الثورة الاسلامية الايرانية - Page 2
الشاهنشاهية في الثالثة و الخمسين
محمد رضا حصل على العرض مقابل حفنة من.. سكر النبات:
(الصياد لا تاريخ لجورج مصروعه)
الدولة التي تبسط ظلها على مليون و648 ألف كيلومتر مربع من الأرض، بين تركيا والاتحاد السوفياتي، وأفغانستان وباكستان والعراق، واسمها إيران، تبلغ العام الثالث والخمسين من عمرها في 31 تشرين الأول المقبل، لأنها نشأت في 31 تشرين الأول 1925.
قبل هذا التاريخ كان لها اسمان مترادفان: بلاد فارس، وبلاد العجم، فألغاهما مؤسس الأسرة الحاكمة حالياً، رضا بهلوي واختار اسم إيران.
شاهات مغمورون:
إن تاريخ إيران طويل، يملأ عشرات المجلدات، لذلك ولمناسبة الأحداث الجسام التي تعصف بالمدن الإيرانية. هذه الأيام، نقصر هذا البحث على الخطوط العريضة للحقبة الممتدة من أواخر القرن الثامن عشر حتى اليوم.
الأسرة الحاكمة السابقة هي أسرة قاجار، أسسها خضي تركي الأصل متوقد الذكاء، بالغ القسوة والشراسة، يدعى آغا محمد خان، وقد تمكن من توحيد البلاد بعد حروب داخلية ضاربة استغرقت ثلاثة أعوام، قضى فيها على خصومه بالحديد والنار في شيراز، ثم استعاد منطقتي جورجيا وخراسان، وكانتا قد استقلتا بتشجيع من روسيا وبريطانيا.
وآغا محمد خان هو الذي جعل طهران عاصمة دولته. وكان هلاكه فيها عبرة، إذ حكم على اثنين من خدمه بالموت قبل تكبيلهما بالحديد، فهاجماه، وانهالا عليه ضرباً حتى لفظ أنفاسه.
وخلفه ابن أخيه فتح علي خان عام 1797، وكان وسيماً عظيم اللحية، مستهتراً، منصرفاً عن شؤون الدولة إلى اللهو والتنعم بملذات الحياة بين الجواري والخصيان، ففتح أبواب البلاد لمطامع الروسيين والإنكليز والفرنسيين والأتراك، وأدى ضعف السلطة المركزية في عهده إلى انتشار الفوضى والاضطرابات وحركات التمرد والعصيان في طول البلاد وعرضها، وكان ضباط الاستخبارات الأجانب يقتسمون القبائل، ويستقطبون الزعامات المحلية، ويصبون الزيت على النار.
وتوالى على العرش، بعد فتح علي، محمد الثاني فناصر الدين، فمظفر الدين الذي كان مريضاً، هزيل الشخصية، فمحمد علي، فأحمد شاه، وهو الذي خلفه رضا بهلوي.
في ليلة ليلاء من ربيع العام 1878، أي منذ مائة عام بالضبط. كانت قافلة فارسية تجتاز جبال الشمال الوعرة، التي يبلغ ارتفاع قمة ديماوند فيها5600 متر.
وكانت في هذه القافلة امرأة محجبة أرهقها التعب حتى أشرفت على الإغماء، إلا أنها لم تتخلى عن صرة صغيرة كانت بين يديها.
ولما ترجلت عن بغلها للاستراحة، ووضعت تلك الصرة إلى جانبها، تبين أن فيها ولداً ابن يومه، حسبه ميتاً كل من رآه، حتى أمه التي تقبلت تعزية أفراد القافلة دامعة العين، مذعنة لمشيئة القدر.
ولكن الوليد ما لبث أن صاح معبراً عن جوعه، فهرعت أمه إليه، وألقته على ثديها حتى شبع ثم نام.
هذا الطفل الذي أبصر النور في عاصفة ثلجية على القمم الشامخة، هو رضا شاه، مؤسس الأسرة المالكة الحالية. وقصة ولادته هذه، ونجاته من الموت بشفاعة الإمام هاشم ولي تلك المنطقة الجبلية القاسية، انقلبت أسطورة على السنة الرواة، وساعدت على تكرسيه بطلاً قومياً، إذ أحدثت تأثيراً بالغاً في خيال شعب شديد التوق إلى الخوارق.
على طريق المجد
كانت أسرة رضا إيرانية عريقة، متشبثة بأرضها، عسكرية النزعة. وكان والد ذلك الطفل عقيداً في فوج منطقته، يعتز بانتمائه إلى آل باوند، أحفاد كيوس بن قباز، الأخ الأكبر لانوشروان، إلا أنه لم يفرح طويلاً بولده رضا، إذ وافاه الأجل والطفل في اليوم الأربعين من عمره، فكان على الأم أن تربي ولدها بالعمل الدائن وعرق الجبين.
لا نعرف شيئاً عن طفولة رضا وفتوته، كلتاهما مغمورتان. ولما بلغ الرابعة عشرة، تطوع في لواء القوزاق الروسي الصبغة. ولم يكن قد تلقى أقل تنشئة عسكرية أو ثقافية، فقرر أن يثقف نفسه، وأكب بكل ما فيه من حزم وإرادة على تعلم القراءة والكتابة، مستعيناً برفاقه المتعلمين.
وإلى جانب توقه إلى العلم، نشأ طموحه إلى الارتقاء في مراتب الجيش، على أمل أن يصبح يوماً ما قائد اللواء الذي ينتمي إليه، وهو من النخبة المنيعة الجانب بين ألوية الجيش الروسي.
وبعد خدمة طويلة استغرقت سبعة وعشرين عاماً، بلغ رتبة عقيد، واشترك في القيادة العليا، وكان لواء القوازق قد توسع فأصبح فرقة.
وفي 26 تشرين الأول 1919 رزق رضا بصبي سماه محمد رضا، وهو الشاه المالك حالياً، فاطمأن الوالد إلى مستقبل أسرته، كأنه يرى القمم التي يسير إليها، وكأن هذه القمم في متناول يده.
وكانت "بلاد فارس"، في ذلك الحين تتخبط في أزمات أذربيجان، وجورجيا، وأرمينيا، وخضعت منطقة بوشهر البترولية للنفوذ البريطاني بعد اتفاق لندن وموسكو على اقتسام البلاد، وإقصاء نفوذ فرنسا وتركيا.
وأمست الحكومة الوطنية صورة، لا سلطة لها، ولا وزن ولا قيمة، فانتشرت الشقاوة، وعمت الفوضى وأضحت القبائل والعشائر دويلات متذابحة في قلب الدولة الخيالية الكبيرة، ومن الطبيعي أن تصبح هذه الحالة المتردية أرضاً خصبة لنشاط ضباط الاستخبارات الأجانب، وللمغامرين من المرتزقة ولمحترفي الدسائس والمؤامرات.
ولما استفحل الشر، وكادت البلاد ان تخسر كل شيء، لمعت بوادر الوعي الوطني، خصوصاً في المدن الكبيرة وفي صفوف رجال الدين، وكبار التجار وأصحاب المهن الحرة والمثقفين على النهج الغربي، فتنادوا جميعاً، وتحاوروا واتفقوا على أن الحكم القائم فاسد، لا بد من تغييره.
وكان الشاه آنذاك مظفر الدين، وهو رجل طيب وعديم الإرادة، فوافق على كل مطلب شعبي، وخضع لدستور أجريت بموجبه انتخابات أسفرت عن مجلس يمثل الشعب.
ولكن خليفته محمد علي شاه كان مستبداً على غير كفاءة، فقرر أن يضرب الزعماء الشعبيين ضربة قاضية، وقصف مبنى المجلس بالمدافع، ثم هرب لاجئاً إلى المفوضية البريطانية، واضطر بعدئذٍ إلى التنازل عن العرش، مفسحاً في المجال لإبنه أحمد شاه، وهو في الحادية عشرة من العمر، فتولى الوصاية عليه رجل معروف بنزعته التحررية.
إلا أن هذه الأحداث لم تحسن الحالة العامة، فعادت المؤامرات الخارجية إلى نشاطها السابق، وفرغت الخزينة واستشرت الشقاوة وانتشرت المجاعة والأمراض السارية، وأمسى كل زعيم شعبي يسعى إلى المحافظة على نفسه وممتلكاته، أو يغادر الوطن غير آسف عليه، وعاد الروسيون إلى احتلال الشمال، فيما كان الإنكليز يرسخون أقدامهم في المنطقة البترولية.
وفي هذا الليل الدامس، أشرق نجم رضا بهلوي.
الإصلاح سلم العرش:
بدأ رضا عمله بإخضاع القبائل المتمردة، والفئات الانفصالية، وقد اشتهر بالنزاهة، والتجرد، والشجاعة، فالتفت حوله القوى الوطنية الصالحة.
وفي عام 1920 سجل نصراً مصيرياً، إذ أبعد الضباط الروسيين عن فرقة القوزاق، وجعلها وطنية صرفاً، وتولى قيادتها على رأس مجلس أركان من الضباط الإيرانيين، ثم شرع يقضي تباعاً على كل نفوذ أجنبي لا يخدم البلاد.
وكان في طهران يومذاك صحافي بعيد النظر يدعى سيد ضياء الدين، فدعا في جريدته "رعد" إلى إنقاذ البلاد من ويلاتها العديدة، ووجه إلى رضا كتاباً مفتوحاً دعاه فيه إلى القيام بانقلاب، لأن الشعب كله وراءه.
لبى رضا ذلك النداء فجمع أولاً القوات المسلحة: القوازق الذين كانوا روسيي النزعة، ومفارز الدرك التي نظمها ضباط أسوجيون، ورجال الحرس الذين كانت قيادتهم نمساوية، والميليشيات المحلية المختلفة المشارب والنزعات...
من هذا الخليط كله كون رضا جيشاً وطنياً يدين بالولاء المطلب لإيران وحدها قوامه أربعون ألف رجل.
بهذه القوة استطاع الزعيم الحازم أن يفرض الإصلاح الأمني والاقتصادي والقضائي والعسكري.
وفي تشرين الأول 1923 سافر أحمد شاه إلى فرنسا بعد تعيين رضا خان رئيس وزارة.
وفي 31 تشرين الأول 1925 خلع المجلس الوطني أحمد شاه قاجار المقيم في باريس، ورفع رضا بهلوي إلى سدة العرش، وكان التتويج في 26 شباط 1926. وأعلن محمد رضا بهلوي ولياً للعهد.
حملة العودة إلى الجذور:
قام الشاه الجديد بحملة واسعة لتحديث بلاده، فأعاد إلى الإيرانيين عنفوانهم القومي الذي كاد يغرق في المعارك الداخلية الآثمة. وألغى تسمية "بلاد فارس" متخذاً اسم "إيران"، وهو الوحيد المستعمل في اللغة الوطنية، واستبدل الأسماء العربية في المؤسسات والدوائر العامة بأسماء إيرانية، إلى أصولها، وحذف الكلمات الغربية منها، ودعا المواطنين إلى اتخاذ أسماء وطنية مستمدة من التاريخ لعيالهم ولأبنائهم مؤكداً لهم أنهم لن يجدوا في الأسماء الأجنبية أمجاداً تضارع أمجاد جدودهم الأكاسرة...
ولكن هذه "التفاصيل"، على أهميتها، لا تبني دولة حديثة على أساس شعب ما يزال في القرون الوسطى على صعدان العلم، والثقافة والتقنية والتطور الاجتماعي، والصناعة والزراعة ومختلف مقومات الحياة في هذا العصر.
ولمواجهة هذا الواقع الصعب، بدأ رضا بتنظيم الإدارة المالية، ثم انتقل إلى القضاء، فحقق معجزتين في هذين " الحقلين في أقل من عشرة أعوام.
وعزز التربية الوطنية في مختلف الدورات المدرسية، من الصفوف الابتدائية إلى أعلى المراتب الجامعية. وأصلح المواصلات، فشق الطرق، ومد خطوط السكك الحديدية، خصوصاً بين طهران وبحر قزوين، واستعاض بفرض الضرائب عن اللجوء إلى القروض الخارجية.
وفي العام 1932 ألغى الامتيازات البترولية وعقد مع البريطانيين اتفاقات جديدة أوفر ضماناً للحقوق الوطنية الإيرانية، ولم تكن فكرة التأمين واردة بعد، حتى ذلك الحين...
وجملة القول أن رضا بعث في نفوس مواطنيه الشعور بالكرامة الوطنية، بعد خضوعهم، طوال قرن، للنفوذ الأجنبي المدمر. وكثيراً ما اصطدمت الحركة الإصلاحية بعقبات داخلية شديدة الخطر، كثورة مدنية مشهد المقدسة على تحرير المرأة وسفورها في العام 1935.
وبعد اجتياز هذه العقبة الكؤود، تابع الإصلاح طريقه حتى شمل البلاد كلها، وفرض نفسه حيناً بالرضى، وحيناً أخر بالقوة.
عقاب ظالم:
ولما نشبت الحرب العالمية الثانية، عام 1939، تذكر رضا بهلوي ما قاست بلاده من الاحتلال الروسي، والتركي، والبريطاني، فاتخذ موقف الحياد.
ولكن الحلفاء استنكروا هذا الموقف، خصوصاً لما هاجم النازيون الاتحاد السوفياتي، فأصبح بحاجة إلى المساعدة ليتمكن من الصمود.
ناهيك بأن القيادة الحليفة كانت ترمي إلى فتح جبهة شرقية تجتذب القوات الألمانية، ليتسنى خرق الجبهة الغربية الحصينة والهجوم على قلب الكتلة المحورية المؤلفة من ألمانيا وإيطاليا واليابان.
ولا ريب في أن الحلفاء كانوا يحسبون حساباً للعلاقات الاقتصادية الوثيقة التي نشأت قبل الحرب بين برلين وطهران.
وهي علاقات تفتح للدعاية النازية آفاقاً واسعة في الشرق الأوسط، فاتهموا رضا شاه بأنه يغذي في بلاده "طابوراً خامساً"، لاعتقاده بصحة المذهب النازي.
لم يكن هذا الاتهام قائماً على شيء من الواقعية، ولكن الروسيين والإنكليز ضخموه، ونشروه، واخترعوا له وثائق وأدلة وبراهين، وعادوا إلى مخاطبة الإيرانيين باللهجة الطاغية التي تعودوها يوم كانوا مسيطرين، فاضطرت الحكومة الإيرانية إلى المسايرة، وقبلت بعقد اتفاق مع الحلفاء.
ولم يكن ذلك التساهل إلا ليزيد الحلفاء تصلباً. وبدون أن يفاوضوا الشاه، أو أن يسألون رأيه، أعلنوا عليه الحرب... وزحف الروسيون من الشمال، والإنكليزي من الجنوب، فاحتلوا البلاد.
رأى رضا بهلوي نفسه في حرب لم يردها، ولم يتأهب لخوضها، ولا مصلحة له ولبلاده فيها، فتنازل عن العرض في 17 أيلول 1941 لولده محمد رضا تفادياً لانقسام إيران وتفككها.
أما ثمن العرش الذي دفعه محمد رضا إلى أبيه، فكان حفنة من سكر النبات، عملاً بالتقاليد الإيرانية المرعية منذ اقدم العصور. فسكر النبات هو ثمن تبادل السلطات بين الأحياء. وأنه لتقليد طريف حقاً: "خذ بالعذوبة التي بها أعطيك!".
أما المعاملة التي خص الإنكليزي بها رضا بهلوي، فلم تكن أفضل من تلك التي عاناها نابليون بونابرت...
طلب الشاه السفر إلى الولايات المتحدة الأميركية، أو الهند. فنفى أولاً إلى جزيرة موريس، ثم إلى جنوب أفريقيا حيث انتقل إلى العالم الآخر في تموز 1944، وهو في السادسة والستين من العمر. وقد ترك لابنه دولة متينة الدعائم.
هل يعيد التاريخ ذاته، لإخراج إيران من الأزمة الحادة التي تعصف بها هذه الأيام؟
هذا السؤال ما يزال همسا وراء الكواليس الدولية. والشاه الحالي قوي. وليس لخصومه من الطاقة الفعلية ما كان للحلفاء عام 1941. وقد يأتي الجواب الحاسم في الأيام المقبلة. (انتهى)




