الثورة الاسلامية الايرانية - لعبة الكلمات المتقاطعة في ايران تبدو مهمة مستحيلة...
لعبة الكلمات المتقاطعة في ايران تبدو مهمة مستحيلة...
الشرق الأوسط – اوروبا.. مساومة بين الجبارين
• طهران: سنقتل الرهائن اذا تدخلتم
• واشنطن: سنتدخل اذا قتلتم الرهائن
• طهران: سلمونا الشاه وامواله وخذوا رهانئكم
• واشنطن: لن نسلم الشاه وعليكم تسليم الرهائن
بقلم ابراهيم الحلو
"الازمة الايرانية – الاميركية هي اخطر ما واجه العالم منذ الحرب العالمية الثانية".
لم يجمع الشعب الاميركي على التصدي لازمة واجهته كما يجمع الان الا عند وقوع كارثة بيرل هاربور".
"اميركا هي الشيطان وعلينا ان نحاربها بكل ما نملك من وسائل ومهما كان الثمن والتضحيات".
هذه الاقوال الثلاثة التي تلتقي في التعبير عن خطورة النزاع الاميركي – الايراني, صدرت, في الايام القليلة الماضية, عن كورت فالدهايم وجيمي كارتر واية الله الخميني.
الامين العام للامم المتحدة يسعى, مسلحاً بسلطاته المعنوية, الى تخفيف حدة الصراع تمهيداً لايجاد الحل المعقول له, وهو, بصفته "حارس سلام العالم", لا يستطيع الا ان يكون حكماً نزيهاً وغير منحاز, واذا كان قد شجع مجلس الامن الدولي على مطالبة سلطات طهران باطلاق الدبلوماسيين الاميركيين فلأن احتجازهم – كما اجمعت المحافل الدولية بلا استثناء- خرق صريح للاعراف الدولية ولا سيما اتفاق فيينا الذي يحمي الدبلوماسيين بالحصانة ويحظر الحاق اي اذى بهم حتى في حال ثبوت ارتكابهم جريمة او جنحة (المادة الخامسة من بروتوكول فيينا), ولكن الامين العام, ومعه مجلس الامن بالاجماع, قرر ايضاً, وفي الوقت نفسه, تكليف الامين العام باتخاذ كل ما يلزم من خطوات لتسوية المسألة تسوية سلمية تحفظ كرامة الطرفين المتنازعين وتعطي لكل ذي حق حقه. وبالفعل باشر فالدهايم مساعيه الحميدة هذه, فاجرى اتصالاً مع السيد صادق قطب زاده وزير الخارجية الايرانية ويبدو, كما يقول المراقبون في واشنطن, ان الوزير كان ايجابياً الى حد ما, مع الامين العام, فوعد بارسال مندوب الى نيويورك للتباحث, وربما عكست الاية فيرسل فالدهايم مندوباً شخصياً الى طهران (ثمة من يقول انه قد يسافر هو شخصياً).
المهم ان عجلة الامم المتحدة بدأت تدور وان يكن ببطء لان طريق السلام امامها فيها عوائق كثيرة وجسيمة.
وبالتوازي مع جهود الامم المتحدة تنظر محكمة العدل الدولية في لاهاي في المسألة, والغالب, كما يرى المراقبون, الا يخرج قرارها عن مضمون قرار مجلس الامن لانه سيرتكز عليه ويستمد منه.
ولئن كانت الجهود السليمة قد تحركت فهذا لا يعني ابداً ان الازمة قد فقدت خطورتها او ان حدتها قد خفت.
عندما اعتكف الرئيس كارتر في منتجع كامب ديفيد, في عطلة نهاية الاسبوع الاسبق, استدعى الى مقره كبار معاونيه وزيري الخارجية فانس والدفاع براون ومستشارة للامن القومي بريجنسكي, ورؤساء الاركان وكبار الضباط ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية "سي.اي.اي", وما ان دخلوا على الرئيس في مكتبه حتى بادرهم كارتر سائلاً: هل استنفدت لوسائل السلمية؟
وكان الرد سلبياً. فما زالت هناك مساع لم تستنفد بعد.
وصبر كارتر, وصبرت اميركا, لان الرئيس كان قد اعلن, في وقت سابق, انه سوف يستنفد الوسائل الدبلوماسية جميعاً قبل ان يلجأ الى "الوسائل الاخرى التي تملكها بلاده", غير ان هذا الصبر لم يوقف عجلة الاستعدادات العسكرية الاميركية ففي كل يوم يزداد عدد القطع الحربية في المحيط الهندي وعلى مقربة من الخليج العربي, وبالتوازي مع هذه التحركات, تنشط الادارة الاميركية لتضيق الخناق الاقتصادي اكثر فأكثر حول ايران, فبعدما جمدت الارصدة الايرانية في اميركا, وسعت هذه الدوائر لتشمل بعض بلدان اوروبا ولا سيما بريطانيا, هذا مع ان والتر مونديل نائب الرئيس الاميركي قد قال في تصريح اخيرا له ان "اميركا لا تنوي شن حرب على فقراء ايران" (...)
أما من الجانب الايراني فالتصعيد لا يتوقف, والتهديد بمحاكمة الرهائن بتهمة التجسس يطلق كل يوم تقريباً, سواء بلسان "الطلاب الاسلاميين" الذين يحتجزونهم او بلسان المسؤولين في الحكومة والزعامات الدينية, الا ان هذه التهديدات تأتي دائماً مقرونة بـ"اذا اقدمت الولايات المتحدة على التدخل عسكرياً في ايران" بينما ترد واشنطن, بلسان المسؤولين الكبار في ادارة كارتر, بانها تتدخل عسكرياً "اذا حوكم المحتجزون او لحق اذى بواحد منهم".
وهكذا تدور الازمة في حلقة مفرغة وهي اشبه بعملية العض على الاصابع من يصرخ اولاً يخسر: اميركا تنتظر تقديم الرهائن الى المحاكمة لتضرب, وايران تنتظر الضربة الاميركية لتحاكم الرهائن او تقتلها..
ترى هل هذه هي الصورة الحقيقية للازمة؟ ام ان لعبة الكلمات المتقاطعة هذه ليست سوى القشرة السطحية التي تخفي تحتها بركاناً يتأجج ويستعد للانفجار في كل لحظة؟
ولنبق قليلاً على سطح الاحداث: طهران تقول منذ البداية: اعيدوا الينا الشاه وامواله وخذوا رهائنكم.
وترد واشنطن – ومنذ البداية ايضاً- :
لن نسلم الشاه ولا امواله, ولن نخضع للابتزاز, ولن نقر اسلوب خرق الاعراف الدولية لانه سابقة تزلزل القواعد التي تقوم عليها العلاقات الدولية مرة والى الابد.
وهنا تبدو لعبة الكلمات المتقاطعة من جديد, مهمة مستحيلة.
اما الشاه فيقول انه مستعد لمغادرة اراضي الولايات المتحدة فور توفر مكان آمن يلجأ اليه. وكارتر يقول انه غير نادم على السماح للشاه بدخول بلاده – لاسباب انسانية – وانه لن يطلب اليه الرحيل كما لا يمنعه من ذلك متى اراد..
وترد طهران: ان السماح للشاه السابق بمغادرة الولايات المتحدة – دون تسليمه الى الشعب الايراني او التحقيق في التهم المنسوبة اليه على الاقل – جريمة افدح من السماح له بالبقاء في اميركا..
حتى هذه المرحلة من الازمة – وهي القشرة السطحية كما ذكرنا – يبدو كأن اللعبة محصورة بين واشنطن وبين طهران دون غيرهما, وكأن ليس في العالم من قوى تهتم بهذه اللعبة, على خطورتها, وتأمل في ان تجني من ورائها الفوائد والمنافع. وكأن عالم اليوم عالم دول معزولة تتنازع اثنتان منها فلا يأبه سائر الدول لذلك ولا يتأثر.
الواقع السياسي والاقتصادي في هذا العصر عكس ذلك تماماً فكل ازمة تنشب في اي بلد من العالم, مهما بعد او صغر او قل شأنه, لا بد لها ان تنعكس, بصورة او بأخرى, على بلدان العالم الاخرى, بنسب مختلفة طبعاً, ولكن اثارها تصل حتماً الى اقاصي الارض, فما بالنا عندما تكون هذه الازمة من عيار النزاع الاميركي – الايراني الذي تدور رحاه في منطقة هي, قطعاً, اكثر مناطق العالم قابلية للاشتعال فالانفجار.. الا يكفي انها المنطقة البترولية, والبترول مادة ملتهبة اذا وصلتها الشرارة احرقت مكانها وما حولها وامتدت السنتها عبر حدود البلد والمنطقة والقارة...
ولكي تكتمل الصورة لا بد لنا من الاشارة الا ان اهم عناصر التفجر وتعقيد الامور عدم وجود سلطة مركزية قوية في ايران, فالحكومة صورية اكثر منها حاكمة وسلطة الثورة الخمينية, كما يؤكد مراسل فرنسي, لا تتعدى مدينتي طهران العاصمة السياسية وقم العاصمة الروحية وضواحيهما. وهذا الكلام قيل قبل انفجار الخلاف المعلن بين الامامين اية الله الخميني وشريعة مداري عقب الهجوم على منزل الاخير في قم وقتل عدد من حراسه الامر الذي اعتبره انصار شريعة مداري تحدياً خطيراً فهبوا, في مقاطعة ازربيجان الشمالية واحتلوا مبنى الاذاعة والتلفزيون وأعلنوا عصيانهم على سلطة الخميني بعدما طردوا, بقوة السلاح, حراس الثورة والموظفين التابعين للسلطة المركزية واعلنوا زعيمهم شريعة مداري "امام الشيعة في العالم كله" وهذا يعني, بتعبير اخر, انهم خلعوا صفة الزعامة المطلقة عن الخميني بعد اقل من سنة على انتصار ثورته الاسلامية في ايران.
والخلاف بين الزعيمين الدينيين الكبيرين ليس ابن الامس القريب, انه يرجع, عندما امر الخميني بتشكيل لجنة لوضع صيغة للدستور العتيد "للجمهورية الاسلامية" وسرعان ما تسرب ان اللجنة, وجل اعضائها من انصار الخميني, تنوي اعطاء زعيمها سلطات غير محدودة بحيث "يصبح دكتاتوراً حقيقياً في ايران كما قال شريعة مداري نفسه".
وظلت نار الخلافات تحت الرماد الى ان اعلن مشروع الدستور المتضمن, فعلا, تلك الصلاحيات الواسعة التي "حولت اية الله الخميني الى شاهنشاه جديد" على حد تعبير احد المراقبين السياسيين في طهران.
وما كان متوقعاً حصل. فقد قاطع انصار شريعة مداري الاستفتاء كما قاطعته الاقليات الكردية والبالوشية (سكان بلوشستان). وحيال هذا الموقف المتصلب من اخصام "بطريرك قم" كما تطلق عليه الصحافة الغربية – انقطعت شعرة معاوية بين آيتي الله فكان الهجوم على منزل شريعة مداري وكان عصيان ازربيجان وقد جاء ليضاف الى تمرد كردستان وبلوشستان وتململ عربستان.
والمعركة ما زالت مفتوحة رغم اجتماع جرى, اواخر الاسبوع الماضي, في قم التي لم يغادرها شريعة مداري مع ان "الشعب يطالب بي في ازربيجان" كما قال هو نفسه.
اما اوساط الخميني فقد القوا بتبعة الانشقاق الداخلي الذي بات ينذر بحرب اهلية دامية, على عاتق الاستخبارات الشيوعية والـ"سي.اي. اي." الاميركية.
وفي رأي مراقبين كثيرين ان هذه التهمة ليست مجرد كلام يقصد منه اسناد المسؤولية الى "اعداء الاسلام والمسلمين من الملحدين والامبرياليين" على حد تعبير احد كبار انصار الخميني, بل لها جذور من الحقيقة والمنطق.
اما الـ"سي.اي. اي." فهي في حرب مكشوفة مع نظام الخميني, وقضية الرهائن الاميركيين بعيدة جداً عن كل الحلول المحتملة برغم تصريحات مهدئة ادلى بها وزير الخارجية قطب زاده مؤخراً حول "احتمال اطلاق عدد من الرهائن الذين لم تثبت ادانتهم بالتجسس" غير ان تصريحات قطب زاده وأي مسؤول رسمي اخر في ايران اليوم تعني كبير شيء, بدليل ان "الطلاب الاسلاميين" الذين يحتجزون الرهائن بادروا فوراً الى تكذيب هذه التصريحات تكذيباً لا يتناسب مع مقام قائلها.. فقد اعلن زعيم الطلاب ان "قطب راده لا علاقة له بمسألة الرهائن ولا صلاحية له اطلاقاً بالنسبة لتقرير مصيرهم" وكأن هذا الناطق نفسه قد اعلن, غداة تعيين قطب زاده خلفاً لبني صدر, وعندما قام بتفقد السفارة الاميركية المحتلة, اعلن "اننا قد افهمنا وزير الخارجية ما يجب ان يقوله وما لا يجب" (...) ويبدو ان ما قاله حول اطلاق بعض الرهائن يدخل في باب "ما لا يجب"!.
وفي رأي مراقبين سياسيين مطلعين ان وزير الخارجية "لم يقفز فوق توجيهات الطلاب الاسلاميين الا عندما لاح شبح الصراع الداخلي في البلاد فأراد ان يخفف من حدة الازمة مع اميركا لتتفرغ السلطة الى معالجة الاوضاع الداخلية المتردية لانها – اي السلطة – غير قادرة على خوض حرب جبهتين."
صراع ام صفقة؟
لاحظ المراقبون, منذ الرابع من شهر تشرين الثاني الماضي – يوم احتلال السفارة الاميركية – ان الموقف السوفياتي بدأ فاتراً جداً. ولم تفتهم الملاحظة ان الاتحاد السوفياتي هو الجار الاقرب الى ايران وانه صاحب مصالح كبيرة في المنطقة, ومثل هذه الازمة الحادة التي وصلت الى نقطة بالغة الخطورة تهدد بنشوب نزاع مسلح واسع النطاق على حدوده الشمالية, لا يصح ابداً ان تترك الكرملين غير آبه ولا مكترث, فبقطع النظر عن احتمال امتداد اللهب الى حدوده, فمن المعروف ان موسكو ترمق منابع النفط بنظرات طامعة ذلك انه لا يغيب عن بالها ابداً انها سوف تضطر قريباً, وفي عام 1981 على وجه التحديد, الى استيراد البترول لاستهلاكها المحلي واستهلاك حليفاتها في الكتلة الشرقية.
وكانت واشنطن غير غافلة عن هذه الحقيقة وبدهي ان تعمل على ابعاد الدب الروسي عن منطقة الذهب الاسود التي ظلت طوال سنين كثيرة, تعتبرها "مجال صيدها المحروس" – كما يقول الفرنسيون – الا ان مصالحها المتشابكة مع مصالح الاتحاد السوفياتي, وبخاصة ما يتعلق باتفاقات "سالت" والسياسة الاوروبية, حال دون الخصام المعلن بين واشنطن وموسكو.
ولعل هذا ما يفسر عدم استياء الولايات المتحدة من "الموجة الاسلامية" الطاغية برغم اتصافها, في ايران وغير ايران, بنزعة تعصبية عنيفة. وعندما نقول "عدم استياء" فلكي لا نقول مباركة وتشجيع, ذلك ان الحسابات الاميركية قامت على اساسين:
أ-ان المد الاسلامي هو طفرة دينية جامحة لا بد له من الاصطدام, عاجلاً ام اجلاً, بالعقيدة الشيوعية الملحدة, ومثل هذا الاصطدام سيكون قطعاً في مصلحة واشنطن.
ب-لان الولايات المتحدة كانت تدغدغ الامل في ان تسري عدوى التحرك الاسلامي عبر الحدود السوفياتية لتصل الى الملايين الخمسين من المسلمين الذين يعيشون في ظل الحكم السوفياتي الشيوعي منذ حوالي نصف قرن دون ان يتخلوا عن معتقدهم الديني لمصلحة العقيدة الماركسية – اللينينية ذات الطابع المادي الالحادي, وان تظاهر بعضهم بذلك خوفاً من بطش السلطة وانتقامها.
ولكن حسابات واشنطن هذه لم تلبث ان ظهر خطأها بعد استتباب الامر في ايران للسلطة الاسلامية مجسدة بزعامة آية الله الخميني. ولعل هذا الواقع هو الذي حدا بشاه ايران السابق الى القول في مذكراته التي نشرت بعض فصولها في ايطاليا مؤخراً, ان "معظم ما يجري في ايران الان من كوارث وما يستشري من فوضى, هو من كوارث وما يستشري من فوضى, هو نتيجة طبيعية لاخطاء السياسة الاميركية المتراكمة". والخطير في هذه الاقوال ان صاحبها يعيش الان في حماية واشنطن التي تتأهب لخوض حرب ضد اعدائه في ايران.
صحيح ان الحرب التي تتأهب واشنطن خوضها ضد نظام الخميني ليست لغرض إعادة الشاه السابق الى عرشه بل لحساب هيبة اميركا ومصالحها وكرامتها, ولكن هذا لا يحول دون تطبيق المثل الشهير: عدو عدوي صديقي.
وخطأ الحسابات الاميركية بدا جسيماً عندما اخذ "المد الاسلامي" يجتاح المواقع الاميركية قبل السوفياتيه, لا لان الثورة الدينية ترى في اميركا عدواً اخطر من العدو الشيوعي, بل لان السياسة السوفياتية كانت اكثر حكمة وتعقلاً واقل مخاطرة ومغامرة.
فبرغم ما تعرفه موسكو حق المعرفة من ان موجة دينية متطرفة ومتعصبة تنطلق على حدودها الجنوبية لن تكون برداً وسلاماً عليها, فقد لزم الكرملين, منذ وصول الخميني الى الحكم, في شباط من العام الماضي, جانب الحذر, موقف من ينتظر ويراقب. وكما راهن الاميركيون على صدام بين الاسلام والشيوعية, راهن السوفياتيون على انفجار الازمة بين الثورة الاسلامية والامبريالية الاميركية.
واذا كانت واشنطن قد اخطأت في تقديراتها فان موسكو لم تقع في الفخ نفسه.
كانت موسكو تدرك ان حركة دينية متعصبة كحركة الخميني تنادي بالعودة الى صيغة في السياسة والحكم ابعد ما تكون عن روح العصر, لا بد لها من تفجير خلافات عديدة لدى اول احتكاك لها بحضارة متطورة كالحضارة الغربية, اذ كيف يمكن ان يتعايش نظام يحرم الموسيقى والسباحة وخروج المرأة من المنزل الخ... مع حضارة قطعت شوطاً بعيدة في المجالات الاجتماعية والتحرر من كل قيد للمرأة كما للرجل؟
وكانت موسكو تدرك ان العلاقات الاقتصادية التي ظلت قائمة بين الولايات المتحدة وايران طوال عدة عقود من الزمن ولصالح الرأسمالية الاميركية التي جعلت من ايران سوقاً استهلاكية ضخمة, لا بد ان تصبح عنصر تفجير اخر في ظل نظام صوفي يدعو الى التقشف في كل شيء: في المأكل والملبس ووسائل الترف والترفيه وحتى على صعيد المكننة والتقنية والتسلح.
وحيال التطورات المرتقبة بعد نجاح الثورة الاسلامية, وقفت موسكو تنتظر ساعتها. ساعة انفجار الصراعات الداخلية, وتمرد الاقليات الدينية والعرقية, وتنافس الزعامات الدينية, بالاضافة الى النزاع المحتمل مع الغرب الرأسمالي.
وكانت موسكو واثقة من انها ستكون هي الرابحة الوحيدة من الفوضى التي ستعم البلاد – وقد عمته!- وليس ابرع من السوفياتيين في استغلال جميع ضروب الفوضى التي تستشري في اي بلد من البلدان, وليس امهر منهم في ركوب الموجات الطارئة مهما كان لونها واتجاه الربح التي تحركها, وهذه البراعة وتلك المهارة صفتان اصيلتان في العقيدة الشيوعية منذ ان استغل لينين الفوضى التي اجتاحت روسيا القيصرية عقب الهزائم العسكرية التي انزلتها بها المانيا في الحرب العالمية الاولى. ولم يكتف لينين في الاستغلال بل عمد الى "برمجة" الوسائل الآيلة الى امتصاص نقمة الجماهير ويأسها وضياعها واجتذابها الى صفه حتى غدا هذا الاسلوب في صلب الاستراتيجية الشيوعية. ولقد نجح في ظروف كثيرة وفي بلدان مختلفة, وكانت آخر نجاحاته في اثينا وأنغولا وافغانستان.
ولعل هذه الحقيقة هي التي حدت بوزير الخارجية الايراني قطب زاده الى تحذير موسكو من التدخل في الشؤون الايرانية حتى في حال اقدام الولايات المتحدة على استخدام القوة العسكرية ضد نظام الخميني.
والسؤال الان: هل اصغي الكرملين الى تحذير قطب زاده وهل يكفي تصريح وزير خارجية لا يملك سلطة فعلية لقطع شهية السوفياتيين وتخليهم عن اللعبة للاميركيين؟
الامر مستبعد جداً. فموسكو لا تجهل ابدا انه اذا ما تم طرد اميركا من المنطقة تنتقل مفاتيح الحل والربط الى يدها. الا ان موسكو لا تراهن, في الوقت الحاضر على الاقل, على طرد ناجز لاميركا من الشرق الاوسط. فهي تعرف اكثر من كل الناس ان للاميركيين اكثر من قاعدة – في طليعتها اسرائيل – وان لهم اكثر من حليف, ومن ليس حليفهم فهو يفضل اهون الشرين.. وموسكو لا تجهل ايضاً ان واشنطن تملك قوة عسكرية ضخمة تسمح لها, عند الاقتضاء, بلعب الورقة الاخيرة.
لجميع هذه الاسباب, ورغبة من الكرملين في الا يخرج من المعمعة صفر اليدين, وثقة منه بأن حرباً عالمية غير واردة الاحتمال من اجل ايران ولا من اجل اي مشكلة في العالم, فقد اختار... المساومة!
اوروبا مركز ثقل اخر
ولكن اين يساوم الاتحاد السوفياتي وعلى ماذا؟
هنا مشكلة ساخنة الان تنير قلقاً بالغاً في موسكو هي اعتزام الولايات المتحدة, تحت مظلة حلف شمال الاطلسي, نصب عدد غير محدود من الصواريخ ذات الرؤوس النووية, المتوسطة المدى, في انحاء مختلفة من البلدان الاوروبية الاعضاء في الحلف. وعلى وجه التحديد: بريطانيا, المانيا الغربية, ايطاليا وهولندا. والمشروع الاميركي ذو مدلول مخيف فعلاً: انه يعني تطويق الواجهة الغربية للاتحاد السوفياتي بشبكة ضخمة من الصواريخ الاستراتيجية القادرة على تهديد مدنه ومصانعه ونقاطه الحيوية دفعة واحدة, وبصورة تشكل لديه كل قدرة على التحرك وتبعد عن اوروبا الغربية كابوس الخطر الشيوعي الذي طالما ارق لياليها.
ولقد حاول الكرملين بالوسائل الدبلوماسية وغير الدبلوماسية, ثني البيت الابيض عن قراره هذا, فلجأ الى التهديد تارة والى الضغط على الدول الاوروبية طوراً, ولكن دون جدوى.
وقبل الازمة الاميركية – الايرانية لجأت موسكو الى سياسة الملاينة, فذكرت واشنطن باتفاق سالت -2 ولمحت الى سالت -3 واستعدادها لتوقيعه. واكثر من ذلك: عندما قام السوفياتي الاول ليونيد بريجنيف بزيارة المانيا الديمقراطية (الشرقية) في الصيف الماضي, اعلن على رؤوس الاشهاد, عن اعتزام بلاده سحب شطر هام من القوة السوفياتية الصفارية المرابطة, منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, في الاراضي الالمانية, وهذا تدليلا على حسن نية موسكو وطيب استعدادها لتخفيف حدة التوتر في اوروبا واعطاء المثل الصالح لواشنطن كي تعدل عن مشروع زرع الصواريخ في اوروبا الغربية.
ويبدو, كما تؤكد المصادر المقربة من البنتاغون, ان واشنطن ادارت اذناً صماء لهذا الغزل السوفياتي المكشوف, ومضت قدماً في تنفيذ مخططها وهي سعيدة بما احدث لدى موسكو من ذعر صريح.
والمخطط الاميركي ما كان ليعطي هذا المردود لو انه حصل قبل سنوات معدودة اي قبل المصالحة التي تمت بين الولايات المتحدة والصين الشعبية, لان الاتحاد السوفياتي, قبل التقارب الصيني – الاميركي, كان طليق اليدين في جنوبي شرقي اسيا فلا يتأثر كثيراً بتهديد يأتيه من الغرب لانه يستطيع ان يرد عليه بتهديد مماثل للمصالح والمواقع الاميركية في اسيا واليابان.
اما اليوم فقد خلطت الاوراق, وانقلبت الحسابات رأساً على عقب...
وحيال هذا الواقع, وفي موعد لم يكن يتوقعه كثيرون, مرض شاه ايران السابق, وقام هنري كيسنجر ببذل مساعيه الحميدة لدى سيد البيت الابيض, متذرعاً بالدوافع الانسانية, فنزل كارتر عند رغبة "مهندس الازمة الراهنة" كما اطلق على كيسنجر خصومه السياسيون في حملات نقد عنيفة طفحت بها اعمدة الصحافة الاميركية في الاسابيع المنصرمة.
ومع وصول الشاه السابق الى نيورك وقع المحذور واحتل "الطلاب الاسلاميون" السفارة الاميركية في طهران, وأخذت الازمة تتفاقم يوماً فيوماً, بل ساعة فساعة, الى ان بلغت درجة مخيفة فعلاً من التصعيد والغليان.
وفي الوقت الذي حبس العالم انفاسه وراح يمارس هواية العد العكسي للانفجار الاعظم, قرر الكرملين ان ساعته قد دقت فخرج عن صمته وتخلى عن قتوره, وبدأ "يزكزك" الولايات المتحدة بتصريحات وتلميحات فهمت مدلولها واشنطن دون ريب.
ومدلول تصريحات وتلميحات الكرملين تعني, بتبسيط, انه لن يترك البيت الابيض يأكل قطعة الحلوى وحده لا شريك له. فما ايران سوى جارة للاتحاد السوفياتي, والجار احق بالجار, فثمة خط احمر يقسم البلاد الى شمال وجنوب, واذا كان الاميركيون اشد حرصاً على بترول الجنوب منهم على ارواح الرهائن, فان السوفياتيين راغبون في اعادة سيطرتهم على الولايات الشمالية التي كانت في ايديهم طوال سنوات الحرب العالمية والتي انتزعها منهم تشرشل, بدعم من اميركا في مؤتمري يالطا وطهران.
فلماذا لا يعيد التاريخ نفسه؟ ولماذا لا تطلق ايدي موسكو في الشمال لقاء اطلاق ايدي واشنطن في الجنوب؟
هل يعني هذا تقسيم ايران الى ايرانين اميركية وسوفياتية؟ ليس بالضرورة, فالمطلوب هو الاشراف وارساء قواعد النفوذ لا الاحتلال العسكري حسب الاسلوب الاستعماري الكلاسيكي البائد.
ثم ان لموسكو مطامع في النفط الايراني, فلماذا تستأثر به واشنطن وحدها وهي التي لا تستورد منه الا 5 بالمئة من استهلاكها؟ لتكن لموسكو حصة منه. نسبة مئوية معقولة!
هذا بالنسبة لايران, ولكن سكوت الكرملين عن المخطط الاميركي يساوي اكثر من ذلك.
انه يساوي العدول عن "وضع القفل النووي على الباب الغربي للاتحاد السوفياتي" – على حد تعبير احد المعلقين – اي صرف النظر عن زرع الصواريخ في اوروبا الغربية.
صفقة؟ مساومة؟ ربما.
وفي رأي الكرملين انها صفقة رابحة للجبارين: واشنطن تنقذ هيبتها وتستعيد سيطرتها على ابار النفط الايراني, وموسكو تنال مكاسب عينية في ايران وتتحرر من كابوس "القفل النووي" على بابها الغربي – وهذا هو الاهم.
ولكن ليس من يستطيع ان يجزم ما اذا كانت الصفقة قد ابرمت ام لا. ولكن المؤكد ان المساومة جارية بين الجبارين على قدم وساق.
اما بوادر الاتفاق على "الاخذ والعطاء" فقد باتت تلوح في اوروبا الغربية بالذات. وكان اول الغيث رفض البرلمان الهولندي بأكثرية 76 صوتاً ضد 69 فكرة انتاج ونشر الصواريخ النووية الجديدة في اوروبا الغربية. ومن يدري فقد تصدر غداً او بعد غد قرارات مماثلة عن برلمانات الدول الاعضاء في الحلف الاطلسي. فهل يعني هذا ان دولة صغيرة مثل هولندا قد شقت عصا الطاعة على زعيمة العالم الرأسمالي؟ ام انه دليل على ان المساومة بين الجبارين قد أوشكت ان تصبح صفقة؟! (انتهى)




