العقيد القذافي - Page 27
ملوك القرطاسية
بقلم محمد الماغوط/ رحمه الله تاريخ:24/4/2000 المصدر: مجلة الوسط العدد 430
استيقظ احد عملاء هذه الايام من قيلولته النهارية وهو في غاية السعادة والتفاؤل, فغسل وجهه بصابون اخضر. وسرح شعره بمشط اخضر. وارتدى ثيابا خضراء, مع ربطة عنق خضراء, وجوارب خضراء, وانتعل حذاء اخضر. وتصفح اخر طبعة من الكتاب الاخضر, واستقل سيارة اجرة خضراء ومن محاسن الصدف, ان مقاعدها كانت خضراء, والسائق اسمه خضر. وانطلق لمقابلة سفير احدى الدولة الاجنبية الفاعلة في المنطقة. بناء على موعد مسبق جرى التحضير له بعناية تامة.
وما ان دخل عليه حتى بادره مبشرا مطمئنا وهو يأخذ مكانه المعتاد في مكتب السفير, ويفرش امامه كومة من التقارير والاحصائيات والايضاحات والاستطلاعات والتحضيرات, والمسوغات والملاحظات والتعهدات.
وقال "لا فض فوه" وهو يرشف كوبا من الشاي الاخضر:
اطمئن يا سعادة السفير كل شيء على ما يرام واكثر مما توقعنا!
فكل الصعوبات والعقبات التي تحدثنا عنها سابقا صارت هامشية.
وكل القضايا التي كنا نعتقد انها هامشية, صارت مركزية, بل ومحورية.
والاحباطات النظرية صارت حوافز عملية.
والاحلام والقضايا الشاردة في الزمن والمكان, صارت كلها مؤطرة وتطلعات ملموسة وجوهرية.
ومظاهر التشتت الفكري والاقتصادي والابداعي واللاارادي صارت خطوات تعبوية وتكافلية.
والثوابت السياسية, والمسلمات الفكرية, المتحجرة صارت مفاصل ونوابض تاريخية. والطروحات العشائرية والقبلية والعصبية العائلية والطائفية والامراض الاجتماعية صارت مادة هلامية للاستهلاك المحلي والمسلسلات التلفزيونية.
والتناقض التاريخي بين الشكل والمضمون والظاهر والباطن تجاوزناه كالمادية الجدلية او الجدلية المادية وغيرها من طروحات المنظومة الاشتراكية.
اما الشطط المحتمل والانفعالات الاتية والاحتمالات غير المتوقعة في مشروعنا النهضوي فقد تمت عولمتها وصارت كلها تحت السيطرة ورهن الاشارة والاستخدام.
اما الاساطير والتمائم والخزعبلات والموروثات والاهازيج الشعبية والاغاني الريفية فقد تمت ادلجتها وصارت اغنيات ديالكتيكية ثم عندك اهم شيء الارهاصات....
فكل الارهاصات والمخاضات الجماهيرية والاحلام الطوباوية والذكريات والاماني الطفولية والمدرسية صارت كتبا وافلاما والحانا موسيقية وقصائد جدارية ولوحات زيتية ومائية ومناقشات ومساجلات يومية تصل الى حد الضرب والتشابك بالايدي في المقاهي والاماكن العامة.
باختصار:
معنا التجار والمقاولون، والمتعهدون، وكبار المدراء، واصحاب الشركات ورجال الاعمال.
ومعنا الطلاب والعمال، والرياضيون، والفلاحون، والموظفون والمتقاعدون.
والاطباء والمرضى، والمعيدون والمخبريون، والنقابات المهنية والطبية، والصيدلانية.
والقضاة والمتهمون والمحامون والمحضرون وسجناء الحق العام والخاص.
والحدادون، والنجارون والسباكون والخياطون، والحلاقون، والمطهرون، والصحافيون والخطاطون، والدباغون، والبدو الرحل، والحضر والغجر والمنجمون.
وعمال البحر والمرشدون والحمالون. وباعة المحروقات واوراق اليانصيب، والباعة المتجولون، والمتبطلون والمتسكعون.
وكبار علماء النفس واللغة والاجتماع, والفلك، والذرة، والطبيعية وما وراء الطبيعة.
ومعنا رجال الدين والواعظون، والناصحون والمقرئون، والمرتلون والمنشدون والمبتهلون.
وعلماء الاثار والمستحاثات.
والمقيمون والمغتربون والبعثات التجارية والاقتصادية والطبية والرياضية والاعلامية وكل مندوبي شركات الاستيراد والتصدير والاعلان.
ولجان حقوق الانسان والجمعيات الخيرية والمبرات الانسانية واليونسيف والاونروا، واللاجئون والنازحون والوافدون والمهجرون واليتامى والارامل وابناء السبيل.
والاهم من هذا كله.
معنا المطربون والملحنون، والمستمعون، والموزعون، والمذيعون.
والكتاب والمسرحيون الواقعيون والاشتراكيون والغنائيون والمحافظون والعلمانيون, والطوباويون، والوجوديون،والعدميون، والنرجسيون، والسرياليون، والغرائبيون، والانفلاشيون، والانطوائيون، والبرغماتيون، وفلاسفة الصوامع والكهوف والغابات وكتاب اسيا وافريقيا واميركا اللاتينية.
ثم معنا المقاومة الفلسطينية والافغانية والشيشانية ووعود من الالوية الحمراء وثوار الباسك ونمور التاميل. ثم كل هذه الطوابير المتلاطمة في الاسواق التجارية والشوارع والحدائق والمؤسسات والدوائر الخاصة والعامة.
كل تلك القوى الرابضة امام شاشة التلفزيون من الصباح الى المساء.
باختصار معنا كل فئات الشعب وطبقاته شيبا، وشبانا ونساء واطفالا، وغيرها من القوى المنظورة وغير المنظورة في كل ماكن.
ومعنا حالة الطقس ايضا!!
السفير والمخابرات مع من؟
(انتهى)
_________________________________




