العقيد القذافي - Page 22
القذافي واليأس والمراجعة
(الوسط في 23-11-1998 العدد 356)
منذ أسابيع والعقيد معمر القذافي يجاهر بيأسه . رحلته مع حلم الوحدة العربية إنتهت بخيبة كبيرة ومرارات. " جرينا حوالي 40 سنة وراء سراب القومية العربية ليست موجودة ". لو قال حاكم عربي آخر هذا الكلام في فترة سابقة لأنبدى القذافي له وإتهمه بنعوت اقلها الإنهزامية . لكن الكلام الآن هو للقذافي في نفسه. وهو كعادته يذهب بعيداً كيفما ذهب : الإنتماء الى الوطن العربي لم ينفع ليبيا بل أضرها" والروابط بين ليبيا والعالم العربي " عاطفية لا تساوي شيئاً" يكاد القارئ أو المشاهد لا يصدق أن هذا الكلام يصدر عن الرجل الذي رفع راية الوحدة العربية منذ توليه السلطة قبل نحو ثلاثة عقود. وهو حاكم لم يبخل على أحلامه بإمكانات بلاده . وهو لم يبخل بها أيضاً في معارك أبعد من العالم العربي ويصعب فهمها أو تبريرها. وبعد هذه الرحلة الطويلة يقول: " نحن عرب لكننا تركنا الخيبة . مصير ليبيا مع أفريقيا".
لا بد من وضع غضبة العقيد في إطارها . فهو عاتب لأن الدول العربية إفتقرت , في نظره الى " الشجاعة التي أظهرتها دول أفريقية إختارت إنتهاك الحظر المفروض على ليبيا بسبب قضية لوكربي. وهو آسف لكون الدول العربية تعتبر " الإستسلام شجاعة والهزيمة نصراً والعدو صديقاً". ولهذا السبب أطلق الزعيم الليبي سلسلة تدابير ترمي الى تأكيد الإنتماء الأفريقي لبلاده.
يستحق هذا اليأس من الوحدة العربية وقفة , خصوصاً أنه يصدر عن القذافي . ولعل أهمية الكلام تكمن في الإعتراف بالفشل. وهو إعتراف يجب أن يفتح الباب لمراجعة هادئة يفترض أن تؤدي لا الى الإستقالة من إنتماء ليبيا العربي بل الى الإستقالة من أحلام باهظة التكاليف بدت صعبة التحقيق ولا سيما أن الأحلام اختلطت بالأوهام. فالطلاق مع الإنتماء الى العالم العربي ليس حلاً لليبيا أو غيرها وربما يكمن الحل في الطلاق مع الأوهام وإستخلاص العبر لرسم أهداف واقعية قابلة للتحقيق .
وترتدي هذه المسألة أهمية مضاعفة عشية قرن جديد ووسط إتجاه دول العالم الى الإنضواء في تكتلات إقليمية سياسية وإقتصادية. فسياسة إما الوحدة العربية الكاملة وإما لا شيء, سياسة أقرب الى تسجيل المواقف منها الى البحث عن نتائج ملموسة . والقول أن ما يجمع بين العرب يفوق ما يجمع بين دول المجموعة الأوروبية كلام يتجاهل الإختلافات السياسية والإقتصادية والثقافية التي يعيش العرب في ظلها . وربما يحتاج العرب اليوم الى قدر مقبول من التنسيق أكثر بكثير من حاجتهم الى إنعاش الشعارات الرنانة التي أدى التمسك بها وسوء محاولات تطبيقها الى تجذير المشاعر المناقضة للوحدة.
وسط التحديات التي تطرحها نهايات القرن وتعدد الأخطار المحدقة بالشرق الأوسط وموقع العرب فيه, يحتاج العالم العربي الى دفتر سلوك جديد تقتنع به القيادات وتحوله منهجاً ثابتاً . أول بنود هذا الدفتر هو إحترام الحدود الدولية والإقلاع نهائياً عن أحلام الضم والشطب والإلحاق . وهذا يعني تحويل الحدود العربية – العربية من بؤر للتوتر الكامن والمخاوف الدائمة الى بوابات للحوار والتعاون . والبند الثاني التوقف عن محاولة إمساك أوراق داخل الدولة العربية المجاورة للتأثير على قرارها. ودائماً لا بد من الإنطلاق من قاعدة لا غنى عنها وهي عدم جواز الإحتكام الى القوة في تسوية النزاعات العربية – العربية . والبند الثالث تأكيد مصلحة الدول العربية والشعوب العربية في تعاون إقتصادي حقيقي.
والبند الرابع مناقشة الأخطار المحدقة بالأمن القومي العربي من خارج حسابات الزعامة ومصادرة القرار. والبند الخامس القبول بحق الإختلاف والتمايز مع توفي أرضية متزايدة للقاء حول أهداف واقعية يمكن تحقيقها على مراحل.
يأس العقيد القذافي من سراب الوحدة العربية ليس غريباً وكثيرون ممن أفنوا أعمارهم في مطاردة هذا السراب يتحدثون اليوم عن أعمار ضاعت وإمكانات هدرت. لكن الأهم من اليأس هو أن تفضي هذه المشاعر الى مراجعة ترتفع الى مستوى التحديات التي تحدف بالعرب . ولعل الإلتزام بدفتر السلوك وبديهياته هو الطريق الوحيد امام العرب إذا كنا نبحث فعلاً عن موقع لنا في العقود الأولى من القرن المقبل. طبعاً مع الإلتفات الى أن هذا الموقع لا يمكن الوصول اليه بمجرد الإعلان عن قبول مبادئ موجودة أصلاً في ميثاق الجامعة العربية السعيدة الذكر . فهذه البديهيات يجب أن تكون فرصة لمراجعة عميقة تنطلق من إدراك أن مشكلة العرب لا تكمن في ضآلة ترساناتهم , بل قبل ذلك في مدارسهم وجامعاتهم وطبيعة ما يدرس فيها وعدم قدرته على اللحاق بالوتائر المتسارعة للتطور العلمي والتقني وثورة المعلومات.
جميل اليأس والإعتراف بفشل الشعارات لكن الأجمل بالتأكيد هو أن يكون اليأس مقدمة لنقاش واسع يرسم أهدافاً واقعية ويطلق آمالاً جدية في تحقيق هذه الأهداف. (انتهى)
_____________________________




