التاريخ وتخفيف الشعور بالذنب عندهم من الجرائم التي ارتكبتها. ولا نعجب ان اكثر حكومة تطرفا تجاه الفلسطينيين هي التي ارتكبت افظع الجرائم تجاه اليهود. فالحكومة الالمانية وجمهورها، تشعر من باب المسؤولية، بواجب دعم اسرائيل حتى ولو كان في الشر والظلم، فقط لانها كانت في السابق تحتل موقع الجلاد.
اذاً اسرائيل تعرف كل ذلك فموقع الضحية الذي تماهت به منذ تأسيسها، منذ ستين سنة اضحى ضرورة وجودية كي تستدر عطف الدول الغربية، وتلزمها دفع جزء من التعويض على حساب الشعب الفلسطيني والعربي في آن واحد. واذا تماهت اسرائيل بالجلاد والنازي، تطلب ذلك بالمقابل من الشعوب الغربية السكوت عنها، وتغطية جريمتها واعادة الذكرى التي تؤلمهم عبر الاعلام الذي يسيطر عليه. فيكفي ان تكبس على الزر حتى تتحرّك الافلام الوثائقية فتظهر اكوام الجثث البشرية والرافعات تنقلها الى المقابر الجماعية او صور الاطفال وهي تذهب الى غرف النار غير مدركة ما سيحصل لها.
يعتبر موقع الضحية الذي تحتله اسرائيل من اهم الاسلحة التي تضمن لها خط الرجعة مهما ارتكبت من مجازر ومظالم، ولا سيما اذا كانت مدعومة باعلام هائل وارشيف جاهز تحركه حينما تشاء.
اذا قيمنا ما حصل في غزة فماذا نستنتج:
نستطيع القول ان شعب غزة حقق نصرا فقط بفضل مجهوده. فهو لم يكبد اسرائيل خسائر فادحة وإن استطاع ان يفشل مشروعها السياسي. لكن الاهم من كل ذلك هو انه ظهر على شاشات الاعلام وعبر الجماهير التي نزلت الى الشارع وقد احتل موقع الضحية. أي انه استطاع بحكم صموده وصبره ان يتحمل جراحه ويظهر للعالم وجه اسرائيل المتخفي وراء ديموقراطية كاذبة. فانتزع من اسرائيل اهم سلاح عندها وتجسدت به الضحية بعد ان انتقل الاسرائيلي الى موقع الجلاد.
هذا الموقع الجديد يشكل خطرا ويحدث ضررا اكثر من الاسلحة الفتاكة. وقد ساهمت اسرائيل على غير علم من التداعيات في تأجيج نتائج الحرب لغير مصلحتها. وكنا نراها كلما صمد الشعب في غزة كلما ازدادت اضرارا وارتكبت مزيدا من الفظائع واستعملت اسلحة محظورة دوليا، ما جعل العالم اجمع يدينها.
التواطؤ على الجريمة مع الاعلام الغربي، عقد مبرم دون الاعلان عنه ما بين الغرب واسرائيل. فبما ان وسائل الاعلام هذه سكتت عن الجرائم النازية طيلة سنوات فيجب ان تسكت بالمقابل على جرائم اسرائيل.
لكن الاحداث التي حصلت في غزة وصلت من الفظاعة الى درجة، لم يعد بالامكان السكوت عنها.
فتطور الاعلام من فضائيات ومواقع الكترونية، جعل الارض مكشوفة، ولم يعد بالامكان اخفاء حقائق الحرب وفظائعها. فصرخة اهالي غزة وصلت الى اقصى المعمورة. الجميع كان يسمع بكاءهم وصراخ اطفالهم، يطلبون النجدة ولا احد يستطيع ان يفعل شيئا، سوى ان يكون شاهد زور على جريمة ترتكب امام عينيه.
اسرائيل كشفت اوراقها امام العالم، وقطعت اوصال السلم وامكانية التعايش مع العالمين العربي والاسلامي.
وتفوقها العسكري الذي ارادت ان تتباهى به وترفع من معنويات جنودها بعد اخفاقها في جنوب لبنان، انقلب عليها ما جعلها تفقد موقع الضحية الذي كانت تبتز به الغرب.
اكيد شعب غزة قد دفع الثمن غاليا ولكن دماء اطفالها ودموعهم واستنجادهم كان له وقع على نفوس العالم بانه حقق واقعا جديدا فبتنا نعرف الآن فعلاً من هو الجلاد ومن هي الضحية.
___________________




