الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط
الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط - Page 2
النفط والحرب النفسية الاميركية ضد العرب
قال فيصل لكيسنجر: ابلغ نيكسون
انني اريد تعهده بعروبة القدس.. مكتوباً!

الحوادث
كان العالم العربية وما برح, ذا اهمية استراتيجية كبرى, ومطمع العديد من الدول الاستعمارية, قبل اكتشاف النفط بردح طويل, لما يتمتع به من مركز جغرافي يشكل حلقة الوصل بين اوربة واسيا وافريقية, فكان على مر الايام محط اطماع الغزاة الاوروبيين.
وازدادت اهمية هذه المنطقة خلال الحرب العالمية الاولى, بما كان للنفط من اثر بالغ في مسار الحرب, واعتماد الدول عليه كمصدر للطاقة المحركة, واعتباره السلعة الاستراتيجية الاولى للاليات البرية والاسلحة البحرية والجوية. وقد اعرب اللورد كرزون عن ذلك في اجتماع عقد في هيئة البترول المتحالفة في 21 تشرين الثاني – نوفمبر 1918 فقال: "كان الزيت حتى قبل الحرب معتبراً من اهم الصناعات والموارد القومية, وتزايد استعماله في الاغراض الاقتصادية والنقل, ولكن بابتداء الحرب اصبح الزيت ومستخرجاته من بين العوامل الرئيسية التي يعتمد عليها لمواصلة الحرب وكسبها. كيف كان في استطاعة الدول المحاربة بدون الزيت ان تحقق سرعة انتقال الاساطيل وحركتها ونقل الجنود وصناعة المتفجرات؟.. وقد لعبت كافة مستخرجات الزيت والغاز والبنزين ادواراً متساوية من حيث اهميتها في الحرب. وفي الحقيقة يجوز لنا القول بأن الحلفاء قد سبحوا على موجة من الزيت نحو النصر. لقد كان فرضاً على الحكومة ان تنظم موارد امداده في مختلف العالم, وان تحتفظ بمقادير منه, وان تعمل على توزيعها بالعدل, وان تتخذ التنظيمات التي تكفل نقله وخزنه في مراكب الزيت وانابيبه.
وعلى هذا فقد انعكست نتائج الحرب العالمية الاولى على منطقة الشرق الاوسط, مع انهيار الامبراطورية العثمانية, واقتسام العالم العربي وتجزئته ما بين انكلترة وفرنسة وظهور الخطر الصهيوني اثر وعد بلفور الذي تضمن تعهد بريطانية بتأييد الحركة الصهيونية في بناء وطن قومي بفلسطين.
وكان للمصالح الاقتصادية اثرها الكبيرة في السياسة الاستعمارية, ويمكن القول مع الكاتب الاميركي جو ستورك: "ان تاريخ الشرق الاوسط الحديث, مرتبط ارتباطاً لا ينفصم بمجهود الدول الغربية لضمان سيطرة مطلقة على موارد المنطقة وتجارتها. وكان النفط هو المورد الرئيسي. وقد تحققت السيطرة الاوروبية (وفيما بعد الاميركية) على النفط بواسطة سلسلة من الامتيازات".
ولا شك في ان اهم تحول طرأ في اعقاب الحرب العالمية الاولى, هو دخول الولايات المتحدة الاميركية حلبة التنافس مع بقية الدول الاوروبية على منطقة الشرق الاوسط, وقد جهدت بريطانية قدر مستطاعها ان تمنع التغلغل الاميركي في هذه المنطقة التي اخذت دور الدولة المنتدبة فيها, وعملت على انهاء المصالح الاقتصادية للدول الاجنبية فيها, ولكن الولايات المتحدة التي كانت تنادي بمبدأ "سياسة الباب المفتوح" في حلبة التنافس الاقتصادي, شجعت الشركات الاميركية على ان يكون لها نصيبها من الامتيازات النفطية في الشرق الاوسط, وبخاصة في العراق وايران.
وفي معرض مطامحها هذه تقدمت الولايت المتحدة بسلسلة من الحجج تعبر فيها عن حقها بأن يكون بها موطئ قدم في العالم العربي وايران, وهي:
1-ان الحلفاء قد ربحوا الحرب معاً.
2-للحصول على هذا النصر لم توفر الولايات المتحدة جهدها البتة وخاصة في ميدان البترول واضاعت الكثير من احتياطيها وانتاجها.
3-من المنطق والمعقول اذن ان تجني ثمرات النصر بالتساوي.
4-ان الاحتكارات مغايرة لمبادىء الحرية الاقتصادية وسياسة "الباب المفتوح" التي يتمسك بها الاميركيون بكل قوة.
وبهذه الحجج تمكنت الولايات المتحدة الاميركية من تثبيت قدمها في منطقة الشرق الاوسط عبر اسهام شركاتها في "الشركة العراقية للبترول المعروفة بأي.بي.سي" وتحركت من ثم نحو البحرين والكويت والمملكة العربية السعودية حيث استطاعت الحصول على امتيازات للتنفيب والاستثمار في هذه الاقطار, الامر الذي اغضب اقطاب الاستعمار البريطاني وفي طليعتهم اللورد لويد الذي وجه انتقاداً شديداً الى شركة النفط البريطانية الايرانية التي لم تعمل على مد سيطرتها الى الخليج "وهاجم السياسة البريطانية التي تساندها.. مؤكداً ان الامر قد اصبح ينذر بكارثة وطنية بعد حصول الشركات الاميركية على استغلال النفط في البحرين والسعودية ونصف حصص الاسهم في الكويت 23.75% في شركات النفط العاملة في قطر ومشيخات الساحل المتصالح وسلطنة عمان, ودعا الى ضرورة العودة الى سياسة كرزون وغلق الباب المفتوح. كما ندد بضعف المركز البريطاني في الخليج خاصة اذا اقترن التدخل الاميركي بالنشاط التجاري والملاحي الواضح الذي توم به كل من المانية وايطالية واليابان.
وفي الحرب العالمية الثانية غدت منطقة الشرق الاوسط ذات اهمية مزدوجة, باعتبارها مصدراً رئيسياً للطاقة من جهة, ومسرحاً للعمليات العسكرية تبعاً للاهمية الاقتصادية للمنطقة من جهة ثانية.
وكما كان للمصالح النفطية اثرها على مجمل السياسة الخارجية الاميركية, وجدت الولايت المتحدة نفسها, وبخاصة شركاتها, ان عليها ان تلعب دوراً في الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط. وحاولت بهذا الصدد, ان تعارض بادىء ذي بدء اهداف الحركة الصهيونية في الاستيلاء على فلسطين. لكنها ما عتمت ان بدلت من موقفها هذا تحت ضغط القوى الصهيونية الداخلية. ويقول جوستورك في ذلك:
".. لم تكن المصالح الاميركية في اي مكان اقل وضوحاً مما كانت عليه في سياسة الولايات المتحدة في فلسطين عام 1947 -1948. كانت الشركات الاميركية تعارض اي دعم رسمي لاهداف الصهيونية. وتجلى ذلك على اشده على ايدي ممثلين من النخبة الاميركية الممتازة الخاصة امثال وزير الدفاع فورستال ووكيل وزارة الخارجية اتشيسون. وكان دعم التقسيم في الامم المتحدة عام 1974, سياسة ترضية للضغوط الصهيونية المحلية, لكنها لم تعد قادرة على تفادي نزاع مسلح خطير في فلسطين. وعندما اتضح في مطلع عام 1948 ان النزاع لا يمكن تفاديه عن طريق التقسيم, تلاشى الدعم الاميركي لتلك السياسة. وكان الحد الادنى الذي لا يمكن انقاصه لهدف السياسة الاميركية في فلسطين هو ترحيل "البريطاني" ومنع تواجد "الروسي" في شكل قوة لحفظ السلام تابعة للامم المتحدة. وهذا, مقروناً بضغوط سياسية محلية, دفع ترومان الى الاعتراف في التو واللحظة باسرائيل في 15 ايار – مايو عام 1948. اما الدعم الاستراتيجي لاسرائيل فكان تطوراً لاحقاً.
ومع قيام دولة اسرائيل في قلب العالم العربي, ازدادت اهتمامات الولايات المتحدة الاميركية بمنطقة الشرق الاوسط, اذ وجدت فضلا عن مصالحها الاقتصادية الهائلة, ان عليها الكثير من المسؤوليات السياسية والمالية تجاه هذه الدولة وبغية ضمان استمرارها, لانها قد اثارت الكثير من املابسات والتعقيدات في العلاقات العربية الاميركية. وما تلا ذلك من دخول السوفيات منطقة الشرق الاوسط.
ومع الستينات ظهر اتجاهان في سياسة الدول العربية المنتجة, نادى اولهما بمبدأ التأميم ورفع الثاني شعار المشاركة, وتبلور هذان الاتجاهان مع العقد السابع حين اقدمت كل من العراق وليبيا وسورية على تأميم المصالح النفطية الغربية في بلادها, وتزعمت المملكة العربية السعودية مبدأ المشاركة الهادف الى تحقيق الاستقرار في الاوضاع السياسية في منطقة الشرق الاوسط. ولكن دور النفط ظل مقتصراً على الناحية الاقتصادية الخالصة.
حتى كانت حرب تشرين – اكتوبر 1973, فبرز كعامل سياسي مهم في السياسة الدولية, حين شهره العرب سلاحاً ماضياً في وجه الدول المنحازة الى اسرائيل وفي طليعتها الولايات المتحدة الاميركية.
وكان خبراء النفط قد اقتنعوا بان سلاح النفط لا يستخدم بوقف ضخه فقط, وانه يكفي الا تزيد الدول المنتجة من انتاجها او تخفضه قليلاً لكي تثير على الفور ازمة استهلاك عالمية, نظراً للحاجة المتزايدة الى الطاقة في الدول الصناعية, فاذا اضيف الى ذلك رفع الاسعار وهو النتيجة الطبيعية لخفض الانتاج, امكن الوصول الى زيادة في الدخل تعوض الدول المنتجة عن الزيادة في الانتاج.
وقد اقترن خفض الانتاج الذي اعلنته البلاد العربية المنتجة برفع سعر النفط, ومن الخطأ الاعتقاد بأن هذه الدول قد استغلت ظروف المعركة لرفع الاسعا, فمنذ 15 ايلول – سبتمبر 1973 اجتمع ممثلو الاوبيك في مقر المنظمة بفيينا لاجراء مباحثات حول الاسعار لأن النفط لا يحصل على سعره الحقيقي. وصرح الشيخ احمد زكي اليماني بأن اتفاق طهران لسنة 1971 بين دول الخليج والشركات العربية بات ميتاً او في طور الاحتضار وفي حاجة الى تعديل كبير. وقد اشار وزير النفط السعودي الى ذلك في محاضرة القاها في جامعة الرياض.
وهكذا فإن الدول العربية حين لجأت الى سلاح النفط. قد استخدمت حقها في التعبيرة عن موقفها, لاستعادة الحق العربي كاملاً غير منقوص. عبر المواقف المتدرجة من التحذير الى الانذار الى القطع.
وقد جعل ترابط العلاقات الاقتصادية بالواقع السياسي, من سلاح النفط سلاحاً سياسياً فعالاً, وبخاصة ضد الولايات المتحدة الاميركية التي اعتمدت ابدا السياسة الرامية الى تأمين تفوق اسرائيل عسكرياً بما تمدها به من السلاح المتطور والعتاد الوافر والمساعدات الاقتصادية.
وادى هذا الموقف الى اضطراب خطير في بنية الاقتصاد العالمي, وتجلت الخلافات حادة قاسية بين الولايات المتحدة ودول السوق الاوروبية المشتركة التسع, وبخاصة عندما اتخذت هذه الدول موقفاً ايجابياً من الصراع العربي الاسرائيلي, كما ان اميركا نفسها اخذت تتظاهر بتعديل سياستها وتسعى الى تحسين صورتها لدى العرب.
ولكن موقف الملك فيصل كان صريحاً وواضحاً, وقد حدده واعلنه للدكتور كيسنجر ولمندوبي الصحافة العالمية, وهو ان بلاده ستواصل استخدام النفط كسلاح في ازمة الشرق الاوسط حتى تتحقق اهداف ثلاثة:
1-الانسحاب الاسرائيلي التام من جميع الاراضي العربية.
2-منح حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.
3-التأكيد على الطابع العربي لمدينة القدس.
وهكذا جعلت معركة النفط الولايات المتحدة الاميركية والمملكة العربية السعودية في موقف المجابهة, وعاد كيسنجر الى واشنطن غاضباً ثم رجع في 15 كانون الاول – ديسمبر ليقول للملك وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة:
-يا جلالة الملك اني مكلف بأن ابلغكم ان الرئيس نيكسون والحكومة الاميركية يتعهدان بالضغط على اسرائيل للانسحاب من الاراضي العربية المحتلة وتأمين عروبة القدس والحقوق المشروعة للفلسطينين.
وخيل اليه ان التعهد الذي فأجابه الملك سيغير موقفه تماماً ويقابله بمبادرة ايجابية فورية بشأن الحظر, ولكن فيص بن عبد العزيز ظل محتفظاً بهدوئه ولم يبد عليه ما يدل على انه فوجىء بالتعهد الاميركي الخطير, وقال بذات اللهجة الفاترة التي بدا بها الحديث:
-هذا امر جيد!
وشعر كيسنجر بالارتياح لهذه الكلمات ولم يستطع ان يكتم اعجابه بحيوية الملك العجيبة التي ما تزال في مد لا جزر له برغم جسمه الضامر وعينيه الغائرتين, ولكنه ما لبث حتى شهد وميضا خاطفاً يغمر وجه الملك وسمعه يقول:
-يؤسفني ان اقول لك يا سيادة الوزير انه سبق لي ان تلقيت من الحكومة الاميركية وعوداً عدة حول القضية الفلسطينية والعدوان الاسرائيلي دون ان ينفذ اي وعد منها, ولذلك فإني غير مستعد لقبول اية وعود او ضمانات اميركية جديدة تعطي لي داخل غرفة اجتماعات مغلقة, وارى نفسي مضطراً لأن اطلب من الحكومة الاميركية اعطاء هذه الضمانات علناً وفي بيان رسمي يصدره الرئيس نيكسون ويؤكد فيه بصراحة ووضوح استعداد الحكومة الاميركية جدياً للضغط على اسرائيل حتى يتحقق الانسحاب من الاراضي العربية المحتلة والحفاظ على عروبة القدس وعودة الفلسطينيين الى ديارهم وتأمين حقوقهم الوطنية المشروعة!
فتولى وزير الخارجية الاميركية الذهول. ولم يصدق ما يسمع, واراد مناقشة الملك في الشرط الجديد الذي وضعه والذي بدا للوزير انه عسير وغير معقول.
ولكن فيصلا افهمه بلباقة انه غير مستعد لمناقشة هذا الموضوع, وانه قال كل ما لديه. وفهم كيسنجر من ذلك ان الزيارة قد انتهت فغادر مكتب الملك متجهم الوجه بادي الانفعال. ولم تستطع حتى ديبلوماسية عمر السقاف ان تعيد اليه ابتسامته المألوفة, وقال لمن حوله انه لم يسبق له ان سمع مثل هذه اللهجة وهذا التصلب من اي زعيم في العالم.
وانقضت سنة 1973 وبدأت شهور السنة الجديدة تتلاحق. واعتمدت الولايات المتحدة سياسة جديدة لحل ازمة الشرق الاوسط كان ظاهرها يدل على انها اكثر تجاوباً من الاماني العربية, فاقتنع معظم القادة العرب وفي مقدمتهم الرئيس السادات بأن الوقت قد حان لوقف الحظر على تصدير النفط العربي الى الولايات المتحدة, تشجيعاص لها على المضي في السياسة الجديدة التي انتهجتها. ولكن الملك فيصل لم يكن قد اقتنع بعد, وهو لا يزال ينتظر ذلك التعهد العلني الذي طلبه من الرئيس الاميركي, واذا بالرئيس نيكسون يقدم هذا التعهد فيعلن في مؤتمر صحفي:
"لقد الزمنا انفسنا بالقيام بدور فعال في المساعدة على تحقيق سلام عادل في الشرق الاوسط على اساس تنفيذ كامل لقراري مجلس الامن 242 و338".
وكانت حرفية التصريح تعبر عن نفسها, فلم يسع الملك فيصل الا تلبية الرغبة التي كانت تناشده الموافقة على الغاء الحظر. وهكذا قرر وزراء النفط في المملكة العربية السعودية ومصر والجزائر والكويت وقطر والبحرين واتحاد الامارات العربية في 18 اذار – مارس, رفع حظر شحن النفط الى الولايات المتحدة بعد خمسة اشهر من اعلانه.(يتبع)
_________________




