الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط
الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط - Page 18
التحدي الإسرائيلي
الأسبوع العربي 26/11/1979
منذ عام مضى، أدان مؤتمر القمة العربي التاسع في بغداد اتفاقيتي كمب ديفيد، واعتبرهما جزءاً من مخطط يستهدف تمزيق الصف العربي، ودفع الأمة العربية تدريجيا نحو القبول بحلول استسلامية مهينة وكان على المؤتمر، بعد أن تبنى هذا الموقف المبدئي، اتخاذ التدابير الكفيلة بإحباط المخطط المذكور وتصفية نتائجه، أي السير بخطوات توقف التشتت إن لم تؤد إلى الوحدة، وتمنع انجراف دول أخرى نحو كمب ديفيد، وتنهك نظام السادات بشكل يؤدي إلى سقوطه، وتعزز الصمود أمام العسكريتاريا الإسرائيلية، وتضغط على العراب الأميركي بشكل يجسد أمامه حقيقة الخطر الذي تتعرض له مصالحه بسبب وقوفه إلى جانب أعداء الأمة العربية ومباركته لمخطط استنزافها ومعاداة حقوقها المشروعة.
ولكن اتخاذ كل هذه التدابير كان يعني بدء المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة التي خططت لكمب ديفيد، وعملت ما في وسعها لإنجاحه وجذب أطراف عربية أخرى إليه، بغية بناء المنطقة المهدأة التي لا تضمن أمن الدولة الصهيونية فحسب، ولكنها تضمن أيضاً وبشكل أساسي المصالح الأميركية الأساسية، وفي مقدمتها: استمرار تدفق النفط العربي إلى العالم الرأسمالي بشكل منتظم وبأسعار مقبولة، وإضعاف حركة التحرر الوطني العربي، وإبعاد الدول العربية الراديكالية عن الحليف السوفياتي وحرمان موسكو بالتالي من إمكان التأثير في الشرق الأوسط.
ولقد اقترحت قوى الصعود والتصدي بدء المواجهة المباشرة مع أميركا، انطلاقاً من تقييمها لحقيقة معسكر العدو، والدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في تعزيز العسكرية الصهيونية وتشجيع السادات على الإنسحات من الصف العربي، وقناعتها الثابتة بأن اسرائيل لا تستطيع متابعة التعنت والإصرار على احتلال الأراضي العربية والاعتداء على الدول المجاورة لولا الدعم الأميركي المطلق وغير المحدود، وأن دعم المعتدين المباشرين هو في حد ذاته عدوان سافر يضع صاحبه في معسكر الأعداء. ولكن بعض المجتمعين في بداد كان لهم رأي آخر نابع من طبيعة علاقة أنظمتهم مع الولايات المتحدة، بل وتحالف هذه الأنظمة مع القوة الدولية الكبرى التي تغذي العدوان وتضمن استمراره. وكان إصرار قوى الصمود والتصدي على فكرة المواجهة سيؤدي إلى خلاف في الرأي ينتهي بفشل المؤتمر وانفراط وحدة الصف العربي. لهذا غيب المجتمعون صورة العدو الرئيسي، واكتفوا ببرنامج الحد الأدنى، ضمن إطار الإجماع على معارضة كمب ديفيد، كل حسب طاقته ووفق مفاهيمه.
ولسنا هنا في معرض إجراء تقويم نظري لمقررات مؤتمر بداد. ولكن بوسعنا بعد سنة من تبني برنامج.
الحد الأدنى رصد النتئج العملية لتطبيق هذا البرنامج، والتأكيد على أن التدابير المتخذة لم توقف التشتت العربي، ولم تعدل ميزان القوى الذي اختل إثر إنسحاب السادات، ولم تمنع إسرائيل من متابعة استغلال الوضع اللبناني للضغط على لبنان والفلسطينيين والعرب بشكل عام، ولم تجعل الإدارة الأميركية أكثر استعدادً لتفهم الحق العربي والتعامل مع الصراع العربي – الإسرائيلي باعتدال وموضوعية.
وبالمقابل فإن أطراف كمب ديفيد جابهت برنامج الحد الأدنى بتدابير هجومية الطابع، بدأت مع عقد المعاهدة المصرية – الإسرائيلية. ولقد أخذ الأميركيون على عاتقهم مهمة إقناع السعودية والأردن والمغرب بمزايا كمب ديفيد وإثارة الإضطرابات الطائفية في سورية. وأخذ السادات على عاتقه مهمة التشكيك بصحة الموقف العربي واستغلال المخاوف المخاوف غير المبررة من الثورة الإيرانية للتمدد نحو الخليج عبر سلطنة عمان، واختراق الموقف المغربي من خلال عرض المساعدة العسكرية على الرباط وإظهار الاستعداد الكامل للمشاركة في حرب الصحراء الغربية. وقامت إسرائيل باستثمار ورقة الجنوب وسعد حداد للضغط على الدولة اللبنانية، وإقناعها بعقد معاهدة مشابهة للمعاهدة المصرية – الإسرائيلية، واتخاذ التدابير الكفيلة بحماية أمن المستوطنات المجاورة للحدود اللبنانية.
ولقد نجحت جهود أطراف كمب ديفيد في بعض المجالات، كما أصابها الفشل في مجالات أخرى. ولكن نجاحها الأهم كان في جنوب لبنان، حيث تابع الإسرائيليون اعتداءاتهم على اللبنانيين والفلسطينيين، وعرقلوا تطبيق قراري مجلس الأمن رقم 425 و 450.
وخلقوا وضعاً متفجراً يهدد بالاتساع والتحول إلى صراع كبير تتجاوز حدوده أرض الجنوب اللبناني، كما يمكن أن يؤدي استمراره إلى انسحاب قوات الطوارئ من الجنوب، وفتح الباب أمام تجدد الصدامات على نطاق واسع. ثم أعلنوا أن هذا الوضع الذي يهدد أمن لبنان وسيادته سيستمر ويتصاعد، إلا إذا قامت الحكومة اللبنانية بإبعاد الوجود الفلسطيني المسلح عن الجنوب، وخلق منطقة عازلة تفصل بين البندقية الفلسطينية والحدود اللبنانية – الإسرائيلية، ونشر الجيش اللبناني للقيام بمهمة حرس حدود للدولة الصهيونية.
ولقد كان بوسع لبنان أن يرفض هذا التهديد الإسرائيلي وأن يواجه التحدي بموقف صلب، لو أنه كان يملك الوسائط الكفيلة بصد العدوان الصهيوني وتكبيده خسائر جسيمة تجعله يحجم عن المغامرة ويفكر مليا قبل القيام بها. ولكنه لا يملك هذه الوسائط ولم يسع يوما إلى امتلاكها.
وكان بوسع لبنان الرفض والمواجهة لو أنه لمس تباينا في موازين القوى لصالح العرب، واقتنع بأن الأمن اللبناني مضمون بالردع العربي، وأن إسرائيل ستتلقى عند الاعتداء على لبنان ضربة إنتقامية عربية تفقدها توازنها وتجبرها على التخلي عن مكاسبها، لأن مجرد احتمال تسديدي مثل هذه الضربة كاف لردع الدولة الصهيونية ومنعها من التفكير بالعدوان. ولكن اختلال التوازن العسكري لصالح العدو لا يزال حقيقة قائمة، رغم الجهود التي تبذلها عدة دول عربية، وفي مقدتمها سورية، لتعويض الخسارة القومية الناجمة عن النكوص الساداتي.
ولم يكن على لبنان أن يعير التهديد الإسرائيلي أي اهتمام، لو أنه تأكد بأن الدول العربية النفطية قد خططت لاستخدام السلاح الاقتصادي، وأنها ماضية في دعم لبنان إلى الحد الذي يجعلها تلجأ إلى سلا النفط كوسيلة لدفع الولايات المتحدة إلى لجم إسرائيل. لكن كل الدلائل كانت تشير إلى أن مالكي مفاتيح النفط الأساسية لا يرغبون في مجابهة واشنطن، ويرفضون بالتالي اعتبار النفط سلاحاً. ويحددون أسعار هذه المادة الاستراتيجية وكمية إنتاجها على أساس الحفاظ على التوازن الاقتصادي العالمي، ويعتبرون ذلك بادرة اعتدال قد تدفع الأميركيين إلى التعالف مع القضية العربية لرد جميل الدول النفطية وعدم إحراجها.
لهذا كله كان تأثير الردع الإسرئيلي على السلطة اللبنانية قوياً ومؤثراً. وتحت ضط هذا الردع والخراب الذي أصاب الجنوب، وتدفق اللاجئين الجنوبيين نحو المدن، وخطر تصاعد الموقف وإقدام إسرائيل على اجتياح جزء من الأراضي اللبنانية، ظهرت الحاجة إلى البحث عن حل يضمن سيادة لبنان وسلامة أراضيه.
ولقد تبين خلال البحث عن الحل أن هناك اتجاهين لبنانيين متناقضين: اتجاه قومي يقول بضرورة التلاحم مع الثورة الفلسطينية، والصمود أمام الضغوط، ومتابعة المواجهة في الثغور الجنوبية، على اعتبار أن هذا الموقف سيحبط محاولة تحييد لبنان وإجهاض الثورة الفلسطينية (كما هو مقرر في كمب ديفيد)، ويكشف عدم كفاية برنامج الحد الأدنى، ويدفع الدول العربية إلى تبني برنامج أكثر راديكالية في مواجهة أطراف كمب. (انتهى)
___________________




