الثورة الاسلامية الايرانية - كيف استقبلت بيروت
ما ابعد اليوم عن الامس!
صفحة لبنانية من تاريخ شاه ايران
كيف استقبلت بيروت "الشاهبور" قبل أربعين عاماً
ركب يخت "المحروسة " من بيروت لينقله الى عروسته الاميرة فوزية في مصر
(المصدر :الصياد لا تاريخ لجورج مصروعه) (مصحح)
محمد رضا بهلوي هو شاهنشاه إيران منذ سبعة وثلاثين عاماً، فقبل العام 1941، وهو تاريخ تنازل والده رضا شاه عن العرش، تحت ضغط الحلفاء المنتصرين على ألمانيا النازية وحلفائها، كان محمد رضا "شاهبور" أي ولي عهد. وفي حقبة ولايته للعهد، تزوج للمرة الأولى من الأميرة فوزية، شقيقة الملك فاروق عاهل مصر، في العام 1939، أي منذ حوالي أربعين عاماً.
وفي طريقه إلى القاهرة، أقيم له استقبالان، أحدهما متوسط في دمشق والآخر حافل في بيروت.
أما استقبال بيروت، فقد كتبت تفاصيله الصحافية اللبنانية "أورو أوغور" في مجلة "فينيسيا" التي كان يصدرها آنذاك الشاعر باللغة الفرنسية شارل قرم.
ولمناسبة أحداث إيران الأخيرة والغامضة النتائج، نروي في ما يلي بعض وقائع استقبال الأمير الإيراني في لبنان.
الأمير الفتان:
بهذا العنوان المشرق الذي يتوج عدداً كبيراً من أساطير الحق الغربية، قدمت "أورو أوغور" الشاهبور محمد رضا، وقالت: "صباح اليوم الأول من آذار 1939، أفاقت بيروت على إحدى وعشرين طلقة مدفع، وصعد كل بيروتي على سطح منزله ينعم برؤية "المحروسة"، يخت صاحب الجلالة ملك مصر: صورة ناصعة البياض على بحر بنفسجي، تتوغل في مياهنا الإقليمية، وتواكبها خافرتا السواحل المصريتان "فاروق" و "فوزية".
ألقت السفن الثلاث مراسيها في الميناء، ونشرت سفن القاعدة البحرية اللبنانية أعلامها الزاهية الألوان، فإذا هي أشبه برف من طيور الجزر البعيدة.
وكانت السفينة اللبنانية "صنين" عابسة وراء حجاب من الغيوم، إلا أن مشهد بيروت وهي بصورة ملعب مستدير، أفرح قلوب ضيوفنا المصريين. وإذا كانت بيروت، في مثل هذا المشهد تبدو من البحر وكأنها قطع حمراء وبيضاء تتسلق الجو صعوداً إلى السماء، فإن الإسكندرية ترتسم في الأفق كتلة واحدة محمرة. فالتباين بين المدينتين واضح وكلي، خصوصاً حين يهبط الليل، فتحجب أضواء بيروت السماء، بينما تبدو نجوم الإسكندرية كأنها تلامس الأرض، إنه لمشهد لا ينسى.
"ولكني لا أظن أن ضيوفنا في ذلك الصباح البهيج انصرفوا إلى المقارنة بين ذينك المشهدين، لأنهم ارتدوا ملابسهم الرسمية، وساروا للقيام بالزيارات البروتوكولية.
وبعد أن استقبلهم المفروض السامي زاروا في السراية الصغيرة رئيس الجمهورية والحكومة اللبنانية.
"ولم تعرف السراية الصغيرة قبلاً مثل تلك الحركة التي عصفت بها. فأصحاب المعالي، وقد حرموا نوم الصباح المريح، جلسوا في مكاتبهم مشدودي الأجسام في الثياب الرسمية، مشنجي الأعناق في الأطواق المنشأة... فروكز أبو ناضر مثلاً، كان يعبث بحبات سبحته العنبرية، دون أن يجرؤ على الجلوس، وقد ازداد سمنة بعد عيد رأس السنة، وحبيب أبو شهلا كان يلامس شعره مؤكداً للصحافيين أن كل شيء على ما يرام في أحلى جمهوريات العالم. وفي مكاتب الرئاسة كان هكتور خلاط مرتاحاً، وقد زين عقدة رقبته بحبة لؤلؤ، وراح يفكر في قصيدة يرفعها إلى "الربة المصرية الحسناء"، فيما هو يدقق في لائحة المدعوين.
وشوهد رجال في أزياء عثمانية، كأنهم خارجون من قصر يلدز يصعدون أو ينزلون على السلالم برشاقة مصوري الصحف الأميركيين، ولما سألنا عنهم، قيل لنا أنهم المصورون "الرسميون" السينمائيون والصحافيون التابعون لبلاط صاحب الجلالة ملك مصر.
وبعد زيارات المصريين للبنانيين، بدأت زيارات اللبنانيين للمصريين. ثم تحرك الموكب الرسمي ليذهب إلى استقبال السمو الامبراطوري شاهبور إيران على الحدود اللبنانية السورية.
وبالطبع تأخر الموكب عن الموعد المقرر، واستطاع أعضاؤه تناول طعام الصباح في شتورة.
استقبال شعبي حماسي:
وفي شتورة عقدت حلقات الدبكة اللبنانية حول فندق مسابكي، في جو من السرور العارم، والابتهاج الشعبي المزغرد، فيما كان العديد من المستقبلين يذرف دموع الفرح، تحت زخة مطر مفاجئة.
وقفت طفلة في ثوب حريري أبيض، تلقي كلمة ترحيب باللغة الإيرانية، أمضت الليل في استظهارها وإتقان لفظ كلماتها.
وبدا السرور على أديب نحاس الأنيق، والسيد سالان، لرؤيتهما ذلك الحشد من الناس في منطقتهما، وفي شهر آذار. أما السيد مسابكي، فكان يوزع كؤوس العرق بفرح ظاهر.. إلا أنه كان يفكر أيضاً بتقديم الفواتير!...
وعلى الحدود، كاد الابتهاج العام يتقلص، إذ هبت رياح ثلجية جمدت الابتسامات على الوجود، لأن الثياب الرسمية لا يجوز أن تتوارى تحت المعاطف الدافئة، فتعرض الرسميون للإصابة بالتهاب الرئة في سبيل الأناقة التي لا بد منها في مثل هذه الأحوال.
وفي هذه الأثناء، وصل الجنرال "بارب" والسيد "لافون" ممثلاً المفوض السامي، والجنرال القائد الأعلى، فأضفى وصولهم على الصورة العامة حركة منعشة ولوناً جديداً.
فالجنرال في بزته المعرقة بالأسود والأحمر، كان عظيم المنكبين تحت معطفه الجميل، والسيد لافون كان مستقيم القامة fكالسيف في غمده، وهو غمد من الجوخ الأسحم اللون. وكان كلاهما في منتهى الجمال والهيبة.
أما الكولونيل بوافان، فكان في بزة من الكاكي الفضي اللون، وقد اختبأ في سيارته هرباً من الصقيع، خصوصاً لما بدأ المطر ينهمر، فيما كان السيد "ميرفندرسكي" قنصل إيران العام، يروح ويجيء في كل مكان وهو بادي التأثر والسعادة.
وأخيراً، وصلت الدراجات النارية السورية كطبالى الأزمنة الغابرة، في جلبة تصم الآذان، وترجل الأمير من سيارته..
باهر الوسامة، طويل القامة، واضح النظرات، على كتفيه طيلسان كبريتي اللون... فإذا هو صورة حية للأمير الفتان، بطل الأساطير القديمة.
وسار الموكب ليستقبله أبناء القرى بالتصفيق والهتاف والزغردة، وهذا أبلغ تعبير شعبي عن الفرح والمحبة.
وفي بيروت تجاوزت مظاهر الابتهاج كل حد. ارتص الناس على الأرصفة وسطوح الأبنية، أتوا من الجبال والسواحل، تسلقوا الأشجار، ازدحموا على الشرفات، ليعبروا للأمير عن سرورهم باستقباله.
وفي فرن الشباك، تحت قوس النصر المزدان بالأسد الإيراني تجمع الطلاب الإيرانيون في حشد لطيف وملتهب حماسة.
وما كاد "الشاهبور" يترجل من سيارته، حتى استقبله السيد "ميرييه" ممثلاً المفوض السامي والجنرال القائد الأعلى ورئيس مجلس النواب، وحاشية من الرسميين في ثيابهم الرسمية الزاهية.
وعلى طول الرصيف، اصطفت وحدة عسكرية بمدرعاتها ومدافعها ورشاشاتها ومشاتها ورماتها، وأدت التحية الرسمية. ولكن الأمير لم يرها جيداً، إذ كان محاطاً بجماهير المستقبلين. وبعد مراسم التعارف والتقاط الصور، صعد سموه إلى سيارته واجتهاز بيروت في مهرجان يثبت أن الشرقيين هم أشد شعوب العالم حماسة.
في طريق الشام، وساحة البرج، وشارع ويغان كان صف طويل من رجال الأمن يمنع الجماهير المتراصة على الأرصفة من التدفق على الموكب، إلا أن بعض المرحبين اخترقوا هذا الصف بحماستهم الصاخبة في بعض الأماكن، ولمسوا سيارة الأمير مارين بين الفرسان السباهي الذين يواكبونها.
إن مدينتنا بيروت لم تعرف مثل هذه الحماسة في ما مضى من تاريخها.
قصة حب... كانت عابرة:
كانت هناك قصة حب، وكانت حكاية أمير يجتاز الجبال والأودية والسهول، في غمرة من حفيف الأجنحة وخشخشة الجواهر، وسحر أساطير الجن، وفتنة الخوارق... وهذا كله مما ألهب حماسة بيروت، المدينة التي درجت على أن تكون هادئة مترصنة.
لا عذر لهذه الفوضى إلا كونها تعبيراً عن سرور الشعب وترحيبه الحار بالشاهبور.
ولما وصل الموكب إلى قنصلية إيران العامة، كانت السجاجيد تكسو الأرض، وقد جاء بها التجار الإيرانيون، وهي من أفخر ما أنتجت بلاد الشاهنشاه.
انحنت السيدة "ميرفندركسي" وجماعة من السيدات الإيرانيات أمام الأمير، وهن في أثوابهن الفاخرة أضمومة رائعة الجمال من أزهار أصفهان.
ومالت الشمس إلى الغروب بعد أن داعبت، مرة أخيرة أصواف كاشان وحريرها، وبدائع شيراز وبخارى..
إلا أن الأمير لم يكن قد أنهى يومه بعد، فزار اليخت الملكي "المحروسة" حيث كان من المقرر أن يمضي ليلته تلك، ثم أنه بعد حضور حفلة الشاي التي أقامها له رئيس الجمهورية تناول طعام العشاء في قصر الصنوبر حيث أقام له المفوض السامي والسيدة غبرييل بيو مأدبة تكريمية.
وكان استقبال ممثل فرنسا لطيفاً، فما انتهى إلا في ساعة متأخرة من الليل، فتوجه سموه إلى الحجرة المعدة له في اليخت الملكي الجاثم، وكأنه الطائر البحري يطفو على بحر زيتي الهدوء..."(انتهى)




