الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط
الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط - Page 31
الجمعة 20 حزيران 1980 العدد 1233 من الحوادث - محمد عبد المولى
مؤتمر البندقية يكرس سقوط القيادة الاميركية في اوروبا
كارتر يوافق على المبادرة الاوروبية شرط تأجيلها الى نهاية العام!
جوبير يتهم واشنطن بالتواطؤ مع موسكو لاحتواء اوروبا
وهيث يحذر من خطر ابتعاد العالم الاسلامي عن العرب
في نهاية شهر نيسان (ابريل) 1971 عقد المديرون السياسيون لدول السوق الاوروبية المشتركة اجتماعاً تمهيدياً لدراسة سياسة التوسع التي تنتهجها اسرائيل في الاراضي العربية المحتلة.وانتهى المدراء الى تقديم نص وثيقة الى المجلس الوزاري لدول السوق المشتركة. ودعت الوثيقة الى انسحاب اسرائيل من الاراضي العربية المحتلة, مع اجراء بعض التعديلات الطفيفة في الحدود, وتنفيذ قرار مجلس الامن رقم 242.
ورد ابا ايبان, وزير خارجية اسرائيل آنذاك على الوثيقة, فبعث برسائل الى وزراء خارجية الدول الاعضاء في السوق المشتركة, واستثنى فرنسا, "عبر فيها عن استياء اسرائيل من اتخاذ موقف معاد لاسرائيل بايحاء من فرنسا". واطلقت الصحف الاسرائيلية على تلك الوثيقة اسم "وثيقة الخيانة"!
في عقد السبعينات كانت اسرائيل تتهم فرنسا بأنها مسؤولة عن قيادة وتوجيه السوق المشتركة الى سياسة معادية لاسرائيل. وقد فقد هذا الاتهام معناه في بداية عقد الثمانينات لأن دولا اوروبية اخرى قد انضمت الى فرنسا. وفي مقدمها بريطانيا. وهما الدولتان الوحيدتان اللتان تحالفتا مع اسرائيل في حرب السويس ضد مصر. ولم تسأل اميركا الرسمية نفسها جدياً عن سبب انهيار التحالف الذي كان يبدو ابدياً ونهائياً, ولا يمكن زعزعة الاركان التي قام على اساسها بعد تخضب بدماء العدوان الثلاثي!
ان الفرق بين اوروبا واميركا اليوم هو ان الاولى تفضل مصالحها القومية العامة. بينما الثانية تبني سياساتها الداخلية والخارجية على اعتبارات مصلحية خاصة وضيقة جداً. ورؤية المشاكل الدولية, وحتى الداخلية, من وجهة نظر المصالح القومية تختلف في نتائجها عن رؤيتها من زاوية المصالح, والارتباطات الشخصية!
وقد يكون ذلك احد اسباب بداية انهيار التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة, هذه "القيادة" التي لم يعد لها ما يبررها بنظر الاوروبيين بعد ان قام اكثر من دليل لديهم ان اميركا تريد "اتباعا" ولا تريد "شركاء".
في عام 1973 و 1975 ضغطت اميركا على حلفائها الغربيين ليقبلوا مؤتمر هلسنكي بشأن الامن والتعاون في اوروبا. وهذه فكرة كان الروس يصرون عليها, والاوروبيون يرفضونها منذ الخمسينات, كما قال ميشيل جوبير في مقال نشرته النيويورك تايمز مؤخراً. وقد اقترحت القوى الاعظم طريقة الامن والتعاون في اوروبا... فأحس الاوروبيون ان المؤتمر انتهى الى محاصرتهم ووضعهم بين العملاقين الجبارين: اميركا وروسيا.
ويتساءل جوبير: هل اميركا مستعدة, نفسياً وعملياً, ان تتدخل من دور القيادة الى دور المشاركة؟ اذا كان الجواب لا, فيجب ان تدرك انها ستواجه حلفاء من الدرجة الثانية, وهذا ما تستحقه وتواجهه الان.
ويمضي جوبير في تساؤلاته: هل قررت اميركا ان تغير وسائلها في ادارة النظام المالي العالمي, فتوقف توزيع عملة لا قيمة لها عبر العالم كله, لانه ليس لها قاعدة عمل (صناعة) وبضائع في اميركا نفسها؟ هل اميركا مستعدة ان تقنع حلفاءها انه عليهم ان يدافعوا عن انفسهم – كما فعلت فرنسا بعد جهد منفرد – بدل ان تشجعهم للاعتماد على المظلة النووية الاميركية؟ وهل تقبل اميركا ان تحد طموحها المالي والتجاري, بمعناه السياسي, وان تفهم ان هناك عالماً يحاول تحرير نفسه من سيطرة الكتلتين الاعظم؟
يبدو ان اميركا لم تتعلم من الانتقادات الاوروبية لدورها القيادي. فهي مثلما استمرت في فرض مظلتها النووية ونظامها المالي وفهمها للأمن الاوروبي, فانها تريد ان تلعب دور القيادة في ازمة الشرق الاوسط, وترفض التدخل الاوروبي الذي يجد قبولاً لدى اطراف كثيرة بين الدول المعنية في الازمة.
ان ما بدا من خلاف بين اوروبا واميركا حول ازمتي افغانستان وايران, وما يبدو الان من اختلاف في وجهات النظر حول كيفية حل المشكلة الفلسطينية, دفع المراقبين الاميركيين الى التساؤل: هل ما بين اميركا واوروبا الغربية مجرد سوء فهم, ام هناك استراتيجيتان على جانبي الاطلسي؟
لا احد يستطيع انكار موجات الغضب على حانبي المحيط ان بشأن افغانستان وايران, وان بسبب المشكلة الفلسطينية. الجانب الاوروبي يرفض معادلة قديمة كانت تقول: "ما هو جيد بالنسبة لاميركا جيد بالضرورة بالنسبة لاوروبا". والاميركيون من جانبهم لا يفهمون كيف يستطيع ان يكون الاوروبيون حياديين في الشرق الاوسط في الوقت الذي تواجه فيه اميركا ازمة مزدوجة في افغانستان وايران! السلوك الحيادي في وقت الازمات مرفوض!
ويرد الاوروبيون: نحن غير حياديين. اننا عقلانيون. ونرى الامور من منظار المصالح القومية.
ويتساءل الاوروبيون: ماذا تتوقعون منا ان نفعل؟
ويجيب الاميركيون: التحالف الغربي في خطر. ولكن, يقول الاوروبيون, ليس بسبب ايران وافغانستان, فثمة تراكمات طويلة اوصلتنا الى ما نحن عليه. انتم تتحدثون عن الضوء الاحمر في الشرق الاوسط الان. ولكن اشعاعات هذا الضوء موجودة منذ سنوات. وعام 1973 نحن الذين قاسينا من حظر النفط, لا اميركا. نحن الذين سلط الضوء الاحمر باتجاهنا, والمشكلة الكبرى ان اميركا فقدت حاسة الاستماع! فمنذ ان عمرت الاموال الاميركية اوروبا بمشروع مارشال, وبنت التحالف العسكري الغربي على اساس ميثاق شمال الاطلسي, اعتقدت انها دولة لا تناقش. مشت في طريق منفرد, طامرة رأسها في التراب, واصمت اذنيها عن اية نصيحة اوروبية. وبدل ان تستمع واشنطن الينا, اخذت تتحدث باسمنا. لقد قررت باسمنا, ولم تقرر معنا!
ومن هذا المنطلق الفكري, المبني على حوادث عالمية كثيرة, فان اوروبا تتجه في سياستها بخط جديد: تجنب اية فرصة للتورط في سياسات ترسمها واشنطن, وخاصة في ازمة الشرق الاوسط, والمشكلة الفلسطينية.
وكما طرح ميشيل جوبير اسئلة, فان ادوارد هيث قال ثمة اربعة اسئلة ملحة حول السياسة الغربية في الشرق الاوسط. جوبيرعالج مشكلة القيادة, وهيث عالج مشكلة وحدة السياسة الغربية في الشرق الاوسط, وتساءل:
1- كيف يمكن للنزاع العربي والاسرائيلي ان يحل؟
2- كيف نجعل الدول المنتجة ترفع اسعار النفط تدريجياً وبطرق معقولة؟
3- كيف يمكن منع الاضطرابات الداخلية من الامتداد الى حقول النفط؟
4- كيف يمكن حماية الدول المنتجة من الاعتداءات الخارجية بدون التسبب في نشر موجة من المشاعر العنيفة المضادة للغرب؟
الرد على هذه الاسئلة بسيط جداً بنظر هيث. "فرغم تعقيدات الوضع فثمة اجوبة بسيطة. لكن لن يجد احد جواباً على اي من الاسئلة ما لم يتحقق شرطان: الاول هو يتابع الغرب سياسته العسكرية والديبلوماسية والاقتصادية بحذر وحسن تقدير فائقين. ثانيا, يجب ان يوجد حل للمشكلة الفلسطينية".
وفي تفسيره للشرط الثاني قال: ان غياب حل للمشكلة الفلسطينية يبعد كل العالم الاسلامي عن الغرب. وقد يجبر الزعماء المعتدلين الى تبني مواقع اكثر راديكالية (تطرفاً) حول النفط والتعاون الامني ومواضيع اخرى ذات اهمية قصوى بالنسبة الينا. والى ان تحل القضية الفلسطينية, فان اي تعاون مع الغرب سوف يدفع الشعوب الاسلامية الى طرح سؤال حول شرعية تعاون دولها مع الغرب. وهذا بدوره سوف يكون سبباً للاضطراب داخل الانظمة, ويعزل قيادات الدول المتعاونة مع الغرب.
ويتفق هيث مع جوبير فيقول: وحل المشكلة الفلسطينية لن يتحقق الا اذا لعبت اوروبا الغربية دوراً موحداً وفعالاً في البحث عن حل. ومع ان لهذه الدول تأثيرها على الفرقاء الا انها لم تستخدم نفوذها كما تفعل اميركا. "لكن دور اوروبا يجب ان يكون مكملاً لدور اميركا"! واوروبا مارست صمتاً مطبقاً حول كامب ديفيد.
هذا على الرغم من انها ابدت شكوكاً حول قدرة كامب ديفيد على منح الحكم الذاتي مضموناً عملياً. ان كل ما انتهى اليه كامب ديفيد هو الغاء لتهديد مصر العسكري لاسرائيل...ان الحل الدائم يستوجب اشراك منظمة التحرير..والسوفيات يجب ان لا يغيبوا عن الحل...واذا لم تتحقق الشروط السابقة فان امن وازدهار الغرب سيبقيان في خطر!
و مع هذا التحذير الواضح والصريح... فالسياسة الاميركية لا زالت تتغاضى عن الحقائق الاولية في ازمة الشرق الاوسط. انها مستمرة في سياسة كامب ديفيد, ومتمسكة بالنظرية القديمة القائلة: السياسة الخارجية انعكاس لوضع داخلي معين!
تلك وجهة نظر, يقابلها رأي اخر يستند الى نظرية "الفراغ". وتفسير هذه النظرية, كما يراها الاوروبيون, يظهر حقيقة الاستراتيجية الغربية في الشرق الاوسط. واساساً, فالاوروبيون يقولون بها ليقنعوا الاميركيين بضرورة ان يقبلوا بالدور الذي ستلعبه اوروبا الغربية في حل ازمة الشرق الاوسط.
يعتقد الاوروبيون انه اذا فشلت اتفاقات كامب ديفيد فستترك فراغاً في الشرق الاوسط, ويجب ان تملأ الدول الاخرى في الاطلسي هذا الفراغ اذا كان الغرب يريد الحفاظ على التأثير في المنطقة, ويريد استمرار تدفق النفط.
ولتأكيد هذا المفهوم فالاوروبيون يقولون ان هدفهم ليس الوقوف بوجه الجهود الاميركية, لكنهم يريدون تكملتها بمنح الغرب امتياز قوة العتلة (الرافعة)! فيستطيعون بذلك ارسال قواتهم الى الشرق الاوسط, وهذا امر غير متاح لاميركا بسبب التزاماتها مع اسرائيل. وهذه استراتيجية توافق عليها السياسة الاميركية سراً, كما قالت ال"واشنطن بوست", ولكنها لا تستطيع الاعلان عنها الان لظروف داخلية.
وتوافق صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" على ذلك التحليل. فقد قالت ان اوروبا ستتقدم بمشروعها الخاص لحل ازمة الشرق الاوسط والمشكلة الفلسطينية. وأهم ما في هذا المشروع الاعلان عن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. هذا مع التحفظ الآن على الجزء الثاني من المشروع الاوروبي, وهو الجزء المطالب بقيام الدولة الفلسطينية.
ولماذا تقسيم المشروع الى جزئين؟
نقلت الصحيفة عن مصادر عربية في الامم المتحدة ان لدى الاوروبيين ضمانات من اصدقائهم العرب انهم لن يضغطوا للحصول على قرار بإقامة الدولة الفلسطينية قبل انتخابات الرئاسة الاميركية في نوفمبر القادم.
وسيعتبر العرب الاعلان الاوروبي خطوة اولى, تتبعها خطوة ثانية تكون بمثابة "اعلان" يكمل قرار مجلس الامن رقم 242. الخطوة االولى تكون في الجمعية العامة للامم المتحدة, لتجنب احراج واشنطن واجبارها على استخدام الفيتو. والخطوة الثانية تكون في مجلس الامن لمنح "الاعلان" قوة الزامية.
والاوروبيون يعتقدون ان منظمة التحرير ستوافق على مبدأ الخطوة خطوة. والولايات المتحدة بدورها تتبع سياسة مزدوجة بهذا الخصوص, وهي نفس السياسة التي اتبعتها في حل مشكلة حرب فيتنام. فقد كان كيسنجر يستعد للسفر الى الصين في رحلته التاريخية بينما كانت اميركا تمارس حق الفيتو لمنع الصين الشعبية من الدخول في عضوية الامم المتحدة. ان موقف واشنطن من الصين في الامم كان لحفظ ماء الوجه. والان اميركا تقوم بنفس الدور: تنتقد دور اوروبا علناً وتشجعهم سراً على المضي في مشروعهم. ولكن خطوة الى ان تنتهى الانتخابات الاميركية!
انها ديبلوماسية معقدة تربك الاصدقاء, ولا ترضي الخصوم! وقد تكون مجرد "بالون" اراد خصوم كارتر ان يفجروه قبل الانتخابات ليخسر البقية الباقية من اصوات اليهود.
ان المشكلة الحقيقية هوان طرح نظرية الفراغ وسياسة الخطوة خطوة لا يتفق ومواقف اسرائيل. ثم ان تعقيدات العلاقة الاميركية – الاسرائيلية تنتهي دائماً باجبار واشنطن على الوقوف الى جانب الرأي الاسرائيلي رغم كل مظاهره المتعنتة, ومهما كانت عواطف اميركا تجاه اوروبا الغربية! والنتيجة المنطقية لهذا: مجابهة اميركية – اوروبية في مجلس الامن حول المشكلة الفلسطينية, ثم انعزال اميركا كصديق وحيد لاسرائيل.
هذا غير ما يتركه تصرف اميركا في مجلس الامن على اصدقائها في المنطقة. واقل الاثار هي تحول اصدقاء اميركا العرب الى اوروبا الغربية تجارياً, مما يزيد التوتر في العلاقات الاميركية – الاوروبية.
والاميركيون لا يفهمون امكانية التداعي المنطقي للاحداث في حال فشل سياسة كامب ديفيد. وبدل ان يتبنوا وجهة النظر الاوروبية, فإنهم يقولون انها تخفي استراتيجية فرنسية خطيرة! ان فرنسا ديستان تسير على خطى فرنسا ديغول وبومبيدو. فكلهم عملوا, ويعملون على تحويل السوق المشتركة الى "قوة ثالثة" قادرة على منافسة اميركا والاتحاد السوفياتي سياسياً واقتصادياً على المستوى العالمي.
الخلاصة, تعتقد اوروبا انها تستطيع ان تملأ فراغ كامب ديفيد من خلال قرار في مجلس الامن يعترف بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني وبحقه في اقامة وطن.
لكن لماذا يتحدث الغرب عن الفراغ في الشرق الاوسط فقط؟ اميركا انسحبت من فيتنام ولم يتحدث الكثيرون عن نظرية الفراغ. وانسحبت فرنسا من الجزائر ولم يذكر احد الفراغ. وبريطانيا انسحبت من مستعمراتها الافريقية ولم تشتغل نظرية الفراغ المفكرين الغربيين! والفراغ, بالمقاييس الغربية, موجود الآن في اميركا اللاتينية, ولا احد يتحدث عنه. فلماذا, اذن, يحدث فراغ في العالم العربي فقط؟
تاريخياً, تحدد الفراغ بالظاهرة العسكرية. كلما انسحبت قوات الاستعمار من احدى بلدان الشرق الاوسط كانت نظرية الفراغ تطل ... ثم تطورت النظرية, وانتقلت الى الظاهرة الاقتصادية... ظاهرة امبريالية. وتأميم قناة السويس كان تحدياً للظاهرة الامبريالية والعسكرية على حد سواء. ففي مرحلة من المراحل اراد الغرب ان يملأ "الفراغ" بإقامة سلسلة من الاحلاف, فتحداهم العرب بقيام الوحدة المصرية – السورية وبنشوب الثورة العراقية... ومع وجود هذه الوقائع الحديثة فالغرب لا زال يتحدث عن الفراغ وكأن اي تهديد لمصالح الغرب اصبحت تعني فراغاً!
المهم, ان العلاقات الاوروبية – الاميركية تمر في أسوأ مرحلة عرفتها بعد الحرب العالمية الثانية. وفي ازمات عالمية كثيرة وجد الطرفان نفسيهما على طرفي نقيض. لم يخطط اي من الطرفين للوصول الى هذه النتيجة. وهما لا يريدانها. ولكن العالم متغير.واذا لم تتكيف الدول مع هذا التغير يقتلها الجمود, وتتخطاها الاحداث. والاعتراف بأن العالم يتحرك الى الامام يؤدي الى الاعتراف بالمتغيرات. ورفض الاقرار بالتغير يؤدي الى الاصطدام بجدار الوقائع الجديدة. واميركا في مرحلة التصدي للوقائع ورفض التكيف معها! انها في حالة سكون. لهذا فالاتحاد السوفياتي قد فاقها تسلحاً, وسجل عليها عدة نقاط في المجال الدولي.
واوروبا التي منحت قيادة نفسها لاميركا اطلت على عقد الثمانينات فوجدت ان قيادتها الاميركية جامدة, ساكنة. فكان لا بد من استيقاظها لمواجهة التحدي الذي يزحف عليها من الشرق والغرب معاً. من الشرق تهديد شيوعي يمتد جنوباً, ومن الغرب يزحف عليها خوف بأن اميركا غير قادرة على حماية اوروبا التي سلمت مفاتيح استقلالها الاقتصادي والعسكري لاميركا.
عام 1967 نشر سيرفان شرايبر, وهو مؤلف فرنسي, كتاباً بعنوان "التحدي الاميركي", دق فيه اجراس الانذار, وقال: ما لم تستيقظ اوروبا بأن التكنولوجيا الاميركية, وحتى الانظمة الادارية الاميركية, سوف تفرق القارة القديمة وتضعها في مصاف الدرجة الثانية.
وصادقت الاحداث تحذير شرايبر. فكل الازمات الدولية التي انقسمت بها اوروبا الغربية كانت صناعة اميركية مائة بالمائة! كوريا, الصين, فيتنام, الصراع العربي الاسرئيلي, الاحلاف, التسلح النووي, والحد من الاسلحة الاستيراتيجية. ولهذا فهم يبحثون عن "صناعة اوروبية" لحل الازمات الدولية المعقدة. لقد حاول كارتر ان يفصل "بدلة" اميركية لمحادثات الحكم المحلي بين مصر واسرائيل. فاستدعى الى واشنطن السادات وبيغين في نيسان (ابريل) الماضي. ووافق الاثنان على طلب كارتر القيام بمحادثات مكثفة على مدار الساعة كي يصلا الى نتيجة حول الحكم المحلي قبل 26 ايار (مايو). لكن يتبين بعد الجولة الاولى من المفاوضات انه من المستحيل تحقيق اي تقدم.
ويشارك بعض موظفي الخارجية الاميركية الاوروبيين في اعتقادهم. وكذلك يفعل اعضاء في البعثة الاميركية في الامم المتحدة. ويتوقعون ان يدفع فشل محادثات الحكم الذاتي مشروعاً بديلاً للسلام يضم الفلسطينيين. وفي الصيف الماضي دفعت وزارة الخارجية الاميركية اندرو يونغ لاكتشاف امكانات اعتراف منظمة التحرير باسرائيل. ولكن الصهيونية واجهت المحاولة الاميركية بالرفض والاتهام! واستقال يونغ من رئاسة بعثة اميركا في المنظمة الدولية. وتراجع كارتر.ومع هذا فلا زال في صفوف الحكومة الاميركية من يعتقد بضرورة اشراك منظمة التحرير في السعي الى السلام في حال فشل محادثات الحكم المحلي.
علنا, وبلسان وزير خارجية اميركا الجديد, ترفض الحكومة الاميركية منطق الاوروبيين, لأن خطوتهم, اذا تمت, سيكون لها تأثير بالغ على التحالف الغربي, كما يقولون في البيت الابيض. "وربما فاقت اثار الخطوة الاوروبية النتائج التي خلقتها ازمتا ايران وافغانستان على التحالف الغربي".
والاوروبيون يقولون: اذا نجحت المفاوضات المصرية الاسرائيلية, وهذا احتمال بعيداً جداً, فإن نتائجها لن ترضي الفلسطينيين. والبديل الاوروبي لا بد منه في الحالتين.
ان تهديد كارتر باستخدام الفيتو ضد اي مشروع اوروبي امام مجلس الامن, جاء, كما يقول المحللون, بعد ان اصيب الرئيس الاميركي بخيبة كبيرة من النتائج التي توصل اليها مؤتمر وزراء خارجية الدول الاسلامية في اسلام اباد. وابدى كارتر خيبته امام اعضاء في مجلس الامن القومي بحضور وزير الخارجية الذي كان يحمل تقريراً مختصراً, وضعه قسم الشؤون العربية في الوزارة. وبعد ان انهى كارتر كلامه عرض عليه الوزير فقرة من التقرير جاء فيها ان رأي الخبراء في الوزارة يميل الى تأييد وجهة النظر الاوروبية بأن الاتحاد السوفياتي نجح في قلب الانتقاد الاسلامي لغزو افغانستان بواسطة الراديكاليين العرب, الذين استطاعوا اقناع دول كثيرة ونافذة في العالم الاسلامي بأن المشكلة الفلسطينية هي مفتاح ازمات الشرق الاوسط كلها.
ومع هذا فكارتر ناشد الحلفاء الغربيين "ان لا يتدخلوا في المفاوضات في الوقت الحالي... انني لا استطيع السيطرة عليهم, ولا اعتقد ان الاوروبيين سيقدمون على خطوة خلال الاسبوعين القادمين".
لقد توقف المراقبون طويلاً عند تعبير "الوقت الحالي" .. وقالوا ان ربط كارتر بين عدم تدخل الاوروبيين في الوقت الحالي... وبين عدم القدرة على السيطرة عليهم, يعني انه يوافق على افكارهم, والتوقيت فقط هو المشكلة!
ان كارتر يصارع الان لرفع شكوك اليهود بأنه يحمل مشاعر ضد اسرائيل! ويقول رسميون في الامم المتحدة ان العرب والاوروبيين يتحدثون عن مناقشة المسألة الفلسطينية في مجلس الامن في الخامس عشر تموز (يوليو) القادم, وهو اليوم الثاني لمؤتمر الحزب الجمهوري في ديترويت. هذا المؤتمر الذي سينتهي الى ترشيح رونالد ريغان. والتوقيت الاوروبي يجعل كارتر يرفض بقوة اي قرار مؤيد للفلسطينيين يعرض على مجلس الامن.
كلا الحزبان سيصرفان الصيف والخريف متنافسين على الصوت اليهودي, وسيطلقان مزيداًًًًًًًً من الوعود لاسرائيل. ومن ينجح في رئاسة الجمهورية سيجد صعوبة كبيرة في التخلص من وعوده بعد نوفمبر. لهذا, يقول المحللون, فمن مصلحة اميركا ان لا توفر اي جهد لانجاح محادثات الحكم المحلي بين مصر واسرئيل. ولهذا السبب بالذات ايضاً, استعجل كارتر في دعوة المتفاوضين المصريين والاسرائيليين الى استئناف ما انقطع بينهم...ولكن في واشنطن هذه المرة!. (انتهى)
___________________




