الثورة الاسلامية الايرانية - الصدمة الكهربائية المعاكسة...
الصدمة الكهربائية المعاكسة...
(الجمهور 22 شباط 1979 بقلم فريد ابو شهل)
(مصحح)
لا يستطيع المراقب وهو يتابع تفاصيل زيارة ياسرعرفات الى طهران الا ان يتوقف طويلا, متأملا.
الطائرة تجثم في مكان جانبي, ثم تقترب من صالون الاستقبالات الرسمية حيث فرشت أمامها السجادة الحمراء وأحاطت بها لجنة استقبال ثورية راحت تحيّي "أبو عمار" بحماس وبعلامة النصر وهو يهبط السلالم.
وبطريقة عفوية تقفز الى الذهن صورة مشابهة تقريبا, لطائرة تحط في مطار القدس, وتفرش لها السجادة الحمراء, ويحيط بها مستقبلون يحيون بمنتهى الجدية والبرودة الزائر الاتي من القاهرة...
الفارق الزمني بين الحدثين ليس كبيراً: سنة وبضعة شهور. ولكن الفارق المعنوي عظيم جدا جدا.
القضية واحدة: فلسطين. الوطن العربي السليب، المغتصب. ولكن الطريق اليه مختلف. واحد اعتقد ان العدو الخبيث يمكن ان تمتد اليه يد السلام. واخر يعلم ان مثل هذا العدو لا يواجه إلا باللغة التي يعرفها. لغة العنف.
لذلك كان لا بد من التجربة والخيار.
****
تجربة طريق المسالمة فشلت, ولم تؤت ثمارها. وزادت العدو تكبرا وتعنتا, وحطت من قدر المسالم حتى بات كأنه مستسلم.
الى الامس القريب ربما كان هناك مجال, بعد, للاعتقاد بأن لسياسة المسالمة حسنات... خفية.
فجاء آية الله الخميني. وجاءت ثورة ايران.
وما يهمنا منه ومنها, هنا, الوجه العربي. فهي ثورة اسلامية ولكنها تعلن انفتاحها على العرب وعلى قضيتهم القومية الاولى. وقبل ان تنجح الثورة كان ملهمها يضع في أولويات أهدافه تغيير الموقف الايراني من قضية فلسطين, وقطع النفط الايراني عن اسرائيل.
وكانت الولايات المتحدة قد بنت استرايجية حماية الوجود الاسرائيلي على شق الصف الاسلامي الى معسكر عربي ومعسكر غير عربي. وتمكنت من عزل تركيا وايران عن قضية المجموعة العربية, ووضعتهما في موقع غير طبيعي, تجاه الكيان الاسرائيلي, الذي يشكل بحد ذاته تحديا للعالم العربي وبالتالي للاسلام, معتمدة في ذلك على رواسب ا لنفور التاريخي الذي ساد العلاقات بين العرب والفرس من جهة وبين العرب و الفرس والامبراطورية العثمانية من جهة ثانية.
وعندما بدأ الخميني ينقل معارضته للحكم الايراني الى مرحلة الثورة وراح يغذي هذه الثورة من منفاه الفرنسي, استبشر العاملون للقضية الفلسطينية خيرا به لأنه وضع قضية فلسطين في صدر الاماني التي يسعى الى تحقيقها.
ولم يكذب الرجل.
فيوم استتبت له السلطة أمر بتحويل دار البعثة الاسرائيلية في طهران الى سفارة لمنظمة التحرير الفلسطينية وطرد الديبلوماسيين الاسرائيليين, وقطع العلاقات مع اسرائيل واقفل أبواب شركة طيران "العال". ورفع على السفارة علم فلسطين. فكان اول علم يرفع على اول سفارة فلسطينية في العالم, وفي اخر بلد كانت تحلم الثورة الفلسطينية ان ترى علمها يرتفع فيه. وقد بلغ من غيظ ميناحيم بيغن ان قال "إذا رفع عرفات العلم الفلسطيني فوق ارض طهران فانه لن يرفعه فوق ارض فلسطين". لذلك قال ياسر عرفات وهو يطأ أرض مطار طهران "ان ثورة ايران ملك لفلسطين, وشعرت وأنا أقترب من المطار أني أقترب من القدس".
****
وإذا كانت الولايات المتحدة, ومعها قوى الصهيونية العالمية, قد استطاعت في الماضي ان تعزل ايران وتركيا, الدولتين الاسلاميتين الكبيرتين والقويتين, عن النضال العربي من اجل استرداد فلسطين, كما استطاعت ان تجعل منهما سندا ماديا وعسكريا للدولة الصهيونية المغتصبة, فإن هذه الصفحة من التاريخ الاستعماري قد طويت. وجرفت ثورة الخميني في ما جرفته كل قواعد هذه الاستراتيجية, وقلبت مقاييسها رأساً على عقب. وما كان الى الامس القريب يشكل ثقلا في وجه الثورة العربية وحاجزاً على طريق تحرير فلسطين, قد يصبح غداً شعلة وقوة دافعة في هذا الطريق.
"لقد فكت الثورة الايرانية الحصار عن الفلسطينيين", قالها أبو عمار في ايران وهو مؤمن بأن الخميني, الثائر الاول, سيطوف "ظله فوق بيت المقدس والمسجد الاقصى".
واذا كانت الجمهورية الاسلامية التي ينادي بها آية الله الخميني, من الشؤون الداخلية التي تهم الايرانيين وحدهم, فان على العرب جميعا بقطع النظر عن أنظمتهم وميولهم, ان يتعاملوا مع الحكومة الايرانية الجديدة من زاوية تعاطي هذه الحكومة مع القضايا العربية. فإذا كان العرب يختلفون كثيرا, وإذا كانت بينهم مشاكل يعجز عن حلها, فأنهم متفقون, على الاقل ومن حيث المبدأ, على وجوب تحرير فلسطين وتأمين حقوق الشعب الفلسطيني واقامة وطن له. حتى وان كانت "الاماني" العربية قد تقلصت منذ عشر سنوات الى "تحرير الاراضي المحتلة بعد 5 حزيران 1967" فقط.. ثم تقلصت من جديد, بعد رحلة القدس الشهيرة, الى البحث المصري عن صيغة لقبول الحكم الذاتي تحت الاحتلال الاسرائيلي في غزة والضفة الغربية...
المهم ان كل هذه الحسابات يجب ان تطوى الان بعد ان نزلت الى الميدان قوة لم تكن في الحسبان.
كان في المنطقة جيش من اقوى جيوش العالم لا يقف في صفنا.. ويلوحون لنا به على انه شرطي الخليج.. الى جانب شرطي المتوسط (الاسرائيلي) . فصار هذا الجيش نصيرا لنا, وسندا لقضيتنا. وهذا ليس بالامر العادي, وليس في التاريخ الحديث أو القديم "انقلاب" في موازين القوى يشبه هذا الانقلاب.
والمراقبون والمتتبعون للاحداث يتساءلون الان بكثير من الاهتمام ما سوف تكون عليه ردة الفعل الاسرائيلية. وأي استراتيجية جديدة تعد لها العدة بالاتفاق مع سادتها في البنتاغون وفي وكالة الاستخبارات المركزية بعد هذه المفاجأة.
****
عندما قام الرئيس السادات بزيارته التاريخية الى القدس في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1977, قيل انه احدث "صدمة كهربائية"... ولكن اتضح فيما بعد, وكما اثبتت الايام, ان الصدمة لم تعط اطلاقا أي أثر. لقد راهن السادات على ردة الفعل عند اليهود ازاء مبادرة مسالمة, فإذا بهم يتصرفون وكأنه جاء اليهم مستسلما لا مسالما, واذا بالعرب هم الذين يصابون بالصدمة...
واليوم باستطاعتنا العودة الى عبارة "الصدمة الكهربائية" ولكن في الاتجاه المعاكس. وفي اعتقادنا ان آية الله الخميني الذي حقق ثورة لامثيل لها في تاريخ البشرية, لا يستبعد ان يكون أحدث "صدمة كهربائية " في الاوساط العسكرية الاسرائيلية (والاميركية) التي تنهمك الان في اعادة النظر بخططها واستراتيجياتها..
فماذا تكون ردة الفعل؟
هل تتصرف اسرائيل بحماقة كما عودتنا؟
هل تقوم بعمل عدواني على أساس استباق الاحداث؟
وماذا يكون موقف الجيش الايراني, أحد أقوى جيوش العالم إذا أعتدت اسرائيل على لبنان أو سوريا أو أي بلد عربي آخر وهل هناك ما يمنع الجيش الايراني من مناصرة الحلفاء الجدد؟
ان صورة ياسر عرفات يهبط سلالم الطائرة في طهران, والتي ذكرتنا بزائر اخر ينزل سلالم الطائرة في القدس... هل تكون رؤية مستقبلية لزعيم الثورة الفلسطينية ينزل سلالم الطائرة فوق أرض فلسطين المحررة؟




