الخريطة الاميركية للشرق الاوسط - Page 8
| Article Index |
|---|
| الخريطة الاميركية للشرق الاوسط |
| Page 2 |
| Page 3 |
| Page 4 |
| Page 5 |
| Page 6 |
| Page 7 |
| Page 8 |
| Page 9 |
| Page 10 |
| Page 11 |
| Page 12 |
| Page 13 |
| Page 14 |
| Page 15 |
| Page 16 |
| Page 17 |
| All Pages |
Page 8 of 17
أسوأ من كارثة فلسطين
الأسبوع العربي – 25/8/1980
في صباح 15 تموز 1974، وفي الساعة السابعة تماماً قطع راديو نيقوسيا برامجه العادية وفجأة عزف النشيد الوطني اليوناني ثم أعلن صوت مجهول أن الجيش والحرس الوطني (اليونانيين) قد أطاحا الرئيس مكاريوس.
كل ما كان يعرف عن قبرص في ذلك اليوم هو أن مكاريوس قد مات مقتولاً، إن طلقات نارية تسمع في نيقوسيا كلها. اليونان، سارع الجنرالات إلى نفي أية علاقة لهم بانقلاب قبرص، أما في تركيا فقد وضعت القوات المسلحة في حالة تأهب.
واشنطن "تأسفت"، لندن قالت إنها تحاذر الوقوع في الهوة القبرصية، رغم أن تركيا طلبت منها التدخل العسكري عملا باتفاقية استقلال قبرص، موسكو نددت بلهجة صارمة "بالزمرة الحاكمة في أثينا عميلة حلف الأطلسي". في العالم كله كان وجوم لأن الناس يعرفون جيداً أن اهتزاز قبرص يعني بداية مصيبة كبيرة، والبعض قال: لقد بدأت هذا النهار مأساة لبنان وكثر الحديث فيما بعد عما سمي قبرصة المنطقة كلها.
في اليوم التالي، عرف أن مكاريوس لا يزال حياً وقد لجأ إلى القاعدة البريطانية العسكرية في الجزيرة وعرف أيضاً أن أنصاره قاتلوا "العسكر" لعدة أيام ومن إذاعة سرية سمع صوت الأسقف الرئيس يدعو الناس إلى مواجهة الديكتاتورية العسكرية اليونانية.
قفزة تركية
الأتراك الذين لا يبعدون أكثر من مئة كيلومتر هاجموا قبرص بعد خمسة أياماً تماماً في 20 تموز، في كيرينيا نزلت معظم القوات وفي ضواحي نيقوسيا هبط مظليون وقصفت العاصمة من الجو.
حكومة "الإنقاذ الوطني" التي أعلن عنها سامسون قائد الإنقلابيين دعت إلى صد العدوان التركي ولكن راديو أنقرة كان يعلن بعد ساعات أن العملية لا تلاقي إلا مقاومة محدودة، رغم أن مراسلي الوكالات تحدثوا عن دفاع يواني مستميت عن نيقوسيا. جنرالات اليونان تأهبوا ولكنهم لم يتحركوا لمجابهة ستة آلاف جندي تركي كانوا قد اتخذوا مواقع لهم على أرض الجزيرة بالذات.
بعد أيام أعلن "الأطراف الثلاثة"، أي تركيا واليونان وبريطانيا استعدادهم للبحث في مستقبل الجزيرة (مستقبل بعض الدول هو دائماً موضوع بحث!) وعقد مؤتمر في 8 آب انتهى إلى تثبيت الخلاف القائم ومطالبة تركيا علناً بتقسيم الجزيرة واعلنت اليونان معارضتها التقسيم.
في ذلك الوقت، كانت واشنطن التي قيل أنها حركت جنرالات أثينا قد انتقلت إلى تاييد تركيا، وهكذا لم يكن على الأتراك صعباً أن يستكملوا احتلالهم لنصف قبرص تقريباً ولكن للنصف الأغنى زراعياً والأهم. ونشأ خط اسمه "خط أتيلا" يفصل بين الشطرين اليوناني والقبرصي. حصل إذن في أيام تقسيم فعلي للدولة الفتية. زعيم الانقلاب ترك حينذاك رئاسة الدولة لرئيس مجلس النواب السيد كلاريديس ويومذاك قال رئيس وزراء اليونان الحالي عن قبرص عبارة لا تزال شهيرة. إنها أسوأ من كارثة فلسطين.
في 7 كانون الأول عاد مكاريوس ليجد في الجزيرة 40 ألف جندي تركي ومئتي ألف مهجر إلى الشطر اليوناني. في الشطر الآخر، التركي، ثلاثة أرباع مواشي قبرص ونصف صناعتها الخفيفة وستون بالمئة من ثرواتها الجوفية ومستقبلاً أسود. كان اليونانيون في الجزيرة قد نسوا "الأنيوزيس" أي الانضمام إلى اليونان الأقلية التركية في الجزيرة؟ إن العملية العسكرية ذاتها تتجاوز منطق حماية الأقليات لأن تقسيم الجزيرة يؤدي حكماً إلى زيادة الحضور العسكري اليوناني في الجزء اليوناني منها، وهذا ليس بطبيعة الحال في صالح الأتراك. الأرجح إذن هو أن تركيا تحاول تمييع المسألة وتمديدها ما استطاعت حتى تغير الوضع الديمغرافي في الجزيرة بغية احتلالها احتلالاً كاملاً حتى تسنح الظروف. على المدى الطويل نسبياً، ترغب تركيا، كما يقول ليساريديس في احتلال كامل في حين أن واشنطن ترغب في التقسيم والضحية هو حياد قبرص.
الحياد هو إذن الضحية والتقسيم هو المذبحة ولكن الضحية الأكبر في الخطة الأميركية هما دولتا لبنان وسورية، وهما مدعوتان وهما أميركياً برسم القبرصة التي تعلم واشنطن جيداً من الذي يستفيد منها.
حين التقى لأول مرة بعد 13 عاماً في 27 كانون الثاني 1977 كل من المطران مكاريوس والسيد دنكتاش زعيم القبارصة الأتراك كانت صورة التقسيم قد بدأت تظهر معالمها بوضوح.
ما كان قائماً في الجزيرة منذ قرون تغير تماماً. الناس كانوا يعيشون في كل المناطق وكانت المدن والقرى المختلطة يوناناً وأتراكاً منتشرة في الجزيرة كلها. صحيح أنه كان هناك قرى يونانية وأخرى تركية ولكنها جميعاً كانت موزعة في كل أرجاء البلاد ولا تشكل "غيتو" في هذه الجبهة أو تلك.
عام 1974 أحدث الغزو التركي توزيعاً جديداً للسكان. الأقلية القبرصية التركية هي اليوم منعزلة تماماً عن اليونانيين من أهل البلاد والإثنا عشر الف يوناني الذين كانوا لا يزالون في القسم التركي، لم يستطيعوا البقاء رغم أن اتفاق 2 آب 1975 ينص بوضوح على حقهم في البقاء في القسم التركي المحتل. في الشطر التركي لم يبق إلا ألفا قبرصي يوناني. الأتراك الذين كانوا في الشطر اليوناني عبروا خط أتيلا إلى الشطر التركي. وفي أي حال يزداد عدد الأتراك في الجزيرة لأن الحكومة التركية تشجع هجرة رعاياها إلى قبرص "قاعدة الدفاع الأولى عن البلاد" كما يقول أحد جنرالات أنقرة.
القبارصة اليونانيون هم إذن في مأزق والأسباب عديدة. تركيا لا تزال في موضع القوة. واليونان لأسباب بشرية وجغرافية وسياسية عاجزة. ولتركيا، وخاصة للفريق العسكري فيها، الأفضلية في واشنطن وبنوع خاص بعد أحداث إيران وأفغانستان. صحيح أن الأتراك أعلنوا أنهم مع نظام فيدرالي في قبرص ولكنهم حتى الآن لم يقولوا ما هي المساحة التي يرغبون فيها. صحيح أيضاً أن الجالية مارست ضغط على تركيا من أجل تليين مواقفها ولكن هذا الضغط لم يؤد عملياً إلا إلى القبول بإجراء مفاوضات. عملياً اضطر الرئيس مكاريوس إلى القبول بمبدأ الدولة الفيدرالية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وقال دنكتاش أن نصيب الأتراك من أرض الجزيرة لن يتجاوز 32,6% ولكن الزعيمين القبرصيين لم يتفقا إلا على بعض نقاط:
1 – جمهورية قبرص مستقلة، فيدرالية، ثنائية الطائفة غير منحازة.
2 – توزع أراضي الجزيرة يجب أن يراعي إمكانية بقاء الدولة وإنتاجيتها وملكية الأراضي.
3 – نظام الحكم يجب أن يضمن مبدأ حرية تنقل الأشخاص وإقامتهم وحرية تملكهم.
4 – صلاحيات الحكومة الفيدرالية يجب أن تضمن وحدة البلاد وأن تأخذ بعين الاعتبار في الوقت ذاته الثنائية الطائفية.
هذه النقاط قد تصلح للاتفاق كما تصلح للاختلاف وهي تبشر بمفاوضات طويلة جداً تكون تركيا المستفيد الأول منها، خصوصاً وأن أتراك الجزيرة "يمينيون" في معظمهم منذ أيام الاستعمار البريطاني.
اليونانيون، وسط ويساريون والحزب الشيوعي في الشطر اليوناني يكاد يكون القوة السياسية الأولى وهو يخشى أن يمتد أكثر لكي لا يثير عدائية واشنطن، لذلك يدعم مع الحزب الاشتراكي الرئيس كبريانو وريث مكاريوس.
حتى الآن، لا تنقص قبرص قرارات مجلس الأمن وبيانات المجموعة الأوروبية وتصاريح الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض ولكن ينقصها السلام الحقيقي والاطمئنان إلى المستقبل.
وحتى الآن، تحتفظ واشنطن بكل الأوراق. السوفيات يدعون إلى مؤتمر دولي لبحث المسألة القبرصية. أثينا ونيقوسيا توافقان ولكن تركيا تعارض قريباً من قبرص، عام 1947، قسمت فلسطين ثم صارت فلسطين كلها مع الزمن ضمن دولة إسرائيل. اليوم قسمت قبرص فعلياً، الخطوة الثانية قد تكون دولتين فيدراليتين متصارعتين والنتيجة مهما بدت الآن بعيدة، قد تكون قبرصاً تركية بالكامل. وكما أن جنيف الفلسطينية بعيدة فإن جنيف القبرصية أبعد.
عن الوضع القبرصي يقول سفير دولة عربية من أصل بدوي: "إنها سياسة الجزار". والمهم أن لا يساهم العرب، رغم أن دورهم محدود للغاية، في تقسيم قبرص. بالمناسبة، هناك سؤال لم يطرح:
لماذا يتفرج العرب جميعاً، وعرب المتوسط بنوع خاص، على مأساة عنوانها قبرص؟
لكن كلمة كانت تنتشر على كل شفة تركية وهي "التقسيم"، تماماً بلفظها العربية واتضح أن الكلمة التي هي نفسها في اللغتين ستبحر إلى دولة مجاورة هي لبنان.
البرودة البريطانية:
حتى الآن لا تزال المأساة تتفاقم في جمود أمر واقع قد يكون الصدام العسكري أقل سوءاً منه ولكن خطوط المقاصد الأميركية كانت قد بدأت تتضح ولكن في لندن.
ماذا كان يعني الصمت البريطاني؟
المادة الرابعة من اتفاقية إنشاء دولة قبرص تؤكد أن لأي طرف من الأطراف الثلاثة الموقعة الحق في التدخل إذا حدثق إخلال بنصوص الاتفاقية. كان لبريطانيا "الحق" إذن في التدخل. وقد نصت الاتفاقية ذاتها على أن بريطانيا "ملزمة بضمان استقلال ووحدة أراضي الجمهورية القبرصية".
المسألة بمجملها نوقشت في اجتماع للجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني، ولكن المناقشة لم تكشف سر التلكؤ البريطاني. هل صحيح، كما قال وزير الخارجية البريطاني، ان حكومته لم تكن تعلم إطلاقاً أن انقلاباً ما قد يحدث في قبرص الثابت، في أي حال، هو أن وزير خارجية بريطانيا لم يكشف إطلاقاً عن المحادثات التي أجراها يومذاك مع وزراء خارجية اليونان وتركيا والولايات المتحدة وقد طرح احتمال القيام بعملية تركية - بريطانية مشتركة، وقيل إن بريطانيا وضعت بعض قواتها بتصرف الأمم المتحدة. المهم هو أن بريطانيا كانت قادرة على التدخل العسكري وملزمة أدبياً وقانونياً بحماية اتفاقية 1960. وإذا كان وزير خارجيتها قد برر تقاعسها بقوله إن حكومته لا ترغب في مزيد من الدمار، فإن الدمار الذي حصل فعلاً فاق ما كان الوزير يقول أنه يحاول أن يتفاداه. كان هناك إذن ما سماه ريمون إده فيما بعد خطة كيسنجر. السر إذن يعرفه كثيرون.
التقسيم أميركياً
شهرزاد قبرص كانت هذه المرة فاسوس ليساريديس رئيس الحزب الاشتراكي القبرصي.
يقول ليساريديس إن الانقلاب العسكري والغزو التركي الذي تلاه هما حلقتان من سلسلة واحدة. كان هم الولايات المتحدة إقامة "جمهورية موز" على غرار دول أميركا الوسطى في قبرص، وهذا يمر عملياً بتقسيم الجزيرة بين اليونان وتركيا بحماية عسكرية أطلسية أميركية في الواقع وبريطانية في الظاهر.
هل كانت تركيا تريد مجرد حماية
كل ما كان يعرف عن قبرص في ذلك اليوم هو أن مكاريوس قد مات مقتولاً، إن طلقات نارية تسمع في نيقوسيا كلها. اليونان، سارع الجنرالات إلى نفي أية علاقة لهم بانقلاب قبرص، أما في تركيا فقد وضعت القوات المسلحة في حالة تأهب.
واشنطن "تأسفت"، لندن قالت إنها تحاذر الوقوع في الهوة القبرصية، رغم أن تركيا طلبت منها التدخل العسكري عملا باتفاقية استقلال قبرص، موسكو نددت بلهجة صارمة "بالزمرة الحاكمة في أثينا عميلة حلف الأطلسي". في العالم كله كان وجوم لأن الناس يعرفون جيداً أن اهتزاز قبرص يعني بداية مصيبة كبيرة، والبعض قال: لقد بدأت هذا النهار مأساة لبنان وكثر الحديث فيما بعد عما سمي قبرصة المنطقة كلها.
في اليوم التالي، عرف أن مكاريوس لا يزال حياً وقد لجأ إلى القاعدة البريطانية العسكرية في الجزيرة وعرف أيضاً أن أنصاره قاتلوا "العسكر" لعدة أيام ومن إذاعة سرية سمع صوت الأسقف الرئيس يدعو الناس إلى مواجهة الديكتاتورية العسكرية اليونانية.
قفزة تركية
الأتراك الذين لا يبعدون أكثر من مئة كيلومتر هاجموا قبرص بعد خمسة أياماً تماماً في 20 تموز، في كيرينيا نزلت معظم القوات وفي ضواحي نيقوسيا هبط مظليون وقصفت العاصمة من الجو.
حكومة "الإنقاذ الوطني" التي أعلن عنها سامسون قائد الإنقلابيين دعت إلى صد العدوان التركي ولكن راديو أنقرة كان يعلن بعد ساعات أن العملية لا تلاقي إلا مقاومة محدودة، رغم أن مراسلي الوكالات تحدثوا عن دفاع يواني مستميت عن نيقوسيا. جنرالات اليونان تأهبوا ولكنهم لم يتحركوا لمجابهة ستة آلاف جندي تركي كانوا قد اتخذوا مواقع لهم على أرض الجزيرة بالذات.
بعد أيام أعلن "الأطراف الثلاثة"، أي تركيا واليونان وبريطانيا استعدادهم للبحث في مستقبل الجزيرة (مستقبل بعض الدول هو دائماً موضوع بحث!) وعقد مؤتمر في 8 آب انتهى إلى تثبيت الخلاف القائم ومطالبة تركيا علناً بتقسيم الجزيرة واعلنت اليونان معارضتها التقسيم.
في ذلك الوقت، كانت واشنطن التي قيل أنها حركت جنرالات أثينا قد انتقلت إلى تاييد تركيا، وهكذا لم يكن على الأتراك صعباً أن يستكملوا احتلالهم لنصف قبرص تقريباً ولكن للنصف الأغنى زراعياً والأهم. ونشأ خط اسمه "خط أتيلا" يفصل بين الشطرين اليوناني والقبرصي. حصل إذن في أيام تقسيم فعلي للدولة الفتية. زعيم الانقلاب ترك حينذاك رئاسة الدولة لرئيس مجلس النواب السيد كلاريديس ويومذاك قال رئيس وزراء اليونان الحالي عن قبرص عبارة لا تزال شهيرة. إنها أسوأ من كارثة فلسطين.
في 7 كانون الأول عاد مكاريوس ليجد في الجزيرة 40 ألف جندي تركي ومئتي ألف مهجر إلى الشطر اليوناني. في الشطر الآخر، التركي، ثلاثة أرباع مواشي قبرص ونصف صناعتها الخفيفة وستون بالمئة من ثرواتها الجوفية ومستقبلاً أسود. كان اليونانيون في الجزيرة قد نسوا "الأنيوزيس" أي الانضمام إلى اليونان الأقلية التركية في الجزيرة؟ إن العملية العسكرية ذاتها تتجاوز منطق حماية الأقليات لأن تقسيم الجزيرة يؤدي حكماً إلى زيادة الحضور العسكري اليوناني في الجزء اليوناني منها، وهذا ليس بطبيعة الحال في صالح الأتراك. الأرجح إذن هو أن تركيا تحاول تمييع المسألة وتمديدها ما استطاعت حتى تغير الوضع الديمغرافي في الجزيرة بغية احتلالها احتلالاً كاملاً حتى تسنح الظروف. على المدى الطويل نسبياً، ترغب تركيا، كما يقول ليساريديس في احتلال كامل في حين أن واشنطن ترغب في التقسيم والضحية هو حياد قبرص.
الحياد هو إذن الضحية والتقسيم هو المذبحة ولكن الضحية الأكبر في الخطة الأميركية هما دولتا لبنان وسورية، وهما مدعوتان وهما أميركياً برسم القبرصة التي تعلم واشنطن جيداً من الذي يستفيد منها.
حين التقى لأول مرة بعد 13 عاماً في 27 كانون الثاني 1977 كل من المطران مكاريوس والسيد دنكتاش زعيم القبارصة الأتراك كانت صورة التقسيم قد بدأت تظهر معالمها بوضوح.
ما كان قائماً في الجزيرة منذ قرون تغير تماماً. الناس كانوا يعيشون في كل المناطق وكانت المدن والقرى المختلطة يوناناً وأتراكاً منتشرة في الجزيرة كلها. صحيح أنه كان هناك قرى يونانية وأخرى تركية ولكنها جميعاً كانت موزعة في كل أرجاء البلاد ولا تشكل "غيتو" في هذه الجبهة أو تلك.
عام 1974 أحدث الغزو التركي توزيعاً جديداً للسكان. الأقلية القبرصية التركية هي اليوم منعزلة تماماً عن اليونانيين من أهل البلاد والإثنا عشر الف يوناني الذين كانوا لا يزالون في القسم التركي، لم يستطيعوا البقاء رغم أن اتفاق 2 آب 1975 ينص بوضوح على حقهم في البقاء في القسم التركي المحتل. في الشطر التركي لم يبق إلا ألفا قبرصي يوناني. الأتراك الذين كانوا في الشطر اليوناني عبروا خط أتيلا إلى الشطر التركي. وفي أي حال يزداد عدد الأتراك في الجزيرة لأن الحكومة التركية تشجع هجرة رعاياها إلى قبرص "قاعدة الدفاع الأولى عن البلاد" كما يقول أحد جنرالات أنقرة.
القبارصة اليونانيون هم إذن في مأزق والأسباب عديدة. تركيا لا تزال في موضع القوة. واليونان لأسباب بشرية وجغرافية وسياسية عاجزة. ولتركيا، وخاصة للفريق العسكري فيها، الأفضلية في واشنطن وبنوع خاص بعد أحداث إيران وأفغانستان. صحيح أن الأتراك أعلنوا أنهم مع نظام فيدرالي في قبرص ولكنهم حتى الآن لم يقولوا ما هي المساحة التي يرغبون فيها. صحيح أيضاً أن الجالية مارست ضغط على تركيا من أجل تليين مواقفها ولكن هذا الضغط لم يؤد عملياً إلا إلى القبول بإجراء مفاوضات. عملياً اضطر الرئيس مكاريوس إلى القبول بمبدأ الدولة الفيدرالية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وقال دنكتاش أن نصيب الأتراك من أرض الجزيرة لن يتجاوز 32,6% ولكن الزعيمين القبرصيين لم يتفقا إلا على بعض نقاط:
1 – جمهورية قبرص مستقلة، فيدرالية، ثنائية الطائفة غير منحازة.
2 – توزع أراضي الجزيرة يجب أن يراعي إمكانية بقاء الدولة وإنتاجيتها وملكية الأراضي.
3 – نظام الحكم يجب أن يضمن مبدأ حرية تنقل الأشخاص وإقامتهم وحرية تملكهم.
4 – صلاحيات الحكومة الفيدرالية يجب أن تضمن وحدة البلاد وأن تأخذ بعين الاعتبار في الوقت ذاته الثنائية الطائفية.
هذه النقاط قد تصلح للاتفاق كما تصلح للاختلاف وهي تبشر بمفاوضات طويلة جداً تكون تركيا المستفيد الأول منها، خصوصاً وأن أتراك الجزيرة "يمينيون" في معظمهم منذ أيام الاستعمار البريطاني.
اليونانيون، وسط ويساريون والحزب الشيوعي في الشطر اليوناني يكاد يكون القوة السياسية الأولى وهو يخشى أن يمتد أكثر لكي لا يثير عدائية واشنطن، لذلك يدعم مع الحزب الاشتراكي الرئيس كبريانو وريث مكاريوس.
حتى الآن، لا تنقص قبرص قرارات مجلس الأمن وبيانات المجموعة الأوروبية وتصاريح الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض ولكن ينقصها السلام الحقيقي والاطمئنان إلى المستقبل.
وحتى الآن، تحتفظ واشنطن بكل الأوراق. السوفيات يدعون إلى مؤتمر دولي لبحث المسألة القبرصية. أثينا ونيقوسيا توافقان ولكن تركيا تعارض قريباً من قبرص، عام 1947، قسمت فلسطين ثم صارت فلسطين كلها مع الزمن ضمن دولة إسرائيل. اليوم قسمت قبرص فعلياً، الخطوة الثانية قد تكون دولتين فيدراليتين متصارعتين والنتيجة مهما بدت الآن بعيدة، قد تكون قبرصاً تركية بالكامل. وكما أن جنيف الفلسطينية بعيدة فإن جنيف القبرصية أبعد.
عن الوضع القبرصي يقول سفير دولة عربية من أصل بدوي: "إنها سياسة الجزار". والمهم أن لا يساهم العرب، رغم أن دورهم محدود للغاية، في تقسيم قبرص. بالمناسبة، هناك سؤال لم يطرح:
لماذا يتفرج العرب جميعاً، وعرب المتوسط بنوع خاص، على مأساة عنوانها قبرص؟
لكن كلمة كانت تنتشر على كل شفة تركية وهي "التقسيم"، تماماً بلفظها العربية واتضح أن الكلمة التي هي نفسها في اللغتين ستبحر إلى دولة مجاورة هي لبنان.
البرودة البريطانية:
حتى الآن لا تزال المأساة تتفاقم في جمود أمر واقع قد يكون الصدام العسكري أقل سوءاً منه ولكن خطوط المقاصد الأميركية كانت قد بدأت تتضح ولكن في لندن.
ماذا كان يعني الصمت البريطاني؟
المادة الرابعة من اتفاقية إنشاء دولة قبرص تؤكد أن لأي طرف من الأطراف الثلاثة الموقعة الحق في التدخل إذا حدثق إخلال بنصوص الاتفاقية. كان لبريطانيا "الحق" إذن في التدخل. وقد نصت الاتفاقية ذاتها على أن بريطانيا "ملزمة بضمان استقلال ووحدة أراضي الجمهورية القبرصية".
المسألة بمجملها نوقشت في اجتماع للجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني، ولكن المناقشة لم تكشف سر التلكؤ البريطاني. هل صحيح، كما قال وزير الخارجية البريطاني، ان حكومته لم تكن تعلم إطلاقاً أن انقلاباً ما قد يحدث في قبرص الثابت، في أي حال، هو أن وزير خارجية بريطانيا لم يكشف إطلاقاً عن المحادثات التي أجراها يومذاك مع وزراء خارجية اليونان وتركيا والولايات المتحدة وقد طرح احتمال القيام بعملية تركية - بريطانية مشتركة، وقيل إن بريطانيا وضعت بعض قواتها بتصرف الأمم المتحدة. المهم هو أن بريطانيا كانت قادرة على التدخل العسكري وملزمة أدبياً وقانونياً بحماية اتفاقية 1960. وإذا كان وزير خارجيتها قد برر تقاعسها بقوله إن حكومته لا ترغب في مزيد من الدمار، فإن الدمار الذي حصل فعلاً فاق ما كان الوزير يقول أنه يحاول أن يتفاداه. كان هناك إذن ما سماه ريمون إده فيما بعد خطة كيسنجر. السر إذن يعرفه كثيرون.
التقسيم أميركياً
شهرزاد قبرص كانت هذه المرة فاسوس ليساريديس رئيس الحزب الاشتراكي القبرصي.
يقول ليساريديس إن الانقلاب العسكري والغزو التركي الذي تلاه هما حلقتان من سلسلة واحدة. كان هم الولايات المتحدة إقامة "جمهورية موز" على غرار دول أميركا الوسطى في قبرص، وهذا يمر عملياً بتقسيم الجزيرة بين اليونان وتركيا بحماية عسكرية أطلسية أميركية في الواقع وبريطانية في الظاهر.
هل كانت تركيا تريد مجرد حماية
Last Updated (Sunday, 17 October 2010 12:13)
Copyright © 2010 LNA.
All Rights Reserved.




