الخريطة الاميركية للشرق الاوسط
| Article Index |
|---|
| الخريطة الاميركية للشرق الاوسط |
| Page 2 |
| Page 3 |
| Page 4 |
| Page 5 |
| Page 6 |
| Page 7 |
| Page 8 |
| Page 9 |
| Page 10 |
| Page 11 |
| Page 12 |
| Page 13 |
| Page 14 |
| Page 15 |
| Page 16 |
| Page 17 |
| All Pages |



النص الكامل لتقرير "سفن سبرينغز"
حول دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط:
خريطة جديدة للشرق الأوسط
• وحدة العرب إذا وافقوا على السلام مع إسرائيل أفضل من تشرذمهم
قد تكون قراءة وثيقة وضعت في العام 1976 مدخلاً لدراسة شاملة حول توجهات السياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط. أو قد تكون هذه القراءة مع متابعة المتغيرات التي طرأت على الساحة العربية وعلى السياسة الأميركية مدخلاً لالتقاط البناء الفكري السياسي للإدارة الأميركية.
لن تقدم "الديار" قراءة لوثيقة "سفن سبرينغز" وإنما ستنشرها كما هي، حتى بأخطائها اللغوية، تاركة للقارىء أن يقارن ويستنتج.
سوف يلاحظ من يقرأ هذه الوثيقة أن تحالفات عديدة قد تبدلت. فالحلف "السعودي – السوري – المصري" الذي تتكلم عليه قد أصبح الآن في خبر كان أو هو لم يكن قائماً في الأساس. لذلك لفتنا النظر إلى أننا ننشر الوثيقة كما هي دون أي تعديل. وهذا، بالطبع، لا يلزم "الديار" ولا المحرر، ولا المؤسسة بالسياسة التي تتوخاها الوثيقة.
كما ننشر أيضاً بالنص الحرفي وثيقة كامب ديفيد مع تعديلاتها والبيان الذي أدلى به هارولد سوندرز، مساعد وزير الخارجية الأميركية. متوخين أن نقدم خدمة إعلانية لمتتبعي السياسة الأميركية في المنطقة العربية ولقرائنا الذين اعتادوا منا على الصراحة.
اجتمع في مطلع شهر كانون الأول 1976 ثلاثون شخصية من كبار رجال الفكر والأعمال والمسؤولين الحكوميين في مركز "سفن سبرينغز" (الينابيع السبعة) في مدينة مونت كيسكو بولاية نيويورك لمدة يومين وخاضوا في نقاشات عميقة حل العلاقات العربية الإسرائيلية والدور الأميركي المنتظر.
ويلخص التقرير الذي نورد نصه في ما يلي حصيلة الجهود التي بذلها هؤلاء لتحليل المواقف الحالية لأطراف النزاع العربي – الصهيوني ودراسة الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة للوصول إلى حل شامل للنزاع. وقد شارك في الندوة كل من:
1 – جوزيف جونسون: رئيساً (الرئيس الفخري لجائزة كارينجي للسلام العالمي).
2 – جوزيف جرين: رئيس مركز "سفن سبرينغز".
3 – جوزيف بالمرانتابي: استاذ مشارك في "سفن سبرينغز".
4 – روبرت ترايس: أستاذ مساعد في العلوم السياسية – جامعة أوهايو.
5 – رالف كارتر: خريج جامعة أوهايو.
6 – ألفريد اثرتون: مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط.
7 – دين براون: رئيس معهد الشرق الأوسط، والمبعوث الأمريكي إلى لبنان أثناء الحرب.
8 – ويليام بتلر: رئيس الرابطة الأمريكية ولجنة المحلفين الدوليين.
9 – جون كامبل: باحث في مجلس العلاقات الخارجية.
10 – روجر فيشر: أستاذ القانون الدولي بجامعة هارفارد.
11 – فيليب جيلين: المحرر السياسي لصحيفة "واشنطن بوست".
12 – جورج نمروين: مدير شؤون الشرق الأوسط في "اللجنة الأميركية – اليهودية".
13 – باركر هارت: سفير سابق.
14 – ريتا هاورز: محررة الشؤون الخارجية في صحيفة "نيويورك تايمز".
15 – جي هيروتز: مدير معهد الشرق الأوسط بجامعة كولومبيا.
16 – مالكوم كير: عميد كلية العلوم الاجتماعية بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس.
17 – آن ليشتس: رئيس جمعية "فريندز" (الأصدقاء) الأمريكية.
18 – الحاخام إسرائيل ميلر: نائب رئيس جامعة ياشيفا.
19 – روبرت أوكلي: عضو بارز في مجلس الأمن القومي.
20 - جورج بيرسي: نائب رئيس مجلس إدارة شركة اكسون، إحدى كبريات شركات التنقيب عن النفط.
21 – وليام كوانديت: مساعد بريزنسكي وكبير المستشارين في شؤون الشرق الأوسط.
22 – وليام ريزمان: أستاذ القانون الدولي في جامعة ييل.
23 – فريدريك روز: رئيس مؤسسة روز.
24 – ناداف سفران: أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد.
25 – هشام شرابي: أستاذ التاريخ بجامعة جورج تاون.
26 – ادوارد شيهان: باحث في مركز الشؤون الدولية بجامعة هارفارد.
27 – تيودور تانينفالد: رئيس الندوة الاستشارية في اللجنة اليهودية – الأمريكية.
28 – سيت يتلمان: مسؤول في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي.
29 – شارلز بوست: مندوب الولايات المتحدة السابق في الأمم المتحدة.
وتحضيراً للندوة تلقى كل عضو مشارك نسخة من تقرير معهد بروكنغز "من أجل السلام في الشرق الأوسط"، وجدول أعمال مفصل من شأنه أن يركز النقاش خلال كل جلسة من الجلسات الخمس التي تدور حول:
1 – الإطار العام للمشكلة.
2 – وجهة النظر العربية.
3 – وجهة النظر الإسرائيلية.
4 – عملية المفاوضات والتسوية.
5 – مستقبل الدور الأمريكي.
وبالإضافة إلى ذلك قدمت إلى كل مشارك دراسة صغيرة تتناول المواقف الحالية لكل من الحكومات العربية والفلسطينيين والإسرائيليين، ومختلف السبل لتنشيط عملية المفاوضات وقد أعد هذه الدراسة فريق من الخبراء، وحاول المشاركون في ندوة "سفن سبرينغز" وضع "أفكار جديدة" تتناول كيفية تصرف الولايات المتحدة حيال أزمة الشرق الأوسط.
اتخذت الندوة من تقرير فريق معهد "بروكنغز"، "من أجل السلام في الشرق الأوسط"، الذي وضع في كانون الأول عام 1975، نقطة انطلاق لها. وقيم هذا التقرير احتمالات السلام في الشرق الأوسط كما قدم عدداً من التوصيات لتحريك الأطراف الرئيسية "نحو تسوية عادلة" للنزاع القائم. وكان من بين الأهداف الرئيسية للندوة استعراض النتائج التي تمخض عنها تقرير معهد بروكنغز في ضوء المتغيرات في الأجواء السياسية المحلية والدولية التي حدثت منذ نشر التقرير، ومحاولة الوصول إلى "تفاهم ما" حول هذه القضايا التي فشل فريق بروكنغز في الوصول إلى إجماع حولها. وتركيز اهتمام خاص على الدور الذي يمكن أن تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل القريب.
وقد توصل فريق الأبحاث في معهد بروكنغز إلى خمس نتائج أساسية هي كما يلي:
1 – مصالح الولايات المتحدة: أن للولايات المتحدة مصلحة معنوية وسياسية واقتصادية قوية في قيام سلام راسخ في الشرق الأوسط. وهي مهتمة كذلك بأمن واستقلال وخير إسرائيل، والدول العربية في المنطقة كما هي مهتمة بالمحافظة على "صداقتها" مع الطرفين وأن تجدد القتال سيكون له آثار خطيرة وبعيدة المدى من شأنها أن تهدد هذه المصالح.
2 – الحاجات الملحة: مهما كانت إيجابيات الاتفاقية المرحلية في سيناء، إلا أن العناصر الأساسية للنزاع العربي – الصهيوني تظل متروكة دون أن يلمسها أحد بشكل فعلي. وإذا لم تعالج هذه العناصر في أقرب وقت ممكن فإن التوتر الناشىء في المنطقة سيولد خطراً متزايداً يهدد بالعنف. "إننا نعتقد بأن أفضل وسيلة لمعالجة هذه القضايا هي بالسعي من أجل التوصل إلى تسوية شاملة".
3 – عملية المفاوضات: لقد حان الوقت لبدء عملية المفاوضات حول مثل هذه التسوية بين أطراف النزاع، سواء في مؤتمر عام أو في اجتماع غير رسمي يضم كافة الأطراف. ففي الوقت الذي يتوجب فيه عدم إهمال أو تجاهل أية خطوة مرحلية مفيدة من شأنها أن تساعد في إيجاد تسوية، ليس هنالك أية خطوات مرحلية تبشر بالخير في الوقت الحاضر وأكثرها ينطوي على سلبيات.
4 – التسوية: إن أية تسوية عادلة ودائمة في الشرق الأوسط يجب أن تحتوي على الأقل على العناصر التالية ككل متكامل وهي:
أ – الأمن: تتعهد كافة الأطراف المعنية بالتسوية باحترام وسيادة وسلامة أراضي الدول الأخرى كما تقلع عن استخدام القوة – أو التهديد باستخدامها – ضدها.
ب – المراحل: الانسحاب إلى حدود متفق عليها وقيام علاقات سلام يتم تنفيذ شروط المرحلة التي سبقتها بالكامل.
ج – علاقات السلام: تعهد الدول العربية ليس فقط بإنهاء أعمال العنف التي تقوم بها ضد إسرائيل (كالغارات المسلحة ومحاصرة القوات والمقاطعة الاقتصادية والحملات الإعلامية) بل بتقديم دليل على إحراز تقدم نحو تطوير علاقات سياسية واقتصادية طبيعية على النطاقين الإقليمي والعالمي.
د – الحدود: تتعهد إسرائيل بالانسحاب – وحسب خطوات متفق عليها – إلى حدود 5 حزيران 1967 مع إجراء تعديلات يتفق عليها الطرفان. وربما تحتاج الحدود إلى حماية عن طريق إيجاد مناطق منزوعة السلاح تشرف عليها قوات الأمم المتحدة.
هـ - الدولة الفلسطينية: يجب أن يكون هنالك نص على حق وحرية الفلسطينيين في تقرير مصيرهم "ويتوقف ذلك على قبول الفلسطينيين بسيادة وسلامة أراضي إسرائيل ضمن حدود متفق عليها".
وهذا إما أن يأخذ شكل دولة فلسطينية مستقلة تقبل بالالتزامات والتعهدات التي ترتبها عليها اتفاقيات السلام أو بكيان فلسطيني يرتبط طواعية بالأردن على شكل اتحاد فيدرالي ولكن شريطة أن يمارس هذا الكيان استقلالاً ذاتياً سياسياً كبيراً.
و – القدس: لم يقترح التقرير أي حل معين لمشكلة القدس المعقدة بشكل خاص ولكنه يوحي بأنه مهما كان نوع الحل المقترح لا بد أن ينطوي – وكحد أدنى – على النقاط التالية:
• يجب أن لا يكون هناك أية حواجز تقسم المدينة وتعيق حرية الانتقال داخلها.
• يجب أن تحصل كل جماعة وطنية داخل المدينة – إذا رغبت في ذلك – على استقلال سياسي ملموس داخل المنطقة التي تسيطر عليها.
ز – الضمانات: من الأفضل أن يصادق مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة على اتفاقيات السلام ويتخذ ما يراه مناسباً من الإجراءات لدعمها. وبالإضافة إلى ذلك قد تكون هناك حاجة إلى ضمانات من جانب واحد أو أكثر لبعض أو لجميع الأطراف وتقديم مساعدات اقتصادية كبيرة ومساعدات عسكرية ريثما يجري تبني تدابير متفق عليها لمراقبة السلاح.
5 – دور الولايات المتحدة: إن الحكومات المعنية مباشرة تتحمل مسؤولية التفاوض والاتفاق ولكنها من غير المرجح أن تكون قادرة وحدها على التوصل إلى اتفاقية سلام. ولذلك فإن المبادرة والحافز والإغراء يجب أن يأتي من الخارج. "وبما أن الولايات المتحدة تتمتع بدرجة من الثقة عند كلا الطرفين، وبما أنها تملك الوسائل لمساعدتها اقتصادياً وعسكرياً، فهي القوة العظمى الملائمة أكثر من غيرها للعمل بفعالية معهما في محاولة لإيجاد التسوية وللمساعدة على إيجاد إطار من المفاوضات وتقديم مقترحات ملموسة وواقعية من وقت لآخر. وينبغي على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لاتخاذ خطوات بناءة أخرى كتقديم المساعدة وتوفير الضمانات حيث يكون ذلك ضرورياً ومرغوباً.
لذلك يجب أن تتعاون الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي إلى الحد الذي تسمح فيه رغبة السوفييت في التوصل إلى سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط.
كان عدد المشتركين في الندوة أعضاء أيضاً في فريق أبحاث معهد بروكنغز وأشار هؤلاء إلى أن فريق معهد بروكنغز قد اجتمع مرتين في تشرين الثاني عام 1976 لإعادة النظر في المقترحات التي كان قد تقدم بها قبل عام. وذكر فريق الدراسة أنه لا يرى حاجة لإجراء تعديلات أساسية على توصياته. كما توصل إلى إجماع بأن الوقت كان مؤاتياً للقيام "بمبادرة سلام" أمريكية رئيسية. وقد كرس المشتركون في الندوة معظم الوقت في الجلسة الأولى لمناقشة تقرير معهد بروكنغز وطبيعة ونوعية الأسئلة التي يجب أن توجهها الندوة. وأكد المشاركون في الندوة أن مواطن القوة في تقرير معهد بروكنغز هي:
أنه يعالج كافة القضايا الرئيسية التي ينطوي عليها النزاع وأنه يركز على جوهر وإجراءات المفاوضات واعترافه بأنه لن يكون هناك سوى تحرك بسيط نحو طاولة المفاوضات في المستقبل القريب إلا إذا لعبت أميركا دوراً مساعداً رئيسياً، وتأكيده على ضرورة تطوير مفهوم شامل لما يمكن أن تكون عليه التسوية السلمية لحل أزمة الشرق الأوسط وكذلك إدراكه بأن ديبلوماسية الخطوة خطوة لم تعد كافية في حد ذاتها لدفع الأطراف المتنازعة باتجاه التسوية.
وإذا اعتبر تقرير بروكنغز قاعدة لأي نقاش مقبل فقد توجه الاهتمام نحو التطورات الأخيرة في الولايات المتحدة وفي الخارج التي يحتمل أن يكون لها تأثير على جدوى المقترحات الواردة في تقرير بروكنغز. وقد أولى المشتركون في الندوة اهتماماً خاصاً بدراسة المؤثرات المحتملة على السياسة الأمريكية التي نتجت عن الانتخابات الأمريكية والقيود المحلية قد تؤثر على إدارة الرئيس كارتر، وانعكاسات الحرب الأهلية اللبنانية على منظمة التحرير الفلسطينية، ومضاعفات التقارب العربي الأخير الذي ظهر في مؤتمرات القمة في كل من القاهرة والرياض، والآثار التي قد تتركها "اضطرابات" الضفة الغربية والانتخابات النيابية على موقف إسرائيل التفاوضي. إن أفضل وسيلة لتقييم آثار هذه العوامل وغيرها من الأحداث على النزاع العربي – الإسرائيلي وعلى الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة لتحقيق السلام هي في إعادة النظر في حاجات ومصالح وآراء جميع من ينتظر لهم أن يلعبوا دوراً في عملية السلام إذا كان لا بد للسلام أن يتحقق.
وقد بدأت عملية إعادة التقييم آخذة في الاعتبار وجهات النظر العربية فيما يتعلق بالنزاع واحتمالات السلام.
إن تعدد الأطراف العربية المشتركة في الصراع مع إسرائيل واختلاف الرأي في ما بينها، يجعل من الصعب التصميم حول الوضع التفاوضي الراهن للعرب. وتجنباً للإفراط في تبسيط مجموعة الاهتمامات والمطالب العربية المعقدة، سعى المشتركون إلى تحديد القوى الرئيسية داخل العالم العربي، وللتعامل مع كل قوة على حدة، قبل التعرف إلى وجهة النظر العربية الشاملة حول ما يجب أن تشتمل عليه أية اتفاقية سلام عادلة في الشرق الأوسط.
وقد كان لسلسلة من التطورات التي حدثت خلال العام الماضي (1975) آثاراً مفيدة على مسار وتوزيع مراكز القوى داخل العالم العربي. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو انبثاق "تحالف" – في أعقاب مؤتمر القمة العربي في الرباط – بين مصر والسعودية وسوريا والذي كان ميالاً لتأييد مبادرات السلام الأمريكية ولفكرة إيجاد تسوية شاملة. ثانياً، إن ظهور هذا "التحالف" قد رافقه ضعف "الرافضين" (العراق وليبيا والجزائر) وفي "جبهة الرفض" داخل منظمة التحرير الفلسطينية، الذين يعارضون أي نوع من التسوية مع إسرائيل. والتطور المهم الثالث هو "التردي الواضح الذي أصاب منظمة التحرير الفلسطينية كقوة سياسية وعسكرية في المنطقة ورغبتها الجديدة في التعاون مع التحالف الأول (مصر والسعودية وسوريا). أن الأطراف الرئيسية التي ستقرر على الأرجح السياسة العربية العامة في المستقبل القريب هي سوريا والسعودية ومنظمة التحرير الفلسطينية وكل طرف منها يصطدم باعتبارات متضاربة، والنتيجة هي أن التسوية المقبولة لدى الأطراف تعتمد إلى حد بعيد على شروط هذه التسوية، وعلى اعتبارات بعيدة المدى. وقد يتبين أن بعض "الصقور" الغرب مرنون في مواقفهم، في حين أن من الخطأ النظر إلى مصر والأردن وكأنهما حمائم فقط. فهاتان الدولتان لهما حساباتهما النهائية أيضاً.
إن هذه الحسابات النهائية تتعلق إلى حد بعيد بالصراع على القيادة الإقليمية في مرحلة ما بعد عبد الناصر في المشرق العربي، ويتمركز هذا الصراع حالياً في لبنان. إننا نشاهد في بعض وجوهه صورة شبيهة لما حدث في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات حين كان مصير سوريا هدفاً لصراع على النفوذ ما بين مصر والعراق والسعودية. ومع مراعاة بعض المتغيرات في الظروف، إلا أن عناصر الصراع الحالية اليوم تنطوي على ما يلي:
أ – وضع محلي غير مستقر داخل البلاد التي يجري الصراع على أرضها (سوريا، مصر، ولبنان).
ب – وجود دولة مجاورة – "العراق من قبل وسوريا الآن، - تطمح بوضوح إلى أن يكون لها دور مسيطر في منطقة الهلال الخصيب.
ج – محاولة مصرية لمنع تحقيق مثل هذه السيطرة إذ أنها تظل تحدياً ضمنياً لسيادة مصر في العالم العربي.
د – محاولات سعودية لتحقيق نوع من التوازن بين عدد من الدول العربية الأخرى واستخدام ثروتها ليكون لها وصاية على هذه الدول ولا شك أن أموراً كثيرة قد تغيرت منذ أوائل الخمسينات فمصر الآن أضعف بكثير مما كانت عليه، أما سوريا فهي أقوى الآن بينما ازدادت السعودية غنى. وما زال العراق في الصورة كقوة موازية لسوريا على الرغم من أن وزنه يبدو وقد تقلص كثيراً في الوقت الحاضر على ما يبدو. أما الفلسطينيون الذين ما زالوا هدفاً للمناورة وتبادل الاتهامات بين الدول العربية فإنهم يملكون الآن تحركاً منظماً وصوتاً يمثلهم. يجب أن تحسب سوريا ومصر والسعودية حسابه، وهي تتابع سياستها تجاه الأزمة اللبنانية.
هناك من يقول بأن الميزان السياسي والعسكري الحالي في العالم العربي أوحى لصانعي القرار السياسي في الولايات المتحدة وإسرائيل بثلاث توصيات سياسية هي:
أولاً: ليس بالضرورة أن ترى الولايات المتحدة وإسرائيل في تضامن دول المواجهة كسوريا ومصر خطراً يهددها، بل كإحدى فرص الديبلوماسية البناءة: "فبينما يمكن أن يكون في صالح إسرائيل أن يظل العرب مفككين لا مجتمعين على محاربتها فإنه من مصلحة إسرائيل أيضاً أن يكون العرب متحدين من أجل صنع السلام".
ثانياً: إن التحالف يمثل فرصة لقيام مفاوضات مجدية وإحراز تقدم بارز حول كافة القضايا الرئيسية التي ينبغي أن لا تهدر بالمفاوضات الثنائية (سياسة الخطوة خطوة) بل يجب متابعة هذه القضايا في إطار مؤتمر سلام يسعى إلى تسوية شاملة.
ثالثاً: لا زال أمام منظمة التحرير الفلسطينية دور هام تلعبه في أية تسوية في الشرق الأوسط وعلى الرغم من ضعف المنظمة في الوقت الحاضر، إلا أنه ينبغي أن لا تستبعد أن على الولايات المتحدة وإسرائيل أن تكونا على استعداد للتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية إذا ما أريد لتسوية نهائية شاملة أن تتحقق.
وعلى صعيد آخر، دارت مناقشات كثيرة حول نقطتين:
1 – ما هي الدلائل التي تتطلع إليها الدول العربية لتصبح مقتنعة بأن الولايات المتحدة وإسرائيل ملتزمتان جدياً بالعمل للتوصل إلى تسوية شاملة؟
2 – ما هي الأدلة التي تستعد الدول العربية لتقديمها من أجل إظهار التزامها بالسعي إلى السلام؟
إن لدى الدول العربية، وخاصة دول "التحالف": مصر وسوريا والسعودية قائمة معقولة وواضحة من التوقعات فيما يتعلق بالدور الذي يريدون من الولايات المتحدة أن تلعبه في المستقبل القريب. وببساطة فإن هذه الدول تريد من الولايات المتحدة أن تستخدم نفوذها لتحمل إسرائيل على التحرك نحو قبول المطالب السياسية العربية والمطالب المتعلقة بالأراضي. وتقول الحكومات العربية للولايات المتحدة بأنها – أي الحكومات – قد قبلت في الوقت الحاضر، بشروط قراري مجلس الأمن الدولي رقمي 242 و338. وترى أنها قد اعترفت علناً بأنها مستعدة للعيش بسلام مع إسرائيل وللقبول بحق إسرائيل في البقاء. وترى بأن الأمر الآن راجع إلى الولايات المتحدة لحمل إسرائيل على الوفاء بالتزاماتها بإعادتها الأراضي المحتلة المشار إليها في هذين القرارين (242 و338) وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الدول تتوقع من الولايات المتحدة أن تنتزع من إسرائيل اعترافاً بحق الفلسطينيين في وطن لهم في فلسطين.
الولايات المتحدة في نظر الزعماء العرب
إن معظم الزعماء العرب لا ينظرون إلى دور الولايات المتحدة كوسيط غير مهتم، بل ينظرون إليه كطرف معني بالنزاع في الشرق الأوسط بشكل كامل. ويدرك زعماء "التحالف" بأنهم كانوا يعملون بلا جدوى بسبب تدخل الولايات المتحدة المتكرر لصالح إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك، فإنهم لا زالوا على استعداد لأن يعطوا مفاوضات السلام محاولة أخرى، وعلى أي حال، فإن هؤلاء غير راغبين على الأرجح في الذهاب إلى جنيف ما لم يقتنعوا بأن الولايات المتحدة تنوي أن تكون "غير منحازة نسبياً" إلى جانب الإسرائيليين. وهكذا – من وجهة النظر العربية – فإن الشرط الأساسي والمهم الذي يجب توفره لنجاح مؤتمر السلام هو أن تظهر الولايات المتحدة بعض الرغبة في اتخاذ دور حقيقي أكثر نزاهة في أية عملية مفاوضات.
ومن بين الأشياء التي سببت قلقاً للزعماء العرب بوجه خاص، هي ما رأوه من عدم التوازن المتكرر في مساعدات الولايات المتحدة الاقتصادية والعسكرية إلى الشرق الأوسط على مر السنين وما حدث منذ عهد قريب جداً من إقرار قانون مضاد للمقاطعة العربية الذي أظهر تحيزاً ضد الدول العربية. وخطابات الديبلوماسيين الأمريكيين في الأمم المتحدة المعادية للعرب، والحملات الإعلامية المؤيدة لإسرائيل والمعادية للعرب التي ظهرت خلال حملات الرئاسة والكونغرس الأمريكيين. وعلى وجه العموم يود الزعماء العرب أن تتسم النقاشات المحلية للنزاع بطرح مختلف وجهات النظر المتنافسة. كما يودون لو يخفف المسؤولون الأمريكيون من حملاتهم على الدول العربية والفلسطينية وأن تظهر الولايات المتحدة دليلاً على أنها تملك القدرة والإرادة لحمل الإسرائيليين على تقديم تنازلات "إذا دعت الحاجة إلى ذلك" (..)
كما أنهم يرغبون في أن يروا الإدارة الأمريكية الجديدة في المستقبل القريب تقنع الكونغرس بإرجاء مناقشاته المقترحة حول قيود بيع الأسلحة لإيران والسعودية وتقديم مقترحات محددة حول طبيعة وتوقيت انتقال اللاجئين العرب إلى دولة تقوم في الضفة الغربية تستخدم كقاعدة لنقاش أوسع.
وأهم من ذلك، فإن الزعماء العرب يتوقعون من الإدارة الأمريكية الجديدة بعض التخفيف من ضغوطها على قضية المقاطعة العربية.
ولاحظ عدد من المشتركين في الندوة بأن الحماس الذي تبنى به الكونغرس وعدد من الشرعيين إقرار قانون المقاطعة العربية لم يزد إلا من قناعة العرب بالتحيز الأمريكي فقط. وقد أعلن السعوديون (ولكن ليس الليبيون أو العراقيون) بأن المقاطعة العربية ستنتهي حالما يكون هناك تسوية سلمية ويقال بأنهم قالوا بشكل غير علني في العام الماضي بأنهم على استعداد للتساهل في تطبيق أحكام المقاطعة العربية. وعلى أية حال، فقد قال السعوديون أيضاً بأنه إذا شددت الولايات المتحدة كثيراً على قانون المقاطعة العربية فسوف يفسر ذلك كعمل عدائي من شأنه أن يؤدي إلى ردة فعل سلبية. وبالإضافة إلى مبيعات الأسلحة وقضايا المقاطعة يود الزعماء العرب لو أن المسؤولين الأمريكيين يبحثون في تقديم حوافز اقتصادية للأطراف المحلية، كتلك الحوافز التي رافقت الاتفاقية الثانية في سيناء لأن هذا يؤكد التزام الولايات المتحدة لتحقيق تسوية شاملة. وينتظر الزعماء العرب كذلك من الإسرائيليين إظهار بوادر إيجابية تنم عن التزام إسرائيل بالعمل باتجاه تسوية شاملة. وهناك قضية واحدة تستطيع أن تدلل على حسن نواياها وهي تلك التي تتعلق بالمستوطنات في الأراضي المحتلة. "ومن غير الواقعي أن ننتظر من إسرائيل أن تتخلى عن أية مستوطنة قبل إبرام خطة للتسوية" ولكن باستطاعة الإسرائيليين أن يدللوا على استعدادهم للتفاوض بإعلان تعهد بعدم إقامة أية مستوطنات جديدة في الفضة الغربية ومرتفعات الجولان.
ومن جهتهم يؤكد الزعماء العرب على أنهم قد قدموا مؤخراً ثلاثة تنازلات هامة على الأقل تتضمن بوضوح موافقتهم على إ جراء مفاوضات سلام حقيقية هي:
1 – استعدادهم للاعتراف بالدولة الصهيونية بالدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل.
2 – الاستعداد لإشراك منظمة التحرير الفلسطينية في نوع من التمثيل ضمن "وفد عربي" في مؤتمر جنيف بدلاً من المطالبة بتمثيل فلسطيني مستقل.
3 – الاستعداد للقبول بتسوية سلمية تكفل فقط عدلاً "جزئياً" للفلسطينيين وتسوية جزئية لبعض القضايا الرئيسية الأخرى مقابل اعتراف مشترك وإنهاء حالة الحرب. إن إسرائيل لا ترى في أعمال العرب هذه إشارات قوية لدرجة تكفي لإقناعها بالعودة إلى جنيف.
في هذا الوقت، وفي ضوء هذا الجمود الواضح، كيف يمكن لمختلف الفئات العربية أن تقدم، وما هي النتائج المحتملة لكل مجموعة رئيسية إذا لم ينعقد مؤتمر جنيف في المستقبل القريب؟
إن التطور الرئيسي الذي حدث خلال العام الماضي (1975) هو استعداد سوريا الواضح لتبني سياسة السعودية ومصر للتسوية عن طريق التفاوض. إن "التحالف" العربي الجديد (مصر، سوريا، والسعودية) مستعد للقبول بمبادرات السلام الأمريكية ولتبني نهج سياسة معتدلة حيال إسرائيل. وعلى أية حال، إذا لم يتجسد السلام كأمر واقع، سيهاجم الرافضون سياسة الاعتدال تلك ويعتبرونها فاشلة، هذا علاوة على النتائج الخطيرة التي ستترتب على استمرار وجود التحالف وعلى سير النزاع العربي – الإسرائيلي وعلى استقرار الوضع الداخلي لمصر وسوريا.
إن العناصر الرئيسية للموقف التفاوضي للتحالف هي كما يلي: سيقول "التحالف" للولايات المتحدة بأن بمقدوره أن "يسلم" الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى جنيف، "فالشعب الفلسطيني يريد السلام وهو على استعداد للقبول بتسوية جزئية لمطالبه مقابل السلام". ويدعم التحالف مطالب الفلسطينيين لممارسة حقهم في تقرير المصير والسيادة في دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويحتج "التحالف" بأنه ومنظمة التحرير الفلسطينية، قد قدموا دلائل عديدة تنم عن استعدادهم للتفاوض. أنهم مستعدون لتوضيح هذه الدلائل أكثر وأكثر ما دامت الولايات المتحدة تدرك أن هناك حداً ما لا يمكن معه إعطاء مزيد من التوضيح لهذه الدلائل، بدون إلحاق أذى تام بعمليات المفاوضات بأكملها.
وسيقول "التحالف" للإسرائيليين بأنه "يتفهم" شكوكهم تجاه النوايا العربية وأنه "يدرك" أن هجس الأمن عندهم "مبرر" تماماً. أن الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية لن تغير من أفكارها بين عشية وضحاها، في ما يتعلق "بشرعية" الدولة اليهودية و"عدالة" القضية الصهيونية. وعلى أية حال، فإن الزعماء العرب مستعدون لفصل آرائهم عما هو صحيح وعادل عن التوصل إلى اتفاقات ملموسة بين إسرائيل والفلسطينيين وبين إسرائيل والدول العربية، وهذا ما يبدد مخاوف الإسرائيليين بالنسبة لقضايا الأمن ويمكن أن تتغير أنماط السلوك بسرعة لتلائم متطلبات الوضع الراهن. فالقيم والمشاعر والشكوك تتغير ببطء أكبر بكثير من تغير السلوك، كما لا يمكن تدجينها إلا بعد أن تقوم أنماط جديدة من التفاعل الإسرائيلي – العربي وتصبح أمراً روتينياً، وأخيراً فإن التحالف يدرك بأن السياسة الإسرائيلية الراهنة تدور حول الدفاع عن الوضع القائم. ولا يتوقع من إسرائيل أن تعيد الأراضي المحتلة بدون قتال، والشيء المنتظر منها هو أن تحاول الاحتفاظ بكل شيء في الوقت الحاضر ونتيجة لذلك سيطلب "التحالف" من الولايات المتحدة أن "تسلمه" إسرائيل كما "سلم" هو منظمة التحرير الفلسطينية.
إن رغبة الولايات المتحدة لممارسة ضغط على إسرائيل لتدخل في عملية مفاوضات وتقديم تنازلات كبيرة ينظر إليها "التحالف" على أنها الثمن الذي يجب أن يدفع مقابل المخاطر التي تقع على عاتق هذا "التحالف".
كان المسؤولون الأمريكيون يخبرون الزعماء العرب بأنه ليس بمقدور الولايات المتحدة أن تقدم مبادرات جديدة إلا بعد انتخابات الرئاسة عام 1976 والآن، وبعد أن انتهت الانتخابات فإن "التحالف" يتوقع تحركاً سريعاً من الإدارة الأمريكية الجديدة. وإذا لم تستطع الولايات المتحدة "حمل" إسرائيل إلى طاولة المفاوضات فإن "التحالف" وسياسته المعتدلة سيوصمان بالفشل الذريع.
ويرى بعض المشاركين في الندوة بأنه نتيجة ذلك ستكون انتعاش الرافضين ومواقفهم المتشددة المعادية لإسرائيل واندلاع حرب جديدة وعدم استقرار داخل الدول العربية المعتدلة. والنتيجة هي أن الافتقار إلى تقدم سريع نحو السلام سيترتب عليه على الأرجح تجدد أعمال العنف بين دول المواجهة وإسرائيل وعدم استقرار داخلي في مصر وسوريا. ويرى البعض الآخر من المشاركين بأنه حتى لو لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع إسرائيل بالحضور إلى طاولة المفاوضات، فإن الدور الجديد والمهم الذي تلعبه السعودية ربما يمنع الموقف من التدهور مرة أخرى، والانتقال إلى العنف المكشوف. "وربما كان السعوديون وبعض الأنظمة العربية المحافظة مهتمين بما سيربحه المتطرفون من قوة إذا حدثت جولة قتال أخرى، أكثر من اهتمامهم بأعمال إسرائيل". ونتيجة لذلك فإن الدول العربية المحافظة بزعامة السعودية ربما تحاول "تلطيف" مواقف دول المواجهة بصرف النظر عن قبول الإسرائيليين بإجراء مفاوضات. إن الفكرة الأصلية للتحالف قد انبثقت من السعودية ومن بعض الحكومات العربية المحافظة، كما أن سياسة الاعتدال قد تمت متابعتها في محاولة لرفض وضع عالمي سيؤدي بالتالي إلى عدم استقرار داخلي. وإذا فشلت سياسة الاعتدال فإن التحالف سيمنى بالفشل وتكون النتيجة هي أن المتطرفين الذين وقفوا دائماً ضد الاعتدال سيتعزز وضعهم السياسي.
ومن وجهة نظر السعودية، والكويت والإمارات العربية المتحدة، فإن الحرب اللبنانية والنزاع العربي – الإسرائيلي معاً يثيران اعتبارات متناقضة.
فهم – تقليدياً – يفضلون الاحتفاظ برصيدهم كمؤيدين مخلصين للقضية الفلسطينية وهم لا يريدون أن تصبح سوريا أو مصر قويتين جداً. ولكن – وفوق ذلك كله – فإن السعوديين وغيرهم من أمراء النفط محافظون، وباستطاعتهم إدراك المؤثرات المقلقة التي تنشأ من استمرار كلا النزاعين كاتجاه الحياة السياسية في العالم العربي نحو التطرف وتوتر العلاقات العربية مع الولايات المتحدة وكخطر قيام حرب أهلية عربية أوسع وأخطر من إعلان حظر جديد على تصدير النفط، وهكذا. إن هذه الاعتبارات العملية تنم عن مصلحة سعودية قوية لإعادة بناء لبنان مستقبل ولإيجاد تسوية شاملة وطويلة الأمد للنزاع مع إسرائيل.
ومن أجل هذه الغاية يصبح من الضروري بالنسبة للسعودية أن تضغط لإيجاد حل للخلافات غير المنظورة من شركائها العرب الرئيسيين في "التحالف" (مصر وسوريا) أو لوضع حد للمواجهة بين سوريا والفلسطينيين. ومن الواضح أن هذه الأهداف قد تحققت _ ولو إلى حين – في مؤتمري القمة في الرياض والقاهرة في تشرين الأول عام 1976. وبينما يبدو أن السوريين حصلوا على حصة الأسد في اتفاقي الرياض والقاهرة إلا أنهم قدموا تنازلاً كبيراً عندما تعهدوا بأن لا يجعلوا أية دولة تقوم في الضفة الغربية تدور في فلكهم السياسي. وعلى أية حال، ما من شك بأن المعادلات التي وصفت في هذين الاجتماعين كانت بمثابة نجاح ديبلوماسي كبير للسعودية.
إن المقارنة بين وجهتي النظر العربية والإسرائيلية حول القضايا الأساسية التي يتوجب حلها، وحول الخسائر والأرباح المتوقعة من العودة إلى جنيف، تثير أسئلة خطيرة وهامة حول ما إذا كانت ستجري مفاوضات رسمية في المستقبل القريب أم لا... ومن غير الواضح أن إسرائيل مستعدة في هذا الوقت للذهاب إلى جنيف أو لإجراء "التنازلات الإقليمية والسياسية التي تطالب بها الدول العربية والفلسطينيون. ومن وجهة النظر الإسرائيلية، فإن مجرد إعلان الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية، بأنها مستعدة للاعتراف بوجود إسرائيل مقابل "تنازلات" إسرائيلية كبيرة أمر غير كاف. إن هدف السياسة الإسرائيلية الأول هو "قيام علاقات طبيعية تماماً بين الدول العربية وإسرائيل لإنهاء أعمال العنف والتهديد فقط. وتتوقف فرص انعقاد مؤتمر جنيف على قدرة الأطراف المعنية في التقرير سلفاً ما هي الأهداف التي يسعى المؤتمر في النهاية، إلى تحقيقها فإذا كان بمقدور العرب الموافقة على الهدف المتعلق بالتوصل إلى تسوية نهائية وعقد صلح فستجد الحكومة الإسرائيلية إن من الصعب عليها إجراء "تنازلات" إقليمية.
ويبدأ الإسرائيليون تحليلهم لأية مقترحات سلام بالنظر إلى "الحد الأدنى" والحد الأدنى، في تقرير بروكنغز، يتطلب من إسرائيل أن تقدم أشياء ملموسة تتعلق بالأرض مقابل وعود عربية غير ملموسة، ويمكن النكوث بها. وببساطة، فإن الزعماء الإسرائيليين لا يعتقدون بأن بمقدورهم وضع الثقة في العرب في ما يتعلق بمثل ذلك التنازل المتبادل. وتدور الاهتمامات الإسرائيلية الأساسية حول الأمن الإقليمي، ولا ترى في مواقف العرب التفاوضية إلا قليلاً من الإغراءات التي تدفعها لإجراء "تنازلات" إقليمية. كما أنها لا ترى أي داع لإجراء مفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية في هذا الوقت.
لقد دفعت الأحداث في لبنان كثيراً من الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأن أفضل حل للمشكلة الفلسطينية "ربما يكمن في ترك الأمور على ما هي عليه". وقد "أنعشت" الحرب اللبنانية الآمال بأن منظمة التحرير الفلسطينية ستواجه إحدى مصيرين: "إما أن تدمر نفسها وإما أن تدمر في مكان ما أثناء عملية الاقتتال بين العرب". وبسبب "الضعف" المستوطن في منظمة التحرير الفلسطينية، وبسبب الثقة المتضعضعة التي تضعها إسرائيل في وعود العرب الغامضة في ما يتعلق بجعل العلاقات العربية – الإسرائيلية علاقات طبيعية، فإنه ليس في نية الإسرائيليين القبول بقيام دولة فلسطينية في السنوات القليلة القادمة. وإضافة إلى ذلك، ومن وجهة النظر الإسرائيلية، فإن السؤال الجوهري هو: كيف يتبادل العرب والإسرائيليون وجهات نظر بعضهما بحيث يتم تحقيق تقدم ملموس باتجاه التوصل إلى تسوية عادلة طويلة الأمد؟
وتنبع مخاوف إسرائيل من شكوكها العميقة بمعظم الأطراف الرئيسية الأخرى والتي ستشترك على الأرجح في وضع تسوية سلمية وهي الدول العربية والفلسطينيين والأمم المتحدة والدول الكبرى. ويتساءل الإسرائيليون لماذا يهتم العرب بالتوصل إلى تسوية بعد النجاحات السياسية المثيرة التي حققوها من خلال "الابتزاز النفطي" وبعد أن تجمعت لديهم طاقة لا حد لها للحصول على أحدث أنواع الأسلحة؟
أليست تصريحاتهم الأخيرة (حول اهتمامهم بالتوصل إلى تسوية) مجرد أمور تكتيكية؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يتوجب على إسرائيل أن تتعاون مع الخطة التي وضعها العرب بالتنازل عن الأراضي التي تحتاجها لأغراضها "الدفاعية"؟
ومن وجهة النظر الإسرائيلية فإن "حق تقرير المصير" بالنسبة للفلسطينيين يعني قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تحكمها منظمة التحرير الفلسطينية وتكون بمثابة تهديد حقيقي لأمن إسرائيل. "وستكون القوات السوفييتية المساعدة للفلسطينيين على بعد أقل من عشرة أميال من ناتانيا، كما ستكون الطائرات الإسرائيلية التي تقلع من المطارات الإسرائيلية تحت رحمة "الإرهابيين" المسلحين بصواريخ محمولة على الأكتاف وهكذا. وعلى ضوء ذلك فإن إسرائيل راغبة في الوقت الحاضر في النظر في مسألة تقرير المصير بالنسبة للفلسطينيين في نطاق ترتيبات مع الحكومة الأردنية لإشراف على الموضوع. وعلاوة على ذلك فإن إسرائيل مهتمة بمشكلة استمرارية السياسة العربية. وحتى لو افترض الإسرائيليون بأن الزعماء العرب الحاليين مستعدون فعلاً لتحقيق السلام، فما الذي سيضمن لإسرائيل بأن زعماء آخرين قد يأتون إلى الحكم ولا يتبنون نفسالسياسة ويتنكرون للاتفاقيات القديمة ويستأنفون المواجهة والحرب معها؟ وفي مواجهة مثل هذا الاحتمال الذي قد ينشأ من جراء التقلب المستمر في طبيعة التحالفات العربية وبسبب عدم الاستقرار الداخلي في عدد كبير من الدول العربية وعدم قدرتها، في الغالب، على الوفاء بالتزاماتها، فإن افسرائيليين يبررون موقفهم بالقول بأن عليهم الاستمرار في المحافظة على "حدود يمكن الدفاع عنها".
ويعتقد المشاركون في الندوة بأن المنطق الذي يكمن وراء هذا الموقف الإسرائيلي ينم عن تصور إسرائيلي في فهم مقترحات بروكنغز وسياسة التحالفات العربية. وإذا كان نقض العرب أو تنكرهم للشروط المقترحة في تقرير بروكنغز، والذي تخاف منه إسرائيل، سيحدث قبل إتمام عملية الانسحاب وقيام علاقات طبيعية، فإن إسرائيل ستظل تحتفظ "بحدود يمكن الدفاع عنها". وإذا كان مثل ذلك النقض أو التنكر سيحدث بعد إتمام عملية الانسحاب الإسرائيلي، فسيكون هناك سلسلة من العمليات المتواصلة – (تحالفات جديدة، ومواثيق اقتصادية، ومؤسسات دفاعية متقلصة القدرة) – والتي قد يكون أمامها فرصة للنمو وتحقيق السلام. وكنتيجة لذلك، فإن أية دولة عربية ستسعى إلى التراجع عن موقفها سيتم عزلها وتدبر أمرها. والجهة التي تدعم الاقتراح القائل "بسلام على مراحل" تذكر للدلالة على التغيير الدراماتيكي في السلوك المصري الذي اتخذ في أعقاب اتفاقية مرحلية واحدة.
ويعارض الإسرائيليون ذلك قائلين بأن الإشارات التي تأتي من الدول العربية بما فيها مصر، لا تعمل إلا القليل في سبيل حل القضية الجوهرية، فيما يتعلق باستعداد العرب – أو عدم استعدادهم في النهاية – للقبول بإسرائيل كدولة شرعية. كما يجدون في التصريحات الأخيرة ما يثير القلق مثل قول الرئيس السادات "أن السلام متروك للأجيال القادمة لتقريره" وكذلك ضعف الاستجابة لمشروع آلون والتهديدات اليومية التي تصدر عن الصحف السورية.
ويرى الإسرائيليون بأنه إذا كان العرب الآن مستعدين للاعتراف بإسرائيل فإن بمقدورهم إظهار هذا الالتزام بعدة طرق علنية. وبعبارة أكثر وضوحاً، فإن الإسرائيليين يريدون من الدول العربية أن تكف عن القيام بمحاولاتها لجعل إسرائيل دولة "منبوذة" داخل المجموعة الدولية.
إن النقيض المتواصل من الخطابات المناهضة لإسرائيل في الأمم المتحدة، والتي تغطي الآن ما يقارب من نصف مناقشات الجمعية العمومية، والمحاولات المتكررة لمؤازرة إسرائيل بجنوب إفريقيا كدولة عنصرية، والعدد الضخم من قرارات الأمم المتحدة (بما فيها قرارات منظمة "اليونسكو") والتي تدين سياسة إسرائيل وممارساتها في الأراضي المحتلة، والمؤتمر الأخير الذي عقد في العراق حول مناهضة الصهيونية، كل ذلك جعل إسرائيل متحفظة ومتشككة في تصريحات العرب حول حسن نواياهم. وهناك من يقول بأن الدول العربية قد خفضت من حدة هجماتها العدائية إسرائيل في الأمم المتحدة وأن الوفود العربية في الأمم المتحدة قد أذعنت لانضمام إسرائيل إلى المجموعة الأوروبية في منظمة "اليونسكو" خلال دورتها الأخيرة. وقيل أيضاً بأن الدول العربية مستعدة للتخفيف من لهجتها المعادية لإسرائيل أكثر وأكثر حين تأخذ المفاوضات مجراها بصورة حقيقية.
كما ترغب إسرائيل في أن ترى بعض الاعتدال في المقاطعة الاقتصادية العربية لها. وكحد أدنى، فإن الإسرائيليين يريدون من العرب أن يتخلوا عن الدرجتين الثانية والثالثة من المقاطعة كدليل على حسن النوايا. "وربما كان الأمر أكثر أهمية هو أن الإسرائيليين يبحثون عن بعض الالتزامات من جانب الفلسطينيين التي تدل على أنهم مستعدون للتنازل عن الميثاق الوطني الذي وضع عام 1968 والذي ينادي بتدمير إسرائيل، وبأنهم مستعدون للاعتراف بسيادة وشرعية دولة إسرائيل".
ويعتقد المشاركون في الندوة بأنه إذا كان الميثاق مجرد إعلان قديم العهد عن الأهداف الفلسطينية" ولا يمثل سياسة منظمة التحرير الفلسطينية"، فإن لدى قادة منظمة التحرير حوافز قليلة للاعتراف بإسرائيل إلا إذا تقرر لهم دور رسمي في عملية المفاوضات.
وتشك إسرائيل في أن تلعب الأمم المتحدة دوراً متعاظماً في البحث عن السلام. إن القلق الواضح الذي يساور إسرائيل بأن الأمم المتحدة قد لا تلعب دوراً نزيهاً في أية عملية مفاوضات قد تزيد نتيجة لما تراه من محاولات لإعادة تفسير قراري مجلس الأمن 242 و338 بطريقة تتعارض مع مصالح إسرائيل، وبالموقف السلبي للأغلبية الساحقة في الأمم المتحدة تجاه إسرائيل. كما أن الإسرائيليين غير حريصين على أن يروا الدول الكبرى تلعب أي دور جماعي رئيسي، خاصة وأن الإسرائيليين لم تكن لهم تجربة جيدة في تعاملهم مع الدول الكبرى. فهم سرعان ما يشيرون إلى الاتفاق الثلاثي عام 1950 والانسحاب من سيناء في أعقاب حرب 1956 كأمثلة على ذلك، حيث ضمت الدول الكبرى مصالح إسرائيل سعياً وراء أهدافها الذاتية. وفي الوقت الراهن، فإن الإسرائيليين متخوفون من أن تكون ضمانات الدول الكبرى لأية تسوية سلمية بدائل للتعهدات التي يجب على الدول العربية أن تأخذها على نفسها، لا تكملة لها.
لقد استطاعت إسرائيل التخفيف بعض الشيء من تأثيرات العزلة العسكرية والاقتصادية والديبلوماسية الشاملة التي تعاني منها في العالم، بفضل العلاقات الشائكة والودية التي عملت على تطويرها مع الولايات المتحدة. وقد تزايد توجه إسرائيل إلى الولايات المتحدة طلباً للدعم في مختلف المجالات خاصة بعد حرب حزيران 1967 عندما امتنعت فرنسا عن تزويدها بالأسلحة. وتنتظر إسرائيل من الولايات المتحدة أن تساعدها في التصدي للضغوط الديبلوماسية التي تتعرض لها من جانب الدول العربية والجهات المؤيدة للعرب داخل الأمم المتحدة. والأهم من ذلك أن إسرائيل تنظر إلى الولايات المتحدة كمزودها الرئيسي بالأسلحة. وفي المقابل يتوقع القادة الإسرائيليون أن تمارس الولايات المتحدة ضغطاً عليهم من وقت لآخر لتقديم تنازلات ما كانوا ليقوموا بتنفيذها لو لم تكن تزودهم بالأسلحة. كما أنهم يتوقعون توتراً في العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية عندما تتقدم الولايات المتحدة بمطالب إلى إسرائيل قد يبدو فيها خطر على أمن إسرائيل أو تعتبر غير مجدية في ضوء المشاكل السياسية المحلية التي يعمل القادة الإسرائيليون في ظلها.
تعديلات في الحدود
تتميز السياسة الإسرائيلية الحالية بتفاوت في الآراء بحيث ستكون هناك على الأرجح أكثرية معارضة لكافة مقترحات السلام. كما أنه سيكون ضرباً من المستحيل تحقيق إجماع مؤيد لأية خطة سلام. وفي إسرائيل خليط واسع من "الناس المعنيين"، يحملون أفكاراً مختلفة تتعارض مع بعضها البعض، ولكنها جميعاً آراء هامة وفي نفس الوقت ليست حاسمة أو فاصلة. فعلى سبيل المثال يستطيع المرء أن يقول بأن نصف أعضاء مجلس الوزراء، وربما أكثر، موافقون على تقرير معهد بروكنغز لأكثر من سبب. ومع ذلك فإننا لا نعرف الكثير عن إمكانيات قبوله من إسرائيل، لأن مجلس الوزراء هو ائتلاف مكون من عدة أحزاب أهمها تلك التي هي نفسها ائتلافاً لأحزاب مختلفة، والموافقة يجب أن تكون إجماعية تقريباً حتى يتم إقرارها. ومثل هذا الإجماع لم يكن يوماً علامة مميزة للسياسة الإسرائيلية. إن طبيعة الانقسام في البيئة السياسية الإسرائيلية تتجه إلى إعطاء الأولوية لخط تحرك موحد لا من الوجهة العملية فحسب بل من الوجهة الذهنية أيضاً، فالناس ميالون لاعتناق أفكار يشترك فيها الكثيرون كفكرة الشك في النوايا العربية في البحث عن السلام، والإصرار على "الحدود الآمنة". إنهم يفضلون التفكير بحل في إطار الأمر الواقع إذا لم يكن في إطار القانون، أي تعديلات في الحدود مقابل إنهاء حالة الحرب. وحتى لو افترضنا بأن العرب سيوافقون الآن على التخلي عن بعض الأراضي، فإن ذلك سيخمد المواجهة ولكنه لا ينهيها، والشواهد على ذلك كثيرة، فالتحالف العربي لا زال كما هو لم يتغير، بل إنه انبعث من جديد، وسباق التسلح لا زال قائماً مما سيعمل على تأجيل عملية البدء في إقامة علاقات طبيعية، والتي تعتبر المؤشرات الحقيقية للاعتراف وتحقيق السلام، إلى أجل غير مسمى وفوق كل ذلك كله، فإن عدم التوصل إلى اتفاقية رسمية سيوفر المناخ الملائم جداً للانتشار النووي والذي لا يمكن أن يكون لمصلحة العرب، أو لمصلحة إسرائيل، بل وربما عرض كلا الطرفين لكارثة حقيقية.
إن الوضع في الضفة الغربية ليس مسألة تتعلق بصورة أساسية، بل مشكلة سياسية جوهرية تتعلق بمستقبل دولة إسرائيل. هل ستكون دولة مزدوجة القومية؟ هل ستمتد إلى "حدود إسرائيل في التوراة"؟ (..) إن إسرائيل في الوقت الحاضر غير مستعدة للانتقال إلى بحث مسألة الضفة الغربية لأنها لم تصل بعد إلى اتفاق جماعي حول الشكل الذي ستكون عليه إسرائيل في المستقبل.
وستكون القدس مشكلة أخرى يصعب جداً على الإسرائيليين بحثها. فالروابط الدينية والسياسية والعاطفية القوية التي تربط ليس الإسرائيليين فقط بل اليهودية العالمية بالمدينة وأماكنها الدينية، جعل من غير المرجح أن تقبل أية حكومة إسرائيلية بأية مشاركة لها في حكم المدينة في المستقبل القريب، كما أنه من غير المحتمل أن تعيد القطاع الشرقي من القدس الذي كانت قد احتلته في حرب حزيران 1967. وعلى ضوء المشاكل التي ستواجهها إسرائيل حين يصار إلى بحث القضايا المهمة كمطالب الفلسطينيين في حرية تقرير المصير، ومشكلة الضفة الغربية ووضع القدس، فإن السؤال الذي يطرح هو ما إذا كان هناك قضايا يشعر الإسرائيليون أنهم مستعدون لمناقشتها، وعلى الرغم من أن كافة القضايا "قابلة للنقاش" إلا أن بعضها أكثر قابلية للتسوية من تلك القضايا الآنفة الذكر.
ويسود الاعتقاد بأن هناك إمكانية تحقيق تقدم مهم في الوقت الحاضر حول القضايا المتعلقة بالاعتراف المتبادل بين الدول العربية وإسرائيل وإجراءات أمنية محددة بخصوص عدة مناطق. ومن وجهة نظر إسرائيلية، فإن من غير الحكمة الموافقة على ترتيب القضايا قبل البدء في عملية المفاوضات الحقيقية.
وفي عدة مراحل من الندوة أثيرت أسئلة حول الدور الذي ينتظر أن يلعبه السوفيات في الشرق الأوسط في المستقبل القريب. ويعتقد المشاركون في الندوة أن قوة الاتحاد السوفييتي في المنطقة آخذة في التراجع "والذي زاد من خيبة أمله هو مواقفه التي تتسم بالحذر". أن السوفييت على استعداد لتوطين أنفسهم على تسوية سلمية إذا ما أحسوا بأنه سيكون لهم يد في قطف الثمرة الأخيرة. ولا بد من إشراك السوفييت في عملية المفاوضات في دور لحفظ ماء الوجه على الأقل، وإلا فمن المحتمل أن يكون بمقدورهم تقويضها.
إن السوفييت غير مرتاحين "للنفوذ المتدني" الذي يمارسونه في الوقت الحاضر في العالم العربي، كما أنهم انزعجوا لانتشار الأحزاب الشيوعية الخارجة عن سيطرتهم خلال الحرب الأهلية اللبنانية، واللهجة المعارضة لهم في مؤتمر القمة في الرياض. ومنذ أن طرد الخبراء السوفييت من مصر، يبدو أن العراق أخذ يزداد ابتعاداً عن مواقفه المؤيدة للسوفييت. كما أن مستقبل العلاقات السورية - السوفييتية غير واضح. وبالإضافة إلى ذلك ظهر السعوديون على مسرح الأحداث كقوة عربية مهيمنة، وهذا يعود بعض الشيء إلى سياستهم المعادية للسوفييت. ولذلك ليس من المتوقع أن يلعب السوفيات دوراً رئيسياً إلا إذا ظهرت مجموعة من الظروف السياسية الجديدة وغير المتوقعة، ويملك السوفييت القدرة على الوقوف كحجر عثرة في طريق المفاوضات. فهم يستطيعون، على سبيل المثال، دعم النشاطات "التخريبية" التي تقوم بها جبهة الرفض داخل منظمة التحرير الفلسطينية، أو أنهم قد يفترضون موقفاً معرقلاً خلال مفاوضات السلام. إن تدهور الموقف السوفييتي في الشرق الأوسط، مقروناً باهتمامه المتواصل بالمنطقة وقوته الكبيرة، يجعل من الصعب تحديد نوع الدور الذي سيلعبه السوفييت فعلاً. فمن ناحية، من الصعب توقع قيام أي نوع من عمليات التوسط لإيجاد تسوية لا يكون الاتحاد السوفييتي طرفاً فيها.
ومن ناحية أخرى، فإن من الصعب كذلك، وبنفس الدرجة، تصور مشاركة سوفياتية فعالة بموجب القواعد الأساسية التي يبدو أنها تبرز الآن، ومنها بالتحديد أن مشاركة الأطراف الخارجية تتوقف على مدى قبولها لدى الأطراف المعنية بالنسبة للنزاع. إن بالإمكان إحضار الاتحاد السوفييتي بسهولة إلى طاولة المفاوضات كمشارك "أقل مرتبة" في الإطار الراهن وهذا يعود إلى دوره الرسمي كدولة مشاركة في رئاسة مؤتمر جنيف. وبعد ذلك يمكن أن يتوقف دور السوفييت على مدى مساعدتهم وجديتهم في موقفهم. فإذا تبين أن الروس غير متعاونين، فمن المحتمل أن تجري معظم المفاوضات بصورة غير رسمية، وبذلك يجري الحد من أثر المشاركة السوفييتية. وفي مثل هذه الحالة ستكون جنيف بمثابة اجتماع للتصديق على الاتفاقيات التي تم وضعها سراً، وليس كميدان لإجراء مفاوضات رسمية موسعة. وأثير في الندوة سؤال حول ما إذا كان الاتحاد السوفييتي مستعداً للبدء في إقامة علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل كوسيلة لتعزيز القبول به كوسيط لقد شجعت الولايات المتحدة السوفييت على اتخاذ مثل هذه الخطوة، إلا أن السوفييت قد اتخذوا موقفاً محدداً بالنسبة لإسرائيل فقد قال السوفيات مراراً وتكراراً بأنهم سيقيمون علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل فقط عندما توضح إسرائيل أنها مستعدة للقيام بجولة جديدة للتوصل إلى تسوية، ولذلك سيكون الموقف السوفييتي غير منسجم مع سياستهم المعلنة القائلة بأنه على السوفييت إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل قبل البدء بالمفاوضات.
وأكد المشتركون في الندوة على أنه مهما كان الدور الرسمي الذي سيتبناه السوفييت في جنيف، فمن المتوقع أن يواصلوا السعي وراء مصالحهم الذاتية في المنطقة. ومن المرجح على سبيل المثال، أن يواصل السوفييت استخدام مبيعات الأسلحة، كوسيلة كلسب النفوذ في الدول الرافضة. ويمكن تصور قدرة السوفييت على "إلحاق الأذى" من خلال الأنباء الأخيرة غير المؤكدة عن صفقة أسلحة سوفييتية كبيرة لليبيا، وعن صفقة اسلحة سوفييتية أخرى للعراق تبلغ قيمتها ما يزيد على 4 بليون دولار، وتضم طائرات "ميغ – 23" و"ميغ – 25" وصواريخ تطارد الهدف على ما يقارب من 500 ميل. وربما كان هنالك سبب آخر وراء مثل هذا السلوك السوفييتتي، وهو ما تنطوي عليه هذه الصفقات من "يسرة في الحصول على العملات الصعبة".
إن مبيعات الأسلحة والهبات التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل هي التي فتحت الباب، ولذلك فإن السوفييت يتحركون بسرعة كي لا تفوتهم سوق مبيعات الأسلحة. واتفق المشاركون في الندوة على القول بأن النفوذ السوفييتي سيزداد، على الأرجح، إذا لم تحرك باتجاه التوصل إلى تسوية في المستقبل القريب. وإذا لم يبد السلام ممكناً في أعين المعتدلين من الزعماء العرب، فمن المحتمل جداً أن يعودوا مرة أخرى إلى الاتحاد السوفياتي للحصول على الأسلحة. وعلى ضوء الوضع السياسي الداخلي في الاتحاد السوفييتي فإن الزعماء السوفييت لن يمتنعوا عن إعطاء أسلحة إلى الزعماء العرب للاستعداد لجولة أخرى مع إسرائيل.
ومن المحتمل أن لا يكون بمقدور السوفييت البدء بحرب أخرى في الشرق الأوسط، ولكنهم قد لا يبذلون الكثير من الجهد لإيقاف الحرب إذا ما نشبت في المنطقة. إن أحياء أي دور جديد للاتحاد السوفييتي في المنطقة سيثير المخاطر الكامنة ويرفع من درجة تكاليف جولة أخرى من القتال. فكما أنه من غير المرجح أن تسمح الولايات المتحدة بهزيمة إسرائيل، فإن من غير المرجح أيضاً أن يسمح الاتحاد السوفييتي لأي من "زبائنه الرئيسيين أن يمنوا بهزيمة عسكرية كبيرة أخرى.
واستقر الرأي على أنه إذا كان لا بد من تحقيق السلام. فإنه يتوجب على كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة أن يعلنا التزامهما المشترك لدعم التسوية وذلك بالتوصل إلى نوع من الاتفاق للحد من تدفق الأسلحة، وربط العلاقات الأمريكية – السوفيتية الموسعة بتصرفاتهما في الشرق الأوسط. ولاحظ المشتركون في الندوة بأن كافة الاتفاقيات الأمريكية – السوفيتية الناجحة (كمعاهدة حظر التجارب النووية ومعاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية) قد قامت على أهداف محددة ومتفق عليها. ولم تكن الدولتان العظميان يوماً قادرتين على العمل المشترك في الشرق الأوسط "لأن السوفييت لم يكونوا مهتمين بالأمر كثيراً". وإذا لم تتمكن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي من الاتفاق الآن على أسس واضحة للعمل المشترك، فسيتوجه السوفييت، على الأرجح، إلى تعزيز نفوذهم الإقليمي على حساب مصالحهم المشتركة مع الولايات المتحدة.
لم يكن الفشل في التوصل إلى حل عادل ودائم لمختلف القضايا التي تفصل بين إسرائيل وجيرانها العرب أمراً تعوزه المحاولة، فخلال ثلاثين عاماً تقريباً من حكم الانتداب البريطاني لفلسطين، قامت محاولات متكررة للتقريب بين وجهات النظر الصهيونية والعربية في ادعاء كل منها بحقه في فلسطين، كما أن العملية لم تنته بقيام إسرائيل عام 1948.
والمشكلة كانت غير قابلة للحل حتى الآن لأن الأطراف نفسها على خلاف جوهري حول معظم النقاط الرئيسية المسببة للخلاف. وهكذا لا يتوجب أن تكون عملية المفاوضات والتسوية وسيلة لتوصل إلى اتفاق بين الأطراف التي تشارك في الالتزام الرئيسي لتحقيق السلام فقط، ولكنها يجب أن تكون أيضاً وسيلة لتهدئة الظروف المسبقة لمثل ذلك السلام وباختصار، فإن العملية نفسها يجب أن تؤدي إلى تغير في المواقف، وتحويل المفاهيم وتقلص في المخاوف وأزمات الثقة. عندها فقط يمكن تصور إمكانية التوصل لاتفاق سلام بين إسرائيل ودول المواجهة العربية. وهكذا فإن الإجراء له تأثير مهم على جوهر القضية.
كما يتوجب إدراك تأثيرات الإطار السياسي الواسع الذي ستجري فيه المفاوضات وبسبب أنماط الخلاف التقليدية في التفاعل بين الأطراف. فقد كان من العسير دائماً أن يعترف طرف بأية بادرة إيجابية تصدر عن الطرف الآخر.
وإذا أريد لعملية المفاوضات أن تنجح فمن الأهمية بمكان أن تقوم الأطراف بإعطاء تفسير واضح للبوادر التي تظهر عن الطرف الآخر. ويرى المشاركون في الندوة أن هناك ثلاثة أنماط محتملة من أنماط التوجه: مواجهة (بوادر عدائية تماماً) سلام يقوم على المصلحة (بوادر صداقة على وجه التحديد) وإنهاء حالة الحرب (بوادر تقابل بوادر من الطرف الآخر) ويبدو أن العلاقات العامة بين الأطراف قد تغيرت مؤخراً من العداء الصريح إلى تبادل البوادر. وعلى أية حال، فإن من غير الممكن التحرك باتجاه السلام الذي يقوم على المصالحة، والذي يمثل الاتجاه الأوحد الذي سيقلل من مخاوف نشوب حرب وقائية وينهي خطر انتشار نووي، ما لم تتغلب الأطراف على تضعضع ثقتها في بعضها البعض، وما لم تتفاوض للتوصل إلى تسوية شاملة.
من المعترف به أن عملية التوصل إلى تسوية عربية – إسرائيلية تتطلب إطاراً ديبلوماسياً مقبولاً يعتد به. وقد هدفت قرارات الأمم المتحدة رقم 242 و238 ومشروع روجرز عام 1969 ومذكرة يارينغ في شباط 1971، إلى دفع الأطراف للقبول بأسس عامة تقوم عليها اتفاقية السلام الدائمة. وقد نجحت المحاولتان الأولى والثانية لأنهما كانتا غامضتين عن قصد وتعمد.
تجاوز القرار 242
أما المحاولتان الأخيرتان فقد فشلتا نوعاً ما لأنهما كانتا تسعيان إلى الوضوح والتحديد. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما إذا كان بالإمكان استئناف مفاوضات جدية بدون إعلان عن أسس عامة أخرى. إن قراري مجلس الأمن غامضان على وجه الخصوص فيما يتعلق بالسلام، وفيما يتعلق بالانسحاب، كما أنهما يلزمان الصمت المطبق حيال القضية الحساسة التي تتناول حقوق الفلسطينيين، ويمثل تقرير معهد بروكنغز محاولة لتخطي قراري مجلس الأمن متطرقاً إلى المشاكل الهامة بشيء من التفصيل. والجدير بالاهتمام هو معرفة ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتمكن من المساعدة في إتمام عملية التسوية باقتراح مجموعة مشابهة من الأسس، أو في ما إذا كانت ستتمكن من استخدام "مساعيها الحميدة" لدفع الأطراف للموافقة على مثل تلك الأسس قبل عملية التفاوض حول قضايا أكثر جوهرية، ولعله من الممكن اقتراح الأسس التالية على سبيل المثال:
"تتعهد الأطراف المعنية بالنزاع بالعمل على تحقيق السلام، وبعدها توافق على البحث عن حلول للمشاكل التي تباعد بينها بالوسائل الديبلوماسية، والابتعاد عن استخدام القوة أو التهديد بها.
إن هدف المفاوضات هو تحقيق الأمن لكافة الأطراف والتحديد الواضح لحدود السيادة لكل دولة والتي لا تقلص السيطرة على الأراضي عن طريق القوة، والفرصة التي تسمح للشعب الفلسطيني بممارسة حقه في تقرير المصير في إطار خطة تسوية شاملة.
اعتراف الأطراف بأنه إذا ما أريد التوصل إلى اتفاقية دائمة ونهائية فلا بد لهذه الاتفاقية أن تتلائم مع المصالح المشروعة لكافة الأطراف مع الأخذ بالاعتبار السيادة الإقليمية والأمن مع أن الإسرائيليين يبدون رغبتهم في التأكيد على الحاجة إلى "التزام" عربي "لتحقيق سلام حقيقي" والدخول في مفاوضات مباشرة، في حين أن العرب سيؤكدون على الحاجة إلى انسحاب إسرائيلي من كافة الأراضي المحتلة وعلى حق الفلسطينيين في إنشاء دولتهم.
إذا أمكن التوصل إلى اتفاق على إطار مشترك، سواء تم ذلك علناً أم في السر، فإن عملية التسوية يمكن أن تتقدم بعدة طرق، وقد تعتمد على عدة أساليب في آن واحد أو في مراحل مختلفة من الجهود الشاملة.
وفي البداية لا بد من الأخذ بعين الاعتبار إجراء مفاوضات مباشرة. فالإسرائيليون يصرون منذ وقت طويل على المفاوضات المباشرة وهذا يعود بشكل جزئي إلى القيمة المعنوية بالنسبة لإسرائيل وهي ترى العرب يتعاملون معها كطرف مواز أو متكافىء. وقد كان هناك بالطبع مفاوضات مباشرة بين العرب والإسرائيليين في الماضي. بعضها كان – يجري علناً والبعض الآخر سراً. وقد نجحت المفاوضات المباشرة أكثر ما نجحت في وضع بروتوكولات مفصلة للتنفيذ في حال التوصل إلى اتفاقية أساسية من خلال وسائل أخرى. وكانت تلك هي الحالة في محادثات فصل القوات الثانية في سيناء. ولكن في الحالات الأخرى لم يكن للمفاوضات المباشرة سوى أثر ضئيل لا يتجاوز التوصل إلى بعض التفاهم الضمني. ويبدو أن المشكوك فيه أن يتم تحقيق السلام عن طريق المحادثات المباشرة فقط، بالرغم من أنه يتوجب على أطراف النزاع، في بعض المراحل، أن يتعاطوا مع بعضهم البعض مباشرة بالنسبة لبعض النقاط من أجل وضع البنود النهائية للاتفاقية. وليس لدى الولايات المتحدة بالطبع أية معارضة لقيام مفاوضات مباشرة. ولكن من ناحية عملية لا ينظر إليها – أي المفاوضات المباشرة – كأنجع وسيلة للبدء في عملية التسوية ويؤكد المنهج الآخر لتحقيق تسوية على ضرورة التوسط من قبل طرف ثالث. فقد حاول الدكتور جونار يارينغ مبعوث الأمم المتحدة أن يلعب هذا الدور بطريقة فاشلة أو كما فعل هنري كيسنجر ولكن مع تحقيق نتائج أفضل وربما يكون دور الوسيط – بكل بساطة – هو نقل الرسائل بين الأطراف المعنية، أو قد يحاول بطريقة نشيطة أن يقنع الأطراف بتلطيف وجهات نظرها فيما يتعلق بالتوصل إلى صيغة تسوية أو قد يقترح الوسيط حلولاً محددة وإن كان ذلك على حساب سمعته والشك في نزاهته.
كما أن التجارب التي مر بها الذين توسطوا في نزاع الشرق الأوسط هي أيضاً مختلفة ويبدو أن النجاح يتوقف بعض الشيء على شخصية الوسيط – وهذا أكثر أهمية – ماذا يمثل هذا الوسيط. فالدكتور هنري كيسنجر كان ناجحاً إلى حد ما لأنه كان ممثلاً للرئيس الأمريكي وكان قادراً على تقديم التزامات معينة وتحذيرات لم يكن بوسع وسيط من الأمم المتحدة على سبيل المثال، تقديمها.
والوسيلة الثالثة للتسوية هي ما يسمى بالتحكيم فإذا وصلت أطراف النزاع إلى طريق مسدود فمن الضروري لطرف ثالث أن يقترح حلاً إذا ما وجد. ولهذا الأسلوب عدة سبل قد تشبه مجهودات الوساطة وخاصة عندما يقوم الوسيط بدور نشيط..
وفي بعض الأحيان – خلال ديبلوماسية المكوك التي اتبعها كيسنجر بعد حرب تشرين 1973 – طلبت أطراف النزاع من كيسنجر تقديم اقتراح أمريكي لسد ما تبقى بينهم من ثغرات. وينطلق التحكيم من أن الأطراف تريد التسوية ولكنهم غير قادرين على الاتفاق حول شروطها، ويقوم الحكم بواجب بناء على موافقتهم.
وفي غياب تلك الموافقة ومن باب الحرص على الوصول إلى اتفاق قد تحاول قوى خارجية العمل على تسوية مفروضة. وفي عام 1969 درست الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إمكانية تبني موقف عام وبالتالي استخدام نفوذهما لحمل الأطراف المترددة على المساهمة به. والسؤال الآن هو ما إذا كان يتوجب على الولايات المتحدة وحدها أن تحاول ردم الهوة بين الأطراف بخليط من الإغراءات السلبية وغير السلبية. وعيب هذا المسلك بالطبع أن الحل المفروض قد لا يثبت وجوده بسرعة إذا كانت الأطراف لا تشعر بخطر في التخلي عن الاتفاق.
وبوسع المرء أن يتصور بسهولة المراحل العديدة التي سيمر بها الاتفاق حيث يسيطر على كل مرحلة نوع خاص من المفاوضات، وفي البداية، قد تكون هناك حاجة إلى وسيط ماهر يحقق الاتفاق الأساسي على الإجراءات وجدول الأعمال. ويمكن أن يتبع ذلك جولة من المحادثات المباشرة حول مواضيع أساسية والتي ربما يصل بعضها إلى طريق مسدود. وعند هذه النقطة يمكن لطرف ثالث التدخل للخروج من الطريق المسدود، أما بموافقة الأطراف أو بممارسة مجموعة من الضغوط.
إن التوقيت والتناسق والتجسيد المادي للأشياء تصبح غاية في الأهمية في التحرك من موقف لآخر. ولكن هذه الأشياء مطلوبة حتماً إذا أريد السلام.
وكنقطة بداية مفيدة للتهيئة لمؤتمر جنيف يمكن أن تتركز المناقشات على مبادلة الأراضي بإقامة علاقات طبيعية على مدى فترة طويلة من الزمن. ويمكن أن تكون نتيجة مجموعة كهذا اتفاقاً عاماً على أساس النقاط التالية:
1 – إن جميع الأطراف بمن فيهم الفلسطينيين يريدون أن تبدأ مفاوضات السلام عام 1977.
2 – إن جميع الأطراف مستعدون لإعلان "سند تعهد" بالاعتراف المتبادل حسب سير العملية في مراحل لاحقة.
3 – أن يكون هناك توقع معقول لاستمرار العملية بمعنى أنه ستكون هناك سلسلة من الأشياء يجب تحقيقها وأن المناقشات لن تحدد في موضوع آخر.
4 – أنه سيتم تقديم نظام للمفاوضات المختلطة وأنه يجب تجنب الصيغ الجامدة لاستمرار المناقشات.
5 – أن التحسن في المستقبل يعتمد على قديم جميع الأطراف "لتنازلات" مقبولة كدليل على حسن النية نحو الآخرين.
إن مفتاح النجاح يكمن في بذل الولايات المتحدة لجهود استثنائية لتحديد وتدبير التنازلات المقبولة من كل طرف. ويعتقد المشاركون في الندوة أن ما يلي يمكن أن يعتبر مقبولاً ومعقولاً:
1 – يقبل الإسرائيليون إلى حد ما مبدأ اشتراك الفلسطينيين "بشكل ما" في المفاوضات.
2 – تلزم الدول العربية نفسها التفاوض حول جدول الأعمال الذي سيشمل عناصر السلام التام والكامل الذي تريده إسرائيل.
3 – يقبل الفلسطينيون (منظمة التحرير الفلسطينية) الالتزامات والمبادىء الواردة في قرار مجلس الأمن رقم 242 وغيره من القرارات.
وفي إطار نتائج المرحلة الأولى، فإن المرحلة الثانية ستشمل المناقشات والاتفاقيات حول إعلان المبادىء لتوجيه عملية المفاوضات الأساسية. وستشمل المرحلة الثالثة جمع مواضيع مختلفة كبنود محددة للمفاوضات كما حدث في تقرير معهد بروكنغز ثم صياغة التفاصيل الخاصة بالمفاوضات الرسمية التي ستجرى في جنيف. ويعتقد المشاركون في الندوة أن الاتفاقات التي يتم التوصل إليها في مراحل ما قبل افتتاح المحادثات الأساسية ستعتبر قاعدة صلبة تسمح للمفاوضين بالتحرك بسرعة نحو تسوية نهائية شاملة، وعادلة. إن المشكلة الأولى في خطة كهذه هي أن المناقشات لن تعدى المرحلة الأولى. فلن تكون أطراف النزاع مستعدة في هذا الوقت لتقديم أية تنازلات للانتقال إلى المحادثات الأكثر أهمية. وعلى الأصح فإن هذا المنهج سيسمح لأي طرف بإعاقة التحسن المفيد نحو جنيف برفضه تقديم تنازلات ضرورية بينما يدعي علناً أن اشتراكه في المحادثات التمهيدية يظهر التزامه بالبحث عن السلام.
والبديل الثالث للتوقيت والشكل العام هو عقد مؤتمر سلام بأسرع وقت ممكن لبدء العملية ثم التأجيل وإيكال المهمة لمجموعات عمل تقوم بتسيير المفاوضات الأصلية في شكل أقل حجماً، ثم يجتمع المؤتمر الأساسي مرة أخرى للمرحلة النهائية من العملية. إن هذه الخطة ستستفيد من الفرص الحالية للتحرك وستلزم الأطراف بمفاوضات جادة، وتجعل التوقعات واقعية، وتقلل من الضغوط الخارجية وتتيح الوقت الكافي لتبادل كامل لوجهات النظر حول جميع المواضيع.
وبالرغم من مناقشة أوجه مختلفة عديدة من الخطة، فإن الاقتراح الأساسي أيد عقد مؤتمر دون جدول أعمال رسمي مع قيام عدة مجموعات عمل منسجمة تناول مشكلات محددة، وعدد من اللجان لتنسيق ودراسة المشكلات المختلفة وبرنامج زمني مرن يسمح للأطراف المعنية بدراسة جميع جوانب المشكلات قبل البدء في عملية المساومة.. للوصول إلى السلام لا بد من الحصول على ثلاثة أهداف رئيسية:
1 – جعل جميع الأطراف تواجه الحقيقة وتقلل من توقعاتها بخصوص أية نتائج تكون "مقبولة" أو "غير مقبولة".
2 – المساعدة في إزالة صورة الشيطان المرسومة في ذهن كل طرف عن الطرق الأخرى، وذلك باقتناع كل طرف بأن الآخر ربما ليس سيئاً كما كان يعتقد من قبل.
3 – إقناع الأطراف المعنية أن احتمالات السلام حقيقية بتحقيق نتائج ملموسة تدفع بالعملية إلى الأمام.
ويمكن تحقيق هذه الأهداف بتغيير طبيعة الحوار بثلاثة طرق أساسية:
1 – بتحويل بؤرة الاهتمام في المناقشات من مواضيع الماضي إلى مواضيع المستقبل.
2 – بتغيير المناقشات من مواضيعها الغامضة إلى مقترحات محددة، والأحزان إلى مداواة المواقف المتطرفة إلى اتفاق.
3 – تفتيت المشكلة الكبرى إلى مجموعة من المشكلات الصغيرة وتقدير النجاح بمقياس غير مقياس التسوية الشاملة. وكذلك يجب أن تشمل أية تسوية ناجحة "جهاز سلام" يتم تصحيحه لمعالجة أية نزاعات تظهر في المستقبل. وهذه العملية المستمرة ستحمي الاتفاقية كلها والسلام الذي يأتي به من التعرض للخطر بانتهاك أو من عدة انتهاكات. وقد أثار هذا البديل جدلاً بين المشتركين. وانتقده البعض بأنه "غير واقعي" و"مفرط في التفاؤل" وأشار المشتركون إلى أنه لا حاجة هناك إلى "مؤتمر تعليمي" ذلك لأن كلاً من الجانبين العربي والإسرائيلي يعرفان ما يعتقده ويؤمن به الطرف الآخر.
وتكمن المشكلة الأساسية في "تضارب المصالح" وليس في "عدم الفهم" وأثار عدم وجود جدول أعمال انتقادات كثيرة على أساس أنه يجب أن لا يذهب أحد إلى المفاوضات دون أن يكون لديه رأي واضح كيف سيخرج منها.
بالإضافة إلى ذلك فإن طول هذه العملية ربما يؤدي إلى فقدان الزخم وشعور المتفاوضين بخيبة الأمل. ويعتقد بعض المشاركين في الندوة أن الخطة المقترحة "ثقافية" فقط بمعنى أنها تؤكد تعديل التوقعات على ضوء الحقيقة وعلى أن هذه العملية كانت مستمرة منذ حرب حزيران 1967 وأنه حدث تحسن هام وملموس نحو هدف التفاهم المشترك بين العرب وإسرائيل.
_______________________________
وثائق وأسرار تنشر للمرة الأولى حول:
"وعد" بلفور و"الوطن اليهودي"
بريطانيا سعت إلى تسليم فلسطين لليهود خوفاً من "دولة عظمى"
وفرنسا كانت ضد الوعد وضد المطالبة بدولة "يهودية"
(ا.ل) - في خطابه أمام "الكنيست" الإسرائيلي قال الرئيس أنور السادات أن إسرائيل قامت على وعد بلفور. وعندما رد مناحيم بيغن على خطاب الرئيس المصري لم يترك المناسبة تمر دون أن يشير إلى وعد بلفور، لكن بيغن كان يقصد من هذه الإشارة شيئاً آخر.
قال بيغن بالحرف الواحد:
"السيد الرئيس ذكر تصريح بلفور، لا يا سيدي لم نأخذ أرضاً عربية، بل عدنا إلى بلادنا، والصلة بين شعبنا وهذه الأرض هي صلة أبدية، هو مثبت في جذور التاريخ الإنساني ويبقى إلى الأبد على هذه الأرض. ووفقاً لذلك المستند الذي تضمن ما اعترف به الكتاب المقدس بحق لليهود في فلسطين ومنحهم حق إقامة وطن قومي في هذه الديار تجددت الرابطة التاريخية بين الشعب اليهودي وأرض إسرائيل لأجل إعادة إقامة البيت الوطني على هذه الأرض...".
إن الكلام على وعد بلفور في هذه الأيام، لا بل في هذه الظروف يبدو مملاً، بعد التطورات الجديدة التي طرأت على الوضع في الشرق الأوسط، وإننا لا ندعي التدخل في تعقيدات هذا الوضع وفي تحليل أسبابه القريبة والبعيدة، ولا العودة إلى دراسة وعد بلفور من الوجهتين التاريخية والحقوقية، إن ما نرمي إليه هو فقط كشف بعض الحقائق التي لم تعلن بعد، خصوصاً أمام الباحثين والمؤرخين، وكشفنا لهذه الحقائق التاريخية يستند إلى وثائق رسمية لم تنشر بعد حول ردود الفعل الأوروبية على وعد بلفور وتصاعد الحركة الصهيونية في العالم.
يبدو واضحاً من خلال هذه الوثائق أن حكومة فرنسا لم تكن (في ذلك الحين) تشاطر بلفور رأيه في "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين" ورغم انقضاء أكثر من سنة على وعد بلفور فإن الحكومة الفرنسية آنذاك ظلت متمسكة برأيها في استحالة تحقيق هذا الوعد، بل في معارضته، ولعل الوثائق ستكشف أسباب هذه المعارضة.
الرسائل
في رسالة ديبلوماسية بعث بها وزير الخارجية الفرنسي بيشون إلى السفير الفرنسي في لندن بول كامبون رقمها 106 تاريخ 15 كانون الثاني/يناير 1919 يقول الوزير الفرنسي:
"بالإشارة إلى رسالتي تاريخ 14 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي (1918) بالنسبة إلى المظاهرات المنظمة في القدس بمناسبة ذكرى الإعلان عن وطن قومي يهودي، اتشرف بأن أرسل لكم ربطاً نسخة عن ثلاثة تقارير وصلتني من المفوض الفرنسي في سوريا".
"يظهر من هذه التقارير أن اليهود في فلسطين بدأوا يعلنون جهراً بأن هذه بلادهم من الآن فصاعداً، وبأنهم سيقيمون عليها وطنهم بموافقة الحلفاء، ويبدو أن تصرفهم هذا سيؤدي إلى قيام اضطرابات خطيرة في هذه البقعة، وفي نفس الوقت إلى خلق ذريعة لنمو المؤامرات التي يقوم بها بعض الزعماء العروبيين".
"إن عليكم أن تستخرجوا التوجيهات التي تتضمنها هذه التقارير كي تلفتوا انتباه الحكومة البريطانية إلى ضرورة مراقبة الدعاية الصهيونية حتى لا تصبح سبباً للقلاقل في بلاد المشرق، وفي هذا الخصوص ينبغي على سلطات الدول الحليفة أن تمتنع عن الأعمال أو التصريحات التي من شأنها أن تصور لليهود آمالاً مستحيلة، كما أن تفاهمكم مع الحكومة البريطانية يجب على الأخص أن يوضح للصهيونيين جيداً هذه المرة بأنه لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يكون إنشاء دولة إسرائيلية مستقلة في فلسطين موضوع بحث، ولا حتى قيام منظمة إسرائيلية صاحبة سلطة في قسم من هذه المنطقة".
"إنني علاوة على ما يتعلق بوجهة نظر حكومة الجمهورية بالنسبة للصهيونية، أشير إلى التعليمات التي تضمنتها برقيتي رقم 4016 تاريخ 15 كانون الأول/ديسمبر 1917".
وفي رسالته الجوابية رقم 28 تاريخ 18/يناير 1919 يكشف السفير الفرنسي في لندن بول كامبون عدم التزام الحكومة البريطانية بتصريح بلفور، كما يكشف السفير الأسباب الجدية التي حدت بوزير الخارجية البريطاني إلى تصريحه الشهير. تقول الرسالة:
"وفقاً لأوامركم المذكورة في رسالتكم رقم 106، تحادثت أمس مع السير رونالد غراهام حول الموقف الذي يتخذه يهود فلسطين وحول النتائج الخطيرة التي تلحق بعملنا في الشرق والناتجة عن التأكيدات الرامية إلى إظهار فلسطين على أنها في المستقبل دولة إسرائيلية".
"لقد أجابني السير رونالد غراهام بأنه يشاطرني كلياً الرأي وأن موضوع خلق دولة إسرائيلية لم يكن موضع بحث، إنما فقط National home (وطن قومي) للإسرائيليين في فلسطين. لقد فسر تصريحات سعادتكم على أنها تجيز هذا. إن السبيل الوحيد لوضع حد للموقف المضطرب الذي ذكرته له، كان تسوية قضية فلسطين في مؤتمر السلام بباريس المنعقد الآن والذي يضم اثنين من الذين خدموا الصهيونية: الرئيس ولسن والسيد بلفور".
"بما أن المسألة الصهيونية سوف تناقش في باريس، أسمح لنفسي بأن أشير لسعادتكم إلى الاهتمام الخاص الذي يعلقه على ما يبدو السيد بلفور على الصهيونية، إذ لم يكن من المنتظر أن يتدخل هذا الفيلسوف في هذه القضية، مع ذلك كانت مداخلته الأكثر وضوحاً والأكثر تأثيراً".
وفي ملحق ضم إلى الرسالة الديبلوماسية وتضمنت حواراً جرى بين السفير الفرنسي في لندن وبلفور، تظهر أمور أخرى كانت وراء إعلان بلفور لا علاقة لها بما قيل حتى الآن عن الوعد الشهير، تقول الوثيقة:
"وكما تعجب السيد بول كامبون، ابتسم السيد بلفور وأجاب: سيكون مفيداً جداً أن نشهد إعادة تأسيس مملكة أورشليم".
لكن السفير لاحظ استناداً إلى رؤيا القديس يوحنا أن إعادة إنشاء مملكة أورشليم ستكون إشارة لنهاية العالم.
وأجاب السيد بلفور: سيكون هذا مثيراً أكثر أن نشهد نهاية العالم.
"لم يكن هذا سوى مزاح، لكنه مزاح يطبع الوزير البريطاني بعقلية انتقاء أي شيء بانفصال وولع. قد يكون هذا قد أعجب السيد بلفور وهو من خلال تشجيعه للصهيونية يدخل قليلاً من الضجر إلى قلوب أصدقائه الشخصيين، كبار يهود لندن، الذين يعرف معارضتهم السرية لمغامرة فلسطين، لقد تأكد أن موقف السيد بلفور كانت له أسباب أكثر جدية، وأنه أراد أن يضمن للحلفاء العون الصهيوني العام الذي لمس انتشاره في الولايات المتحدة، لكن ميوله الخاصة دفعته إلى الإفراط في تصريحاته.
إن هذه التصريحات لم تستبعد إنشاء نوع من الإدارة الاستعمارية في فلسطين خاصة باليهود، وهذا ما ترغبه الصهيونية وهذا أيضاً شديد الخطر لأن شعوبنا في لحظة خروجها من الحرب لا تعترف بأي حق لفئة من المواطنين في الحصول على جنسيتين، فتصبح في الوقت نفسه فرنسية وصهيونية، إنكليزية وصهيونية، الخ... إن على اليهود الذين هم في معظمهم من المهاجرين إلى بلادنا، أن يحذروا من أن يرقى أي شك إلى انتمائهم الوطني...
عندما تكلم السيد بلفور عن مملكة أورشليم إلى السيد بول كامبون، لم يفكر بالتأكيد بمسألة الجنسية الصهيونية، إن هذه المسألة هي مع ذلك خطيرة جداً.
وفي رسالة أخرى لاسلكية من وزير الخارجية الفرنسي إلى المستشار السياسي للمفوض الفرنسي في اسطمبول رقم 54 تاريخ 12 كانون الثاني/يناير 1919 تؤكد الخارجية الفرنسية رفضها لإنشاء دولة إسرائيلية مستقلة في فلسطين، كما تؤكد الخارجية التزام فرنسا بمواثيق عام 1916.
"جواباً على برقيتكم رقم 30 إن الحكومة الفرنسية منذ عام 1916 وهي تعلن موافقتها على خلق Foye National مقر وطني يهودي معنوي وثقافي في فلسطين، لكنها لم تعلن أبداً تأييدها لإنشاء دولة يهودية مستقلة في فلسطين ولا حتى إنشاء منظمة يهودية ذات سلطة في قسم من هذه المنطقة، إن الحل الأفضل للمسألة اليهودية والأكثر احتمالاً لضمان التوفيق بين الرغبات المتناقضة السائدة حالياً في فلسطين هو في رأي الحكومة الفرنسية الاعتراف بالصهيونية على أنها طائفة إسرائيلية تتمتع بالحكم الذاتي وتعيش في إطار الدولة العالمية المقترحة بموجب اتفاقات عام 1916.
لم يكن نفوذ الحركة الصهيونية كبيراً ومنتشراً أثناء الحرب العالمية الأولى ولا حتى بعدها، رغم النفوذ الواسع للشخصات اليهودية المالية أو الفكرية، كانت حركة اللاسامية ما تزال قوية، وكانت فرنسا كغيرها من الدول الأوروبية تجتاحها اللاسامية، وبعد انتشار الحركات الصهيونية أثر مؤتمر بال في سويسرا، بقي العداء للسامية قائماً، فتعرضت المنظمات الصهيونية للتضييق على نشاطها.
وفي رسالة من رئيس المنظمات الصهيونية في الدول الحليفة ناحوم شوكولوف إلى مدير الشؤون الآسيوية في وزارة الخارجية الفرنسية رقمها 312أ – 4، تاريخ 12 كانون الأول ديسمبر 1919 إشارة إلى ما تعانيه المنظمات الصهيونية.
"إنني أكون شاكراً لكم لو تدخلتم لدى إدارة البريد كي يوافق المكتب رقم 96 الواقع على زاوية جادة هوسمان وشارع بلوك على قبول البرقيات الصهيونية من الآن وصاعداً. إن مكاتب البرق والبريد ما زالت تفرض علينا حتى الآن، أن تكون البرقيات المرسلة من منظمتنا موقعة من أحد أعضائنا، ومرفقة بجواز السفر ووثيقة هوية صاحب التوقيع...".
إن صراعاً عنيفاً كان يدور بين دول الحلفاء المنتصرين، على اقتسام البلاد التي غنمتها جيوشهم وخاصة بلاد الشرق، لذلك استخدمت كل دولة مختلف الوسائل لدعم موقفها في المفاوضات المرتقبة لتقسيم تلك المغانم، وكان الصراع الأشد بين الفرنسيين والإنكليز وأحياناً الأميركيين الديبلوماسية تكشف استخدام الحكومات الأوروبية للحركات الصهيونية المختلفة لدعم موقفها وللسيطرة على القسم الأكبر من البلاد التي انحسر عنها الحكم العثماني، فهل كانت فلسطين موضع أطماع الحلفاء؟ إن الوثيقة التالية تكشف جانباً من السياسة البريطانية حول هذا الموضوع.
يقول تقرير مرفوع إلى وزير الخارجية الفرنسي في كانون الثاني يناير من عام 1919 رقم 177/13 ما يأتي:
"أثناء محادثاتي التي أجريتها هذه الأيام مع بعض الشخصيات، فهمت أن الصهيونيين قد هيأوا مخططاً تنظيمياً وتأسيسياً لفلسطين حيث سينكشف بوضوح أمام الملأ، التعصب الطائفي المرتبط حالياً بمصالح السياسة الإنكليزية، أنه كما يبدو محتملاً سيكون وضع فلسطين تحت إشراف عصبة الأمم التي ستولي إدارة البلاد إلى سلطة انتداب. إنه يبدو من المرغوب فيه أن يقوم الوفد الفرنسي لدى عصبة الأمم بتحضير ميثاق نموذجي لفلسطين خاصة أو لغيرها من البلدان التي سيتقرر مصيرها بموجب خطة موحدة، وهذا الميثاق يكفل مسبقاً البلاد ضد المطالب التعصبية لأي مجموعة عرقية. إن الفكرة الرئيسية للمنظمة الصهيونية هو أن يقوم مجلس يهودي عالمي مركزه في لندن بإارة فلسطين، فيمارس سلطته وإشرافه المطلق على الإدارة. إن بريطانيا ستكون مستعدة للمواقفة على هذا التدبير، برغم المخاطر التي تجابهها، لأنها ستجد أملاً في وسائل مهمة لنمو "BRITISH PALESTINE"، (فلسطين إنكليزية)، وإمكانية استخدام هذا الوضع كوسيلة ضغط توضع بين يديها فتؤثر على اليهودية العالمية".
" لا يجب أن تتحكم في فلسطين أية عناصر أجنبية سواء سياسياً أو إدارياً، وحدهم يهود فلسطين الأصليون، أو المتجنسون هم مؤهلون لتسوية القضايا العامة في فلسطين".
"... لا يجب أن تترك فرنسا ترتجف من شبح الصهيونية الأميركية، لقد كانت لي المناسبة لأن أبين في بعض ملاحظاتي السابقة أن الصهيونية الأميركية هي أساساً ظاهرة سياسية داخلية. وهي على الأخص مظهر يهودي للخداع الأميركي وللأخلاقية الأميركية.
"... إن فرنسا ليست بحاجة إلى الموافقة على إنشاء دولة جديدة باطلة في تأسيسها الذي يرتكز على التباس ديني وعرقي، أن نتائج خطيرة ستواجه مستقبل السياسة الدولية".
وفي برقية من السفير الفرنسي في نيويورك إلى الخارجية الفرنسية إشارة واضحة إلى الصراع الخفي بين الدوائر الفرنسية والأميركية، يقول السفير الفرنسي في برقيته تاريخ 11/شباط/فبراير 1919:
الصيحة الأولى:
نداء فلسطين إلى أمم العالم عامة، وأبناء العرب خاصة
إليك يا شعوب العالم ويا جمعية الأمم ويا دعاة الحق وأنصار العدل. وإليكم يا أبناء عدنان ويا رجال العرب يا من بذلتم أنفسكم لتحرير البلاد العربية وأرقتم دماءكم في سبيل استقلالها – توجه فلسطين خطابها وتزجي ندائها. وفي رحابكم تبخ رجائها وآمالها.
لقد حصحص الحق وبرح الخفاء ولم يبق للتمويه والخداع من سبيل – فإن أبناء إسرائيل يشدون رحالهم من الأقطار كافة وينسلون من كل صوب وحدب إلى فلسطين. وهؤلاء أحبارهم وزعماؤهم نساؤهم ورجالهم كبارهم وصغارهم يعملون آناء الليل وأطراف النهار على ابتلاع فلسطين ويبذلون النفس والنفيس ويضحون ما عز وهان للفوز بمطلوبهم وتحقيق أمنيتهم.
ليس فيكم من يجهل دسائسهم ومقاصدهم وسعيهم لمحو كل ما للمسيحية والإسلامية في فلسطين من الأثر والعاديات والمشخصات والمقومات وإجلاء الناطقين بالضاد عن هاتيك الأراضي المقدسة.
وما كانت فلسطين يهودية لنتركها لليهود وما كان لليهودية في فلسطين من الآثار لا يبلغ معشار ما للعرب من الآثار والأعمال والشعوب والخلائف والأبناء والحفدة.
جادلنا اليهود بالبرهان وأثبتنا لهم بالأدلة التاريخية والمنطقية والأثرية أنه لا حق لهم في بلاد أجلاهم عنها البابليون منذ آلاف من السنين ومحوا آثارهم وشردوا نساءهم وأبناءهم ولم يبقوا لهم فيها من باقية – فلم يخضعوا للحق وأبوا إلا المكابرة والعناد.
استنطقنا التواريخ واستفتينا علماء السير فأجمعوا على أن فلسطين عربية بأهلها وأسمائها وجبالها ووهادها وأنها كانت لهم وكانوا فيها قبل إبراهيم وإسرائيل وموسى وهارون – فما استكانوا ولا رضخوا بل ظلوا سائرين في تيه ضلالهم وبهتانهم.
نحن لا نجادل في الباطل ولا نتبع خطوات الشيطان ولا نماري بالحق بل نسأل علماء الحقوق وأساطين الشرائع وكل ذي عقل سليم ونناشدهم الضمير والوجدان أن ينصفونا مع هؤلاء الأقوام.
إن بلاداً فتحها أجدادنا منذ ثلاثة عشر قرناً ونيف وتدبروها واستعمروها وأنشأوا فيها الهياكل والمعابد والآثار الجمة وحافظوا عليها كل هذه القرون المتطاولة وأراقوا أنهار الدماء لأجلها فحمرها من الطامعين وردوا عنها كيد الغائرين – أليست كل هذه الأحقاب كافية لمرور الزمن وإسقاط حقهم منها إذا كان لهم حقاً واندماجها في الجامعة العربية؟
وأنتم يا علماء الآثار والتاريخ أفتونا هل رأيتم في أبحاثكم وتدقيقاتكم أثراً لليهود في فلسطين؟ وهل ظل لهم أدنى علاقة بها بعد أن أجلاهم بختنصر عنها وسباهم وقتل نساءهم وذراريهم ومزقهم شر ممزق؟
نزل العرب فلسطين قبل الإسلام والمسيحية واليهودية واستوطنوها لكونها المتمم لجزيرتهم وأكثروا من التردد عليها ووضعوها في أشعارهم وأقاصيصهم ثم لما قاموا بنهضتهم الكبرى وأسسوا دولتهم العظمى طردوا الرومانيين من فلسطين وحرروا إخوانهم وأدخلوها في حوزتهم وحافظوا عليها حتى أيامنا هذه – أفبعد كل ذلك يقوم اليهود فيدعون ملكيتها ويعملون لتأسيس حكومة يهودية فيها؟ إن هذا لإحدى الكبر!!!
يا شعوب العالم؟
رأيتم كيف آوينا اليهود يوم لفظتهم الأمصار واضطهدتهم الشعوب وأكرمنا مثواهم؟ وأحسنا معاملتهم؟ ورأيتم براهيننا الدامغة وحججنا القاطعة؟ وهم مع ذلك لا يزالون يسيئون معاملتنا ويحرجون صدورنا ويحاولون أن يحدثوا لنا مشكلة جديدة تسيئنا وتسيئهم وتسيء العالم جميعاً.
إذا لم تكن إلا الأسنة مركبا فليس على المضطر إلا ركوبها
يا أبناء عدنان؟
إن بني إسرائيل الذين ضاقت بهم الأقطار واضطهدوا في كل مكان نزلوه وذبحوا في حتى اليوم ثماني مرات ولم يتفقوا مع شعب من الشعوب وكانوا جرثومة فساد وشقاء وبلاء – يعملون على إخراج أبناءكم من أرضهم والاستيلاء على أملاكهم وابتلاعهم.
عار علينا وألف عار أن يطمع فينا اليهود ويقضوا لبانتهم منا ويسبونا كما سبوا ويأخذون بثأرهم منا!
ليعلم اليهود أن فلسطين بلادنا ودرة جزيرتنا وأنهم لا ينالون منها مأرباً قبل أن ينضب الأردن ويحمر اليرموك وإننا سنحافظ عليها في الآخر كما حافظنا في الأول وإن دون ابتلاعنا خرط القتاد ودك الأوتاد.
هذه هي الصيحة الأولى أنذرناهم بها وقد أعذر من أنذر والسلام على من سمع القول فوعاه ولم يتبع هواه.(انتهى) المستقبل العدد 45 – 31 كانون الأول 1977
ــــــــــــــــــــــ
معاهدة الصلح الإسرائيلية – المصرية
المفاوضات أساس لحل أي إشكال
• حذف السادات من خطابه الفقرة المتعلقة بالفلسطينيين
وفي ما يلي نص وثائقي لمعاهدة الصلح الإسرائيلية – المصرية، ونص خطاب أنور السادات الذي تلاه أثناء توقيع هذه المعاهدة التي أتت تتويجاً لسياسة الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة. هذه السياسة المرسومة في مقررات "سفن سبرينغز" المنشورة في مكان آخر من هذا العدد.
الديباجة
إن حكومة جمهورية مصر العربية وحكومة دولة إسرائيل.
اقتناعاً منهما بالضرورة الماسة لإقامة سلام عادل وشامل ودائم في الشرق الأوسط وفقاً لقراري مجلس الأمن 243 و338.
إذ تؤكدان من جديد التزامهما بإطار السلام في الشرق الأوسط المتفق عليه في كمب ديفيد في أيلول 1978.
وإذ تلاحظان أن الإطار المشار إليه إنما قصد به أن يكون أساساً للسلام ليس بين مصر وإسرائيل فحسب بل أيضاً بين إسرائيل وأي من جيرانها العرب كل في ما يخصه ممن يكون على استعداد للتفاوض من أجل السلام معها على هذا الأساس.
ورغبة منهما في إنهاء حال الحرب بينهما وإقامة سلام تستطيع فيه كل دولة في المنطقة أن تعيش في أمن.
واقتناعاً منهما بأن عقد معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل يعتبر خطوة مهمة في طريق السلام الشامل في المنطقة والتوصل إلى تسوية للنزاع العربي – الإسرائيلي بكل نواحيه.
وإذ تدعوان الأطراف العربية الأخرى في النزاع إلى الاشتراك في عملية السلام مع إسرائيل على أساس مبادىء السلام المشار إليها آنفاً واسترشاداً بها.
وإذ ترغبان أيضاً في إنماء العلاقات الودية والتعاون بينهما وفقاً لميثاق الأمم المتحدة ومبادىء القانون الدولي التي تحكم العلاقات الدولية في زمن السلم.
قد اتفقتا على الأحكام الآتية بمقتضى ممارستهما الحرة لسيادتهما من أجل تنفيذ الإطار الخاص بعقد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
المادة الأولى:
1 – تنتهي حال الحرب بين الطرفين ويقام السلام بينهما عند تبادل وثائق المصادقة على هذه المعاهدة.
2 – تسحب إسرائيل كل قواتها المسلحة والمدنيين من سيناء إلى ما وراء الحدود الدولية بين مصر وفلسطين تحت الانتداب كما هو وارد في البروتوكول الملحق بهذه المعاهدة (الملحق الأول) وتستأنف مصر ممارسة سيادتها الكاملة على سيناء.
3 – عند إتمام الانسحاب المبدئي المنصوص عليه في الملحق الأول يقيم الطرفان علاقات طبيعية وودية بينهما طبقاً للمادة الثالثة الفقرة 3.
المادة الثانية:
إن الحدود الدائمة بين مصر وإسرائيل هي الحدود الدولية المعترف بها بين مصر وفلسطين تحت الانتداب كما هو واضح في الخريطة في الملحق الثاني وذلك من دون المساس بالوضع الخاص بغزة. ويقر الطرفان بأن هذه الحدود مصونة لا تمس ويتعهد كل منهما باحترام سلامة أراضي الطرف الآخر بما في ذلك مياهه الإقليمية ومجاله الجوي.
المادة الثالثة:
1 – يطبق الطرفان في ما بينهما أحكام ميثاق الأمم المتحدة ومبادىء القانون الدولي التي تحكم العلاقات بين الدول في وقت السلم، وفي صفة خاصة:
أ – يقر الطرفان ويحترم كل منهما سيادة الآخر وسلامة أراضيه واستقلاله السياسي.
ب – يقر الطرفان ويحترم كل منهما حق الآخر في أن يعيش في سلام داخل حدوده الآمنة والمعترف بها.
ج – يتعهد الطرفان بالامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها أحدهما ضد الآخر على نحو مباشر أو غير مباشر وبحل كل النزاعات التي تنشأ بينهما بالوسائل السلمية.
2 – يتعهد كل طرف بأن يكفل عدم صدور فعل من أفعال الحرب أو الأفعال العدوانية أو أفعال العنف أو التهديد بها من داخل إقليمه أو بواسطة قوات خاضعة لسيطرته أو مرابطة على أراضيه ضد السكان أو المواطنين أو الممتلكات الخاصة بالطرف الآخر. كما يتعهد كل طرف بالامتناع عن التنظيم أو التحريض أو المساعدة أو الاشتراك في فعل من أفعال الحرب أو الأفعال العدوانية أو النشاط الهدام أو أفعال العنف الموجهة ضد الطرف الآخر في أي مكان. كما يتعهد تقديم مرتكبي مثل هذه الأفعال إلى المحاكمة.
3 – يتفق الطرفان على أن العلاقات الطبيعية التي ستقام بينهما ستتضمن الاعتراف الكامل والعلاقات الديبلوماسية والاقتصادية والثقافية وإنهاء المقاطعة الاقتصادية والحواجز ذات الطابع التمييزي المفروضة ضد حرية انتقال الأفراد والسلع. كما يتعهد كل طرف بأن يكفل تمتع مواطني الطرف الآخر الخاضعين لاختصاصه القضائي بكل الضمانات القانونية. ويوضح البروتوكول الملحق بهذه المعاهدة (الملحق الثالث) الطريقة التي يتعهد الطرفان بمقتضاها بالتوصل إلى إقامة هذه العلاقات وذلك بالتوازي مع تنفيذ الأحكام الأخرى لهذه المعاهدة.
المادة الرابعة:
1 – بغية توفير الحد الأقصى من الأمن لكلا الطرفين وذلك على أساس متبادل، تقام ترتيبات أمن متفق عليها بما في ذلك مناطق محدودة التسليح في الأراضي المصرية والإسرائيلية وقوات أمم متحدة ومراقبين من الأمم المتحدة. وهذه الترتيبات موضحة تفصيلاً من حيث الطبيعة والتوقيت في الملحق الأول، كذلك أية ترتيبات أمن أخرى قد يتفق عليها الطرفان.
2 – يتفق الطرفان على تمركز أفراد الأمم المتحدة في المناطق الموضحة في الملحق الأول ويتفق الطرفان على ألا يطلبا سحب هؤلاء الأفراد وعلى أن سحب هؤلاء الأفراد لن يتم إلا بموافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بما في ذلك التصويت الإيجابي للأعضاء الخمسة الدائمين في المجلس ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك.
3 – تنشأ لجنة مشتركة لتسهيل تنفيذ هذه المعاهدة وفقاً لما هو منصوص عليه في الملحق الأول.
4 – يتم بناء على طلب أحد الطرفين إعادة النظر في ترتيبات الأمن المنصوص عليها في الفقرتين 1 و2 من هذه المادة وتعديلها باتفاق الطرفين.
المادة الخامسة:
1 – تتمتع السفن الإسرائيلية والشحنات المتجهة من إسرائيل وإليها بحق المرور الحر في قناة السويس ومداخلها في كل من خليج السويس والبحر الأبيض المتوسط وفقاً لأحكام اتفاق القسطنطينية للعام 1888 المنطبق على جميع الدول. كما يعامل رعايا إسرائيل وسفنها وشحناتها، كذلك الأشخاص والسفن والشحنات المتجهة من إسرائيل وإليها، معاملة لا تتسم بالتمييز في كل الشؤون المتعلقة باستخدام القناة.
2 – يعتبر الطرفان أن مضيق تيران وخليج العقبة من الممرات المائية الدولية المفتوحة لكل الدول من دون عائق أو إيقاف لحرية الملاحة أو العبور الجوي. كما يحترم الطرفان حق كل منهما في الملاحة والعبور الجوي من أجل الوصول إلى أراضيه عبر مضيق تيران وخليج العقبة.
المادة السادسة:
1 – لا تمس هذه المعاهدة ولا يجوز تفسيرها على أي نحو يمس حقوق الطرفين والتزاماتهما وفقاً لميثاق الأمم المتحدة.
2 – يتعهد الطرفان بأن ينفذا بحسن نية التزاماتهما الناشئة عن هذه المعاهدة بصرف النظر عن أي فعل أو امتناع عن فعل من جانب طرف آخر وعلى نحو مستقل عن أية وثيقة خارج هذه المعاهدة.
3 – كما يتعهدان باتخاذ كل التدابير اللازمة لكي تنطبق في علاقاتهما أحكام الاتفاقات المتعددة الأطراف التي يكونان من أطرافهما بما في ذلك تقديم الأخطار المناسب للأمين العام للأمم المتحدة وجهات الإيداع الأخرى لمثل هذه الاتفاقات.
4 – يتعهد الطرفان بعدم الدخول في أي التزام يتعارض مع هذه المعاهدة.
5 – مع مراعاة المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة يقر الطرفان بأنه في حال وجود تناقض بين التزامات الأطراف بموجب هذه المعاهدة وأي من التزاماتهم الأخرى فإن الالتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة تكون ملزمة ونافذة.
المادة السابعة:
1 – تحل الخلافات في شأن تطبيق هذه المعاهدة أو تفسيرها عن طريق المفاوضة.
2 – إذا لم يتيسر حل هذه الخلافات عن طريق المفاوضة فتحل بالتوفيق أو تحال على التحكيم.
المادة الثامنة:
يتفق الطرفان على إنشاء لجنة تعويضات للتسوية المتبادلة لكل المطالبات.
المادة التاسعة:
1 – تصبح هذه المعاهدة نافذة المفعول عند تبادل وثائق المصادقة عليها.
2 – تحل هذه المعاهدة محل الاتفاق المعقود بين مصر وإسرائيل في أيلول 1975.
3 – تعد كل البروتوكولات والملاحق والخرائط الملحقة بهذه المعاهدة جزء لا يتجزأ منها.
4 – يتم إخطار الأمين العام للأمم المتحدة بهذه المعاهدة لتسجيلها وفقاً لأحكام المادة 102 من ميثاق الأمم المتحدة.
حررت في 26 شهر آذار سنة 1979.
من ثلاث نسخ باللغات العربية والإنكليزية والعبرية وتعتبر جميعها متساوية وفي حال الخلاف في التفسير يكون النص الإنكليزي هو الذي يعتد به.
هنا نص الرسالة المتبادلة المرفقة بالمعاهدة والمتعلقة بمفاوضات الحكم الذاتي في الضفة الغربية وغزة:
"عزيزي.
يؤكد هذا الخطاب أن كلاً من مصر وإسرائيل قد اتفقا على النحو الآتي:
تستذكر حكومتا مصر وإسرائيل أنهما قد اتفقتا في كمب ديفيد ووقعتا في البيت الأبيض يوم 17 أيلول 1978 الوثائق المرفقة والمعنونة "إطار لإقرار السلام في الشرق الأوسط" الذي تم الاتفاق عليه في كمب ديفيد و"إطار لعقد معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل".
ومن اجل التوصل إلى اتفاق سلام شامل وفقاً للإطارين المشار إليهما أعلاه، تبدأ مصر وإسرائيل تنفيذ النصوص المتعلقة بالضفة الغربية وقطاع غزة.
وقد اتفقتا على بدء المفاوضات خلال شهر من تبادل وثائق المصادقة على معاهدة السلام. ووفقاً لـ"إطار الإقرار السلام في الشرق الأوسط" فإن المملكة الأردنية الهاشمية مدعوة إلى الاشتراك في المفاوضات ويمكن أن يضم وفدا مصر والأردن فلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة أو فلسطينيين آخرين وفق ما يتفق عليه الطرفان.
وسيكون هدف المفاوضات هو لاتفاق قبل إجراء الانتخابات على ترتيبات إقامة سلطة الحكم الذاتي المنتخبة (المجلس الإداري) وتحديد صلاحياتها ومسؤولياتها والاتفاق على المسائل الأخرى المرتبطة بذلك. وإذا ما قرر الأردن عدم الاشتراك في المفاوضات فستجري المفاوضات بين مصر وإسرائيل.
وتتفق الحكومتان على أن تتفاوض في صورة مستمرة وفي حسن نية من أجل الانتهاء في أقرب تاريخ ممكن من هذه المفاوضات. كما تتفق الحكومتان على أن الهدف من المفاوضات هو إقامة سلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية وغزة من أجل تحقيق الحكم الذاتي الكامل للسكان.
ولقد حددت مصر وإسرائيل لنفسهما هدفاً للانتهاء من المفاوضات خلال سنة واحدة حتى يمكن إجراء الانتخابات في أسرع ما يمكن بعد أن يكون الأطراف قد توصلوا إلى اتفاق. وتنشأ سلطة الحكم الذاتي المشار إليها في "إطار لإقرار السلام في الشرق الأوسط" وتبدأ عملها خلال شهر من انتخابها وتبدأ وقتئذ فترة الخمس السنوات الانتقالية وتنسحب الحكومة العسكرية الإسرائيلية وإدارتها المدنية لتحل سلطة الحكم الذاتي محلها كما هو محدد في "الإطار لإقرار السلام في الشرق الأوسط". ويتم حينذاك انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية وتجري إعادة توزيع القوات الإسرائيلية الباقية في مواقع أمن محددة.
ويؤكد هذا الخطاب أيضاً مفهومنا بأن حكومة الولايات المتحدة ستشترك اشتراكاً كاملاً في كل مراحل المفاوضات.
محمد أنور السادات
مناحيم بيغن".
نص المحضر التفسيري
في ما يأتي محضر تفسيري متفق عليه للمواد الأولى والرابعة والخامسة والسادسة وللملحق الأول للمعاهدة:
المادة الأولى:
إن عودة مصر إلى ممارسة السيادة الكاملة على سيناء المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة الأولى يتم بالنسبة إلى كل منطقة بمجرد انسحاب إسرائيل من هذه المنطقة.
المادة الرابعة:
من المتفق عليه بين الأطراف أن تتم المراجعة المنصوص عليها في المادة 4 الفقرة 4 عندما يطلب ذلك أحد الأطراف على أن تبدأ في خلال ثلاثة أشهر من طلبها ولكن لا يجري أي تعديل إلا باتفاق كلا الطرفين.
المادة الخامسة:
لا يجوز تفسير الجملة الثانية من الفقرة الثانية من المادة الخامسة على أنها تنتقص مما جاء في الجملة الأولى من تلك الفقرة. ولا يفسر ما تقدم على أنه مخالف لما جاء في الجملة الثانية من الفقرة الثانية من المادة الخامسة التي تقضي بما يأتي:
"يحترم الطرفان حق كل منهما في الملاحة والمرور الجوي للوصول إلى أي من البلدين من خلال مضيق تيران وخليج العقبة" (إيلات في النص العبري).
المادة السادسة – الفقرة 2:
لا تفسر أحكام المادة السادسة بما يخالف أحكام إطار السلام في الشرق الأوسط المتفق عليه في كمب ديفيد.
ولا يفسر ما تقدم على أنه مخالف لأحكام المادة السادسة – الفقرة 2 من المعاهدة التي تقضي بما يأتي:
"يتعهد لطرفان بأن ينفذا بحسن نية التزاماتهما الناشئة عن هذه المعاهدة بصرف النظر عن أي فعل وامتناع عن فعل من جانب طرف آخر وعلى نحو مستقل عن أية وثيقة خارج هذه المعاهدة".
المادة السادسة – الفقرة 5:
من المتفق عليه بين الأطراف أنه لا وجود لأي دعاوى. إن هذه المعاهدة تسود على المعاهدات والاتفاقات الأخرى أو أن المعاهدات والاتفاقات الأخرى تسود على هذه المعاهدة.
ولا يفسر ما تقدم على أنه مخالف لأحكام المادة السادسة الفقرة 5 من هذه المعاهدة التي تنص على ما يأتي:
"مع مراعاة المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة يقر الطرفان بأنه في حال وجود تناقض بين التزامات الأطراف بموجب هذه المعاهدة وأي من التزاماتهما الأخرى، فإن الالتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة هي التي تكون ملزمة ونافذة".
الملحق الأول:
تقضي المادة السادسة الفقرة 8 من الملحق الأول بما يأتي:
"يتفق الطرفان على الدول التي تشكل منها قوات الأمم المتحدة والمراقبون على أن تكون من الدول غير ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة".
وقد اتفق الطرفان على ما يأتي:
في حال عدم الوصول إلى اتفاق بين الطرفين في ما يتعلق بأحكام الفقرة الثامنة من المادة السادسة من الملحق الأول فإنهما يتعهدان بقبول أو تأييد ما تقترحه الولايات المتحدة الأميركية في شأن تشكيل قوات الأمم المتحدة والمراقبين".
نص كلمة السادات
في ما يأتي نص الكلمة التي ألقاها الرئيس أنور السادات في حفلة توقيع المعاهدة:
"الرئيس كارتر.
الأصدقاء الأعزاء.
إن هذه في التأكيد واحدة من أكثر اللحظات سعادة في حياتي. فهذه لحظة تحول تاريخية ذات أهمية بالغة لكل الدول المحبة للسلام.
وهؤلاء الذين يقفون بيننا والذين يتمتعون بسعة الأفق في وسعهم تفهم أبعاد مهمتنا المقدسة. فالشعب المصري بتراثه ووعيه الفذ في التاريخ قد أدرك منذ البداية معنى هذه المحاولة وقيمتها، وفي كل خطواتي التي قمت بها لم أكن أقوم بمهمة شخصية بل كنت أعبر عن إرادة أمة فحسب. وإني لفخور بشعبي وبانتمائي إليه.
واليوم ينبثق فجر جديد من ظلام الماضي ويبدأ فصل جديد في تاريخ التعايش بين الأمم وهو شيء جدير بقيمنا الروحية والحضارية. فلم يوجه رجال قط من قبل على الإطلاق مثل هذا النزاع المعقد المشحون بالانفعالات الحادة. ولم يحدث من قبل على الإطلاق أن احتاج رجال إلى مثل هذا القدر الكبير من الشجاعة والقدرة على التخيل لمواجهة مثل هذا التحدي الفردي. ولم تلق أية قضية من قبل على الإطلاق مثل هذا الاهتمام في الأرجاء الأربعة من العالم.
إن الرجال والنساء من ذوي النيات الحسنة قد عملوا صباحاً ومساء ليصلوا إلى هذه اللحظة السعيدة. وقد واصل كل من المصريين والإسرائيليين على قدم المساواة السعي إلى هدفهم المقدس على رغم ما اعترضهم من صعوبات وتعقيدات.
إن مئات من الأفراد المخلصين من كلا الجانبين قد أعطوا بكرم من فكرهم وجهدهم لترجمة الحلم الذي نتطلع إليه إلى حقيقة حية. لكن الرجل الذي حقق المعجزة هو الرئيس كارتر وهو الذي حقق ما يمكن اعتباره، من دون أية مبالغة، أحد أعظم الإنجازات في عصرنا الحاضر.
فقد كرس الرئيس كارتر مهارته وقدرته على العمل الشاق، وقبل كل هذا إيمانه القوي في النصر النهائي للخير على الشر، ليؤكد نجاح مهمتنا.
وبالنسبة إلي فقد كان خير رفيق وشريك على طريق السلام. وبإحساسه العميق بالعدل والتزامه الحقيقي بحقوق الإنسان استطعنا أن نجتاز أكثر العقبات صعوبة.
وقد جاءت بعض اللحظات التي كان الأمل يتلاشى فيها ويتراجع أمام الأزمة. ومع ذلك ظل الرئيس كارتر ثابتاً لا يهتز في ثقته وتصميمه، فهو رجل يمتلك الإيمان والشعور والمرهف.
وأن توقيع معاهدة السلام والخطابات المتبادلة هي قبل أي شيء آخر تعبير عن التقدير والاحترام لروح جيمي كارتر ومقدرته.
ولحسن الحظ أنه كان دائماً متسلحاً ببركات الرب وبتأييد شعبه. ولهذا فنحن ممتنون لكليهما ولكل أميركي ساهم في طريقته الخاصة في نجاح محاولتنا.
وقد تشجعنا أيضاً بسبب تفهم مئات الآلاف من الإسرائيليين الذين ظلوا ثابتين على التزامهم تجاه السلام، وإن استمرار هذه الروح هو أمر حيوي بالنسبة إلى تتويج جهودنا.
إننا ندرك أن أوقاتاً عصيبة تنتظرنا، إن توقيع هذه الوثائق يعد بداية للسلام فحسب، لكنها بداية لا بد منها. ولا تزال هناك خطوات أخرى يتعين اتخاذها من دون إرجاء أو مماطلة.
وإننا جميعاً ملتزمون بمواصلة جهودنا حتى تشارك جميع الأطراف المعنية بالنزاع في ثمرات التسوية الشاملة التي اتفقنا عليها.
إن الرئيس كارتر قال في إحدى المناسبات: أن الولايات المتحدة ملتزمة من دون تحفظ بتحقيق عملية السلام حتى تعيش جميع الأطراف المعنية بالنزاع العربي – الإسرائيلي في سلام.
وإننا نقدر مثل هذا التعهد من زعيم رفع شعارات القيم والأخلاق باعتبارها بديلاً من سياسة القوة والانتهازية.
فلنعمل على ألا يكون هناك المزيد من الحروب أو إراقة الدماء بين العرب والإسرائيليين الذين عاشوا في سلام وانسجام طوال قرون عدة.
فلنعمل على ألا يكون هناك المزيد من المعاناة أو إنكار للحقوق.
فلنعمل على ألا تنعي أم فقد ولدها وألا يضيع شاب حياته في صراع ليس فيه أية منفعة لأحد.
ولنعمل سوياً حتى يأتي يوم يحول فيه الناس سيوفهم إلى محاريث ورماحهم إلى مناجل. وأمرنا الله أن نجنح للسلم والله يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم".
وكان مفترضاً، حسب النص الأصلي للكلمة الذي وزعته وكالة "أنباء الشرق الأوسط" ووسائل الإعلام المصرية الرسمية الأخرى قبل ساعة من حفلة التوقيع، أن يدعو السادات الرئيس كارتر إلى "حوار بين الولايات المتحدة وممثلي الشعب الفلسطيني" كذلك تضمن النص إشارات عدة إلى الفلسطينيين وإلى ضرورة استعادة الضفة الغربية وغزة. لكن الرئيس المصري حذف من خطابه المقطع المتعلق بالفلسطينيين وحقوقهم وهذا نصه:
"ليس هناك أحد يستحق تأييدكم ومساندتكم أكثر من الشعب الفلسطيني. إن ظلماً كبيراً قد وقع عليهم في الماضي وهم يريدون تأكيداً جديداً أنه سيكون في مقدورهم اتخاذ الخطوة الأولى على طريق تقرير المصير وإقامة دولة خاصة بهم. وسيعتبر إجراء حوار بين الولايات المتحدة وممثلي الشعب الفلسطيني تطوراً ينطوي على مساعدة كبيرة.
من ناحية أخرى يجب علينا أن نكون على يقين من أن بنود الاتفاق – الإطار في كمب ديفيد في شأن إقامة سلطة حكم ذاتي مع حكم ذاتي كامل سيتم تنفيذها ويجب أن يكون هناك انتقال حقيقي للسلطة إلى الفلسطينيين في أرضهم، ومن دون تحقيق ذلك ستظل المشكلة من دون حل.
إن الخطوات التي اتخذناها في الماضي القريب ستخدم المصالح العربية الحيوية. إن تحرير الأرض العربية واستعادة السلطة العربية في الضفة الغربية وغزة من شأنهما أن يعززا بكل أكيد مصالحنا الاستراتيجية المشتركة.
وفي الوقت الذي نقوم بالمبادرة لحماية هذه المصالح، فإننا ما زلنا أوفياء لالتزاماتنا العربية. وهذا من الأمور المصيرية بالنسبة إلينا.
إن السعي من أجل السلام هو الطريق الوحيد الذي يتفق مع ثقافتنا وعقيدتنا".
__________________________
بغداد: من نجيب عبد الهادي، وأسعد حيدر، ولويس فارس
موسكو: من خليل المصري. واشنطن: من باسم المعلم
الرصاصة الأولى
التفاصيل الكاملة لمؤتمر معاقبة... السادات
التنازلات المتبادلة كانت الحل الوحيد لعدم تفجير الخلافات العربية
بين الحد الأدنى والحد الأقصى اختار العرب الحد الوسط..
فقاطعوا مصر ولم يقاطعوا... أميركا
المستقبل، العدد111، 7 نيسان – ابريل 1979
صباح الأحد أول نيسان (أبريل)، إثر عودته من بغداد. وجد عبد الحليم خدام نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية السوري على مكتبه في دمشق مجموعة من الصحف المصرية الصادرة صباح السبت.
واكتفى الوزير العائد من بغداد بالنظر، وسريعاً إلى العناوين الكبرى، وفهم المحتوى فوراً. فقد كانت العناوين تقول: مؤتمر بغداد على وشك الانهيار.
ولم تكن صحافة مصر هي الوحيدة التي راهنت على فشل المؤتمر. فصباح يوم الخميس (29/3/1979)، راهن عدد من الصحافيين الأجانب، في معظمهم من الأميركيين – على زجاجة نبيذ فرنسي – "بأن الوفاق العربي قد انتهى. وأن عرب تطبيق الحد الأقصى من العقوبات ضد النظام المصري، قد انفصلوا نهائياً عن عرب تطبيق الحد الأدنى (أو قرارات قمة بغداد حرفياً). وأن كل طرف سيبقى على موقفه، والمؤتمر سيفشل".
وعندما وصل الدكتور سعدون حمادي إلى القاعة ليدلي ببيانه الصحافي المعتاد وليرد على أسئلة الصحافيين لم يفاجأ هؤلاء بقول الوزير حمادي: "إن كل طرف قد أصر على موقفه وأن أعمال المؤتمر قد أرجئت 24 ساعة، لكي يتمكن وزراء الخارجية العرب من التشاور مباشرة مع حكوماتهم للتوصل إلى قرار نهائي وحاسم".
لكن نتيجة المخاض العسير الذي عرفه المؤتمر طوال خمسة أيام بدلاً من ثلاثة، خيبت آمال المراهنين على الفشل إلى حد ما. وإعادة صياغة "سيناريو" المؤتمر، توضح مدى الصعوبة التي واجهها المؤتمرات للتوصل إلى هذه النتيجة التي أنقذت الوفاق العربي، ومع أن جلسات المؤتمر كانت تتم في قاعة قصر "السلام"، وبعيداً عن الصحافيين الذين أودعوا في قاعة "الخلد" (يبعد عن القصر حوالي 3 كلم) إلا أن أصوات المؤتمرين كانت تصل "عالية" إليهم، أما عبر النص الرسمي لكلمة الوزير أو من خلال "ندوة صحافية" مع صحافيي بلد الوزير لتوزع مطبوعة ومباشرة على باقي الصحافيين.
عندما خرج عبد الحليم خدام من مكتبه في وزارة الخارجية بدمشق اكتفى برد موجز على كل ما قرأ وسمع فقد قال: إن نجاح مؤتمر وزراء الخارجية والاقتصاد العرب كان صفعة للمراهنين على الانشقاق.
ماذا حدث بين الساعة الخامسة من بعد ظهر الثلاثاء في 27/3/1979، وبين مساء السبت في 31/3/1979.
... وبعض التفاصيل:
في الخامسة من بعد ظهر الثلاثاء 27 – 3 – 1979 افتتح صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة المؤتمر رسمياً. وكانت آيات قد قرئت قبل ذلك وكان منها "إن الله لا يحب الخائنين"، و"أعدوا لهم ما استطعتم من قوة". ولخصت كلمة السيد صدام حسين، نقاط ورقات العمل التي قدمتها الوفود السورية والفلسطينية والعراقية. وقد اعتبر صدام حسين في خطابه: إن قرارات قمة بغداد هي "قرارات الحد الأدنى" ولذلك يجب الوقوف موقفاً أشد، وهذا الموقف يجب أن يشمل الولايات المتحدة، ولم يكن صدام حسين انتهى من كلمته حتى وضح الانقسام داخل المؤتمر. خصوصاً عندما قال: "لا مجال للوقوف على الحياد في هذه المرحلة".
وخلال توديع صدام حسين بعد أن انتهى من كلمته تبادل الأمير سعود الفيصل وعبد الحليم خدام نائب رئيس الوزراء السوري حواراً ضاحكاً، كان القصد منه تخفيف أجواء التوتر السائدة في القاعة. وسأل الأمير سعود الفيصل الوزير خدام عن "قلبه"، فأجابه: لقد عاينني طبيب إنكليزي في لندن، وقال لي، "قلبك مثل موتور "الرولز رويس" وستعيش 105 سنوات" واكتمل الحوار عندما دعا عبد الحليم خدام الناطق الرسمي باسم منظمة التحرير وعضو الوفد الفلسطيني عبد المحسن أبو ميرزا أن يقترح أن يكون المؤتمر برئاسة.. وقيادة "أبو عمار"، ورافق التوتر، خطاب أبو عمار، واضطر للاعتذار "بأن الميكروفون هو السبب". لكن انفعال أبو عمار كان واضحاً. خصوصاً عندما قال: "سنقاتل حتى آخر طفل فلسطيني".
ولم يطل الأمر، حتى انفجر التوتر، خلافاً علنياً في قصر "السلام". فمساء الأربعاء خرج أبو عمار ليقول بصوت عال وأمام الصحافيين (الذين استقدموا حسب التوقيت المقرر) "يا حكام العرب لا تكافئوا الخائن. يا حكام العرب لا تحولوا شعبنا إلى قتلة"... وكان قد سبق هذا الانفجار، مناقشات عاصفة أظهرت مدى التباين في وجهات النظر بين جبهتي المؤتمر. الأولى وتضم سوريا والعراق والجماهيرية الليبية ومنظمة التحرير. والثانية وتضم المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة. أما الباقون فقد التزموا الصمت انتظاراً لوقوع الإجماع العربي. وخصوصاً الوفد اللبناني الذي حاول الخروج سالماً بعد أن استبعد موضوع لبنان من جدول الأعمال. كما أن الجزائري حاول – إلى حد ما – أن يكتفي بالمراقبة بسبب ظروف الجزائر الجديدة.
وبعد أن لحق الوفدان السوري والليبي بالوفد الفلسطيني بدأت أسباب وتفاصيل الخلاف "تتضح"، أو على الأصح تتسرب خارج قاعات المؤتمر.
عقدة العقد – كما وصفت – كانت: كيفية مقاطعة مصر سياسياً وديبلوماسياً واقتصادياً.
كان رأي المملكة العربية السعودية (ومعهما مجموعة دول تؤيد رأيها) أن مؤتمر وزراء الخارجية والاقتصاد العرب غير مخول اتخاذ قرار بهذا الحجم وأن قرار قطع العلاقات السياسية والديبلوماسية مع مصر يجب أن يصدر عن القادة العرب وليس عن وزراء مهمتهم محدودة ومحصورة في تنفيذ وتطبيق قرارات مؤتمر القمة التاسع في بغداد.
وقال الأمير سعود الفيصل وزير خارجية العربية السعودية أمام المؤتمر "لقد جئنا إلى المؤتمر لتنفيذ قرار صادر عن قمة بغداد، وهو نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة وتعليق عضوية مصر في الجامعة وإيقاع عقوبات اقتصادية ضدها بسبب انفرادها بتوقيع معاهدة الصلح مع العدو، والعربية السعودية تؤيد هذه القرارات وتوافق على العقوبة الاقتصادية. أما موضوع المقاطعة الاقتصادية والسياسية فهذا أمر آخر يحتاج إلى قرار من سلطة اعلى لها الحق في اتخاذه".
وهنا بدأت مناقشات المؤتمر تأخذ طابعاً مختلفاً عما كان متوقعاً، وبرزت وجهات نظر تعارض طرح الأمير سعود الفيصل، وتطالب بإنزال أشد العقوبات بالحكومة المصرية، كما طالب الوفد الفلسطيني أن تشمل المقاطعة الولايات المتحدة الأميركية، وقدم مطالبه بورقة عمل رفعها إلى المؤتمر. إلا أن هذه المطالب لم تلق على ما يبدو أي تأييد من قبل الوفود العربية الأخرى، ولذلك جاءت القرارات الصادرة عن اجتماعات بغداد خالية حتى من مجرد الإشارة إلى دور الولايات المتحدة الأميركية والمطالبة بردع سياستها في المنطقة.
الورقة السورية – العراقية
ولعله من الضروري الإشارة إلى أن ورقة العمل الأولى الوحيدة التي قدمت قبل أن تتفجر الأزمة كانت الورقة السورية – العراقية التي لقيت موافقة كل الدول المشتركة في أعمال المؤتمر بما فيها العربية السعودية. إلا أن الوفد الفلسطيني تقدم بورقة عمل ثانية اعتبرت أكثر تطرفاً من الورقة السورية – العراقية.
وفجرت ورقة العمل الفلسطينية الأزمة وجعلت بعض الدول تتردد في موافقتها خاصة بعد أن أعلنت سوريا أنها تقف إلى جانب الوفد الفلسطيني وتبعتها الجماهيرية الليبية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
ومن خلال المناقشة اتضح للسيد ياسر عرفات الذي حضر ولأول مرة كل جلسات المؤتمر أن الأمور تسير على نحو يتعارض مع تطلعاته فألقى كلمة مرتجلة شملت عبارات تهديدية، ثم أعلن بعدها انسحابه مع الوفد الفلسطيني من قاعة المؤتمر. ورفض البقاء لسماع رد الأمير سعود الفيصل على كلمته، بالرغم من أن الأمير السعودي رجاه أن يؤجل انسحابه لحين سماع كلمته.
خرج أبو عمار ليقول للصحافيين المتواجدين في قصر السلام "انتهى وإلى الأبد الوقت الذي يكون فيه القرار لغير المقاتلين".
بعد ذلك تأزم الوضع، وظهرت مؤشرات عن احتمال فشل المؤتمر وانفضاضه دون الخروج بقرار يدين سياسة السادات ويعلن عن مقاطعته سياسياً واقتصادياً.
بعد انسحاب ياسر عرفات ووفد منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة فاروق القدومي، وقف وزير خارجية الجزائر ليقول: "إن اجتماعنا هذا سببه قضية فلسطين وهي القضية المركزية والأساسية لكل الحوارات الدائرة حالياً، ولهذا لا يجوز استمرار الاجتماعات بدون الفلسطينيين"، واقترح رفع الجلسة لحين تسوية الأمر.
ورفعت الجلسة وتعطلت أعمال المؤتمر وبدأت الاتصالات والمداولات الجانبية، ثم قرر وزراء خارجية العربية السعودية والدول الخليجية الأخرى الانتقال إلى عواصم بلدانهم لإطلاع المسؤولين فيها على الحد الذي وصلت إليه اجتماعات بغداد وللتزود بالتعليمات والتوجيهات.
وفي الكويت، وقبل العودة إلى بغداد، التقى الوزراء: الأمير سعود الفيصل، الشيخ صباح الأحمد، أحمد بن سيف آل ثاني، راشد عبد الله النعيمي، الشيخ محمد المبارك آل خليفة والأستاذ حسن إبراهيم، حيث اجتمعوا إلى الشيخ سعد العبد الله الصباح ولي العهد رئيس الوزراء وتم على ما يبدو ايجاد صيغة وافق عليها كل الوزراء الذين اجتمعوا قبل أن يتوجهوا مساء اليوم نفسه (الجمعة 30 آذار – مارس) إلى بغداد.
ومن الكويت اتصل الشيخ سعد العبد الله بالسيد صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي هاتفياً وأبلغه أن هناك استياء من الطريقة التي تتم بها المناقشات وأن الجو أصبح مليئاً بالمزايدات والتهديدات التي لا مبرر لها. وأن الحالة إذا استمرت على ما هي عليه فالنتائج ستكون سيئة، وسيخرج السادات حتماً المنتصر الوحيد وستعود الأضواء السياسية لتسلط عليه مجدداً بينما المطلوب هو عزله وعزل نظامه عقاباً لإقدامه على توقيع معاهدة الصلح.
واقترح ولي عهد الكويت على السيد صدام حسين أن يحرص العراق من جانبه على تجنب الحساسيات والابتعاد عن جو المزايدات والانفعالات التي لا تخدم القضية المصيرية التي نحن بصدد بحثها. وعلمت "المستقبل" أن السيد صدام حسين أبلغ ولي العهد الكويتي حرصه الشخصي وحرص بلاده على نجاح المؤتمر وخروجه بقرارات رادعة ومهمة، كما أطلعه على أنه يراقب سير أعمال المؤتمر ومداولاته الجانبية أولاً بأول وأنه سيعزز وفد العراق بالسيد طارق عزيز الذي لعب دوراً بارزاً في تهدئة الوضع وتجاوز العقبات التي اعترضت صدور القرارات. كما لعب الشيخ صباح الأحمد دوراً بارزاً وساهم في وضع صيغة لقرار المقاطعة السياسية وقد عرض نص القرار على مختلف وزراء الخارجية العرب وتحديداً وزراء خارجية العربية السعودية وسوريا والعراق والوفد الفلسطيني وبعض الدول الخليجية الأخرى خاصة تلك التي أبدت تحفظها في بداية الأمر.
وصدرت قرارات المقاطعة السياسية والاقتصادية وكانت تمثل الحد الأدنى، الأمر الذي جعل أبو عمار يبدي تحفظاً حولها، لأنها لم تتطرق لا من قريب ولا من بعيد إلى دور الولايات المتحدة التي لعبت دور العراب في توقيع معاهدة الصلح المصرية الإسرائيلية وأراد أبو عمار أن يلقي كلمة يبرر فيها أسباب تحفظه إلا أن رئيس المؤتمر الدكتور سعدون حمادي، فوت عليه الفرصة إذ بدأ بإلقاء كلمته الختامية أمام المؤتمر.
قيل في نتائج المؤتمر: إنه مؤتمر قرارات الحد الأدنى، والصحيح أنه مؤتمر الحل الوسط أو التنازلات المتبادلة، ففي مقابل قطع العلاقات السياسية والديبلوماسية والاقتصادية مع مصر، لم يصدر أي قرار يطالب بمعاقبة أميركا "المهندس الذي هندس المؤامرة" كما وصفها أبو عمار.
ومن مطالعة جديدة للمقررات يتبين مدى التنازلات التي قدمتها كل جبهة من الجبهات الثلاث، وهي الجبهات الممكن اختصار مواقفها بالآتي:
1 – الحد الأدنى الذي طالبت به العراق وسوريا والجزائر وليبيا واليمن الجنوبية وانضم إليها بعد ذلك الصومال وجيبوتي، يطالب بقطع جميع العلاقات الديبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع مصر ومعاملة الحكومة المصرية على قدم المساواة مع إسرائيل.
2 – الحد الأقصى الذي طلبته منظمة التحرير الفلسطينية، والذي يدعو إضافة إلى قطع العلاقات الديبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع مصر إلى مقاطعة أميركا سياسياً وديبلوماسياً و"استدعاء السفراء العرب من واشنطن والمقاطعة النقدية والتجارية وسحب الأرصدة من البنوك الأميركية ووقف التعامل مع شركات الطيران الأميركية وإغلاق الأجواء العربية، بوجه طائراتها وتأميم الشركات الأميركية".
3 – الحد الوسط الذي تمسكت به السعودية والكويت والبحرين وقطر والإمارات واليمن الشمالي.
وقالت هذه الدول أنها ملتزمة فقط بما نصت عليه المادة العاشرة من قرارات قمة بغداد والتي تقول بالحرف الواحد كما نشرتها صحيفة الثورة العراقية يوم الأربعاء: "يجتمع وزراء الخارجية والاقتصاد العرب فور توقيع المعاهدة لوضع الإجراءات التي من شأنها حماية مصالح الأمة العربية في مختلف المجالات بما في ذلك تطبيق قوانين المقاطعة على المؤسسات والأفراد المصريين الذين يتعاملون مع إسرائيل، مع تجنب الإضرار بمصالح الشعب المصري".
رأي السوفيات
أما عن ردة الفعل السوفياتية على المعاهدة على الدور الأميركي في تحقيقها، فبعد ترقب طويل نسبياً، قرر المسؤولون السوفيات الإجابة على عدد من التحركات التي شهدها الشرق الأوسط أثر توقيع المعاهدة المصرية – الإسرائيلية. ولم يأت الرد السوفياتي هذه المرة على لسان مسؤول في الكرملين، أو على لسان ناطق صحفي باسم القيادة المركزية.. بل جاء الرد السوفياتي عرضاً شاملاً بعد تساؤلات سوفياتية كثيرة. ولم يأت هذا العرض على لسان أحد المعلقين أو أحد الصحافيين السياسيين السوفيات... بل ورد في صحيفة البرافدا الرسمية بتوقيع الكسي ديتروف... وهو الاسم الرمزي – كما يعرف به الخبراء الأجانب هنا – للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي.
وقد تناول التعليق "السياسة الأميركية ورئيس البيت الأبيض بالاسم والبنتاغون والرئيس المصري وبيغن ودايان وحلفاء أميركا في أوروبا الغربية والأمم المتحدة وغيرها...". وقد ورد المقال تحت عنوان: "السلام على طريقة كامب دايفيد". ولعل أخطر ما جاء فيه هو التخلي عن الصيغ التقليدية في التحول من "التعريض المقنع" إلى التصدي بالاسم للذين شملتهم التعليقات السوفياتية دون تحفظ دون جزع من أية تبعات سياسية أو ديبلوماسية قد تترتب عليها، خصوصاً مع القاهرة التي طلبت استبعاد مساعد الملحق العسكري السوفياتي في القاهرة. ويكاد هذا التعليق يكون أول عرض رسمي للموقف السوفياتي بعد مؤتمر بغداد.
1 – في المقال إشارة واضحة إلى مجموعة من الملاحق السرية التي لم يكشف النقاب عنها والتي لا تزال ضمن معلومات الشيفرة لدى الأطراف الثلاثة.
2 – قصد المقال إثارة الخواطر الأميركية، ضد الإدارة الأميركية التي قررت – كما ورد في المقال – رصد 27 ملياراً من الدولارات ستقتطعها عن الشعب الأميركي لمصلحة المصريين والإسرائيليين للسنوات الثلاثة المقبلة، وهذا يعني أن المعاهدة المصرية – الإسرائيلية قد وقعت للدفاع عن مصالح البنتاغون فقط وبشكل معاد للشعوب العربية، وأن الرابح الوحيد ليس إلا إسرائيل.
3 – رفض المقال الصيغة الأميركية التي روجت أن الولايات المتحدة قد قامت بدور الموفق، فقد جاء في المقال أن "الإسرائيليين والأميركيين ليسوا من السذاجة للإقدام على مثل هذه الخطوة فالذين اتخذوها يدركون ابعادها. وهم يعرفون أن التوفيق بين المعتدي وضحايا العدوان حتى لو كان تحت إشراف الولايات المتحدة الأميركية لا يمكن أن يوفر الاستقرار في الشرق العربي".
4 – التنديد بالرئيس المصري للمرة الأولى منذ حصول الوقيعة بينه وبين القادة السوفيات منذ أربع سنوات، والقول بالحرف الواحد: "من الذي يستطيع أن يقول إلى أي مدى وإلى أية فترة يمكن للسادات أن يظل في السلطة... السادات الذي وقع معاهدة الصلح من خلف ظهر الشعب المصري؟" ويفسر المراقبون هذا التساؤل في أكبر جريدة في موسكو بأن الكرملين قد أطلق العنان لنفسه بالتخلي عن أية ثقة أو وساطات في المستقبل مع النظام المصري طالما أن الرئيس السادات على رأسه، وأن الكرملين أصبح أقرب إلى كل من يعمل لإزاحة النظام المصري الراهن.
5 – إن ما جرى ليس مجرد عمل سياسي لعلاقة الولايات المتحدة بمصر وإسرائيل، وإنما الأمر على عكس ذلك تماماً. ففي إحدى الفقرات ينطلق السوفيات من البعد السياسي إلى البعد الجغرافي بما ينطوي على الكثير من التحذير للولايات المتحدة الأميركية، إذ يقول المقال: "من الملاحظ أن منطقة الشرق الأوسط قريبة من الاتحاد السوفياتي على حدوده الجنوبية وأنها تبعد عن الولايات المتحدة الأميركية بما يقرب من العشرة آلاف كيلومتر". ولتأليب الرأي العام العالمي ضد المعاهدة يستند السوفيات إلى ما قاله الزعماء في بلاد أوروبا الغربية حول المعاهدة، بالإضافة إلى تصريحات السكرتير العام للأمم المتحدة الدكتور فالدهايم، ومنه ايضاً قول المقال من أن الشرق الأوسط ليس مهماً كأنظمة وشعوب بقدر أهميته كمركز للنفط.
6 – السعي للمزيد من توثيق العلاقات بين السوفيات والعرب النفطيين من أجل مواجهة كافة الاحتمالات. وقد ورد في المقال أن الولايات المتحدة على استعداد ليس فقط لدعم إسرائيل ولكن لطرح إمكانية تنطوي على التدخل العسكري في منطقة الشرق العربي.
وقد ترجمت وسائل الإعلام السوفياتية هذا النص بكافة اللغات التي تصدر بها ونشرته وكالات الأنباء السوفياتية.
الأميركيون: هبة ساخنة وهبة باردة
في واشنطن، تصدت صحيفة "واشنطن بوست" للدفاع عن "المعاهدة" وكيل الاتهامات للدول العربية في مقال افتتاحي بعنوان "بغداد رقم 2" في عددها الصادر يوم الأحد أول نيسان (أبريل) الحالي، وخلاصة ما جاء في الافتتاحية هي أن الوزراء العرب الذين اجتمعوا في بغداد "فشلوا في الإجماع على رفض معاهدة الصلح المصرية – الإسرائيلية وذهب كل في طريقه". وقسمت الافتتاحية هؤلاء إلى رافضين، اتخذوا موقفهم بسبب ضعف الأنظمة التي يمثلون والاختلاف في ما بينهم ولاعتمادهم على الاتحاد السوفياتي. أما منظمة التحرير الفلسطينية فقالت الافتتاحية أن ياسر عرفات لو كان مأجوراً لليمين الإسرائيلي لاتخذ المواقف التي اتخذها في بغداد. المملكة العربية السعودية اتهمتها الصحيفة بالانتقال من موقف الرفض إلى اللامبالاة إلى قبول معاهدة الصلح وبالتالي الخروج على الإجماع العربي. والأردن كذلك الأمر.
وانتهت الافتتاحية بوقاحة إلى "أنهم – أي العرب – بحاجة غلى بعض الوقت لهضم الثورة المصرية وهذا ما يجب أن تسمى"، للتفكير بطريقة يجعلونها تخدم مصالحهم.
الطبعة الثانية من "واشنطن بوست" أي العدد نفسه من أول نيسان (أبريل) أبدلت هذه الافتتاحية بافتتاحية أخرى عن موضوع محلي.
الاثنين، اليوم التالي، طالعتنا "الواشنطن بوست" بافتتاحية بعنوان: "بغداد.. الصباح الذي يلي"، جاء فيها "إن المقال الذي حذف من الطبعة الثانية لعدد الأحد لم يكن كذبة أول نيسان بل فشل كاتبه في أن يتنبأ بأن السعودية ستحكم قلبها بدل عقلها في مؤتمر بغداد وتتخذ هذا الموقف المعادي للغرب". وانتهت الافتتاحية إلى أن "معارضة العرب" لا تعطي أي سبب للولايات المتحدة ومصر وإسرائيل لتغيير الخط الذي سلكته هذه الدول.
"بيت القصيد" هنا ليس النيل من صحيفة "الواشنطن بوست" إنما إظهار تباين ردات الفعل الأميركية – العربية على توقيع اتفاقية الصلح المنفرد وإظهار شماتة "الواشنطن بوست".
ففي مقالها الأول هناك الشماتة و"النمردة" وفي مقالها رقم 2 هناك تصرف أشبه بتصرف الإنسان الذي يوجه اللوم إلى إنسان آخر عزم عليه متمنياً أن يستنير ويغير سبيله. ولو طبقنا هذا الكلام على الدوائر الرسمية الأميركية لوجدناه لسان حالها هي أيضاً.
فالدكتور بريجنسكي مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي قال بعد أن عاد من زيارة للرياض وعمان بأنه يستبعد أن تلتزم السعودية بمقررات مؤتمر بغداد. وقال أيضاً أن المعونات الاقتصادية السعودية لمصر لن تتوقف. وذهب جماعة البيت الأبيض، السبت الماضي، إلى أبعد من ذلك إذ قالوا إن السعودية بموقفها هذا ستدفع دول الخليج المنتجة للنفط إلى أن تحذو حذوها. ووصف الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية هادن كارتر مقررات بغداد بأنها سلبية وغير مجدية.
غير أن الذي حدث والإجماع الذي أسفر عنه الاجتماع خيب آمال الأميركيين.
توصيات أم قرارات
في الوقت الذي كان فيه مناحيم بيغن يصل إلى مطار القاهرة ليستعرض حرس الشرف ويستمع إلى النشيد الوطني الإسرائيلي "هاتكفا" تعزفه فرقة الجيش المصري، كانت مصر تعلن رفضها لقرارات مؤتمر بغداد وتعتبرها "توصيات" وليست قرارات ملزمة.
ويبقى السؤال الكبير: هل هي قرارات – كما أصر المؤتمرون – أم توصيات كما تؤكد مصر...؟
والإجابة على هذا السؤال تظل غامضة إلى أن يبدأ التطبيق العملي والحازم ضد نظام السادات. ومتى بدأت هذه الخطوات التنفيذية والتطبيقية يكون لكل حادث حديث...
ــــــ
تفاصيل الحل الأميركي الموضوع للشرق الأوسط
حل المشكلة الفلسطينية في لبنان والهيمنة على دول المنطقة كلها
مجلة الديار
بعد التطورات المذهلة لأحداث إيران، ووصول الثورة الشعبية فيها إلى ذروة مطالبها...
وعلى هامش جولة وزير الدفاع الأميركي على المنطقة وزيارة الأمير عبد الله بن عبد العزيز رئيس الحرس الوطني السعودي إلى دمشق.
وزيارة الرئيس اليمني الجنوبي عبد الفتاح إسماعيل إلى العراق.
وزيارة ملكة بريطانيا اليزابيت إلى دول الخليج وبعد جولة للرئيس اليوغوسلافي جوزف بروز تيتو حملته من الكويت إلى العراق، إلى سوريا، ثم إلى الأردن.
وعلى أبواب زيارة منتظرة للأمير فهد إلى الكويت ومنها إلى الولايات المتحدة الأميركية منتصف الشهر المقبل..
وبعد الاتفاق على استئناف المفاوضات المصرية – الإسرائيلية برعاية أميركية في واشنطن، وتحت رقابة الرئيس كارتر..
بعد كل هذه المؤشرات يبرز سؤال كبير: ماذا يريد الأميركيون في الشرق الأوسط، وماذا يهدفون من وراء الضغط لتحقيق تسوية بين العرب وإسرائيل، وماذا فعلوا حتى الآن ويفعلون، لجعل برامجهم الموضوعة للمنطقة موضع التطبيق العملي؟!
هنا دراسة موثقة عن "عقد على التسوية" وعن المسار الشرق أوسطي للقرار السياسي الأميركي، هي عبارة عن محاولة لاستشفاف النوايا الأميركية تجاه العرب، والموقف الأميركي تجاه قضاياهم الكبرى وفي طليعتها القضية الفلسطينية، وهي أيضاً دراسة تقدم لأول مرة عبر مجلة عربية.
لقد مضت حتى الآن إحدى عشرة سنة منذ أوعزت الولايات المتحدة الأميركية إلى المندوب البريطاني في مجلس الأمن الدولي، اللورد كارادون، لتقديم القرار رقم 242، الذي صدر يوم 16/11/1967. والذي اعتبر ولا يزال، الأساس الصالح لتحقيق "تسوية لمسألة الصراع العربي – الصهيوني، وشهد في فترات معينة محوراً تلتقي عنده قوى كثيرة متعارضة ومتناقضة. فما الذي حدث خلال هذا المدى الزمني؟ هل تبدل أساس "التسوية"؟ هل تبدلت القوى، وتبدلت مواقعها وموازينها؟ ما الذي استطاع كل فريق إنجازه خلال ذلك؟ وما الذي لم يستطع إنجازه؟ وبعد ذلك إلى أين يتجه قطاع "التسوية" الآن؟
لا بد من الاعتراف أولاً أن "السياسة الأميركية الشرق أوسطية" قد استطاعت على مدى العقد الماضي تحقيق عدد من الإنجازات، وصياغة مكاسب كثيرة لها، وإذا كان لا بد من الإشارة إلى مجموع هذه المكاسب الأميركية، فهناك ضرورة بنفس الوقت للتوقف عند المفاصل الرئيسية لهذه السياسة التي اتبعت:
• فعلى مستوى المواجهة المباشرة مع المنطقة العربية ومع رموز تطورها وتحررها فقد تمكنت السياسة الأميركية عبر دفعها لأدواتها لإشعال حربين أهليتين (الأردن ولبنان)، من قمع المراهنة الأساسية التي "قامت" عليها الثورة الفلسطينية، المتمثلة بفرص توجه مماثل للتوجه الفلسطيني في ساحات عربية مختلفة، ترفع شعارات مماثلة، وتفتح الباب واسعاً أمام حرب منتصرة ضد الوجود الامبريالي الصهيوني. ورغم أن مراهنة من هذا النوع لم تزل قائمة، وتعبر عن نفسها بشكل أو بآخر في ساحة لبنان، إلا أن الحصار الذي تمكنت واشنطن من فرضه على شمولية هذا التوجه، هو الذي استطاعت السياسة الأميركية إنجازه.
• وعلى مستوى المواجهة الأميركية مع الأنظمة العربية، فقد استطاعت هذه السياسة، خاصة عقب حرب تشرين 1973 من فرض الاعتراف المبدئي العربي بالتجمع الصهيوني في فلسطين، وذلك عبر فرض ثلاث اتفاقيات لفصل القوات مع إسرائيل على جبهتين عربيتين رئيسيتين، ومن خلال عدد كبير من التنازلت التي أصبحت أمراً واقعاً، بدءاً من السماح للشحنات الإسرئيلية بعبور قناة السويس، وقبول النظام المصري باستطلاعات أميركية جوية فوق منطقة فك الارتباط، وانتهاء بإعلان أنور السادات التزامه بإنهاء حالة الحرب ومروراً كذلك بالموافقة على محطات المراقبة الأميركية، وإنهاء المقاطعة، والعمل على جعل الأردن بديلاً ثابتاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم الاتفاق على عدم إلزامية مؤتمر جنيف كإطار ثابت للتسوية.
• وثالثاً استطاعت السياسة الأميركية على مدى السنوات العشر الماضية، وفي إطار صراعها مع الاتحاد السوفياتي، من تحقيق عدد من الخطوات الهامة على هذا المستوى، بعد أن تمكنت من إنهاء التحالف السوفياتي الاستراتيجي مع عدد من القوى الحاكمة في بعض الساحات العربية (مصر، السودان، الصومال)، وبالتالي إضعاف قدرة القرار السوفياتي على التأثير على مسار الصراع في المنطقة، مما يعكس نفسه على القوى المعادية لواشنطن وقدرتها على الوقوف في وجه الهجمة الأميركية الشاملة.
أما على مستوى القاعدة الصهيونية في فلسطين، فقد استطاعت السياسة الأميركية في الدائرة الخاصة لهذه القاعدة من أن تحقق لها رهانها التاريخي، وهو الاعتراف بها كدولة من قبل الأنظمة العربية الحاكمة، وأن تحفظ لها أمنها ووجودها لفترة من الزمن ترتبط باحتمالات احداث التغيير النوعي في ميزان القوى في المنطقة، وهي الاحتمالات التي سوف تبذل القاعدة الصهيونية كل جهدها من أجل تأجيلها أكبر مدة من الزمن.
والآن، كما هو جوهر هذه "الإنجازات" الأميركية في بلادنا؟ أي لماذا تمكنت الإدارة الأميركية من تحقيق كل هذه الانتصارات في مدى زمني بسيط بالمقارنة؟
هل صحيح أن المسألة – كما أشيع – بنبوغ وعبقرية إدارة كيسنجر – نيكسون التي استطاعت أن تلتقط مفاتيح المداخل إلى المنطقة؟ أم "بمرونة وتفتح المؤسسات الأميركية المختصة"؟ أم بقدرة نظام صناعة القرار الأميركي على التكيف مع الظروف الجديدة؟
لقد أصبح واضحاً الآن لجميع القوى والمتابعين لحركة الصراع في المنطقة، أن تغيراً موضوعياً رئيسياً قد ضرب بجذوره أعماق هذه المرحلة، هو وحده القادر على تفسير هذه الانتكاسات العميقة التي منيت بها حركة التحرر العربية على مدى العقد الماضي. "فالتحولات الجذرية التي طرأت على المنطقة، أنضجت الظروف ومهدت الطريق، وفتحت الأبواب على مصراعيها – بل وأقامت أقواس النصر – للمسيرة المظفرة للسياسة الأميركية". إن الضربة القاصمة التي وجهتها واشنطن وقاعدتها الصهيونية لحكم القوى المعادية لها بمحورها المصري وبقيادة الرئيس جمال عبد الناصر في حزيران 1967، كانت الباب الرئيسي الذي نفذت منه إلى عمق القرار السياسي العربي لتحوله تحولاً جذرياً ولتحدث انقلاباً عاماً في البنية الاجتماعية السياسية المسيطرة في مركز الثقل العربي (مصر)، كمقدمة لإحراز تغير شامل في ميزان القوى. من هنا فإذا كانت الانتصارات الأميركية لا تعود إلى عبقرية كيسنجر، فهي لا تعود فقط إلى "التحولات الجذرية التي طرأت على المنطقة"، إذ لا بد من رؤية دور كيسنجر والإدارة الأميركية في أحداث هذه التحولات ومسار حركة الصراعف في المنطقة منذ بداية الخمسينات حتى الآن تدلنا أن الولايات المتحدة لم تكن قابعة في انتظار حدوث مثل هذه التحولات، أو بانتظار القدر كي ينهي حياة جمال عبد الناصر ودوره. بل إن المعارك التي خاضتها لتحقق هذا الهدف بالذات، لا حصر لها تقريباً. وفي هذه المناسبة فإن التعبير الذي يقول أن "النظم المحلية قد استنفذت طاقاتها وقدراتها "الوطنية" ليحمل في الواقع الكثير من التعلق القدري والنظر إلى الواقع الراهن من منظور التحولات التاريخية فقط. إن نتيجة مثل هذه – كنتيجة تاريخية – لا تثير أي خلاف في الواقع، لكن الخلاف يقع حين يجري التعامل معها كحقيقة عملية راهنة، مما يطرح بالتالي، وعلى الفور، دور القوى البديلة. وطالما أن القوى البديلة وبرامجها العينية لم تزل هاجساً في الوجدان أو لم تزل مشروعاً. وطالما – أيضاً – أن نفس هذه القوى التي سقطت في مصر والمتسمة بذات الموقع الاجتماعي وذات الأداة العملية وذات البرنامج، لم تزل حتى هذه اللحظة تتشبث ببرنامج العداء للغرب، في ساحات أخرى والشواهد على ذلك كثيرة، إذن لماذا يجري تعميم مثل هذا القانون التاريخي وما الجدوى منه؟
والملاحظة الأخرى الجديرة بالتسجيل في هذا المجال، هي أن التحول الذي حدث في مصر وفي غيرها، لم يكن نتيجة استنفاذ طاقة طبقة معينة، بل كان انتصاراً حققته إحدى شرائع هذه الطبقة استناداً على تحالفها مع الغرب، ضد الشريعة الأخرى المعادية للامبريالية لنفس الطبقة. ولا بد أن نلاحظ أن الفرق بين هذين الاستنتاجين النظريين، هو فرق بالغ الأهمية، ويحمل خطورة معينة. إذ لا يجب أن نستبعد هنا احتمال تكرار مثل هذا الصراع ونتائجه في ساحات أخرى. تتسم بسمات مماثلة، بل لا بد أن ننتظر ذلك، وخصوصاً في ظل ميزان القوى الحالي، مما يستدعي من جهة توقع أخطار معينة وضربات يمكن أن يتلقاها عدد من الرهانات على صياغة البديل الثوري. ومما يستدعي من جهة أخرى تشديد التحالف مع الشرعية المتمسكة بعدائها الواضح للبرنامج الامبريالي، والبحث عن القواسم المشتركة العملية معها، لتثبيتها في مواقعها، ومنعها من اللحاق في برنامج الارتداد المصري.
إن المتتبع لمسار "التسوية" والصراع منذ هزيمة حزيران 1967، يلحظ قانوناً خاصاً ومتميزاً يخترق السنوات العشر الماضية جميعها. فحتى قبل وصول إدارة نيكسون – كيسنجر إلى السلطة في الولايات المتحدة، فإن القاعدة التي حكمت السياسة الأميركية في المنطقة منذ هذا التاريخ هي التي تنص على أن "إظهار القوة والإرادة في مجال ما، والمرونة في مجال آخر، ينبغي أن يعطي نتيجة في مجال ثالث". وبوصول كيسنجر إلى السلطة اعتبر أن مهمته تتلخص في كيفية تطبيق نتائج هذا القانون بعد أن أصبحت مقدماته أمراً واقعاً، حيث تم إظهار القوة القاصمة في حزيران 1967. فجاءت سياسة "الخطوة خطوة" تلبية في الواقع للحلقة الوسطى من القانون. أما القاعدة التي تقوم عليها هذه المرونة الأميركية، فهي في العمل المتتابع على تهيئة مجموع العوامل والعناصر، أي ترتيب أوضاع المنطقة، وخاصة في حلقاتها الرئيسية، وذلك كمقدمة لتقبل نتيجة هذا القانون. لكن كيف تمت ترجمة هذا القانون بمقدماته ونتائجه إلى الواقع العملي؟ يقول ادوارد شيهان: أن أحد مقومات سياسة كيسنجر في المنطقة هي "الترويج للتكنولوجيا الأميركية، ليكون ذلك واسطة لزيادة النفوذ الأميركي في الأمم (!؟) العربية جمعاء" وأن جوهر سياسته تسير على مستويين، أولهما حصر الصدام العربي – الإسرائيلي ثم "الترويج للتكنولوجيا الأميركية التي يتشوق إليها جميع العرب، بمن فيهم الراديكاليون".
"ومن ناحية المصريين فإن السياسة الأميركية والموازية، هي بذلك المساندة الديبلوماسية والمال الأميركي، وتشجيع الاستثمار الأميركي في مصر، وتشجيع الأثرياء العرب على إنقاذ الاقتصاد المصري وتشجيع الأوروبيين الغربيين على بيع الأسلحة إلى السادات.. لسد الطريق على الاتحاد السوفياتي.. إلخ".
من هنا فإن السياسة الأميركية قد قامت طوال هذه المرحلة على ثلاث ركائز أساسية:
1 – إحداث تغييرات جذرية في ميزان القوى في المنطقة لصالحها، وربط مصالح الأنظمة بالمصالح الأميركية ربطاً شاملاً (اقتصادياً وسياسياً.. إلخ).
2 – فتح السوق العربي أمام "التكنولوجيا الأميركية"، والتحكم بمصادر الثروة.
3 – إلغاء الحضور السوفياتي في المنطقة.
ولا يتوانى كيسنجر أن يعلن للصحافيين المرافقين له في إحدى رحلاته إلى المنطقة: "إننا نحاول أن نحقق تسوية في الشرق الأوسط.
إننا نحاول أن نطرد الوجود العسكري السوفياتي".
إذن، ليست المسألة أن كيسنجر لم يكن جاداً في إيجاد تسوية لمسألة الصراع في المنطقة أو القول أن تسوية تحفظ ؟ الأدنى لجميع أطراف الصراع هي مستمرة في ميزان القوى الحالي. وكذلك ليست المسألة أن كيسنجر والسياسة الأميركية تستطيع أن تخترق جميع الحواجز الموضوعية الثابتة، وتعمل على تنفيذ تصورها لمستقبل المنطقة حتى لو كان متعارضاً ومتناقضاً مع الحد الأدنى للاستتباب الثابت للأوضاع في المنطقة.
لقد غرقنا طوال عشر سنوات كاملة في نقاش مرير بين هذين المفهومين، لكن يتبين في النهاية أن السياسة الأميركية كانت تعمل طوال هذه الفترة لخلق الأسس الراسخة والمتينة "للتسوية". كان شاغلها هو في كيفية إلغاء جميع العقبات أمام هذه "التسوية". هو في كيفية تطبيق برنامجها بحذافيره، أي فرض هيمنتها الكاملة والشاملة على المنطقة العربية بسوقها وبثرواتها ومواصلاتها، وتكون بذلك قد أنجزت "التسوية".
أما السؤال فيما إذا كانت واشنطن تهدف بالحواجز الموضوعية، وبعدم القفز عن الحد الأدنى الممكن، فهذا خارج الموضوع تماماً، لأنه ليس صحيحاً بالأساس بأن أميركا تبحث عن حلول لها صفة الدولة فهذه أصلاً خارج قدرتها. ولهذه الامبريالية قضاياها الداخلية الخاصة ومشاكلها وأزماتها، فهاجسها إذن هو في كيفية توقع الحلول المؤقتة لتلك الأزمات الخاصة القائمة. هذا هو المحور الذي تقوم عليه سياستها في أي منطقة من العالم، وليس هناك أي مبرر لاستثناء منطقتنا وبلادنا من هذا العالم، إن ما يهمها هو كيفية التوجه لإلغاء وشطب أي شيء من أجل النفاذ إلى حل ما لأزمتها. هذا هو بالضبط جوهر ما غرقت به المنطقة منذ صدور قرار 242 حتى الآن.
أما فيما يتعلق بصوابية أو خطأ طروحات القوى الوطنية والديمقراطية العربية هو مسألة "التسوية"، فقد كان هناك خطر شائع وروج له كثيراً في الموقف من هذه الطروحات. أن القوى التي طرحت تصورها لمستقبل المنطقة، والقائم على بندين رئيسيين: انسحاب العدو الصهيوني من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة. إن هذه القوى كانت تطرح بذلك برنامجها لمواجهة الهجمة الأميركية على المنطقة. أما السؤال كان مثل هذا البرنامج ممكن أو مستحيل التحقق، فهذا خارج الموضوع فعلاً.
هذه القوى حين كانت تطرح هذا التصور كانت تقود المعركة على أكثر من صعيد ومستوى ضد القوى الامبريالية وأدواتها. فإلى جانب قيادتها للمعركة، كانت تطرح تصورها السياسي – الاجتماعي. أما، هل كان هذا التصور جذرياً أم غير جذري، فهذه تتعلق في الواقع بالطبيعة الاجتماعية والطبقية لهذه القوى، وبطبيعة برنامجها وحدوده المعلنة. وقد أثبت هذا البرنامج بالفعل أنه كان قادراً على التصدي، بل هو الوحيد في المنطقة الذي كان وما يزال يتصدى للبرنامج الأميركي رغم الهزائم المتتالية، إذ هذه هي حدوده. من هنا كان هذا الطرح الذي قال باستحالة تحقق البرنامج الوطني، ومسألة تحققه أم عدم تحققه تبقى مسألة أخرى ماماً، ودليل ذلك أن هذا الطرح نفسه كان يشارك وما يزال في الدفاع عن هذا البرنامج، والعمل على صد الهجمة الأميركية من خلاله.
والآن، هل هناك جدوى في استمرار هذا البرنامج والرهان عليه؟ أم أن "الرد المطلوب هو إقامة خط دفاعي قوي، عسكري وسياسي في كل المواقع التي نتوقع أن يهاجم فيها التحالف المعادي: في ليبيا والجزائر، وعند بوغاز باب المندب، وفي الخليج العربي.. وفوق كل شيء في الجبهة الشمالية: جنوب لبنان، ولبنان، والجولان حيث على هذه الجبهة ستكون المعركة الحاسمة والفاصلة". والسؤال هو: لماذا هذا الاهتمام الشديد دائماً لدينا في البحث عن التعارضات والتناقضات في الدائرة الواحدة؟ لماذا هذا الإصرار الغريب على إقامة السدود في الجبهة الواحدة. ثم الإصرار على القفز بين المواقف بمجرد تحقق أي انتصار للقوى المضادة؟! ولا بد من التكرار هنا أيضاً أن هذا هو أفق وحدود البرنامج الوطني، وإن أي استعدادات جديدة أو تهيئة جديدة لمعركة فاصلة لا بد وأن تتم في إطار هذا البرنامج، ولن تكون متعارضة أو متناقضة على الإطلاق مع المسار الطويل لهذا البرنامج منذ أن طرح عشية حرب تشرين 1973. أما البرنامج الآخر، والبرنامج البديل، فلا بد أن نلاحظ أنه من مهمات القوى الأخرى والبديلة.
صناعة القرار الأميركي
لم يعد هناك خلاف كثير الآن بين أطراف الساحة العربية على كون البرنامج الأميركي، لم ولن يستهدف أكثر من فرض الهيمنة الشاملة على المنطقة العربية، ولم يعد هناك خلاف كثير كذلك حول نتائج هذا القانون وتبعاته وأشكال مواجهته. والأمر الذي يهمنا الآن هو في الدخول إلى مكونات القرار السياسي الأميركي، والعناصر الرئيسية التي يستند عليها في توجهه.
1 – التحالف الأميركي – الصهيوني
كان الكيان الصهيوني ومستقبله وصيانة دوره هو العنصر الرئيسي الثابت في جذر القرار الأميركي بصورة دائمة. يقول وليم كوانت، مستشار الرئيس الأميركي كارتر لشؤون الشرق الأوسط: "أما أمن إسرائيل فكان يعتبر مسلمة والتزاماً أساسياً من التزامات السياسة الخارجية الأميركية (...) ولا ريب في أن الولايات المتحدة فعلت بعد 1967 ما لم يفعله أي بلد في العالم من أجل الوفاء بهذا الالتزام" أما عن الطبيعة العملية لهذا الالتزام فيقول كوانت "إن "للناجين من الإبادة، عنينا البقية الباقية من الشعب اليهودي، الحق في إقامة دولة داخل وطنهم التاريخي. ولعل سوء الحظ (؟!) شاء أن يتضارب الحق اليهودي مع حق الفلسطينيين العرب، غير أن إيجاد ملاذ لليهود كان، ببساطة وفي ضوء التاريخ القريب، أكثر الزاماً من إقامة دولة عربية فلسطينية". ثم يضيف كوانت إلى هذا الالتزام "المعنوي" الأميركي تجاه إسرائيل التزاماً يتعلق بالطبيعة السياسية لكلا النظامين الأميركي والإسرائيلي. "فإن إسرائيل كانت ديمقراطية تتقاسم بعضاً من القيم مع الولايات المتحدة" لذلك "فإن سلامة إسرائيل وازدهارها كانا بالضبط من مصلحة الولايات المتحدة". فكيف تتحقق هذه المصلحة الأميركية على الصعيد العملي الملموس، إذ "من الواضح أن الولايات المتحدة لن تنفق مليارات الدولارات على المعونات العسكرية والاقتصادية، قانعة بإرهاق نفسها من أجل الشعور بالالتزام المعنوي أو بسبب ضغوط اثنين بالمئة من سكانها (يعني اليهود الأميركيين). فلا بد من أن يكون ثمة أمر أكثر محسوسية وملموسية من ذلك في هذا الرهان ولا بد أن تكون إسرائيل شيئاً استراتيجياً ثميناً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وأن يكون في وسعها وفي قدرتها مراجحة النفوذ السوفياتي في المنطقة. وفقاً لهذا المفهوم فإن إسرائيل هي الحليف الوحيد الذي يعول عليه في المنطقة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وفي النهاية فإن إسرائيل تستطيع استخدام قوتها من أجل الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة، وربما قدمت قواعد من أجل العمليات العسكرية الأميركية. وفي ظروف أقل سوءاً فإن إسرائيل كانت بمثابة قلعة معادية للسوفيات لها قيمتها داخل بحر من الدول العربية الراديكالية، فإذا ما أخلي بين السلاح السوفياتي وبين القعقعة ضد إسرائيل، فإن مهابة الولايات المتحدة ونفوذها سيتأثران بذلك وإذا ما لقيت إسرائيل الهزيمة على يد العرب، فإن تعهدات أميركا في العالم ستصبح موضع شك، وهكذا فإن معونة الولايات المتحدة لإسرائيل يمكن أن تتبرر بمصطلحات وحدود المصلحة الذاتية. ومما يدهش بعض الإدهاش أن كثيرين من "الإسرائيليين يفضلون هذه الرؤية للتعهد الأميركي تجاه إسرائيل على الحجة الأخلاقية".
إذن فالعنصر الرئيسي الأول المكون للقرار السياسي الأميركي يرتكز بشكل واضح كما يعبر عنه كوانت أفضل تعبير على الدور البالغ الأهمية والإستراتيجي الذي تؤديه القاعدة الصهيونية في فلسطين. إن تعبيراً من هذا النوع يلغي ويشطب بالكامل كل تعبير آخر عن إمكانية التعايش العربي مع هذه القاعدة الصهيونية، إلا في حالة واحدة فقط، هي أن تنتشر ثل هذه القاعدة في المنطقة، ويصبح لنظام السادات أو غيره دوراً مماثلاً يؤديه على صعيد تحقيق المصلحة الذاتية الأميركية أولاً وقبل أي شيء آخر، ما يفتح الباب بالتالي أمام حلف شامل يحزم المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط كلها، ويلغي كل تعارض راهن.
إن نظرة إلى مسار الصراع في المنطقة توضح، أن شواهد كثيرة قد بدأت تتوفر، وخصوصاً في الأشهر الأخيرة، على اقتراب هذا الطموح العام للقرار الأميركي من التحقق. إن الذي اكتشفه أنور السادات، سواء بنفسه أو عبر التوجيهات الأميركية، إن طريقاً "للتسوية" غير هذا الطريق هو مستحيل التحقق طالما أنه قد تحالف منذ البداية مع السياسة الأميركية، وربط نفسه بها. فكانت زيارته إلى فلسطين المحتلة هي الخطوة الأولى على طريق التحقق العملي لهذا الطموح الأميركي.
2 – النفط العربي
يقول وليم كوانت في كتابه السابق أن "الأمر الذي أدى بالولايات المتحدة إلى الشعور بالقلق حيال تطورات نفط الشرق الأوسط، إنما هو حظر العرب لتصير النفط إلى الولايات المتحدة في تشرين الأول – اكتوبر – 1973، وزيادة سعر النفط أربعة أضعاف في لك السنة" ويناقش كوانت مسألة الصلة بين النفط والصراع العربي – الصهيوني، و"الأمن القومي الأميركي"، ويراجع موقفاً سابقاً له قال فيه أنه يجب خفض أسعار النفط، ويجب على مستهلكي النفط أن يتحدوا لإضعاف قوة الأوبيك، وإن حظر النفط يجب أن يلغى. ويقول أنه "في منتصف السبعينات لم يكن في وسع أحد أن يدعي أن اهتمام الأميركيين بتطورات نفط الشرق الأوسط لم يكن مهماًُ"، ويقول، بالنسبة إلى الولايات المتحدة "فإنه كان ينظر إلى المصلحة النفطية كمصلحة ذات بعدين فأولاً لا يجب أن يتعرض تدفق نفط الشرق الأوسط إلى أوروبا واليابان للحظر، ولهذا فإنه ينبغي أن ينظر إلى سيطرة السوفيات على العربية السعودية وإيران أو ليبيا كتهديد جدي. وفوق ذلك فإن من شأن أي نزاع محلي يمكن أن يوقف تدفق النفط، أن يبدو كخطر بالنسبة إلى التحالف الغربي. وكان هذا سبباً إضافياً لمحاولة الحؤول دون انفجار الأعمال العدائية الموضعية. أما المصلحة الأميركية الثانية الملموسة في نفط الشرق الأوسط فهي مصلحة محض تجارية. فشركات النفط الأميركية كانت تربح في أواخر الستينات وترسل إلى أميركا سنوياً نحو ملياري دولار من عملياتها الشرق أوسطية. وكان ذلك يفيد الاقتصاد الأميركي، كما يفيد ميزان المدفوعات. ويضيف كوانت مشيراً إلى العناصر الأخرى المكونة للقرار السياسي الأميركي. "إن المقاربة الاستراتيجية، ومقاربة المصلحة القومية، من أجل فهم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط تأخذان بعين الاعتبار كلتاهما بعضاً من التطورات العريضة. فواقعة ضلوع الولايات المتحدة في شؤون الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية، أمر يعيده كوانت إلى ما يطلق عليه "المنافسة الأميركية – السوفياتية" ثم للتعهد حيال إسرائيل، وللنفط. وهو لا ينتظر من القرار الأميركي خلق سياسة واحدة تصل بهذه المجموعات الثلاث من المصالح إلى أقصى تحققها، لكنه يشدد على ضرورة جدولة المصالح القومية الأميركية، ويقول أنه "ينبغي للتطورات المتعلقة بالنفوذ السوفياتي وإسرائيل والنفط أن تكون موضع متابعة ومراقبة أكثر دقة من بقية القضايا".
3 – الطبيعة الامبريالية للقرار الأميركي
يحمل وليم كوانت على من يرجعون القرار الأميركي إلى عمل ما يسميها بـ "جماعات المصالح" أو "اللوبي" أو "الجماعات الضاغطة"، ورغم أنه لا ينكر تأثيرات هذه الجماعات على القرار السياسي الأميركي، إذا كانت مثل هذه التأثيرات تصب في النهاية في الصالح الأميركي العام، لكنه ينفي عن هذه الجماعات (اللوبي الإسرائيلي) قدرتها على التقرير، وفرض الاتجاه على القرار. ويقول إنه "غالباً ما يجري تصوير فئات ذات المصالح كقوى مشؤومة بالنسبة إلى صنع السياسة في الشرق الأوسط. فجماعتا النفط والصهيونية ضاغطتان مشهورتان بكونهما مدافعتين شديدتين عن رؤيتهما المختلفتين"، لكن مثل هذه الجماعات، كما يرى كوانت، تعاني من عدد من العوائق في محاولتها التأثير على السياسة الخارجية، ليس أقلها "أن هؤلاء ضعيفون ومهيضون إزاء الضغوطات المضادة، خصوصاً ضغوطات البيروقراطية الفيدرالية القوية" ويضيف: "إن دراسة دقيقة لجماعات المصالح والسياسة الخارجية قد أفضت إلى أن قوام التأثير الواضح الخالص لنشاطات هذه الجماعات، هو زيادة بروز القضايا. وهي حين تبرز القضايا، فإنها قد تستثير رداً من جانب الكونغرس أو من جانب الرئيس، إلا أن هذا الجواب (جواب الكونغرس أو الرئيس) ينال من الانتقادات المسبقة بأكثر مما ينال من أفضليات وأولويات جماعات المصالح". إذن، إلى ماذا يعود القرار الأميركي؟ يجيب كوانت عن هذا السؤال باختصار: "إن أصول السياسة الخارجية الأميركية وجذورها، تضرب في أعماق طبيعة النظام السياسي". هذه الطبيعة "التي تقدم (...) السياق المباشر للقرارات وتعين بعضاً من قواعد اللعبة، وتحدد، إلى درجة بعيدة، من سيكون مسؤولاً عن التقرير".
مسارات القرار الأميركي
ليس هناك شك أن إدارة كارتر – بريزنسكي – فانس، قد حثت الخطى منذ تسلمها السلطة للوصول إلى "التسوية" مستندة بذلك على تراكم كبير من "الإنجازات" التي حققتها الإدارة السابقة، حيث اعتبرت الإدارة الجديدة أن الفريق الذي سبقها قد أرسى القواعد الأساسية التي على ضوئها يمكن للتسوية أن تنشأ، وهذه القواعد هي: 1 – ربط مركز الثقل العربي (مصر) اقتصادياً وسياسياً بالمصالح الأميركية في المنطقة. 2 – توجيه ضربة قوية إلى الثورة الفلسطينية، 3 – إبراز القوى المرتبطة كنقطة استقطاب رئيسية في المنطقة، 4 – إعادة الحضور لقوى آخرى عبر دفعها لشبكة علاقات مع قوى أخرى متعارضة معها من حيث الجوهر. 5 – ربط بعض الأنظمة بمعاهدات تحاصرها وتعزلها في إطارها القطري الضيق 6 – تقليص الوجود السوفياتي في المنطقة.
إن هذا كله جعل من بريزنسكي يقول إنه "قد تم تنظيف الجو من كثير من البلبلة" واعتماداً على ذلك فقد اعتبرت الإدارة الجديدة أن الوقت قد حان للتوصل إلى "تسوية شاملة". والمتتبع للتصريحات والبيانات الأميركية طوال السنة الماضية يجد أن هذه العبارة قد شكلت القاسم المشترك لكل تحرك ومسار القرار الأميركي. لقد كانت هذه "التسوية" هي القاعة التي ارتكزت عليها جميع الأطر النظرية التي صاغها خبراء السياسة الأميركية كدليل لاتخاذ القرار، بدءاً بتقرير جنة دراسات مؤسسة بروكينغز الذي صدر في كانون الأول 1975، وانتهاء بتقرير معهد "سفن سبرينغز" الذي صدر في كانون الأول 1976، وإذا كان التقرير الأول الذي صدر قبل وصول الإدارة الجديدة إلى السلطة قد حدد الخطوط العريضة "للتسوية" القائمة على:
• المزج بين الخطوات الجزئية والتسوية الشاملة، على أن تصب الأولى في إطار الأخيرة.
• تحديد صيغة عملية ملموسة لمراحل التسوية التي قد تمتد إلى سنوات طويلة.
• العمل على قاعدة حفظ سلامة كل الأطراف المنسجمة مع السياسة الأميركية، والبدء بإقامة شبكة من العلاقات الواسعة بينها.
• تنفيذ ذلك في إطار الهيمنة الأميركية "لأن الولايات المتحدة تبقى هي القوة الأعظم المؤهلة أكثر من غيرها للعمل بنشاط (...) للتوصل إلى تسوية" إذا كان هذا التقدير قد تجاوزته مسارات القرار الأميركي بعد أن حدد الخطوط العريضة، وانتقلت الإدارة إلى الواقع العملي لتطبيق توصياته، فإن التقرير الأخير "سفن سبرينغز" قد جاء ليرشد القرار الأميركي إلى الخطوات العملية الواجب اتباعها، ثم لتطوير مفهوم شامل لما يمكن أن تكون عليه التسوية السلمية" ذلك لاعتبار التقرير أنه "لن يكون هناك سوى تحرك بسيط نحو طاولة المفاوضات في المستقبل القريب إلا إذا لعبت الولايات المتحدة دوراً مساعداً رئيسياً".
قضايا التسوية بالمفهوم الأميركي
اعتبر التقرير أولاً أن هناك أربعة قضايا أساسية لا بد من تركيز الجهد على أساسها، كمقدمة لوضع الخطة العملية لمسار "التسوية". وهذه القضايا هي:
1 – التقاريب أو "التحالف العربي" الذي ظهر في مؤتمرات القمة في كل من الرياض والقاهرة.
2 – انعكاسات الحرب الأهلية اللبنانية على منظمة التحرير الفلسطينية.
3 – الآثار التي قد تتركها "اضطرابات" الضفة الغربية والانتخابا النيابية على موقف إسرائيل التفاوضي.
4 – "قوة الاتحاد السوفياتي في المنطقة الآخذة في التراجع".
وقد اعتبر التقرير أنه كان لسلسلة من التطورات التي حدثت خلال العام 1975 آثاراً مفيدة على مسار وتوزيع مراكز القوى داخل العالم العربي. ولعل الأمر الأكثر أهمية "التردي الواضح الذي أصاب منظمة التحرير الفلسطينية كقوة سياسية وعسكرية في المنطقة"، ثم يلاحظ التقرير على بعض "الصقور" العرب الذين قد يتبين أن بعضهم مرن في مواقفه. ومع مراعاة بعض المتغيرات في الظروف، فالتقرير يرى أن عناصر الصراع الحالية تنطوي على ما يلي:
• وضع محلي غير مستقر داخل البلاد التي يجري الصراع على أرضها.
• وجود دولة مجاورة تطمح بوضوح إلى أن يكون لها دور مسيطر في منطقة الهلال الخصيب.
• محاولة مصرية لمنع تحقيق مثل هذه السيطرة.
إن هذا الميزان السياسي والعسكري في الوطن العربي قد أوحى لصانعي القرار السياسي في الولايات المتحدة بثلاث توصيات سياسية هي:
أولاً: ليس بالضرورة أن ترى الولايات المتحدة وإسرائيل في تضامن دول المواجهة خطراً يهددها، بل "كإحدى فرص الديبلوماسية البناءة".
ثانياً: أن التحالف العربي يمثل فرصة لقيام مفاوضات مجدية وإحراز تقدم بارز حول كافة القضايا الرئيسية التي ينبغي أن لا تهدد بالمفاوضات الثنائية.
ثالثاً: على الرغم من ضعف منظمة التحرير الفلسطينية فلا زال امامها دور هام تلعبه.
منظمة التحرير الفلسطينية
بعد أن أشار التقرير إلى "التردي الذي أصاب منظمة التحرير الفلسطينية كقوة سياسية وعسكرية" وبعد أن اطمأن إلى "الحلف العربي الجديد" الذي سيكون القناة الرئيسية للوصول إلى "التسوية"، توصل إلى أنه سيكون بمقدور "الحلف" أن "يسلم الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى جنيف" ليس هذا فحسب، بل إن واضعي التقرير – وبعضهم في موقع صنع القرار – ينتظرون من دول الحلف أن تطالب الولايات المتحدة "بتسليمها" إسرائيل كما "سلمت" هي منظمة التحرير الفلسطينية. أي أن "رغبة الولايات المتحدة لممارسة ضغط على إسرائيل لتدخل في عملية مفاوضات تقديم تنازلات كبيرة ينظر إليها التحالف على أنها الثمن الذي يجب أن يدفع مقابل المخاطر التي تقع على عاتق هذا الحلف" ثم يكشف التقرير "أن الأحداث في لبنان قد دفعت إلى الاعتقاد بأن أفضل حل للمشكلة الفلسطينية ربما يكمن في ترك الأمور على ما هي عليه" وأضاف: "لقد أنعشت الحرب اللبنانية الآمال بأن منظمة التحرير الفلسطينية ستواجه إحدى مصيرين: "إما أن تدمر نفسها، وإما أن تدمر في مكان ما أثناء عملية الاقتتال بين العرب". هكذا فإن مهمة "تدمير" منظمة التحرير الفلسطينية هي إحدى الأسس الرئيسية في مسار "التسوية". خلال ذلك، يتم توظيف دورها "الهام" في عملية تهيئة المناخ العام "للتسوية".
العلاقات العربية – الإسرائيلية
يرى التقرير، أولاً أن مجرد إعلان الدول العربية بأنها مستعدة للاعتراف بوجود إسرائيل مقابل تنازلات إسرائيلية كبيرة أمر غير كاف، إذ أن الهدف هو "قيام علاقات طبيعية تماماً بين الدول العربية وإسرائيل لإنهاء أعمال العنف والتهديد" ثم يتساءل على لسان إسرائيل "كيف يتطلب من إسرائيل أن تقدم أشياء ملموسة تتعلق بالأرض مقابل وعود عربية غير ملموسة، وأمكن النكوث بها؟" ثم يتساءل، وعلى لسان إسرائيل أيضاً "حتى لو افترض بأن الزعماء العرب الحاليين مستعدون فعلاً لتحقيق السلام، فما الذي سيضمن بأن زعماء آخرين قد يأتون إلى الحكم ولا يتبنون نفس السياسة؟" إذن فلا بد من وضع أسس ثابتة وراسخة تقوم على إحداث تغييرات شاملة في بنية القوى وبنية الصراع نفسه "فإذا كان ذلك النقض أو التنكر سيحدد بعد إتمام عملية الانسحاب الإسرائيلي، فسيكون هناك سلسلة من العمليات المتواصلة ( تحالفات جديدة، ومواثيق اقتصادية، ومؤسسات دفاعية متقلصة القدرة) والتي قد يكون أمامها قرصة للنمو. وكنتيجة لذلك فإن أية دولة عربية ستسعى إلى التراجع عن موقفها سيتم عزلها وتدبر أمرها". أي أن الذي سوف ينجز، باختصار، هو تشكيل بنية تحتية شاملة للمنطقة تستمر على مدى معين من الزمن، تكون "التسوية" إحدى نتائجها العملية.
الوجود السوفياتي
يعتقد المشاركون في الندوة التي صاغت "تقرير سفن سبرينغز "أن قوة الاتحاد السوفياتي في المنطقة آخذة في التراجع" اذاً فهم لا يرون له أي دور في "التسوية" أكثر من المشاركة الشكلية "لحفظ ماء الوجه" كي لا يكون في مقدوره تقويضها فقط. وهم يرون أن مستقبل العلاقات العربية – السوفياتية غير واضح بعد الآن، لذلك "فليس من المتوقع أن يلعب السوفيات دوراً رئيسياً إلا إذا ظهرت مجموعة من الظروف السياسية الجديدة غير المتوقعة" ومع ذلك فإن التقرير يرى أنه "من الصعب توقع قيام أي نوع من عمليات التوسط لإيجاد تسوية لا يكون الاتحاد السوفياتي طرفاً فيها. ومن ناحية أخرى، فإنه من الصعب كذلك، وبنفس الدرجة، تصور مشاركة سوفياتية فعالة بموجب القواعد الأساسية التي يبدو أنها تبرز الآن، ومنها بالتحديد أن مشاركة الأطراف الخارجية تتوقف على مدى قبولها لدى الأطراف المعنية بالنسبة للنزاع".
يضيف التقرير حول الدور السوفياتي في هذه الحالة "أن بالإمكان إحضار الاتحاد السوفياتي بسهولة إلى طاولة المفاوضات تشارك أقل مرتبة في الإطار الراهن، وهذا يعود إلى دوره الرسمي كدولة مشاركة رئاسة مؤتمر جنيف. فإذا تبين أن الروس غير متعاونين، فمن المحتمل أن تجري "معظم المفاوضات بصورة غير رسمية، وبذلك يجزي الحد من أثر المشاركة السوفياتية وفي مثل هذه الحالة، تكون جنيف بمثابة اجتماع للتصديق على الاتفاقيات التي تم وضعها سراً، وليس كميدان لإجراء مفاوضات رسمية موسعة" هكذا، يكون الاتحاد السوفياتي، وبكل ثقله العالمي، من منظور القرار السياسي الأميركي، ليس أكثر من أداة يتم توظيفها لتنفيذ القرار الأميركي، وفي حال رفضه أن يكون هذه الأداة فليس هناك اكثر سهولة على الإدارة الأميركية من عزله والاستغناء عن خدماته كي تنفرد هي ؟ بالقرار!!!
ولكن "عباقرة" السياسة الأميركية، وعلى رأسهم بريزنسكي والفريد أثرتون يحذرون من احتمال ازدياد النفوذ السوفياتي وإذا لم يتم تحرك باتجاه التوصل إلى تسوية في المستقبل القريب" وهم يعتبرون أن إحياء أي دور جديد للاتحاد السوفياتي في المنطقة سيثير المخاطر الكامنة ويرفع من درجة تكاليف جولة أخرى من القتال".
الخطة
يعتقد المشاركون في الندوة أن المشكلة كانت غير قابلة للحل حتى الآن لأن الأطراف نفسها على خلاف جوهري حول معظم النقاط الرئيسية المسببة للخلاف، لذلك يتوجب أن تؤدي عملية المفاوضات إلى تغير جذري في المواقف، وتحويل المفاهيم وتقلص في المفاهيم وأزمات الثقة. وعلى أية حال، فإنه من غير الممكن التحرك باتجاه "السلام" الذي يقوم على المصالحة، ما لم تتفاوض الأطراف للتوصل إلى تسوية شاملة. وهنا يجيء دور الولايات المتحدة باقتراح مجموعة من الأسس، التي تتم الموافقة عليها من قبل الأطراف قبل عملية التفاوض. وإذا ما تم التوصل إلى اتفاق حول هذه الأسس، أو على إطار مشترك، فإن عملية "التسوية" يمكن أن تتقدم بعدة طرق، وقد تعتمد على عدة أساليب في آن واحد أو في مراحل مختلفة من العمل الشامل...
وقبل كل شيء آخر "لا بد من إجراء المفاوضات المباشرة"، رغم أنه "من المشكوك فيه أن يتم تحقيق السلام عن طريق المحادثات المباشرة فقط".
المراحل
يقدم التقرير تصوره للمراحل التي سيمر بها الاتفاق "حيث يسيطر على كل مرحلة نوع خاص من المفاوضات" وفي البداية سيكون هناك حاجة إلى "وسيط ماهر يحقق الاتفاق الأساسي على الإجراءات وجدول الأعمال"، يتبع ذلك "جولة من المحادثات المباشرة حول مواضيع أساسية" وهي محادثات قد تصل إلى طريق مسدود. عند ذلك لا بد من تدخل طرف ثالث "إما بموافقة الأطراف أو بممارسة مجموعة من الضغوط" ويشدد التقرير على "التوقيت والتناسق والتجسيد المادي للأشياء التي هي غاية في الأهمية في التحرك من موقف إلى آخر".
وكنقطة بداية (لا أكثر) تتركز المناقشات "على مبادلة الأراضي بإقامة علاقات طبيعية على مدى فترة طويلة من الزمن" وتكون نتيجة ذلك اتفاقاً عاماً على أساس النقاط التالية:
1 – إعلان "سند تعهد" بالاعتراف المتبادل.
2 – أن يكون هناك "سلسلة من الأشياء التي يجب تحقيقها" لاستمرار العملية.
3 – أن يتم تقديم نظام للمفاوضات المختلطة، مع ضرورة تجنب الصيغ الجامدة لاستمرار المناقشات.
4 – أن يتم تقديم تنازلات مقبولة.
ويعتقد المشاركون في الندو أن ما يلي يمكن أن يعتبر مقبولاً ومعقولاً:
1 – أن يقبل الإسرائيليون "إلى حد ما" مبدأ اشتراك الفلسطينيين "بشكل ما" في المفاوضات.
2 – تلزم الدول العربية نفسها بالتفاوض حول جدول الأعمال الذي سيشمل عناصر السلام التام والكامل الذي تريده إسرائيل.
3 – يقبل الفلسطينيون الالتزامات والمبادىء الواردة في قرار مجلس الأمن رقم 242 وفي إطار نتائج المرحلة الأولى، فإن المرحلة الثانية ستشمل المناقشات والاتفاقيات حول إعلان المبادىء لتوجيه عملية المفاوضات الأساسية، أما المرحلة الثالثة فستشمل مواضيع مختلفة كبنود محددة للمفاوضات، ثم صياغة التفاصيل الخاصة بالمفاوضات الرسمية التي ستجري في جنيف، ويعتقد المشاركون في الندوة (وقد عبر بريزنسكي في تصريحاته الأخيرة بكل حال) أن الاتفاقات التي تم التوصل إليها في مراحل ما قبل افتتاح المحادثات الأساسية ستعتبر قاعدة صلبة تسمح للمفاوضين بالتحرك بسرعة نحو تسوية نهائية شاملة.
وأخيراً يرى التقرير أنه للوصول إلى هذه التسوية فلا بد من الحصول على ثلاثة أهداف رئيسية:
1 – جعل جميع الأطراف تواجه الحقيقة وتقلل من توقعاتها بخصوص أية نتائج تكون مقبولة أو غير مقبولة.
2 – المساعدة في إزالة صورة الشيطان المرسومة في ذهن كل طرف عن الطرف الآخر.
3 – إقناع الأطراف المعنية أن احتمالات السلام الحقيقية تكون بتحقيق نتائج ملموسة.
ويمكن تحقيق هذه الأهداف بتغيير طبيعة الحوار بثلاثة طرق أساسية:
1 – بتحويل بؤرة الاهتمام في المناقشات من مواضيع الماضي إلى مواضيع المستقبل.
2 – بتغيير المناقشات من مواضيعها الغامضة إلى مقترحات محددة، الأحزان إلى مداواة، والمواقف المتطرفة إلى اتفاق.
3 – تفتيت المشكلة الكبرى إلى مجموعة من المشكلات الصغيرة وتقدير النجاح بمقياس غير مقياس التسوية الشاملة.
أخيراً، ما هو المدى الذي تم قطعه حتى الآن في إطار هذه الخطة المحددة المراحل؟ هل يسمح الوضع العام باستمرار إحراز النجاحات لهذه الخطة؟ وهل يحمل الواقع الراهن قوى وإمكانيات قادرة على إحباط هذا المخطط وإلحاق الهزيمة به؟ ثم، ما هي آفاق التطورات والاحتمالات القادمة؟ إن قضايا من هذا النوع بحاجة ماسة فعلاً إلى رؤيتها بدقة ودراستها وتحديد مفاصلها. وحاجة مثل هذه هي بالضرورة خارج أن تكون بين الاحتمالات الرخوة وأدوات الشرط المتعددة، فالبرنامج الأميركي قد اقترب كثيراً من أرض الواقع العملي، واقترب كثيراً من التحقق.
______________________________________________
دين براون "للمستقبل"
لا حل لمشكلة لبنان قبل حل القضية الفلسطينية
لا خطة سياسية أميركية بالنسبة للبنان
لا أمل بحل شامل.. بعد كامب دافيد
لا أشجع الفلسطينيين على التفاوض
لا تحسن في العلاقات الأميركية العربية
----
المستقبل – العدد 118 – 26 أيار/مايو 1979 واشنطن: من جوديث كيبر
في أخطر حديث يدلي به ديبلوماسي أميركي عاصر أزمات الشرق الأوسط، يقول السفير الأميركي السابق دين براون، الذي عاصر السياسة الأميركية الخارجية طوال ثلاثين سنة، أن هناك استحالة في التوصل إلى تسوية شاملة لقضية الشرق الأوسط بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد وأن الفرصة قد فاتت لمساهمة الفلسطينيين في أية مفاوضات مقبلة لموقف الحكومة الإسرائيلية المتصلب ولعدم قدرة الولايات المتحدة على مناقضة الآراء الإسرائيلية والوقوف في وجهها. ويضيف براون في حديث خاص مع "المستقبل" أن الرئيس كارتر ما زال يحلم بإمكانية التعايش العربي – الإسرائيلي، إلا أنه يستطيع أن يقول أنه "توصل إلى منع حدوث حرب ما". إلا أن كارتر ليس في مستوى كنيدي، ومن بعده كذلك جونسون ونيكسون وفورد.
ويصر براون في حديثه على حتمية المواجهة بين كارتر وإسرائيل التي "ستبقى سؤالاً مفتوحاً". وأن المصالح الأميركية "تتآكل بفعل التصلب الإسرائيلي حول الضفة الغربية" وتهدد علاقات الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي ومع دول النفط وحتى الاهتمام بعدالة ومساواة القضايا الإنسانية. ويؤكد براون على ضرورة إيجاد وسائل أخرى – غير إرسال بريجنسكي وشتراوس إلى دول الشرق الأوسط – لاسترار التباحث بين الدول العربية المعارضة لاتفاق السلام المصري – الإسرائيلي وبين واشنطن.
ودين براون الذي خدم سفيراً في الأردن ووصلها قبل أيام من اندلاع معارك عام 1970 وبقي في عمان حتى انتهاء حرب أكتوبر 1973. عمل مبعوثاً خاصاً للرئيس الأميركي إلى لبنان عام 1976 لمحاولة إطفاء الحرب اللبنانية.
ثم عاد مجدداً إلى لبنان والشرق الأوسط في مهمة مماثلة عقب اغتيال فرانك ميلوي السفير الأميركي في بيروت في نيسان 1976.
ويترأس السفير براون حالياً "مؤسسة الشرق الأوسط" ويتحدث عن شؤون الشرق الأوسط بمعرفة وخبرة عميقتين. فهو يزور المنطقة بين فترة وأخرى. وقد قام مؤخراً بتنظيم سلسلة من المؤتمرات عن فرص العمل الاقتصادية ومشاكل الشرق الأوسط لرجال الأعمال الأميركيين. وما زال براون يعمل مستشاراً من خارج وزارة الخارجية للحكومة الأميركية في الشؤون السياسية وإدارة الأعمال.
وفي هذا الحديث الصريح والخطير والشامل، الذي أجرته "المستقبل" مع براون في مكتبه بواشنطن، يسهب السفير السابق في شرح انعكاسات اتفاقات كامب ديفيد ويحلل الأسباب التي لم تسمح للرئيس كارتر في تحقيق التسوية الشاملة التي كان يطمح إليها. ويحذر براون – بل يلفت الانتباه – إلى أنه لا يسعى في حديثه هذا إلى إبراز صورته كمرشح لأي دور سياسي قيادي أو الإيحاء بأنه الثقة الوحيدة في الشؤون العالمية.
ويبدأ الحديث بين "المستقبل" ودين براون بالسؤال التالي:
• لقد تدهورت الاتصالات العربية الأميركية إن لم تتوقف منذ كامب ديفيد فكيف تشرحون عدم مقدرة الجانبين على جعل موقفهما أكثر دينامية؟
- ربما يمكن شرح ذلك إذا أدركنا بأن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط كانت دائماً محتسبة مع أخذ المصالح الداخلية في الحسبان إلى حد بعيد، ولقد اعتقدنا بأن البلدان التي عرفت بتقاربها مع الولايات المتحدة ستعمد إلى ربط مصالحها الداخلية بشكل يدعم السياسة الأميركية، فللعرب مصلحة وطنية كبرى في قضيتين لم تحظيا بالاهتمام وهما: مستقبل القدس، والمسألة الفلسطينية ليس في الأراضي المحتلة وحسب بل وفي تشرد الفلسطينيين في الغربة.
• هل تعتقدون أن العرب قد فوتوا الفرصة برفضهم مجاراة السادات بعد زيارته للقدس ورفضهم للحوار بعد كامب ديفيد وما هي تلك الفرصة؟
- لا بد لي من التذكير بأنني كنت من الذين دعوا لمساهمة الفلسطينيين بعد كامب ديفيد ولكن النافذة لم تكن مفتوحة بما فيه الكفاية ومع ذلك كان من مصلحتهم استغلالها فهذه انت فرصة حتى ولو كان يترتب عليهم عدم الموافقة على التفاصيل وما حدث هو أنه تم لإغلاق تلك النافذة بسرعة عن طريق البيانات الصادرة في إسرائيل حول المستوطنات والفهم الإسرائيلي لمفهوم الحكم الذاتي.
• هل تعتقدون أن سياسة كامب ديفيد تسد الطريق أمام الحوار مع البلدان العربية وهل أصبح ذلك سياسة؟
- لقد حاولت الولايات المتحدة استخراج ما يمكن من فوائد كامب ديفيد ولكنها أدركت استحالة تحويلها إلى تسوية شاملة فأخذت على عاتقها مخاطر التقدم في اتجاه آخر.
• لقد دعوتم الفلسطينيين للمساهمة في المناقشات بعد كامب ديفيد، فهل ما زلتم تعتقدون بأنه ما زال بوسعه الاستفادة من ذلك؟
- كلا، لم أعد من الداعين لمساهمة الفلسطينيين لأن الفرصة قد فاتت. فاستمرار الحاكم ورئيس الوزراء الإسرائيلي لا يشجعان على ذلك خاصة إذا أضفنا عدم إرادة ومقدرة الولايات المتحدة على مناقضة تلك الآراء والتوضيح (لإسرائيل) بأن المطلوب ليس ذلك فالوضع ينعكس بخسارة على الفلسطينيين وبلدان المنطقة ولا يسمح بتحريك الفلسطينيين كمجموعة. وأنا أشدد على الفرق بين الفلسطينيين ككل وفلسطينيي الضفة الغربية وغزة، إذ يبدو بوضح يوماً بعد يوم بأن الفلسطينيين المبعثرين في تشرد الغربة مفصولون عن مسألة البحث في مصيرهم وهذه هي المأساة.
• بعض ممثلي كارتر، ومنهم ساوندرز، يقول بأن المسألة الفلسطينية هي عصب المشكلة فهل تخلت الإدارة عن هذه النظرة لتأخذ بالمفهوم الإسرائيلي للقضية الفلسطينية؟
- ليس متأكداً من ذلك، فساوندرز لم يتخل عن نظرته، ولكنني لست أكيداً من موقف الرئيس إذ أنه لم يوضح نظرته بهذا الصدد.
• هل تراجع الرئيس كارتر عن كل ما قاله بشأن الوطن والكيان والانسحاب إلى حدود عام 1967مع بعض التعديلات الطفيفة؟
- لم يتراجع وأظن أنه ما زال يفكر بأن نجاح التسوية بين مصر وإسرائيل سيؤكد صحة النظرة القديمة حول إمكانية التعايش العربي الإسرائيلي، ويفكر البعض بأن من شأن ذلك خلق نموذج يمكن على الأمد الطويل تطبيقه في الضفة الغربية هذا ما أعتقد أنه في تفكير الرئيس وليس واقعاً سياسياً.
• هل تعتقدون أن الولايات المتحدة أصبحت سجينة كامب ديفيد لدرجة أن التسوية الشاملة لم تعد واردة في الوقت الراهن؟
- قد لا يبقى الافتراض بإمكانية خلق الظروف الملائمة للسلم صحيحاً ولكن العالم قد يقف وقتاً ما للتطلع إلى الوراء والتساؤل عما إذا لم يكن هنالك طريق آخر.
• مثل أي طريق؟
- قرار جديد مثلاً، تتخذه الأمم المتحدة لتغيير الأمور قليلاً، أو جنيف المعطلة أو حوار بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والإنماء وأعضاء حلف شمال الأطلسي والجوانب المعنية بالنزاع والاتفاق حول سياسة مشتركة لمعالجة مشكلة الشرق الأوسط ككل، فالاتجاه الذي نشاهده الآن يبدو مظلماً ولا يمكن أن ينفرج إلا إذا حدث شيء ما.
• إلى أي حد تبقى السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وربما المصالح الأمنية الأميركية مربوطة بعوائق الاعتبارات السياسية الداخلية؟
- يواجه الرئيس مشاكل داخلية ضخمة بكل ما في الكلمة من معنى: التضخم ونقص الوقود والركود الاقتصادي ومهاجمة الصحافة التي تتهمه يومياً بعدم مقدرته على ممارسة القيادة، وهو توصل إلى توقيع اتفاقية باناما وإعادة العلاقات مع الصين إلى مستوى اعتيادي واتفاقية سالت فإذا وصل إلى عام 1980 وقال بأنه لم يتوصل إلى حل شامل في الشرق الأوسط لسبب أو لآخر فبإمكانه على الأقل القول بأنه توصل إلى منع حدوث حرب ما، أي: ما لم تستطع أية إدارة أخرى أن تفعله من قبل.
• ما هي في نظركم العوائق القائمة في وجه السلم الشامل الذي كان يصبو إليه الرئيس كارتر في مطلع عهده؟
- العائق الأول هو عدم مقدرته على زحزحة موقف الحكومة الإسرائيلية الحالية وإقناع الإسرائيليين بأن الاستقرار والازدهار الاقتصادي والأمن على المدى الطويل وهي أهداف يوافق عليها الأميركان والإسرائيليون يمكن تأمينها بوسائل غير الوسائل العسكرية أو البقاء في الضفة الغربية.
• وللوصول إلى الحل الشامل هل سيتوجب على أي رئيس أميركي أن يواجه إسرائيل أو هل أن تفهم أميركا وإسرائيل للمصالح الوطنية في كل منهما يختلف عن الآخر لدرجة تصبح المواجهة فيها أمراً محتوماً؟
- حتمية المواجهة بين الرئيس وإسرائيل تبقى سؤالاً مفتوحاً. الجواب المبدئي عليه هو: كلا. فلجهة الواقعية السياسية أشك في اضطراره للوصول إلى نقطة المواجهة بحيث يصبح بوسع الإسرائيلي القول بأن المواجهة سبق لها أن حدثت وأنهم أقنعوا الرئيس بأنهم عملوا كل ما بوسعهم وأنا لا أرى أية دلائل على رغبة الرئيس أو عزمه على الوصول إلى حد المواجهة. والسؤال الحقيقي يبقى هل يمكن التوصل إلى تسوية دون مثل هذه المواجهة؟ فإذا كان الجواب أن التوصل إلى السلم يتطلب وقتاً قصيراً فإن المواجهة تصبح ضرورية ولكن المواجهة لن تكون ضرورية على المدى البعيد.
• هل هذا يعني إذاً أن الموقف الأميركي ينطلق من التصور الإسرائيلي! ألن تضطر الولايات المتحدة – دون أي خيار بل بفعل الظروف السياسية – إلى اعتماد سياسة المدى الطويل؟
- هذا ما أعتقده سنمضي فترة صعبة للمحافظة على مصالح أخرى لنا في المنطقة في الفترة التي ستتبع خلالها سياسة تحقق الأمن الإسرائيلي على الحدود التي سيتوجب الاتفاق عليها، فمصالحنا الأخرى أي علاقاتنا مع الاتحاد السوفياتي وحصولنا على النفط وحماية طريق البترول وحتى اهتمامنا بقضايا العدالة والمساواة تتآكل بفعل التصلب حول قضية الضفة الغربية.
• لقد حدثت تغيرات رئيسية في الشرق الأوسط منذ توقيع السلم الإسرائيلي المصري وسقوط نظام الشاه في إيران، فكيف تعرفون اليوم المصالح الوطنية الأميركية وأولوياتها في المنطقة لو كنتم في صدد تقديم تقرير للرئيس على ضوء تلك المتغيرات؟
- يمكن التعريف على المصالح الأميركية بكل بساطة بأنها تنبثق من كون الولايات المتحدة دولة كبرى لها خياراتها وملتزمة بقضايا العدالة والإنسانية كما ينعكس ذلك في دعمها لفكرة قيام وطن للشعب اليهودي ولكنها لا تنعكس في تعبير ما لقيام وطن فلسطيني أو تأييد حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم أما الأولويات الأخرى في سلم مصالحنا فيجب أن تكون: حصولنا على البترول بأسعار معقولة وموقفنا من الاتحاد السوفياتي وهذا كان صحيحاً منذ آخر الحرب العالمية الثانية ولكن بما أن الولايات المتحدة تبرز ثقة متضائلة. بمقدرتها على مواجهة المشاكل فإنها تعطي الانطباع بقلة سعيها للدور القيادي.
• هل توافقون على ما قاله سايروس فانس حول القيود التي تواجهها الولايات المتحدة؟
- انعدام الأهداف أو ميوعتها مسألة تتعلق أساساً بمفهوم الزعامة.
• ما هو بنظركم الدور الأميركي الأفضل إذا لم تعد الولايات المتحدة شرطي العالم حتى في البلدان النامية التي غالباً ما تلجأ (لبعض الوقت) إلى أحضان الاتحاد السوفياتي رغم سعي الجميع للعيش على الطريقة الأميركية؟
- ما تقولينه صحيح تماماً، فلو تذكرنا عهد الرئيس كنيدي لرأينا أن اسمه أطلق على كثير من الشوارع والمدارس في جميع أنحاء العالم إذ أن كنيدي كان يوحي بالثقة ويقف بنفسه وهذا ما ينتظره الناس من الولايات المتحدة أما اليوم فلا أرى أحداً يسمي المدارس باسم كارتر أو جونسون أو نيكسون فهنالك شيء ما ينقص؟ فكارتر وعد بالعودة إلى الجذور والأصول الأميركية وإلى القيم الأخلاقية الأميركية المحتشمة ولكن لا يبدو أنه يعكس تلك الصورة.
• هل بدأت الولايات المتحدة حالياً تتحول إلى مجرد دولة مثل أية دولة أخرى؟
- هذا ما تسمعينه حتماً في أوروبا فأهمية الولايات المتحدة تتراجع نسبياً ومستوى معيشتنا لم يعد أعلى من مستوى معيشة الآخرين. بل إن بعض البلدان الأوروبية يعالج مشاكله الاقتصادية والاجتماعية بطريقة أفضل من التي نعتمدها. ومع هذا فإن الولايات المتحدة ما زالت أقوى دولة في العالم رغم أنها لم تعد تسعى للترويج لأهدافها كما درجت على ذلك في الماضي.
• هل تعتقدون أن العرب مخطئون في حسابهم أو اعتقادهم بقدرتهم على استغلال تضاعف الولايات المتحدة لحثها على الضغط على إسرائيل؟
- لا أعتقد أن الولايات المتحدة ستقبل باتخاذ الخطوات التي يطالب بها بعض البلدان العربية مثل عزل إسرائيل وقطع المساعدات عنها فالناخبون الأميركيون يتعاطفون إلى حد ما مع إسرائيل وليس بإمكان أي رئيس أميركي اتخاذ مثل هذه الخطوات.
• إذا فشل العرب في حث الولايات المتحدة على الضغط على إسرائيل فماذا يمكنهم فعله لتحقيق أهدافهم الوطنية؟
- لن يمكنهم فعل ما قاموا به في عام 1967 أي أن يبينوا أن للولايات المتحدة مصالح في المنطقة وأنه يتوجب عليها مقابل ذلك أن تكون أقل تحيزاً.
• والآن، وبعد خروج مصر من المعادلة وانعزالها عن العالم العربي، ما أثر ذلك على العلاقات العربية الأميركية؟
- أولاً. هناك بعض الفتور مع الدول العربية التي كانت أقرب من غيرها إلينا مما يضعها في مرتبة قريبة من مرتبة موقف سوريا والعراق منا. وربما هي تواجه بعض التردد والرغبة في النظر إلى خيارات أخرى.
• العلاقات الأميركية متوترة مع الأردن والسعودية وهما تقليدياً من أقرب أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة، والبلدان يبتعدان أكثر وأكثر عن الولايات المتحدة فكيف توفق واشنطن بين الاختلافات الكبيرة والفجوة التي تفصلها عنهما.
- يبدو أن الاتصالات لم تعد كافية ولا يكفي أن تنحصر بالأخبار الإيجابية العابرة، فالمطلوب إيجاد وسائل للتباحث، فبينما درج ملك الأردن على زيارة الولايات المتحدة في الربيع من كل عام فهو لن يأتي هذه السنة. كذلك ألغى الأمير فهد زيارته لواشنطن احتجاجاً على السياسة الأميركية. ولقد ارتكبنا خطأ فادحاً عندما أوفدنا بريجنسكي (مستشار الأمن القومي) إلى الأردن والسعودية فما نحتاجه هو الاتصال الهادىء والوسائل المكتومة للنظر في النقاط التي يمكن الاتفاق عليها فنتفق عليها أو نختلف بشأنها.
• هل في الإدارة الأميركية من يمكنه إدارة مثل هذا بالحوار؟
- باستثناء سايروس فانس لا أرى أحداً مؤهلاً لذلك. لا في البيت الأبيض ولا في الحكومة.
• هل تعتقدون بفعالية تعيين جوزف شتراوس كرئيس للمفاوضين في الشرق الأوسط، وماذا تنتظرون أن يكون تأثيره على مفاوضات الحكم الذاتي أو على العلاقات مع الأردن والسعودية؟
- هذه مهمة لا بد من إعطائها لمن يعرف المنطقة وشعوبها عن كثب وشتراوس ليس الشخص المناسب لهذا الدور رغم حماسته، فربما تمكن من تحقيق بعض النتائج على المدى الطويل، ولكن ليس إذا بدأ مباشرة على أعلى مستوى إذ ليس لديه الوقت الكافي.
• هل تعتقدون بصحة الإشاعة القائلة أن كارتر عين شتراوس لمجرد اعتبارات سياسية داخلية ومنها انتخابات الرئاسة؟
- لا... فالرئيس محتاج لشخصية للمهمة وشتراوس كان منهمكاً في مفاوضات تجارية فقرر أن يحوله إلى مهمة أخرى، ولكن إذا لم يسجل بعض التقدم هذا الصيف فأنا متشائم حول مقدرته على تحقيق أية نتائج أثناء سنة الانتخابات.
• السعودية غير راضية عن الولايات المتحدة، فماذا تعتقدون أنها تريد من أميركا؟
- ما يريده السعوديون هو خطوة ما باتجاه حل شامل وتسوية قضية القدس، وهذه هي الرسالة التي كرروها مراراً للولايات المتحدة أي أنهم لا يمكنهم دعم أي مشروع تسوية لا يتضمن حداً أدنى من المطالب العربية.
• يلعب السوفيات حالياً دوراً حذراً في الشرق الأوسط ويتجنبون التدخل في الشؤون الداخلية في البلدان الإسلامية، فكيف يستطيع السوفيات بنظركم الاستفادة من الاضطراب الذي أحرزه كامب ديفيد؟
- أفضل وسيلة تمكن السوفيات بها استغلال الوضع هي الوقوف جانباً بعض الوقت وعدم التدخل في المشاكل المحلية. وأعتقد أنهم سيقومون بإعطاء الأسلحة هنا وهناك والوقوف على جانبي المضيقات. أما بالنسبة لسوريا والأردن والسعودية فليس عليها فعل الكثير إذ، عادة، عندما يبتعد بلد ما عن الولايات المتحدة فإنه يتقارب من دولة كبرى أخرى، وبدء الحوار بين السعودية والسوفيات أو حتى قيام علاقات بينهما لن يغير من الأمور كثيراً، ولكن سيكون لذلك قيمة رمزية.
• منذ سقوط نظام الشاه ووسائل الإعلام تبرز الإسلام وكأنه تهديد للغرب وتصور العرب سلبياً لماذا؟
- طبعاً هنالك جهل للإسلام، بل نوع من الاحتقار له داخل الولايات المتحدة لأن كتب التاريخ تصور الإسلام سلبياً وتصف العرب وغيرهم بشكل ساذج وبعض الصحف ما زال يعطي عن العرب صورة المشايخ بأثوابها البيضاء مع جمالهم كما يتحدث بعض الصحف عن أصحاب "الملة" وأثوابهم السوداء في زوايا المساجد المظلمة، إن هذا يخلق نوعاً من الالتباس وهنا يكمن تعصب الغرب حيال الإسلام..
• كيف يتمكن العرب من تغيير هذه الصورة وملامحها؟
- باختصار قد لا يتمكنون من التغلب على الصورة هذه وما تمثلها في المدى القصير وما يمكنهم فعله على المدى الطويل هو التأكد من صحة ما تورده الكتب وإيفاد المحاضرين للتحدث عنه في البلاد وإنتاج وتوزيع الأفلام في الولايات المتحدة لتشرح طرق العيش في البلدان الإسلامية وجعل صورتها أكثر إنسانية فغالباً ما يطلب العرب من الآخرين القيام بذلك بدلاً من أن يقوموا به بأنفسهم.
• إلى أي مدى أثرت أحداث إيران على سياسة الدفاع الأميركية وهل وجدت واشنطن من يشتري الأسلحة التي ألغت إيران صفقاتها؟
- من السهل على الولايات المتحدة إيجاد من يشتري هذه الأسلحة ولا سيما الجيش الأميركي أو إسرائيل ولا يزال النقاش حول الموضوع قائماً. ولكن سيتم في نهاية الأمر تصريف تلك الأسلحة.
• هل هنالك ضغوط على مصر لكي تشتري أسلحة أميركية بدلاً من إيران؟
- أشك في ذلك لأن كلفة الأسلحة باهظة ومن المشكوك فيه أن تعود السعودية لدفع قيمته لحساب مصر.
• ما هي الدروس التي استقتها واشنطن من أحداث إيران؟
- لا بد للولايات المتحدة من التفكير ملياً بمقدرة الأمم على تحديث بلادها إن هي أرادت المساهمة في تخطيط تلك الدول. ولم يعد ممكناً وضع تصاميم خطط الإنماء الاقتصادي من واشنطن. ولعل إحدى المشاكل الأميركية أن الولايات المتحدة لا يمكنها التفكير بمشاريع صغيرة، فنحن اليوم مرتبطون في تركيا بمثل هذا الحوار ونعمل كل ما يجب أن نتجنبه إذ أننا نضغط لمزيد من التقشف والانكماش في بلد تسوده البطالة والتضخم ونريد فرض المزيد من الحمية عليه فإذا كان على منظمة التعاون الاقتصادي بعض المسؤوليات فإن طريقة عملها كلاسيكية غربية لا تنطبق لا على تركيا ولا على البلدان النامية الأخرى ولا بد من طرح أسئلة لها محتوى اجتماعي خاص في تلك البلدان.
• وماذا عن لبنان؟ هل بإمكان الولايات المتحدة اقتراح ما من شأنه المساهمة في استقرار لبنان أو منع نشوب حرب أخرى فيه؟
- لا توجد سياسة أميركية معينة بالنسبة للبنان فقد يمكننا تقديم بعض الأسلحة لمساعدة الجيش اللبناني لإعادة بنائه ولكن لا يمكننا القيام بأي شيء يذكر طالما لم نعمل جدياً على حل المشكلة الفلسطينية.
________________________________________
فتش عن النفط.. في قبرص!
الصياد/29/6/74
في غمرة الأنباء المتضاربة عن تصاعد التوتر شرقي المتوسط، ووسط علامات الاستفهام التي ارتسمت مساء يوم الانقلاب الدموي في جزيرة قبرص حول مصير المطران – الرئيس مكاريوس، بعدما بثت إذاعة سرية أنباء عن أن المطران لا يزال على قيد الحياة، اتجهت أنظار المراقبين إلى العواصم الغربية الكبرى لتبحث عن أسباب الانفجار الخطير الذي اهتزت من جرائه ركائز الاستقلال الذي كانت تنعم به الجزيرة منذ عام 1960، على اعتبار أن ما تشهده هذه البلاد حالياً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما يدور خلف الكواليس السياسية الغربية!.
• فتش عن النفط!
وقبل ثلاثة أسابيع، على وجه التقريب، عندما اندلع الخلاف بين أثينا وأنقره حول حقوق كل منهما في التنقيب عن النفط في بحر أيجه، كانت التقارير السياسية لا تخفي قلق الرئيس القبرصي بسبب تزايد النشاط المعادي لنظام حكمه، الذي تغذيه وتموله زمرة الجنرالات في اليونان، مما جعله، كما تؤكد المعلومات، يوجه إنذاراً لنظام الجنرال غيزيكس، يطلب فيه من الحكومة اليونانية سحب الـ650 ضابطاً يونانياً الذين يعملون بين صفوف الحرس الوطني – أي القوات المسلحة القبرصية – وطبقاً للمعلومات ذاتها كان من المفروض أن تنتهي مهلة الإنذار اليوم، في العشرين من تموز "يوليو الجاري!.
وفيما انتشرت هذه المعلومات، شعر المراقبون أن المواجهة باتت محتومة ووشيكة بين قبرص واليونان، خاصة وأن هذه الأخيرة كانت تبحث عن انتصار سريع في الجزيرة لتعزيز مركزها الداخلي شبه المعزول عن القواعد الشعبية، كما وأن سبباً آخر جعل المراقبين يتوقعون مفاجأة ما في نيقوسيا، هو اقتناع جنرالات اليونان بأنه من الصعب عليهم الرضوخ لإنذار المطران – الرئيس، على الأقل لإنقاذ ماء الوجه، ولاعتبارات معنوية لها صلة بالصراع اليوناني – القبرصي حول مياه بحر ايجه، التي اكتشف مؤخراً أنها زاخرة بالذهب الأسود، الذي تنفق اليونان جزءاً كبيراً من دخلها القومي العام على شرائه، وقد ازداد هذا الإنفاق بنسبة ضخمة بعد رفع سعر النفط، مما هدد الاقتصاد اليوناني بمضاعفات جد خطيرة!.
• المفاجأة الصاعقة!
وقد جاء الانقلاب الدموي ليؤكد هذه المعلومات التي توفرت لدى المراقبين السياسيين قبل بضعة أيام من وقوعه، لذا لم تكن المفاجأة بحجم الحدث، لكن ما فاجأ المراقبين، حقاً، هو اكتشافهم أن المطران – الرئيس ما زال على قيد الحياة، بعدما أشاع الانقلابيون أنهم قتلوه، خلال الهجوم على القصر الجمهوري في نيقوسيا!
وقد أدى إفلات المطران مكاريوس من قبضة الانقلابيين ومغادرته البلاد على متن طائرة تابعة للسلاح الجوي البريطاني، بعد موافقة الحكومة البريطانية على منحه حق اللجوء السياسي، إلى قلب الصورة رأساً على عقب، وإشاعة جو من التفاؤل باحتمال عودة المطران إلى الحكم في صفوف المراقبين السياسيين، الذين كانوا قد فقدوا كل أمل بذلك، بعدما أشاع الانقلابيون نبأ مقتله!.
إذ من المستحيل، عملياً، على أية جهة، السيطرة على مقاليد الحكم في الجزيرة، في وجود محررها وبطلها القومي، الذي ارتبط اسمه بأكثر من مرحلة من مراحل تطورها السياسي.. ففي أيام الكفاح ضد المستعمرين، كان المطران مكاريوس في مقدمة الذين حملوا السلاح دفاعاً عن حرية بلاده، وطلباً لاستقلالها.. وفي مرحلة الصراع ضد الاستعمار الجديد، بأحلافه ومنظماته، كان المطران مكاريوس من أبرز الداعين إلى انشاء مجموعة دول عدم الانحياز، كرد على المحاولات المتكررة لاخضاع الجزيرة لمنظمة حلف شمال الأطلسي، وتحويلها إلى مجرد قاعدة أمامية له في هذا الجزء الاستراتيجي من العالم!.
• مجابهة تركية – يونانية!
ووفقاً لآخر المعلومات الواردة في التقارير الديبلوماسية التي وصلت إلى بيروت في الأيام الأخيرة، يمكن التنبؤ، إذا لم يعمل مجلس الأمن، أو الدول الموقعة على اتفاقيتي جنيف وزيورخ الخاصتين بالمحافظة على استقلال وسيادة الجزيرة، وهي بريطانيا واليونان وتركيا، على إعادة الرئيس مكاريوس إلى سدة الحكم، باحتمال حدوث مجابهة تركية – يونانية واسعة النطاق، بالرغم من ميل المراقبين إلى الاعتقاد بأن التهديدات التركية، بهذا المعنى، ليست سوى مناورة بارعة، قصد منها امتصاص النقمة الشعبية في تركيا، وإذا ما حدثت مثل هذه المواجهة، فإن منظمتي حلف شمال الأطلسي "الناتو" وحلف المعاهدة المركزية "السانتو" ستمران بامتحان عسير للغاية، قد يؤدي بهما إلى حافة الهاوية، أو إلى الهاوية نفسها، كما توقع أكثر من مراقب سياسي بارز في الغرب.
ففي حال نشوب حرب تركية – يونانية، على منظمة حلف شمال الأطلسي اتخاذ موقف صريح من هذا النزاع، والتقرير الى جانب أي من الدولتين الأطلسيتين ستقف، وهو الأمر الذي لا تستطيعه المنظمة عملياً دون أن يكون لذلك مردود سلبي، يترجم بخروج أحد هاتين الدولتين من الحلف، وبالتالي، توجهها إلى الاتحاد السوفياتي للحصول على السلاح اللازم لاستمرار القتال..
كما أن منظمة حلف المعاهدة المركزية، التي تضم تركيا وإيران وباكستان، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا، ستمر بالامتحان نفسه، وسيترتب على دولها الوقوف إلى جانب تركيا في نزاعها ضد اليونان، وهو أمر مستبعد، مما يؤدي إلى تصدع الحلف، وتفسخه!.
• الدور الأميركي!
وقد انقسم المراقبون حول تفسير دور الولايات المتحدة في الأحداث القبرصية الأخيرة، فبينما اتهمها بعضهم بتدبير الانقلاب، للتخلص من عدوها اللدود المطران مكاريوس، الذي وقف دائماً ضد مخططاتها الرامية لاستيعاب الجزيرة، وضمها إلى مناطق نفوذها، مال البعض الآخر منهم إلى الاعتقاد بعدم وجود أي سبب يدفعها إلى الإطاحة بالرئيس مكاريوس، الذي وإن كان قد ناضل ضد اخضاع الجزيرة للنفوذ الأميركي، إلا أنه لم يقدمها على طبق من الذهب للاتحاد السوفياتي، وهو ما تخشاه الولايات المتحدة وسائر دول منظمة حلف شمال الأطلسين كما لم يصر على إنهاء الوجود العسكري البريطاني فيها، الذي يمكن اعتباره امتداداً عضوياً للوجود العسكري الأطلسي في منظمة حوض البحر الأبيض المتوسط.. لكن عدم مسارعة الولايات المتحدة إلى إعلان موقف صريح من الأحداث القبرصية جاء ليدلل بوضوح على علاقتها الوثيقة بهذه الأحداث، بعكس بريطانيا التي سارعت إلى القول أنها لا تعترف إلا بحكومة الرئيس مكاريوس ونظام حكمه!.
ومن البديهي الاستنتاج، من استمرار المعارك في الجزيرة بين أنصار مكاريوس والجيش، بأن احتمال عودته إلى الحكم، لوضع حد لحرب أهلية محتملة، وحرب تركية – يونانية وشبكة الوقوع، هو الأقرب إلى التحقيق، إلا إذا حدثت مفاجأة ما رجحت كفة الانقلابيين، ودفعت بالاتراك إلى التخلي عن غزو الجزيرة، لقاء تعهد يوناني بعدم المساس بحقوق الجالية القبرصية التركية، وبعدم ضم الجزيرة إلى اليونان، وهو ما فهم من البيان الأولي للحكومة اليونانية، الذي جاء فيه ما ملخصه أن اليونان تحترم استقلال قبرص!.
مكاريوس..
سلاحه في صدره!
منذ اعتلائه خشبة المسرح السياسي في قبرص، أحدث انقساماً في صفوف المراقبين ، إذ اعتبره فريق منهم محافظاً، لكونه رجل دين أرثوذكسي، بينما اعتبره الفريق الآخر تقدمياً، لكونه أحد أبرز قادة مجموعة دول عدم الانحياز، مما سمح للمطران مكاريوس أن يلعب دوراً بالغ الأهمية، ليس في بلاده فحسب، بل في البلاد المجاورة لها، أيضاً، باعتباره همزة وصل بين هذا البلد وذاك، في بعض الأحيان، وفريقاً، في معظمها.. وقد ساهم مساهمة فعالة في حل العديد من النزاعات السرية والعلنية، بين دول الشرق الأوسط، بدافع حب السلام، وبرغبة إبعاد شبح الحرب عن هذا الجزء من العالم، الذي شهد مولد الديانات السماوية، وكان لأبنائه، على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم، مساهمات بارزة في صنع الحضارة المعاصرة!.
ولد ميخائيل خريستو دو لوموسكوس في قرية أنوبانيا، في 13 آب، أغسطس، من عام 1913.. كان أبوه فلاحاً يكد ويكدح في الحقول ليوفر قوت أسرته، قبل أن يصبح صاحب محل بقالة.. لقد عني عناية بالغة بتعليم ولده، في دير كيكو، القريب من القرية.. حتى إذا ما انتهى من تلقي دروسه الأولية، الدينية والدنيوية في هذا الدير، نقله إلى جامعة نيقوسيا، ليصبح في عداد تلاميذ كليتها اللاهوتية، ثم تلقى دروسه العليا في أثينا، باليونان، وبوسطن، بالولايات المتحدة، ثم عاد إلى الجزيرة ليقود نضالها ضد الاستعمار البريطاني، فما كان من السلطات البريطانية إلا أن نفته إلى جزيرة سيشيل، لكن ردة الفعل الجماهيرية اضطرتها إلى الإفراج عنه، فعاد إلى موطنه، كبطل قومي، وقد كافأه مواطنوه على نضاله الطويل بانتخابه أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال.
ومما يذكره رئيس الأساقفة عن أيام النضال ضد الاستعمار البريطاني، أنه، في أحد الأيام، اعترضت سلطات الاحتلال البريطاني سبيل سيارته، التي كانت تقله إلى قرية تدعى "ليفوفيكو" على بعد أربعين كيلومتراً شرقي نيقوسيا، ليعظ أهلها، وكان جنود الاحتلال مسلحين برشيشات من طراز "ستن".. وقد طلبوا منه النزول من السيارة للتفتيش، فلما رفض، أنزلوه عنوة.. وفتشوه، وفتشوا أمتعته وسيارته تفتيشاً دقيقاً للغاية.. ولكن الجماهير حالت بينهم وبين المضي في هذه المهزلة، المراد منها إذلاله، فسارعت إلى إنقاذه، فلما وصل إلى القرية، واعتلى منبر الوعظ، راح يروي للجماهير، ببساطته المحببة، ما جرى له في الطريق، ومما قاله: "العجيب، أنهم، أي الجنود البريطانيون، بحثوا عن الأسلحة في كل مكان إلا المكان الذي نخبئها فيه.. في أعماق صدورنا.. إن أسلحتنا في إيماننا بحقوقنا، وهي أقوى من أسلحتهم التي ستتحطم على صخورنا الشماء"!.
ومما يذكره عن تلك السنوات العجاف، سنوات النضال من أجل الاستقلال والتحرر، أنه في يوم 9 آذار، مارس، من عام 1956، بينما كان يتأهب للسفر من نيقوسيا إلى أثينا، لمشاورة رئيس وزراء اليونان في بعض المسائل السياسية، اعتقله الماريشال جون هاردنغ، حاكم قبرص العسكري، آنذاك، وبعث به منفياً إلى سيشيل، حيث أقام في فيللا تدعى "سان سوسي".. فما كان منه، بعد وصوله إلى المنفى، إلا أن سارع إلى الإبراق لرئيس وزراء اليونان، قائلاً: "سأتأخر في المجيء إلى أثينا إلى أن يطلق سراحي.. مع الاعتذار الشديد، وفائق الاحترام.. المطران مكاريوس"!.
وبينما كانت البرقية في طريقها إلى رئيس وزراء اليونان، كان زعيم حزب الأحرار في بريطانيا، آنذاك، المستر كليمنت ديفز، في طريقه إلى مجلس العموم ليصيح في وجه رئيس الوزراء السير أنطوني ايدن، قائلاً: "إن نفي المطران مكاريوس لهو عمل أحمق، يا سيدي الرئيس"!.
وقد شاركه هذا الرأي العديد من الزعماء البريطانيين، مما اضطر الحكومة إلى التراجع، والإفراج عنه بعد عام من الزمن قضاه في التأليف والكتابة.. وكانت مقالاته المهربة تنشر في صدر الصفحات الأولى للصحف اليونانية، والعالمية، محدثة دوياً هائلاً في المحافل السياسية الدولية!.
القبارصة..
خليط من أجناس مختلفة!
يعتقد المؤرخون أن القبارصة يتحدرون من أجناس مختلفة، أبرزها الإغريقي، والتركي، والعربي، والفارسي.. وقد كان لهذا التنوع في الانتماء القومي جانب سلبي، إذ دفع بالقبارصة إلى التلهي بالصراعات فيما بينهم، شاغلاً إياهم عن الدفاع عن الجزيرة ضد الغزاة.. وقد كان الهدف الأول لحركة التحرير القبرصية، التي عرفت فيما بعد باسم "اينوسيس"، أي الوحدة، هو الانضمام إلى "اليونان، مما أدى إلى وقوف القبارصة الأتراك إلى جانب المستعمرين البريطانيين، الأمر الذي جعل هذه الحركة، التي نشأت في العام 1878، تتأخر في التخلص من البريطانيين حتى العام 1960.. وقد قال الرئيس مكاريوس، ذات يوم: "لو اعلن القبارصة اليونانيون أنهم يحاربون الإنكليز للحصول على الاستقلال، وليس للانضمام إلى اليونان، لكان القبارصة الأتراك وقفوا إلى جانبهم، ومكنوهم من طرد المستعمرين فوراً"!.
لكن الذي حصل أن القبارصة اليونانيين لم يعلنوا ذلك، وقتها، فكان عليهم القتال ضد الإنكليز والأتراك في وقت واحد، الأمر الذي أفقدهم الكثير من الرجال في نضالهم من أجل الوحدة مع اليونان!.
وكرد فعل على هذه الدعوة، دعى القبارصة الأتراك إلى الوحدة مع تركيا، بدورهم، على اعتبار أنهم كانوا في العام 1790 يؤلفون 60% من السكان، لكن الهجرة اليونانية إلى قبرص حولتهم إلى أقلية، لا تؤلف أكثر من 20% من السكان.
وقد لعب البريطانيون، بنجاح كبير، لعبة "فرق تسد"، فأعطوا القبارصة الأتراك الكثير من الامتيازات، وأغرقوهم بسيل من الوعود الكاذبة لاستمالتهم إلى جانبهم، مما حملهم على المطالبة إما بالاستقلال، وإما بإبقاء الجزيرة تحت الإدارة البريطانية، لأن مطالبتهم بانضمامها إلى تركيا كانت غير قابلة للتحقيق عملياً.
وقد لعب الحزب الشيوعي القبرصي دوراً بارزاً في التقريب بين الفريقين القبرصيين، داعياً إياهم للاتحاد من أجل انتزاع الاستقلال، فتنبهت السلطات البريطانية إلى خطورة هذه الدعوة، فما كان منها إلا أن سارعت بحظر نشاطه في 14 من كانون الأول – ديسمبر – من عام 1955، واعتقلت العديد من أعضائه ومؤيديه.. فانتقل الشيوعيون إلى العمل ضد البريطانيين في السر.. ونشطت منظمة الشباب الشيوعي، ومنظمة المزارعين الشيوعيين، ومنظمة العمال الشيوعيين، ومنظمة النساء الشيوعيات، التابعة له في النضال على مختلف المستويات من أجل الحصول على الاستقلال، وتأسيس دولة ذات سيادة، يعيش فيها القبارصة على مختلف أجناسهم بأمان واطمئنان، في ظل دستور يكفل لجميع المواطنين:
• حرية تشكيل الأحزاب، والتعبير..
• المساواة..
• العدالة في توزيع الثروات التي تزخر بها هذه البلاد..
أما الأقليات الأخرى، فلم يكن لها أي موقف مبدئي من الصراع الدائر، بل كانت تميل إلى تأييد الفريق الذي تعتقد أن الغلبة ستكون له.. فتارة تؤيد البريطانيين، وتارة أخرى القبارصة اليونانيين، وفي بعض الحالات، حين أعلنت الحكومة التركية عن عزمها على غزو الجزيرة للمحافظة على مصالح الجالية القبرصية التركية، وقفت الأقليات إلى جانب القبارصة الأتراك، وشاركوهم في الإضراب الشامل، احتجاجاً على عزم القبارصة اليونانيين ضم الجزيرة إلى اليونان.. مما أدى إلى نفور الفريقين القبرصيين، اليونان والأتراك، من هذا النفاق، الذي اتسمت به مواقف الأقليات منذ بداية الصراع ضد البريطانيين!.
قبرص.. جزيرة لم تذق طعم الاستقلال!
قبرص.. درة البحر الأبيض المتوسط، مساحتها 3527 ميلاً مربعاً، بطول 140 ميلاً وعرض 55 ميلاً.. يسكنها حوالي مليون نسمة، بينهم 600 ألف من أصل يوناني، و300 ألف من أصل تركي، و100 ألف من جنسيات مختلفة، كالأرمن والعرب.
وقد برزت أهميتها، كموقع استراتيجي، منذ قديم الزمان، إذ استخدمت كمركز للتبادل التجاري طيلة الثلاثة آلاف سنة الماضية.
ويمكن تلخيص أهمية موقعها الاستراتيجي بالنقاط التالية:
أولاً: بإمكان الدولة التي تملك قوات ضاربة مرابطة في قبرص، وهي الآن بريطانيا، أن تستخدم هذه القوات في عملية حربية واسعة النطاق ضد أية دولة من دول المنطقة، وهذا ما فعلته بريطانيا خلال حرب السويس، في العام 1956، إذ كانت الطائرات الحربية البريطانية تنطلق من قواعدها في قبرص لتضرب مدينة بور سعيد، التي لا تبعد سوى 235 ميلاً عن الجزيرة..
ثانياً: تعتبر القواعد البريطانية في قبرص جزءاً مكملاً للقواعد الأطلسية في كل من تركيا، واليونان، ومالطا، وإسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، والتي تؤلف كلها طوقاً ممكناً حول عنق العالم العربي، الزاخر بالنفط..
ثالثاً: تستخدم قبرص كقاعدة دعائية ضخمة ضد الدول المعادية بطبيعتها لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، وذلك بوسائل عديدة، كاستغلال قربها من هذه الدول للتشويش الإذاعي، وفي قبرص الآن الكثير من محطات التشويش، التي كانت وما زالت تستخدم لإضعاف إرسال بعض الإذاعات العربية، بقصد خنق أصواتها..
رابعاً: تعتبر قبرص من أهم مراكز التجسس في المنطقة، نظراً لقربها من الدول المراد التجسس عليها، وهي الدول العربية بالدرجة الأولى..
خامساً: من مهمات القوات البريطانية المرابطة في قبرص التصدي للاتحاد السوفياتي، في حال وقوع حرب شاملة في الشرق والغرب!.
وقد مرت الجزيرة بمراحل تاريخية، كان لها أبلغ الأثر في تكوين شخصيتها، المتنازع عليها، ويمكن تلخيص هذه المراحل بما يلي:
1 – احتلها قدماء المصريين في عام 1450 ق.م. بعد طردهم الحثيين منها، الذين كانوا قد احتلوها قبل ذلك بفترة طويلة، وكانت نتيجة هذا الاحتلال، أن دفعت الجزيرة فدية ضخمة من النحاس إلى تحتمس الثالث، فرعون مصر آنذاك.
2 – قام الأركاديون، وهم من القبائل الإغريقية، بطرد المصريين، واحتلال الجزيرة، وذلك بعد هزيمتهم في حرب طروادة، وكان ذلك في العام 1400 ق.م.
3 – استمرت الجزيرة تحت سيطرة هذه الفئة الإغريقية إلى حين قيام الآشوريين باحتلالها في عام 709 ق.م. وعاد المصريون ثانية إلى احتلالها في العام 550 ق.م. وقاموا باستغلال مناجم النحاس، وبنوا من أخشاب غابتها سفنهم.
4 – في العام 520 ق.م. احتلها الفرس، بعد هجوم صاعق، يعتبر الأول من نوعه في التاريخ العسكري، إذ تم احتلال الجزيرة من أدناها إلى أقصاها في ظرف يوم واحد.. وقد قسموها إلى 12 مقاطعة، ليسهل عليهم التحكم بها، والسيطرة على شعبها، واستغلوا أخشابها في بناء أسطول حربي لمنازلة اليونان..
5 – وفي عام 391 ق.م. قام الملك أيغارغورس بطرد الفرس منها، وتحالف مع اليونان، ولكن الفرس عادوا وتغلبوا عليه، وطردوه من الجزيرة مع أتباعه.
6 – غزاها الإسكندر في العام 333 ق.م. وحررها من الفرس.. وفي العام 322 ق.م. قام بطليموس ملك مصر، بعد موت الإسكندر، بغزوها، وإلحاقها بمملكته حتى العام 68 ق.م. حيث احتلها انطونيو ليهديها إلى كليوباترا، لكن الرومان عادوا إلى استردادها..
7 – أدخل القديس بطرس المسيحية إليها في العام 48 للميلاد..
8 – احتلها البيزنطيون، فالصليبيون فالبندقيون، فالعثمانيون، الذين تنازلوا عنها لبريطانيا، التي عرضت ضمها إلى اليونان لقاء دخولها الحرب العالمية الأولى إلى جانبها، فرفضت، مضيعة فرصة لا تعوض.. وقد تم تنازل تركيا رسمياً عن الجزيرة في العام 1923، وقد ظل البريطانيون يحتلون الجزيرة بدون منازع حتى استقلالها في العام 1960!.
اللبنانيون في قبرص: 4 آلاف ماروني!..
صدرت أوامر عليا إلى وزارة الخارجية بضرورة الاهتمام السريع بأوضاع الجالية اللبنانية في قبرص بعد الأحداث التي وقعت في الجزيرة.
ولما كان الاتصال المباشر بالجزيرة وبالسفارة اللبنانية فيها صعباً، بل مستحيلاً، أجرت الوزارة اتصالات بقوات الأمم المتحدة وطلبت منها الاهتمام بأوضاع الجالية.
وقال مصدر في وزارة الخارجية أن الجالية اللبنانية في قبرص تقدر بأربعة آلاف، جميعهم ينتمون إلى الطائفة المارونية..
_______________________________
كل ما كان يعرف عن قبرص في ذلك اليوم هو أن مكاريوس قد مات مقتولاً، إن طلقات نارية تسمع في نيقوسيا كلها. اليونان، سارع الجنرالات إلى نفي أية علاقة لهم بانقلاب قبرص، أما في تركيا فقد وضعت القوات المسلحة في حالة تأهب.
واشنطن "تأسفت"، لندن قالت إنها تحاذر الوقوع في الهوة القبرصية، رغم أن تركيا طلبت منها التدخل العسكري عملا باتفاقية استقلال قبرص، موسكو نددت بلهجة صارمة "بالزمرة الحاكمة في أثينا عميلة حلف الأطلسي". في العالم كله كان وجوم لأن الناس يعرفون جيداً أن اهتزاز قبرص يعني بداية مصيبة كبيرة، والبعض قال: لقد بدأت هذا النهار مأساة لبنان وكثر الحديث فيما بعد عما سمي قبرصة المنطقة كلها.
في اليوم التالي، عرف أن مكاريوس لا يزال حياً وقد لجأ إلى القاعدة البريطانية العسكرية في الجزيرة وعرف أيضاً أن أنصاره قاتلوا "العسكر" لعدة أيام ومن إذاعة سرية سمع صوت الأسقف الرئيس يدعو الناس إلى مواجهة الديكتاتورية العسكرية اليونانية.
قفزة تركية
الأتراك الذين لا يبعدون أكثر من مئة كيلومتر هاجموا قبرص بعد خمسة أياماً تماماً في 20 تموز، في كيرينيا نزلت معظم القوات وفي ضواحي نيقوسيا هبط مظليون وقصفت العاصمة من الجو.
حكومة "الإنقاذ الوطني" التي أعلن عنها سامسون قائد الإنقلابيين دعت إلى صد العدوان التركي ولكن راديو أنقرة كان يعلن بعد ساعات أن العملية لا تلاقي إلا مقاومة محدودة، رغم أن مراسلي الوكالات تحدثوا عن دفاع يواني مستميت عن نيقوسيا. جنرالات اليونان تأهبوا ولكنهم لم يتحركوا لمجابهة ستة آلاف جندي تركي كانوا قد اتخذوا مواقع لهم على أرض الجزيرة بالذات.
بعد أيام أعلن "الأطراف الثلاثة"، أي تركيا واليونان وبريطانيا استعدادهم للبحث في مستقبل الجزيرة (مستقبل بعض الدول هو دائماً موضوع بحث!) وعقد مؤتمر في 8 آب انتهى إلى تثبيت الخلاف القائم ومطالبة تركيا علناً بتقسيم الجزيرة واعلنت اليونان معارضتها التقسيم.
في ذلك الوقت، كانت واشنطن التي قيل أنها حركت جنرالات أثينا قد انتقلت إلى تاييد تركيا، وهكذا لم يكن على الأتراك صعباً أن يستكملوا احتلالهم لنصف قبرص تقريباً ولكن للنصف الأغنى زراعياً والأهم. ونشأ خط اسمه "خط أتيلا" يفصل بين الشطرين اليوناني والقبرصي. حصل إذن في أيام تقسيم فعلي للدولة الفتية. زعيم الانقلاب ترك حينذاك رئاسة الدولة لرئيس مجلس النواب السيد كلاريديس ويومذاك قال رئيس وزراء اليونان الحالي عن قبرص عبارة لا تزال شهيرة. إنها أسوأ من كارثة فلسطين.
في 7 كانون الأول عاد مكاريوس ليجد في الجزيرة 40 ألف جندي تركي ومئتي ألف مهجر إلى الشطر اليوناني. في الشطر الآخر، التركي، ثلاثة أرباع مواشي قبرص ونصف صناعتها الخفيفة وستون بالمئة من ثرواتها الجوفية ومستقبلاً أسود. كان اليونانيون في الجزيرة قد نسوا "الأنيوزيس" أي الانضمام إلى اليونان الأقلية التركية في الجزيرة؟ إن العملية العسكرية ذاتها تتجاوز منطق حماية الأقليات لأن تقسيم الجزيرة يؤدي حكماً إلى زيادة الحضور العسكري اليوناني في الجزء اليوناني منها، وهذا ليس بطبيعة الحال في صالح الأتراك. الأرجح إذن هو أن تركيا تحاول تمييع المسألة وتمديدها ما استطاعت حتى تغير الوضع الديمغرافي في الجزيرة بغية احتلالها احتلالاً كاملاً حتى تسنح الظروف. على المدى الطويل نسبياً، ترغب تركيا، كما يقول ليساريديس في احتلال كامل في حين أن واشنطن ترغب في التقسيم والضحية هو حياد قبرص.
الحياد هو إذن الضحية والتقسيم هو المذبحة ولكن الضحية الأكبر في الخطة الأميركية هما دولتا لبنان وسورية، وهما مدعوتان وهما أميركياً برسم القبرصة التي تعلم واشنطن جيداً من الذي يستفيد منها.
حين التقى لأول مرة بعد 13 عاماً في 27 كانون الثاني 1977 كل من المطران مكاريوس والسيد دنكتاش زعيم القبارصة الأتراك كانت صورة التقسيم قد بدأت تظهر معالمها بوضوح.
ما كان قائماً في الجزيرة منذ قرون تغير تماماً. الناس كانوا يعيشون في كل المناطق وكانت المدن والقرى المختلطة يوناناً وأتراكاً منتشرة في الجزيرة كلها. صحيح أنه كان هناك قرى يونانية وأخرى تركية ولكنها جميعاً كانت موزعة في كل أرجاء البلاد ولا تشكل "غيتو" في هذه الجبهة أو تلك.
عام 1974 أحدث الغزو التركي توزيعاً جديداً للسكان. الأقلية القبرصية التركية هي اليوم منعزلة تماماً عن اليونانيين من أهل البلاد والإثنا عشر الف يوناني الذين كانوا لا يزالون في القسم التركي، لم يستطيعوا البقاء رغم أن اتفاق 2 آب 1975 ينص بوضوح على حقهم في البقاء في القسم التركي المحتل. في الشطر التركي لم يبق إلا ألفا قبرصي يوناني. الأتراك الذين كانوا في الشطر اليوناني عبروا خط أتيلا إلى الشطر التركي. وفي أي حال يزداد عدد الأتراك في الجزيرة لأن الحكومة التركية تشجع هجرة رعاياها إلى قبرص "قاعدة الدفاع الأولى عن البلاد" كما يقول أحد جنرالات أنقرة.
القبارصة اليونانيون هم إذن في مأزق والأسباب عديدة. تركيا لا تزال في موضع القوة. واليونان لأسباب بشرية وجغرافية وسياسية عاجزة. ولتركيا، وخاصة للفريق العسكري فيها، الأفضلية في واشنطن وبنوع خاص بعد أحداث إيران وأفغانستان. صحيح أن الأتراك أعلنوا أنهم مع نظام فيدرالي في قبرص ولكنهم حتى الآن لم يقولوا ما هي المساحة التي يرغبون فيها. صحيح أيضاً أن الجالية مارست ضغط على تركيا من أجل تليين مواقفها ولكن هذا الضغط لم يؤد عملياً إلا إلى القبول بإجراء مفاوضات. عملياً اضطر الرئيس مكاريوس إلى القبول بمبدأ الدولة الفيدرالية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وقال دنكتاش أن نصيب الأتراك من أرض الجزيرة لن يتجاوز 32,6% ولكن الزعيمين القبرصيين لم يتفقا إلا على بعض نقاط:
1 – جمهورية قبرص مستقلة، فيدرالية، ثنائية الطائفة غير منحازة.
2 – توزع أراضي الجزيرة يجب أن يراعي إمكانية بقاء الدولة وإنتاجيتها وملكية الأراضي.
3 – نظام الحكم يجب أن يضمن مبدأ حرية تنقل الأشخاص وإقامتهم وحرية تملكهم.
4 – صلاحيات الحكومة الفيدرالية يجب أن تضمن وحدة البلاد وأن تأخذ بعين الاعتبار في الوقت ذاته الثنائية الطائفية.
هذه النقاط قد تصلح للاتفاق كما تصلح للاختلاف وهي تبشر بمفاوضات طويلة جداً تكون تركيا المستفيد الأول منها، خصوصاً وأن أتراك الجزيرة "يمينيون" في معظمهم منذ أيام الاستعمار البريطاني.
اليونانيون، وسط ويساريون والحزب الشيوعي في الشطر اليوناني يكاد يكون القوة السياسية الأولى وهو يخشى أن يمتد أكثر لكي لا يثير عدائية واشنطن، لذلك يدعم مع الحزب الاشتراكي الرئيس كبريانو وريث مكاريوس.
حتى الآن، لا تنقص قبرص قرارات مجلس الأمن وبيانات المجموعة الأوروبية وتصاريح الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض ولكن ينقصها السلام الحقيقي والاطمئنان إلى المستقبل.
وحتى الآن، تحتفظ واشنطن بكل الأوراق. السوفيات يدعون إلى مؤتمر دولي لبحث المسألة القبرصية. أثينا ونيقوسيا توافقان ولكن تركيا تعارض قريباً من قبرص، عام 1947، قسمت فلسطين ثم صارت فلسطين كلها مع الزمن ضمن دولة إسرائيل. اليوم قسمت قبرص فعلياً، الخطوة الثانية قد تكون دولتين فيدراليتين متصارعتين والنتيجة مهما بدت الآن بعيدة، قد تكون قبرصاً تركية بالكامل. وكما أن جنيف الفلسطينية بعيدة فإن جنيف القبرصية أبعد.
عن الوضع القبرصي يقول سفير دولة عربية من أصل بدوي: "إنها سياسة الجزار". والمهم أن لا يساهم العرب، رغم أن دورهم محدود للغاية، في تقسيم قبرص. بالمناسبة، هناك سؤال لم يطرح:
لماذا يتفرج العرب جميعاً، وعرب المتوسط بنوع خاص، على مأساة عنوانها قبرص؟
لكن كلمة كانت تنتشر على كل شفة تركية وهي "التقسيم"، تماماً بلفظها العربية واتضح أن الكلمة التي هي نفسها في اللغتين ستبحر إلى دولة مجاورة هي لبنان.
البرودة البريطانية:
حتى الآن لا تزال المأساة تتفاقم في جمود أمر واقع قد يكون الصدام العسكري أقل سوءاً منه ولكن خطوط المقاصد الأميركية كانت قد بدأت تتضح ولكن في لندن.
ماذا كان يعني الصمت البريطاني؟
المادة الرابعة من اتفاقية إنشاء دولة قبرص تؤكد أن لأي طرف من الأطراف الثلاثة الموقعة الحق في التدخل إذا حدثق إخلال بنصوص الاتفاقية. كان لبريطانيا "الحق" إذن في التدخل. وقد نصت الاتفاقية ذاتها على أن بريطانيا "ملزمة بضمان استقلال ووحدة أراضي الجمهورية القبرصية".
المسألة بمجملها نوقشت في اجتماع للجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني، ولكن المناقشة لم تكشف سر التلكؤ البريطاني. هل صحيح، كما قال وزير الخارجية البريطاني، ان حكومته لم تكن تعلم إطلاقاً أن انقلاباً ما قد يحدث في قبرص الثابت، في أي حال، هو أن وزير خارجية بريطانيا لم يكشف إطلاقاً عن المحادثات التي أجراها يومذاك مع وزراء خارجية اليونان وتركيا والولايات المتحدة وقد طرح احتمال القيام بعملية تركية - بريطانية مشتركة، وقيل إن بريطانيا وضعت بعض قواتها بتصرف الأمم المتحدة. المهم هو أن بريطانيا كانت قادرة على التدخل العسكري وملزمة أدبياً وقانونياً بحماية اتفاقية 1960. وإذا كان وزير خارجيتها قد برر تقاعسها بقوله إن حكومته لا ترغب في مزيد من الدمار، فإن الدمار الذي حصل فعلاً فاق ما كان الوزير يقول أنه يحاول أن يتفاداه. كان هناك إذن ما سماه ريمون إده فيما بعد خطة كيسنجر. السر إذن يعرفه كثيرون.
التقسيم أميركياً
شهرزاد قبرص كانت هذه المرة فاسوس ليساريديس رئيس الحزب الاشتراكي القبرصي.
يقول ليساريديس إن الانقلاب العسكري والغزو التركي الذي تلاه هما حلقتان من سلسلة واحدة. كان هم الولايات المتحدة إقامة "جمهورية موز" على غرار دول أميركا الوسطى في قبرص، وهذا يمر عملياً بتقسيم الجزيرة بين اليونان وتركيا بحماية عسكرية أطلسية أميركية في الواقع وبريطانية في الظاهر.
هل كانت تركيا تريد مجرد حماية
القرار التنفيذي اتخذ في 12 حزيران 1967:
أعيدوا بناء هيكل سليمان
من أرز لبنان!
الأسبوع العربي 25/8/1980
ميشال الحلوة
(ا.ل) – في الثاني عشر من حزيران عام 1967 أي بعد مضي يوم واحد على نهاية حرب الأيام الستة التي نقلت إسرائيل إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، ومكنتها من احتلال فلسطين بكاملها بما فيها النصف الشرقي المتبقي من مدينة القدس، التقي في هذه المدينة ثمانية عشر وجهاً، لأشخاص يمثلون الصهيونية العالمية وجبابرتها بدءاً بروتشيلد وانتهاء بساسون، مروراً بحفنة من أحفاد العائلات اليهودية الكبرى التي حددتها التوراة.
حول هذه النقطة تروي مجلة "تايم" التي صدرت بغلاف مميز عن تلك الحرب، "أن الثمانية عشر عقدوا اجتماعات مغلقة استمرت ثلاثة أيام كاملة سمح بعدها لرئيس وزراء إسرائيلي ليفي اشكول، ووزير الدفاع موشي دايان، بدخول قاعة الاجتماعات لتسلم القرارات بعد الاستماع إلى نصوصها".
جاء في بعض هذه القرارات:
أولاً – أن الأراضي التي احتلت يجب اعتبارها أجزاء محررة من أرض الميعاد وعلى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، أن تضع هذا الاعتبار في استراتيجيتها المزدوجة: السياسية والعسكرية.
ثانياً – على كل حكومة من الحكومات المتعاقبة في إسرائيل، أن تحقق إنجازاً جديداً في إطار استكمال الدولة اليهودية، التي تمتد حدودها بين النيل والفرات.
ثالثاً – استخدام جزء أو أجزاء من الأراضي المحتلة في الاستراتيجية الهادفة إلى استدراج الدول العربية إلى مفاوضات مباشرة من أجل الصلح، من دون التفريط بأي جزء يعتبر أساسياً لكيان الدولة العبرية.
رابعاً – الشروع الفوري في الإجراءات اللازمة – ذات الشروط المكتملة – لإعادة إقامة هيكل سليمان كما كان قبل تدميره. و"الشروط المكتملة" هذه أوردها القرار على النحو الآتي:
• أن يتولى وضع تصاميم الهيكل مهندسون متحدرون من أصلاب أسباط اليهودية الأصيلة الإثني عشر. وأن يكون البناؤون منهم، وكذلك المكلفون بتوريد مواد البناء بجميع عناصرها، من ترابة وحجارة وحديد ومياه ورمل وخشب، على أن يكون الجزء الأساسي من الخشب الذي يستخدم لإقامة الهيكل الداخلي، من أرز لبنان. أما الباقي فمن السنديان. ولا يجوز أن يتعاطى بعملية البناء أي غريب عن الأسباط الإثني عشر، حرصاً على قداسة المبنى، وتجنباً لتلوثه بالرجس. وكذلك ينبغي ألا يكون العمل مأجوراً، لأن هيكل سليمان، بني تطوعاً بدافع من الإيمان الشخصي عند الذين قاموا ببنائه.
وفي إطار "التأكيد والتكرار والتذكير" قال القرار: بنو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الإثنا عشر هم ركائز الأسباط التي لم ينقطع نسلها بل استمر "لتحقق مشيئة الرب في بقاء شعبه المختار". وهم بالتسلسل: رابين. شمعون. لاوي. يهوذا. يساكر. زبولون. يوسف. بنيامين. دان. نفتالي. جاد وأخيراً أشير. وهم أبناؤه من زوجاته الأربع: راحيل. ليبا. بلها وأخيراً زلفا.
وفي الفقرة الأخيرة من هذا القرار ورد النص التالي: إن إعادة إقامة الهيكل تعتبر عملاً تنفيذياً لأحد قرارات مؤتمر "بال" الذي دعا إليه مؤسس الصهيونية هرتزل العام 1897.
ومن هنا يتضح أن مؤتمر "بال" كان بداية الاستعداد لحرب أيار عام 1948 التي انتهت، بفضل الخداع الدولي بهزيمة الجيوش العربية كلها وبطرد مليون عربي واغتصاب نصف فلسطين. وكان أيضاً بداية الاستعداد لما حدث بعد ذلك من ابتلاع كامل التراب الفلسطيني ومعه تراب عربي هنا وهناك.
ففي ذلك المؤتمر بالذات، قال هرتزل: "أستطيع أن أؤكد أنني أوجدت الدولة اليهودية سواء قامت هذه الدولة بعد خمس سنوات أو بعد خمسين سنة بعاصمتها الأبدية أورشليم، وهيكلها المقدس، هيكل النبي سليمان". وبعد أن شدد على ضرورة قيام هذه الدولة في كل فلسطين وشرقي الأردن ولبنان، أوضح الخطة الواجب اتباعها مع العرب لتيسير إقامة الدولة الصهيونية بقوله: "إن فلسطين يجب أن تكون لليهود وأما العرب فلهم الصحراء. إن اتباع سياسة اللين مع العرب للتوصل إلى توطيد أركان الوطن القومي اليهودي سياسة مملة ولذلك بات من الضروري مجابهة العرب بالأمر الواقع وإفهامهم ضرورة الجلاء إلى الصحراء".
إذن، لقد استعد الصهيونيون خمسين سنة حتى استطاعوا آخر الأمر أن ينفذوا النية التي بيتوها. وإبان هذه الفترة الطويلة حققوا خطة مرسومة وضحت في شراء أكبر مساحة من الأراضي بأي ثمن مهما كان. فأمكنهم أن يشتروا قرابة مليوني دونم عن طريق جماعة عشاق صهيون وأسرة روتشيلد وصندوق شراء الأراضي. ولازم حركة الشراء هذه إرسال مهاجرين بأفواج كبيرة حتى إذا قامت الدولة أو أعلنت الحرب ضد العرب وجد في فلسطين شعب لهذه الدولة وجيش يدافع عنها. فما حل عام 1948 حتى كان تعداد اليهود قد زاد من 6 في المئة إلى 35 في المئة، فأصبحوا قرابة نصف مليون يهودي. وكانت النتيجة الطبيعية لحرب أيار انتصار الأقلية القوية المستعدة لمدة نصف قرن كامل، وهزيمة الأكثرية العربية غير المستعدة.
لماذا حدث هذا؟ وماذا عمل العرب طوال الفترة التي كان الصهيونيون يستعدون فيها لحرب 1948؟
لقد أجاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عن هذا السؤال في حينه عندما قال: "كانت كل الأمم تشعر بما سيحدث في فلسطين، وكنا نحن العرب نشعر بذلك. وكان رجال السياسة العربية عقب الحرب العالمية يشعرون بما سيؤول إليه أمر فلسطين. فماذا عملوا: لم يعملوا غير الخطب وبعدئذ حلت الكارثة. فنحن الأمم العربية السبب في ذلك".
ومهما كانت الأسباب التي أدت إلى هزيمة العرب، يجب أن نعترف بأن حرب فلسطين أيقظتهم. وكانت ثمارها الأولى قيام سلسلة من الثورات ترمي كلها إلى التخلص من الاستعمار ومن العرب الذين ساندوا الاستعمار.
ولكن العرب مع ذلك بقوا أسرى استعمار خلافاتهم ورواسب حرب داحس والغبراء فهزموا في حرب ثانية، وضاعت فلسطين – إلى حين طبعاً – ووقعت القدس أسيرة في أيدي الصهاينة. فما الذي فعله العرب إزاء امتداد الكارثة وكيف تصرفوا لإنقاذ المدينة المقدسة؟
بعد ثلاث سنوات من حرب الـ67 وبالتحديد في الثالث من أيلول عام 1970 انعقد المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، في مكة المكرمة، لمدة نصف شهر كامل، وأقر الجهاد المقدس، لإنقاذ مدينة القدس، وفلسطين واقتلاع إسرائيل من كل المنطقة، وتوج قراراته المتعددة ببرقية شكر إلى المغفور له الملك فيصل هذا نصها:
"إن المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي رئيساً وأعضاء وقد فرغ من دورته الثانية عشرة بمكة المكرمة ليرفع بكامل هيئته أصدق عبارات الشكر والوفاء وأخلص آيات الولاء إلى جلالتكم لما تشملون به المجلس من كامل العون والتأييد سائلين الله تعالى أن يبارك في عهدكم السعيد ويؤيد ملككم بنصره العظيم يوفق جلالتكم لما فيه مجد الإسلام وعزة المسلمين وأن يسبغ عليكم لباس العافية".
وبعث المجلس ببرقية مماثلة إلى الأمير خالد بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية آنذاك.
ثم أصدر قرارات وتوصيات وصفها بأنها مهمة بدأها على النحو الآتي:
"الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عقد المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي دورته الثانية عشرة بمقر الرابطة بمكة المكرمة برئاسة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس المجلس لهذه الدورة في الفترة ما بين 2 شعبان 1390هـ إلى 27/8/1390هـ الموافق 3/10/1970 م إلى 18/10/1970 م وقد افتتح الجلسة بتلاوة مباركة من آي الذكر الحكيم – ثم بكلمة ترحيب من معالي الأمين العام للرابطة. وناقش المجلس بعدها ما عرضته عليه الأمانة العامة في تقريرها السنوي المعتاد المؤرخ في أول شعبان 1390 هـ واتخذ القرار التالي:
بالنسبة إلى فلسطين والقدس بنوع خاص تداول المجلس التأسيس في ما جاء في تقرير الأمانة العامة بشأن فلسطين وقرر ما يأتي:
أ – يدعو المجلس الشعوب الإسلامية عامة إلى وجوب المضي في الجهاد لإنقاذ فلسطين وتحريرها كلها من عصابات الصهيونية وتطهير المسجد الأقصى وسائر الأراضي المقدسة من الاحتلال وصد العدوان الذي تآمر عليه العدو المعتدي عن جميع البلاد العربية الإسلامية ووجوب التعاون بصدق وإخلاص وبذل وتضحية في هذا الجهاد المقدس الذي فرضه الله تعالى على المسلمين صيانة للأرواح والحرمات وحماية للأوطان والكرامات.
ب – دعم الجهاد لتحرير فلسطين والمسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي وجميع المقدسات في فلسطين وسائر الأراضي العربية المحتلة من هذا العدوان الأثيم، ومد الأبطال المجاهدين في هذا السبيل بأسباب القوة التي تمكنهم من مواصلة الجهاد وتحقيق الغاية الشريفة، وهي إنقاذ البلاد من الاحتلال وإعادتها إلى حظيرة الإسلام والعرب كريمة عزيزة.
جـ - إن المجلس إذ يقدر ما تقوم به الحكومات والشعوب الإسلامية من جهود حميدة في سبيل الهدف المشترك لتحرير فلسطين، يرجو منها المزيد من هذه الجهود، والتنسيق بينها.
د – يؤكد المجلس أن لإسرائيل مخططات توسعية استيطانية على حساب البلاد العربية والإسلامية تنفذها على خطوات، وأن القوة العربية والإسلامية هي السبيل الوحيد لاستعادة الحقوق المغتصبة.
هـ - ويهيب المجلس بالدول العربية والإسلامية بألا تخدع بتظاهر إسرائيل بالسلام أو بمشروع "روجرز" الذي لم يكن المقصود منه سوى ترسيخ أقدام إسرائيل في الأرض العربية الإسلامية المحتلة وأن لا تقبل حلاً للقضية الفلسطينية لا يرضى عنه الشعب الفلسطيني.
كما يطلب المجلس من الدول العربية والإسلامية أن تعد ما تستطيع من قوة لاستعادة حقوقها في الأرض المقدسة وسائر الأراضي المحتلة وأن تتذرع بالحذر واليقظة إلى أبعد الحدود.
و – يهيب المجلس بالمسؤولين عن القوات المسلحة المجاهدة أن يعملوا على تعميق الروح الإسلامية في نفوسهم، وتعبئتهم روحياً ليرتبط شعورهم بالقيم العليا في دينهم ومواقف البطولة في تاريخهم.
ز – الحفريات التي يقوم بها اليهود تحت المسجد الأقصى: بعد أن وقف المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة على تفاصيل فاجعة التخريب والهدم التي انتهكت بها الصهيونية الآثمة حرمة المسجد الأقصى بالحفر تحت أسوار مبانيه الأثرية رأى ان عمليات الحفر التي تقوم بها الصهيونية تحت المسجد الأقصى وحوله تعتبر عملاً عدوانياً صارخاً وانتهاكاً خطيراً لحرمة مسجد من أقدس مقدسات المسلمين، تهدف إلى محوه من الوجود وإقامة هيكل لهم على أنقاضه.
إن المجلس استناداً إلى الحقائق التالية:
أولاً – إن حائط (المبكى) الذي يتذرع به اليهود لمواصلة أعمال الحفر على امتداده هو الجزء الغربي لجدار المسجد الأقصى. وقد أكد ذلك التقرير الذي وضعته لجنة البراق الدولية التي تشكلت بقرار من مجلس عصبة الأمم في 14/1/1930 وقد نص هذا التقرير على ما يأتي:
"للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي. ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه جزءاً من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف الإسلامي. وللمسلمين أيضاً تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط لكونه موقوفاً حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير.
ثانياً – أن ما يقوم به اليهود من حفريات في مدينة القدس وما تؤدي إليه هذه الحفريات من تصدع المباني وإخلائها من سكانها، وما يقدمون عليه من هدم المساكن والمساجد والمدارس وأملاك الأوقاف الإسلامية بحجة استكمال الحفريات في المسجد الأقصى هي إجراءات عدوانية تستهدف تغيير وضع القدس من عربية إسلامية إلى يهودية.
ولقد صدرت سلسلة من القرارات عن الأمم حول وضع مدينة القدس كلها تدمغ إسرائيل بالعدوان وتدعوها إلى الكف عن جميع الإجراءات التي تؤدي إلى مثل هذا التغيير.
لذلك واستناداً إلى جميع الحقائق الآنفة قرر المجلس ضرورة اتخاذ الخطوات التالية:
1 – إرسال مذكرة مفصلة إلى الأمم المتحدة وإلى جميع الدول الإسلامية وسائر المنظمات الإسلامية في العالم يبين فيها الاعتداءات التي يقوم بها الصهيونيون بغية انهيار المسجد الأقصى وتهويد مدينة القدس وتبديل معالمها وتشريد أهلها. ويطالبهم فيها ببذل جميع الجهود لوضع حد لهذا العدوان الصارخ على مقدسات قاطبة وعلى حقوقهم ومشاعرهم كافة.
2 – إرسال تلك المذكرة إلى الأمانة العامة للدول الإسلامية والأمانة العامة لجامعة الدول العربية ومناشدة كل منهما الاتصال بمجلس الأمن والأمم المتحدة وسائر المحافل الدولية للعمل على تنفيذ القرارات الخاصة بمدينة القدس المشار إليها آنفاً ولفت نظرها إلى العدوان الإسرائيلي المناقض لهذه القرارات ومطالبتها بإيفاد لجنة دولية لمشاهدة هذا العدوان في القدس ورفع تقرير بهذا الشأن إلى الجهات الدولية المختصة.
3 – إطلاع الرأي العام الإسلامي على ما يقوم به الصهيونيون في فلسطين عامة وفي المسجد الأقصى خاصة بجميع وسائل الإعلام من إذاعة وصحافة وتلفزة وبيانات.
بالنسبة إلى مصادرة اليهود للأراضي العربية والإسلامية في القدس: بعدما درس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة موضوع مصادرة اليهود للأراضي العربية والإسلامية في مدينة القدس، واطلع على المذكرات المقدمة إليه بهذا الشأن تبين أن هناك خطة يهودية تعمل على هدم قسم كبير من المساكن العربية في القدس وتشريد عشرات الألوف من سكانها العرب وإزالة كثير من الأبنية الدينية والتاريخية التي تربط حاضر المسلمين والعرب بماضيهم في هذه المدينة المقدسة بغية تهويدها والتعفية على كل أثر من الآثار الإسلامية فيها رغم جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والأمم المتحدة بعد الاحتلال عام 1967 م – التي تطالب إسرائيل بالكف فوراً عن كل الإجراءات التي تؤدي إلى تبديل وضع القدس.
لذلك قرر المجلس ما يلي:
أولاً – الاحتجاج لدى الأمم المتحدة على الخطة اليهودية الرامية إلى تهويد القدس ومطالبتها بوضع قراراتها بمدينة القدس موضع التنفيذ.
ثانياً – إرسال مذكرة وافية إلى الأمانة العامة للدول الإسلامية وإلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية وإلى جميع الحكومات الإسلامية وسائر المنظمات والهيئات الإسلامية تبين خطورة ما تتعرض له مدينة القدس وما فيها من أماكن مقدسة وكذلك مدينة الخليل ومسجدها وتناشدهم اتخاذ جميع الوسائل لمنع (إسرائيل) من مواصلة عدوانها الغاشم على هذه المقدسات الإسلامية.
ثالثاً- إطلاع الرأي العام الإسلامي والعالمي بجميع وسائل الإعلام والنشر على حقيقة الاعتداءات اليهودية وأهدافها ومخططاتها الأثيمة بشأن القدس والمسجد الأقصى ومدينة الخليل ومسجدها.
تلك كانت القرارات. وقد عممت واطلع عليها بالفعل الرأي العام الإسلامي والعالمي، فاكتفى هذا بالإطلاع، كما اكتفى العرب بالتعميم مع شيء من الاستنكار والتهديد، وإلقاء المزيد من البيانات، فيما لجأت إسرائيل من جانبها طبعاً، إلى تطويب القدس عاصمة أزلية تنفيذاً لقرار اتخذ منذ ما يكاد يقارب قرناً كاملاً، نصاً وروحاً.
يبقى السؤال: ما الذي يبتغيه العرب؟
الجواب الطبيعي أن تحرير فلسطين يقع العبء الأكبر منه على عاتق الفلسطينيين الذين استعدوا وتسلحوا من أجل هذا الهدف. ولكنهم لم يحددوا الزمان بعد. أما تحرير القدس وإعادتها إلى الصيغة الجغرافية والسياسية التي يجب أن تعود إليها، فهو قائم على عاتق جميع العرب وجميع الإسلام فضلاً عن المسيحيين الذين ما زالوا مسيحيين في العالم.
فما الذي يملكه العرب والإسلام بنوع خاص من أجل هذه المهمة؟
حتى الآن، هناك دعوة الأمير فهد إلى الجهاد المقدس. وهي دعوة لا تبدو ضرباً من الكلام، الذي يلقى منذ عقد من الزمن، وذلك لسبب بسيط يتلخص في أنها قابلة لكي تتحول إلى دعوة مزودة بأفتك الأسلحة وأقلها شأناً، وضع المصالح الدولية الكبرى على حافة الهاوية، وإقفال آبار النفط. فهل هذا ما يمكن أن تنطوي عليه الدعوة من معطيات ونتائج، أم ماذا؟(انتهى)
_______________________________________
كيف بدأ "الإخوان"
تاريخهم الدموي.. ضد الثورة؟
الكفاح العربي 1979
(تاريخ قذافي أسد اجتماع)
يقال دائماً أن شعبية جمال عبد الناصر في مصر أطلقتها ثماني رصاصات صوبت عليه من جماعة "الإخوان المسلمين" يوم 26 أكتوبر (تشرين اول) 1954 بينما هو يخطب في حشد من مئات الآلاف من الجماهير في الإسكندرية...
والوجه الآخر لهذه الحقيقة أن هذه الرصاصات الثماني التي أكسبت عبد الناصر تعاطف الجماهير وحبها ولهفتها عليه هي نفسها التي قتلت كل شعبية جماعة "الإخوان المسلمينط في مصر التي فيها نشأت ونمت... ومنها انتشرت إلى خارج مصر في أقطار الوطن العربي والإسلامي. وكان اعتقاد "الإخوان المسلمون" آنذاك أنهم في ذروة قوتهم وأنه ما عليهم إلا أن يزيحوا عبد الناصر عن الطريق لتصبح السلطة لهم.
فكيف نشأت هذه الجماعة.. وكيف كانت مواقفها على مدى السنوات قبل هذا الحادث الفاصل وبعده؟
بدأ "الإخوان" كجمعية دينية صغيرة شكلها في مدينة الإسماعيلية (الواقعة على قناة السويس) معلم للغة العربية والدين الإسلامي في إحدى مدارس الإسماعيلية الابتدائية هو الشيخ حسن البنا. وقدم "الشيخ" جمعيته للناس على اساس كونها جمعية دينية بحتة.. تدعو للأخلاق الفاضلة والتمسك بأهداب الدين. الأمر الذي ترك انطباعاً بأنها بعيدة تماماً عن العمل السياسي. وبالرغم من أنها أنشئت في عهد حكومة مصرية شديدة الرجعية برئاسة محمد محمود، فإن هذه الحكومة لم تتعرض للجمعية ولم تستشعر منها خطورة، وكانت هذه الحكومة قد أصدرت عدداً كبيراً من القوانين المعطلة للحريات العامة، وأطلق عليها اسم "وزارة اليد الحديدية".
أخفت جماعة "الإخوان" بمهارة شديدة أهدافها الحقيقية إلى حد جعل حكومة اليد الحديدية نفسها تظن أن هذه الجماعة يمكن أن تكون عامل تهدئة وسط أجواء الصراع العنيف في مصر في ذلك الوقت من أجل الديمقراطية.
واستطاع "الإخوان" أن يتوسعوا في ظل الانقلاب الدستوري الذي قاده الدكتاتور إسماعيل صدقي، فانتشروا وأصدروا صحفاً ومجلات.. وكبروا إلى حد نقلوا معه مقر مركزهم من مدينة الإسماعيلية الصغيرة إلى العاصمة – القاهرة. وكانت الحكومات الدكتاتورية تطمئن إلى دور "الإخوان" لأنهم كانوا يستقبلون الشباب الذين كانوا منهمكين في النضال ضد الدكتاتورية في إطار حزب الوفد، الحزب الأكثر شعبية والأكثر تعبيراً في ذلك الوقت عن آمال الجماهير.. ضد الإنكليز وضد الملك.
تبرع شركة القناة
ومما يلفت النظر أن شركة قناة السويس البحرية – التي كانت في ذلك الوقت شركة أجنبية تملك انكلترا الجانب الأكبر فيها – نظرت بعين الارتياح إلى نشاط "الإخوان" فمنحت جمعيتهم تبرعاً بمبلغ خمسمائة جنيه. وهو مبلغ كبير بمقاييس الثلاثينات.
وهكذا قامت سياسة "الإخوان" على تحاشي الدخول في مواجهة مع حكومات ذات طابع دكتاتوري قادرة على البطش.. والاصطدام فعلياً بالحكومات ذات الطابع الديمقراطي النسبي.. مثل حكومات الوفد التي كانت تتيح فرصة لخصومها للعمل والنشاط السياسي. ولكن الإخوان في كل الحالات عملوا على إخفاء هدفهم النهائي: السلطة.
وبينما ضيقت سلطات الاحتلال الإنكليزي في مصر إبان الحرب العالمية الثانية على كل القوى الوطنية على اختلاف توجهاتها الفكرية.. فإن هذه السلطة أبت رضى تاماً عن "الإخوان". ويلاحظ المؤرخون لهذه الفترة – النصف الأول من الأربعينات – أنه عندما كان العمل السياسي العلني مصادراً بقسوة في مصر، فإن "الإخوان" اكتسبوا قوة وانتشاراً أكبر، وانطلق خطباؤهم في المساجد يقومون بمهمة كانت مرضية للإنكليز كثيراً في ذلك الوقت وهي تفنيد مزاعم الإذاعات النازية الموجهة للبلدان الإسلامية والتي كانت تذهب إلى حد القول بأن هتلر قد أسلم وأطلق على نفسه اسم الحاج محمد هتلر، وأنه ينوي بعد انتصاره أن يمنح الشعوب العربية دولة إسلامية موحدة تحالف ألمانيا.
وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية فوجىء السياسيون في مصر بالإخوان المسلمين وقد أصبحت لهم مئات الشعب والفروع في القرى، وتغلغلوا في المدارس تحت سمع وبصر السلطات لقد زادوا آلاف الأمثال خلال سنوات الحرب.. وحافظوا رغم ذلك على سرية تنظيمهم الحديدي بزعامة الشيخ حسن البنا الذي درس جيداً الحركات السرية التي نشأت في الدولة الإسلامية في عهود بني أمية وبعدها.
وقد رفض الشيخ البنا أن يصوغ – رغم هذا التوسع والانتشار – برنامجاً تفصيلياً. وكان من رأيه أن صياغة رأي الأخوان في القضايا التفصيلية، وكيفية تطبيق الشريعة الإسلامية مع حياة المجتمع المعاصر هي محاولة ضررها أكثر من نفعها، وأنها تفتح الباب أمام مناقشات وبالتالي خلافات وشقاقات بين المسلمين أنفسهم، لتعدد المذاهب والاجتهادات".
الاصطدام بحزب الأغلبية
ولكن سياسة عدم الاصطدام بالسلطة لم يكن يمكن أن تستمر طول الوقت بالنسبة لجماعة هدفها الحقيقي هو الاستيلاء على السلطة والانفراد بالحكم، فضلاً عن نمو قواعدهم، ونمو "الجهاز الخاص" – وهو التنظيم المسلح السري – حتى أصبح ميليشيا سرية مسلحة مهمتها الاستيلاء على الحكم عن طريق تحرك انقلابي مسلح.
وعلى الرغم من كل ما قيل عن سرية هذا التنظيم المسلح وحديديته فقد أمكن اختراقه من جانب الحكومات المصرية. ويعزى ذلك إلى انعدام التثقيف السياسي بمفهومه الصحيح لدى الإخوان. فقد كان الأعضاء الجماهيريون العاديون ينضمون إلى الإخوان غالباً استجابة للمشاعر الدينية الفطرية وسعياً وراء كسب مثوبة الدعوة للخير والفضيلة ومقاومة الرذائل في النفس الإنسانية. وتبين لهذا أن بعض هؤلاء كانوا لا يرون غضاضة في الجمع بين عضوية الأخوان وعضوية حزب سياسي مثل الوفد، على أساس أن جماعة الإخوان "لا تتعاطى السياسة" (...)
وعلى العكس من الأعضاء العاديين، فقد كان أعضاء "القسم الخاص" (الجهاز السري المسلح) ينتقون انتقاء دقيقاً ويخضعون لتدريبات شاقة ودروس تثقيفية خاصة وبرنامج إعداد عقائدي وعسكري، ويعدون للإطاحة بالنظام السياسي. وهكذا كانت هناك هوة سحيقة بين العضو العادي والعضو "الخاص". إلا أن العجز الفكري ألقى ظله دائماً على نشاط "الإخوان" وممارساتهم السياسية. وأدى بهم هذا إلى الدخول في مجموعة من التحالفات السياسية المشبوهة التي لم تخضع لأسس مبدئية. وانكشفت خلال سنوات قليلة من نموهم الفجائي حقيقة أنهم ظلوا في كل الظروف يعملون في حماية أقليات سياسية مكروهة من الشعب ومعادية للتطور الاجتماعي، وحتى غير صلبة في مسألة الاستقلال الوطني. ولهذا عملوا كجزء من التحالف المعادي للوفد – حزب الوطنية المصرية الأكثر شعرية.. ولم يكن هذا التحالف يخدم أحداً قدر ما يخدم القصر الملكي والاستعمار الإنكليزي.
انتهى "الأخوان" إلى إعلان خصومتهم الصريحة لحزب الوفد – حزب الأغلبية الساحقة من الشعب المصري وقتذاك – فكان في هذا الإعلان انخراط صريح منهم في سلك السياسة الحزبية، فتحولوا علناً من "حركة روحية تصادق الجميع وتتعاون مع الجميع، إلى هيئة لها رأي في السياسة فتناصر فريقاً ضد فريق". وكان طبيعياً أن تقف الأقليات الأخرى المعادية للوفد في تعاطف مع الإخوان تشد أزرهم ضده، وكانت حكومات الأقلية في عهودها تتيح للإخوان كل فرصة للتوسع، حتى أن حكومة "السعديين" سمحت لهم بإنشاء تنظيم "الجوالة" – وكان تنظيماً شبه عسكري – على الرغم من أن القانون يحرم قيام تشكيلات من هذا النوع. وتضخم "الجوالة" إلى احد أن أصبح خلال سنوات قليلة من إنشائه يضم أكثر من عشرين ألف عضو. وهكذا تحول "الإخوان" إلى ما أصبح يسمى "الذراع الضاربة" لأحزاب الأقليات السياسية.
ويعتبر موقف "الإخوان" – على سبيل المثال – من اللجنة الوطنية للعمال والطلبة عام 1946 نموذجاَ للمواقف الخاطئة والمهادنة لأعداء الشعب. فبينما تبنت كل القوى الوطنية والتقدمية فكرة رفض أسلوب المفاوضات والمساومات كحل لقضية الاحتلال الإنكليزي لمصر، ورفعت شعار الكفاح المسلح وتخليص الاقتصاد المصري من التبعية للاحتكارات الأجنبية وتكوين جبهة معادية للاستعمار، وتكوين لجنة وطنية ضد دكتاتورية إسماعيل صدقي للتعاون مع الإنكليز والذي تجر سياسته البلاد نحو الأحلاف الاستعمارية الغربية... فإن الإخوان المسلمين – الذين كان العداء للاستعمار أحد شعاراتهم المعلنة – اشتركوا في مؤامرة تخريبية واسعة النطاق وأحدثوا انشقاقاً في اللجنة الوطنية وتحالفوا مع الدكتاتور صدقي، وألقى زعيم الطلاب الإخوانيين في الجامعة آنذاك خطاباً أيد فيه إسماعيل صدقي مستشهداً بآية من القرآن الكريم: {واذكر في الكتاب إسماعيل أنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا} (...)
وقرروا بعد السفور أن يعدوا أنفسهم لخوض المعركة الانتخابية.. وكان تصورهم أنهم قادرون على اكتساح الانتخابات، أو على الأقل الخروج منها حزباً سياسياً قوياً. إذ كانت تقديراتهم لعدد الأعضاء المنتمين إليهم حوالي نصف مليون في عام 1950. وفي هذا الوقت نفسه اكتشف حلفاؤهم من ساسة أحزاب الأقلية أنهم بدأوا يشكلون خطراً عليهم هم أنفسهم. فبدأ ضغط حكومة محمود فهمي النقراشي (باشا) عليهم لمحاصرة نشاطهم السياسي.. حتى أصدر قراره بحل الجماعة نفسها بعد أن قامت بسلسلة أعمال إرهابية رهيبة شملت اغتيالات وأعمال نسف وتفجيراً في المدن. واغتالوا النقراشي نفسه وسط ظروف قاسية مرت بها مصر كانت هي الظروف التي مهدت لاندلاع ثورة يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر. وفيما كانت النقمة الشعبية في مصر في هذه الفترة موجهة بكل حدة ضد الملك كان "الأخوان" يبدون حرصاً على التقرب من القصر الملكي والظهور للملك بمظهر المؤيدين المساندين له ولحكوماته.
العلاقة مع الملك
وفيما كانت اعترافات قاتل النقراشي تتوالى عن التنظيم السري المسلح للإخوان وعن دوره في عمليات الاغتيال والنسف أصدر حسن البنا بياناً بعنوان "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين" قال فيه أنه شعر "بأن من الواجب عليه أن يعلن أن مرتكب هذا الجرم الفظيع وأمثاله من الجرائم لا يمكن أن يكون من الإخوان ولا من المسلمين، لأن الإسلام يحرمها والأخوة تأباها وترفضها... ولكن مصر الآمنة لن تروعها أمثال هذه المحاولات الأثيمة وسيتعاون هذا الشعب العظيم مع حكومته الحريصة على أمنه وطمأنينته في ظل جلالة الملك العظيم على القضاء على هذه الظاهرة الخطيرة.
ولم يكن الملك ضنيناً بالمديح على الإخوان، فقبل أشهر قليلة من اندلاع ثورة يوليو استقبل الملك مرشد الإخوان حسن الهضيبي. ووصف الملك دعوة "الإخوان" في تلك الفترة بأنها "دعوة إلى كتاب الله، وهي دعوة خير لا يستطيع أحد أن يردها". وأضاف "إن الإنكليز سيخرجون من البلاد حتماً، ولكن الذي يجب علينا أن نقاومه هو الشيوعية لأنها تتنافى مع الدين". وقال للهضيبي في نهاية استقباله له "بلغ إخوانك تحياتي". ووصف المرشد المقابلة بأنها كانت "مقابلة كريمة لملك كريم".
في هذا الوقت نفسه كانت الاستخبارات الأميركية تتحرك بنشاط زائد في المنطقة. ويذكر مايلز كوبلاند في كتابه الشهير "لعبة الأمم" أن وكالات الاستخبارات كانت تفكر في تشجيع الجمعيات الدينية لكي تصد المد اليساري الديمقراطي في مصر ضمن التفكير في إحداث انقلاب في مصر من داخل السلطة نفسها أو من خارجها.
في تلك الظروف والأجواء اندلعت ثورة جمال عبد الناصر...
وتاريخ "علاقة" الإخوان بثورة يوليو مفعم بالتناقضات والدروس.. التي اكتسبت في بعض فتراتها طابعاً دموياً لم يغب كثيراً عن تاريخ "الإخوان" منذ نشأتهم حتى الآن.
كان "الإخوان" قد عملوا على التسلل إلى داخل الجيش في سنوات الأربعينات. وكان الضباط الأحرار، بدورهم حريصين خلال الفترة نفسها على أن يجسوا نبض الإخوان قبل أن يوجهوا ضربتهم. وهكذا عندما قامت ثورة 23 يوليو كان عدد من ضباطها على صلة وثيقة بالإخوان ومرشدهم الشيخ البنا. من هؤلاء أنور السادات وحسين الشافعي وكمال الدين حسين وعبد المنعم عبد الرؤوف. والأخير كان يجمع بين عضوية مجلس قيادة الثورة وعضوية جماعة الإخوان. وقد اقترح في وقت من الأوقات أن يكون لتنظيم الضباط الأحرار جناح عسكري للإخوان، ولكن جمال عبد الناصر رفض هذا الاقتراح. واختلف عبد الرؤوف بعد ذلك مع مجلس الثورة وحوكم وهرب من السجن واختفى بحماية الإخوان حيث قام بدور العقل العسكري للميليشيا الأخوانية في مؤامرتهم لاغتيال عبد الناصر عام 1954.. وفر فور فشل المخطط إلى الخارج ولم يعد إلى مصر إلا بقرار من أنور السادات بعد فترة قصيرة من وفاة جمال عبد الناصر.
ظلت مشكلة الإخوان المزمنة هي هي بعد قيام الثورة. فقد سعوا أولاً إلى السيطرة الفوقية على مجلس قيادة الثورة، فنراهم قد أيدوا قرار الثورة بحل الأحزاب. ولكنهم أرادوا أن يكونوا هم وحدهم المستثنين من تنفيذ القرار. وفي الشهور الأولى للثورة طلب مرشدهم الثاني حسن الهضيبي من عبد الناصر تشكيل لجنة من هيئة "الإخوان" تعرض عليها القوانين قبل صدورها للموافقة عليها. وقد رفض عبد الناصر هذا الطلب بصفة قاطعة معلناً أن الثورة لن تقبل وصاية من "الإخوان" عليها.
ضرب الثورة
إزاء هذا بدأت محاولات "الإخوان" لضرب الثورة من داخلها بتعزيز نفوذهم داخل الجيش للقيام بانقلاب عسكري مضاد، مع شن حملة اغتيالات واسعة تمكنهم من السيطرة على الحكم بالإرهاب.
ولعل طبيعة سياسة "الإخوان" إبان السنوات الأولى من الثورة تتكشف بوضوح من حقيقة أنهم في الوقت الذي كانوا يطلقون فيه شعارات الجهاد ضد الإنكليز، ويخونون جمال عبد الناصر بسبب دخوله في مفاوضات من أجل الجلاء. دخلوا هم أنفسهم – ومن وراء ظهر مجلس قيادة الثورة – في مفاوضات سرية مع الإنكليز.. حيث أبدوا استعداداً لشروط "أكثر سخاء" من شروط عبد الناصر للجلاء عن منطقة القناة مقابل تمكينهم وتأييدهم من السلطة وكان من الشروط التي قبلوها بقاء عدد من "الفنيين" الإنكليز في قاعدة القناة يتراوح بين 4000 و5000.
بلغ عداء "الإخوان" لعبد الناصر منذ ذلك الوقت حداً لا مثيل له إذا قورن بعدائهم لأي من الساسة أو الحكام المصريين السابقين. ووصلوا إلى حد رميه بالخيانة والكفر، خاصة بعد قرار حل جماعتهم باعتبارها حزباً سياسياً. وبدأت بصورة كثيفة تخطيطاتهم لاغتيال عبد الناصر. وطرح عبد المنعم عبد الرؤوف على التنظيم السري للإخوان فكرة ارتداء بعض أعضاء الجهاز ثياباً عسكرية لكي يخترقوا ويدمروا المقر الرئيسي لمجلس قيادة الثورة بمن فيه من الوزراء المتواجدين. ثم طرحت فكرة أخرى تستهدف قتل جمال عبد الناصر باستخدام حزام ناسف من الديناميت يرتديه واحد من الأعضاء بحيث يشق طريقه في اللحظة المناسبة إلى عبد الناصر "ثم يفجر الحزام ليأخذهما معاً إلى الدار الآخرة". لكن أحداً لم يتقدم للتطوع لتنفيذ هذه المهمة. واستبدل عبد الرؤوف الفكرة باقتراح آخر بأن تقوم مظاهرة مسلحة في شوارع القاهرة تتلوها سلسلة من الاغتيالات لأعضاء مجلس قيادة الثورة.
تبلورت هذه الخطط كلها في النهاية في اختيار شخص من اعضاء الجهاز السري يدعى محمود عبد اللطيف – ويعمل "سمكرياً" في ضاحية امبابة – قبل القيام بمهمة اغتيال جمال عبد الناصر.
في يوم 24 أكتوبر (تشرين الأول) 1954 زار كمال خليفة، وهو واحد من أبرز أعضاء مكتب الإرشاد للجماعة جمال سالم نائب رئيس مجلس الوزراء، وأطال في تقديم تهانيه للحكومة على إنهائها الناجح للمفاوضات، وتوقيع معاهدة الجلاء. كذلك راجت إشاعة حول اعتزام الهضيبي إصدار بيان تأييد المعاهدة.
وفي مساء 26 أكتوبر كان ممثل لمكتب الإرشاد يجلس مع السادات في مكتبه للحصول على موعد للالتقاء برئيس الوزراء (جمال عبد الناصر) من أجل بذل محاولة لحل المسائل موضع الخلاف:
وفي ذلك المساء نفسه زار عضو بارز آخر في الجماعة هو عبد العزيز كامل منزل المحامي الإخواني هنداوي دوير صديقه ورفيقه في الجماعة من حي أمبابة. ولم يكن كامل يعلم أن دوير قام في صباح اليوم نفسه بتسهيل سفر محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية لمهمة خطيرة.
في مساء اليوم نفسه (26 أكتوبر) كان عبد الناصر يلقي خطاباً أمام حشد ضخم من المواطنين عن كفاح مصر.. حين أطلق عليه عبد اللطيف ثماني رصاصات أخطأته جميعاً وبينما كان الحشد الجماهيري يتفرق في فزع من المفاجأة تمكن جمال عبد الناصر بشجاعة منقطعة النظير من أن يجعل الجميع يقفون في أماكنهم مكرراً عبارته الشهيرة: "أيها الرجال فليقف كل منكم في مكانه. أيها الأحرار فليقف كل منكم في مكانه. أنا جمال عبد الناصر منكم ودمي فداء لكم. وسأعيش من أجلكم وأموت وأنا أعمل لكم.. سأعيش لأكافح من أجل حريتكم وعزتكم.. حتى لو قتلوني فقد وضعت في نفوسكم العزة، فليقتلوني الآن، فقد غرست في ضمير هذه الأمة الحرية والعزة والكرامة. من أجل مصر ومن أجل حرية مصر، سأعيش من أجل مصر وفي سبيل مصر سأموت. إذا مات جمال عبد الناصر. فكلكم جمال عبد الناصر".
_________________________________________
"الصياد"
تنفرد بنشر
رسائل السادات
إلى المسؤولين العرب
الصياد،
حصلت "الصياد" على رسالتين بعث بهما الرئيس أنور السادات إلى الرؤساء والحكام العرب. الأولى جاءت بعد مؤتمر قلعة ليدز في بريطانيا. والثانية بعد مفاوضات بلير هاوس في واشنطن وبين الرسالتين، بالطبع، كامب ديفيد. وبعدهما قمة بغداد وكامب ديفيد 2 وأحداث إيران. ومن قبلهما ومن بعدهما الفشل في الوصول إلى اتفاق يرضي مصر نفسها، وليس الأردن والمقاومة.
والتحدي الكبير ليس في مدى قدرة أو عدم قدرة الرئيس المصري على إقناع زملائه الملوك والرؤساء العرب بأن الموقف المصري كان على حد قوله صريحاً وقاطعاً، فلا حل منفرداً. ولا تسوية مؤقتة، ولا فض اشتباك جديداً. ولا مساومة أو تفريط في الأرض والسيادة" بل هو في تقرير الخطوة التالية بعد الفشل المتتابع لكامب ديفيد، وخصوصاً أن إسرائيل ظلت مصرة على موقفها المتصلب، فلم تتغير اللاءات الثلاث التي أعلنها مناحيم بيغن: لا دولة فلسطينية، ولا انسحاب من القدس، ولا عودة إلى حدود 1967.
وفي انتظار تلك الخطوة تنشر "الصياد" النص الكامل. والحرفي للرسالتين اللتين لم تقنعا المسؤول الأول الذي تسلمهما، بل على العكس، جعلتاه يزداد اقتناعاً بضرورة تغيير موقف الرئيس المصري نفسه.
تحية طيبة وبعد،
فجرياً على نهج التشاور وتبادل الرأي المستمر بيننا في كافة القضايا القومية. أود أن أطلعكم على ما دار في مباحثات ليدز بالمملكة المتحدة يومي 18 و19 يوليو الجاري. التي أجريت بمبادرة من لرئيس كارتر. بهدف تحريك الموقف. ومواجهة إسرائيل بضرورة تحمل مسؤولياتها وقبول الالتزامات التي تفرضها عليها التسوية السلمية العادلة. خاصة بعد أن تقدمت مصر بمقترحاتها الخاصة بانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة. وترتيبات الأمن.
وكان الموضوع الوحيد الذي طرح على بساط البحث في الاجتماع هو القضية الفلسطينية حسب اتفاقنا مع الجانب الأميركي. ومن منطلق أن هذه القضية هي جوهر المشكلة وأساسها، الذي لا يمكن تجاهله أو إرجاء البت فيه إذا كان هناك توجه حقيقي للتوصل إلى سلام عادل ودائم.
ونجح الوفد المصري في أن يكون المشروع المصري المشار إليه هو أساس المناقشة، لأن مشروع بيجين قد طرح جانباً منذ تقديمه في مباحثات الإسماعيلية في 25 ديسمبر من العام الماضي، كما أنه لم يلق أي قبول أو تأييد عربي. وعلى وجه التحديد، فهو مرفوض عربياً. وبخاصة من الشعب الفلسطيني. صاحب المصلحة الأولى في القضية.
وكما تعلمون، فإن المشروع المصري يقوم أساساً على وجوب انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية (بما في ذلك القدس العربية) وقطاع غزة، وإخراج إسرائيل من مسألة تقرير مستقبل هاتين المنطقتين، وذلك عن طريق تولي الأردن الإشراف على إدارة الضفة الغربية. وتولي مصر الإشراف على إدارة قطاع غزة. كل هذا خلال فترة انتقالية مؤقتة، في نهايتها يمارس الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره، وإلى جانب هذا، يتم الاتفاق على ضمانات لأمن جميع الأطراف.
ويقضي المشروع المصري كذلك بأنه بمجرد إقرار هذا الإطار العام لتسوية المشكلة الفلسطينية. تجري مفاوضات موسعة ينضم لها الأردن وممثلو الشعب الفلسطيني ومندوب عن السكرتير العام للأمم المتحدة، بهدف الاتفاق على كافة الأحكام التنفيذية والفرعية.
وقد أوضح الوفد المصري في اجتماع ليدز أن العرب مستعدون تماماً لإقامة السلام والأمن وعلاقات حسن الجوار. وبنفس التصميم، فهم يرفضون أي تفريط في الأرض أو مساس بالسيادة، وعلى إسرائيل أن تحزم أمرها وتختار بين العيش في سلام وبين التوسع وضم الأرض العربية.
وذكر الوفد أيضاً أنه ليس من حق إسرائيل أن تعترض على ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير مصيره، وكل مالها أن تطلب بضمانات لأمنها، وهو ما يطالب به العرب أيضاً، لأن أمنهم ظل مهدداً منذ نشأة الصراع بسبب سياسة إسرائيل العدوانية.
ومن الجدير بالذكر أن الوفد الإسرائيلي كان في موقف الدفاع طوال الاجتماع، وعجز عن تقديم أي أفكار جديدة، فضلاً عن عجزه عن تبرير مواقفه أو تدعيمها بالحجج والأسانيد المقبولة. كل هذا في حضور وزير الخارجية الأميركي، وكان أهم ما ذكره وزير الخارجية الإسرائيلي:
أولاً: أن إسرائيل ترى أن ما تسميه "بالتنازلات الإقليمية" هو الضمان الفعال الوحيد لأمنها. وفي غيبته تكون الضمانات التي اقترحتها مصر غير كافية.
ثانياً: إسرائيل لا تقبل أي وضع يصبح الإسرائيلي فيه "أجنبياً" في الضفة الغربية وغزة. وبذلك فإن أي تسوية يجب ألا تنكر على الإسرائيليين الحق في شراء الأرض والإقامة فيهما.
ثالثاً: أنه طالما كان من المتعذر حل المسألة الإقليمية في المرحلة الحالية، فإنه يحسن إرجاؤها والتركيز على التوصل إلى حل لمشكلة السكان، وهو ما يهدف إليه المشروع الإسرائيل الخاص بالحكم الذاتي.
رابعاً: إن أي تسوية يجب أن تبيح لإسرائيل الاحتفاظ بقوات عسكرية في الضفة والقطاع، حتى بعد انتهاء الفترة الانتقالية.
خامساً: أن إسرائيل لا تقبل حل مشكلة اللاجئين على أساس قرارات الأمم المتحدة، وليس هذا بموقف جديد، فهو الموقف الذي اتخذته إسرائيل منذ البداية.
وبطبيعة الحال، حاول دايان تغطية هذا التعنت بالقول إن كل شيء قابل للتفاوض في نظرهم، وأنهم لم يقدموا مشروعهم على اساس أن يقبل أو يرفض كله.
ولاحظ وفدنا أن دايان أشار في أكثر من موضع – وهو في صدد الدفاع عن وجهة النظر الإسرائيلية – إلى أن هذا هو ما قرره مجلس الوزراء الإسرائيلي. وحاول ترك انطباع مؤداه أنه لو كان الأمر متروكاً له لكان من الممكن أن تكون النتيجة مختلفة.
وقد عني وفدنا بموضوع القدس، وذكر أنه يجب أن يعالج من منطلق انسحاب إسرائيل من الأرض العربية، ويمكن الاتفاق على ضمانات لحرية العبادة والانتقال في المدينة طبقاً للقرارات الصادرة في هذا الشأن.
واهتم وفدنا بتوجيه الأسئلة لدايان حول المقصود بالإجابة الإسرائيلية على السؤالين الأمريكيين وبالذات السؤال الخاص بتصور إسرائيل لما يحدث في الضفة الغربية وغزة بعد نهاية الفترة الانتقالية. وتابع وزير الخارجية الأمريكي هذا بتوجيه سؤال مباشر لدايان عن موقف إسرائيل من إقامة اتحاد فيدرالي أو كونفيدرالي بين الضفة الغربية وغزة والأردن، فأجاب دايان بأن إسرائيل ترفض هذا طبقاً لقرار مجلس الوزراء.
وبعد ذلك، حاول فانس أن يحصر نقاط الاتفاق ونقاط الخلاف بين الطرفين، غير أن الوفد المصري ذكر أنه لا مجال لها طالما أن الخلاف يتركز حول القضايا الكلية الرئيسية، مما يصعب معه القول بوجود نقاط للالتقاء.
وعلى هذا، انتهى الاجتماع بإعلان فانس أنه سيحضر إلى المنطقة مرة أخرى في أوائل الشهر المقبل، لمحاولة التعرف على كيفية التحرك إزاء تلك التطورات، وسوف يسبقه السفير أثرتون في مهمة قبيل نهاية هذا الشهر للإعداد لزيارته.
إننا نرقب أيها الأخ العزيز التطورات التي تقع في هذه المرحلة باهتمام بالغ وحرص شديد، ونصر على أن تظل المبادرة بيدنا، بحيث نضع إسرائيل في الموقف الذي اجتنبت طوال الأعوام الماضية أن تجد نفسها فيه، معزولة عن جميع دول العالم، غير مستندة إلى تأييد أي دولة تستطيع أن تقدم لها الدعم والمساندة الفعالة.
وأنا على ثقة من أنكم لن تترددوا في أن تتخذوا من جانبكم، أي خطوة تجدونها مساعدة لتحريك الأمور في هذا الاتجاه، إلى أن تدرك إسرائيل حتمية مواجهة مسؤوليتها، وتتمكن أمتنا المجيدة من تحقيق حقوقها وأمانيها المشروعة.
وختاماً، أكرر لكم تحياتي وأطيب تمنياتي.
الرسالة الثانية
لقد حرصت دائماً، انطلاقاً من شعور الإخاء والإيمان العميق بوحدة المصير – على أن تكونوا دائماً معي في الصورة الكاملة بالنسبة للجهود التي نبذلها من اجل الدفاع عن حقوق الأمة العربية واستخلاصها كاملة في ظروف بالغة الصعوبة وفي مواجهة تحديات يؤسفني أن يأتي بعضها من أخوة لنا يبدو أنهم لم يستطيعوا التخلص من الأسلوب الذي عالجنا به القضية العربية لسنوات طوال. ولم يؤد إلا إلى مزيد من التوسع الإسرائيلي، ومزيد من شعور الإحباط لدى شعوبنا العربية.
ولست بحاجة إلى أن أعيد ما سبق أن أبلغتكم به عن فلسفة التحرك المصري الملتزم تماماً بالأهداف القومية التي أجمعت أمتنا عليها، ولم تكن مصر في جميع تحركاتها إلا الأمينة على مصالح الأمة العربية والمتمسكة تمسكاً كاملاً باسترداد الأرض العربية المحتلة وتمكين الشعب الفلسطيني – الذي طالما عانى من المزايدات والممارسات الخاطئة والعاجزة – من أن يسترد حقوقه الوطنية وأن ينشىء كيانه الوطني يبني فيه مستقبله ويقرر فيه مصيره.
ولقد كنا – وما زلنا نشعر – أن قدر مصر أن تكون أكبر من كل التهجمات الظالمة وأن تتحمل العبء الأكبر في النضال العربي.
الأخ العزيز
لقد جرت – كما تعلمون – مفاوضات في واشنطن – بناء على دعوة الرئيس كارتر – بين كل من مصر والولايات المتحدة وإسرائيل. لوضع الإجراءات العملية لتنفيذ إطاري السلام اللذين تم الاتفاق عليهما في كامب ديفيد. وكانت تعليماتي إلى الوفد المصري قاطعة وصريحة في أنه لا حل منفرداً، ولا تسوية مؤقتة، ولا فض اشتباك جديداً، وأنه لا مساومة أو تفريط في الأرض والسيادة.
وانطلاقاً من ذلك، فلقد كان إصرارنا في المفاوضات على أن تأكيد النقاط التالية:
ضرورة تحديد الموعد الذي يبدأ فيه الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة في ممارسة حكم نفسه خلال مرحلة انتقالية يستطيع بعدها – بحكم تداعي الأمور – أن يقرر مستقبله بنفسه في جو من الحرية بعد أن ينحسر الوجود العسكري الإسرائيلي إلى مواقع محددة – هي بطبيعتها – ومهما ادعى الإسرائيليون – مؤقتة.
وكان إصرارنا على ذلك ينبع من إيماننا بوحدة التراب الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة. ولئن كنا اقترحنا أنه يمكن أن تبدأ من إدراك إسرائيل أن ما ستهدفه مصر هو فتح الطريق أمام التسوية الشاملة. ولكننا تمسكنا بمواقفنا واستطعنا أن نجتذب إلى الكثير منها الولايات المتحدة الأميركية التي تضطلع بدور نشيط كشريك كامل في جهود السلام، وهو دور نعمل على أن نستفيد منه إلى أقصى قدر في دعم جهودنا من أجل استرداد الحقوق العربية كاملة.
وقد وصلت المفاوضات نتيجة لذلك إلى موقف دقيق يحتاج إلى مزيد من الجهد المكثف من جانبنا في اتجاه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. والباب دائماً مفتوح لكل من يرغب من الأخوة والأشقاء العرب في أن يساهم في دفع الأمور في اتجاه الأهداف القومية العربية التي تحمل مصر – في جميع المجالات والمحافل – لواء الدفاع عنها بكل القوة والإصرار والإيمان بأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح. وسوف نظل دائماً – رغم المصاعب والعقبات – المخلصين لقدرنا. المؤمنين بعروبتنا، واثقين من أن الله سبحانه وتعالى سينصر أمته ويعلي كلمته "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".
______________________________________
تقرير وضعته "السي.آي.اي" ووزعه كارتر على اللوبي الصهيوني قبل وصول بيغن بأسبوع
المستوطنات شيء
وأمن إسرائيل شيء آخر
الحوادث
دايفيد بيشلي
• إذا سحب اليهود تأييدهم لكارتر فسيواجهون رئيساً غير ملتزم بمصالح إسرائيل
قبل أن يصل رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيغين إلى واشنطن هذا الأسبوع، قام مكتب الرئيس الأميركي جيمي كارتر، الذي يشرف عليه رئيس أركان البيت الأبيض هاملتون جوردان، بتوزيع نسخة من تقرير أعدته المخابرات المركزية الميركية C.I.A على نخبة من زعماء الكونغرس الأميركي، وأيضاً على عدد قليل من أقطاب اللوبي اليهودي في أميركا، من بينهم عمدة مدينة نيويورك ادوارد كوخ، الذي يعتبر أشد اليهود الأميركيين تطرفاً.
وتقرير الـ"سي.اي.ايه"، الذي يحمل الختم الأحمر المشهور "سري جداً" كان بعنوان "مسألة الأمن الإسرائيلي"، واستغرق إعداده ما يزيد عن ثلاثة أشهر، حسب قول المصادر الأميركية. وعرض التقرير على الرئيس جيمي كارتر في اجتماع حضره زبيغنيو برجنسكي، مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، ووزير الخارجية سايروس فانس وأيضاً صاحب التقرير، الأميرال ستانسفيلد تيرنر، مدير المخابرات المركزية. وبعد بحث التقرير، استدعى جيمس كارتر رئيس الأركان هاملتون جوردان، وأعطاه قائمة من الأسماء، وطلب منه توزيع نسخة من هذا التقرير عليهم.
الغريب في هذا التقرير أنه لم يتناول وضع إسرائيل العسكري بالتفصيل ومقارنته بالقوة العسكرية للدول العربية، أو ما يتهددها من خطر في حالة دخولها أي حرب أخرى مع العرب، كالعادة في التقارير التي تبحث في أمن الدول وسلامتها. إنما على العكس فقد ركز التقرير بأكمله على مسألة "المستعمرات" أو "المستوطنات" الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، ووضعها العسكري والاستراتيجي، ومدى فاعليتها وفائدتها الحربية في حالة وقوع إسرائيل تحت تهديد عسكري، مباشر أو غير مباشر. وتناول بالتحديد "المستعمرات" الواقعة في "الضفة الغربية".
وشمل التقرير الأربع وستين مستعمرة إسرائيلية المقامة بالفعل في مختلف أنحاء الضفة، وبحث في وضع كل واحدة على حدة، مفصلاً كل ما تحويه من سلاح وأفراد ومخزون، حتى مخزون المياه فيها. ثم تناول بعد ذلك الستين مستعمرة التي قررت إسرائيل إضافتها إلى المستعمرات المقامة حالياً في الضفة الغربية، وفائدتها الاستراتيجية والعسكرية، إن كان هناك من فائدة!
وكانت المفاجأة هي خلاصة هذا التقرير، والتي أثبتت من الناحية العسكرية البحتة، أنه لا فائدة على الإطلاق من هذه المستعمرات، لا عسكرياً ولا استراتيجياً، ولا حتى من الناحية التكتيكية، (كتأخير تقدم قوات معادية أو عرقلة هجوم شامل)، بل على العكس، استخلص التقرير أن هذه المستعمرات، بسبب كثرتها وتناثرها، تشكل عبئاً ثقيلاً على القوات النظامية للجيش الإسرائيلي والمسؤولة عن توفير الأمن والحماية لها في حالات الحرب والسلم على حد سواء.
واعتبر جيمي كارتر هذا التقرير ورقته الرابحة في محادثاته المقبلة مع مناحم بيغين. فكل التعثر الذي صادف محادثات السلام كان أولاً بسبب الصخرة التي يسميها مناحم بيغين "أمن إسرائيل"، وثاني الأسباب، وهو الأهم، عدم تحديد رئيس الوزراء الإسرائيلي لمفهوم هذا الأمن الذي باسمه ارتكبت إسرائيل كل جرائمها.
وفي مجال المناقشة حول التقرير التي دارت في اجتماع البيت الأبيض، قال جيمي كارتر ما فحواه أنه يئس تماماً من التوصل مع بيغين إلى مفهوم مقبول للطرفين، أو للأطراف الثلاثة، إذا ما أشركنا أنور السادات معهم، لهذا الأمن. وأضاف أن سول لينويتز، (مندوب كارتر في المحادثات الثلاثية)، قد بدأ يكثر من الشكوى هو الآخر من عدم استطاعته إدراك مفهوم إسرائيل للأمن. فإن بحثوا في موضوع المياه، وهل تقع تحت إشراف إدارة فلسطينية، قالت إسرائيل أن هذا مستحيل لأنه يتعلق بأمنها. وإن تناقشوا، في موضوع الاتصالات الهاتفية ومن يتحكم بها؟ قالت إسرائيل إنه غير قابل للمناقشة، لأنه موضوع أمني بحت، حتى في مسألة ادارة المدارس والعيادات الطبية، والخدمات الاجتماعية، تصر إسرائيل أن تكون لها الكلمة العليا "لاعتبارات أمنية".
كل هذه الاعتراضات، على قول كارتر تواجهه قبل أن تفتح أميركا فيها بكلمة واحدة عن المستوطنات والمستعمرات، القديم منها والجديد ومن هي في طور التخطيط، أو عن مجالس تشريعية أو استشارية فلسطينية والتي هي من مستلزمات أبسط أنواع الحكم الذاتي. لذلك.. فالواضح لأميركا حتى الآن أن رئيس وزراء إسرائيل، قد وصل إلى نهاية الشوط الذي يريد أن يحققه، وهو بالتحديد منتصف الطريق المؤدي إلى تنفيذ مقررات "كامب دايفيد" بأكملها. فكل هم مناحم بيغين الآن، وفق ما أكدته تقارير المخابرات الأميركية وأيضاً بعض زعماء الكونغرس المعروفين باتصالهم الوثيق مع المؤسسة الإسرائيلية، هو كبح جماح أي تقدم ممكن في المحادثات الثلاثية، ويكفيه ما حصل عليه حتى الآن من تطبيع، أو شبه تطبيع، العلاقات مع مصر. فلا بيغين يريد إعطاء الضفة الغربية وغزة أي نوع من الحكم الذاتي، أو حتى مجرد الإدارة المحلية. وهنا يكمن السبب الرئيسي في حمى إقامة المستعمرات الجديدة التي تعتري حكومة بيغين حالياً، وقرارات السماح للإسرائيليين بالاستيطان في أي مكان من الأراضي العربية المحتلة. فالمسألة ليست مسألة أمن، وليست أيضاً موضوع له جذور في الديانة اليهودية يتعلق بأراض يهودية، والسامرة، كما يحلو لبيغين أن يدعي أحياناً، الواقع هو أن بيغين حقق ما يريد من "كامب ديفيد" ومقرراته، وحزم أمره على التوقف واعتبار أن الموضوع الآن من وجهة نظره، قد أصبح منتهياً.
هذا التحليل نفسه ذكره الرئيس السادات عندما اجتمع مع الرئيس جيمي كارتر في واشنطن الأسبوع الماضي. ولم يكن أنور السادات في حاجة لتنبيه جيمي كارتر إلى خطورة ما يقوم به بيغين، فالرئيس الأمريكي كان على علم كامل بالتحرك، أو بمعنى أدق، بالتوقف الإسرائيلي، قبل أن يشعر به السادات بمراحل.
ومن هنا ، كان كلام جيمي كارتر مساء الأربعاء الماضي في حفل العشاء الذي أقامه في البيت الأبيض تكريماً للرئيس السادات، أن بيغين قد تعهد لهما، (أي الرئيسين كارتر والسادات)، في محادثات "كامب دايفيد"، بمنح الحكم الذاتي الكامل للفلسطينيين "ليس فقط الحكم الذاتي، لكن الحكم الذاتي الكامل وقد كرر هذا أكثر من مرة". والكلام هنا حرفياً للرئيس جيمي كارتر في حفل العشاء. ومن هذه النقطة، بدأت تحركات كارتر ضد بيغين وقبل أن تطأ أقدام الأخير الأراضي الأميركية، على الصعيد العلني. وقبل ذلك كان كارتر قد بدأ تحركه في الخفاء عن طريق توزيع تقرير المخابرات الأميركية عن الأمن الإسرائيلي والذي يثبت بوضوح أن كل ما تقوله إسرائيل في هذا المجال هراء.
وبعد توزيع التقرير، بدأت الاتصالات بأقطاب الكونغرس وبزعماء "اللوبي اليهودي". وتولى مسؤولية هذه الاتصالات هاملتون جوردان، على صعيد الكونغرس، وروبرت شتراوس، مدير حملة كارتر الانتخابية، على صعيد اللوبي الإسرائيلي، والجمعية اليهودية الأميركية. وكانت رسالة البيت الأبيض واضحة وقاطعة:
أولاً: بسبب أحداث إيران وأفغانستان أصبح من الحيوي ضمان مصالح أميركا في منطقة الشرق الأوسط عن طريق تأمين النزاع العربي – الإسرائيلي.
ثانياً: الإدارة الأميركية مقتنعة أن مقررات "كامب دايفيد"، ما زالت خير السبل للوصول إلى حل شامل للنزاع العربي – الإسرائيلي، وبعد تنفيذ مقرراته بالكامل وفي الفترة المحددة في هذه الاتفاقيات، سيصبح من السهل توسيع الحل ليشمل باقي أطراف هذا النزاع.
ثالثاً: العقبة الوحيدة الباقية أمام التنفيذ إسرائيل وموقفها من قضية الحكم الذاتي للشعب الفلسطيني.
رابعاً: لن يتحقق أي حل أو أي تنفيذ كامل لمقررات "كمب ديفيد" إلا بضمان هذه الحقوق الفلسطينية. ولذلك، ترى الإدارة الأميركية العمل بشتى الوسائل على إقناع إسرائيل بتعديل موقفها الحالي.
واتضح للجميع أن جيمي كارتر قد عقد العزم على الضغط على مناحم بيغين، ليحصل منه على التنازلات اللازمة لتنفيذ هذه الاتفاقيات، ولو على مراحل، والمخطط الأميركي يهدف إلى إصدار "توجيهات سياسية محددة" حول موضوع الحكم الذاتي، الهدف منها إزالة الغموض الإسرائيلي حول موضوع الأمن، وما تعتبره إسرائيل من الأمور الحيوية التي تتعلق بأمنها وسلامتها. وعلى ضوء هذه التوجيهات، يجتمع يوم 21 نيسان (أبريل)، في واشنطن ممثلي الدول الثلاث في المحادثات: سول لينوتيز. مندوب الرئيس جيمي كارتر، ومصطفى خليل، رئيس الوزراء المصري ويوسف بورغ وزير داخلية إسرائيل وممثل بيغين في هذه المحادثات. ويستمر ثلاثتهم في الانعقاد إلى أن تصل المحادثات إلى نتيجة إيجابية حول اعتراضات إسرائيل.
المصادر الأميركية الوثيقة الصلة تؤكد أنه بعد انتهاء هذا الاجتماع الثلاثي، سيقوم الرئيس جيمي كارتر بدعوة أنور السادات ومناحم بيغين إلى العودة مرة أخرى إلى "كامب دايفيد" حيث يقوم مؤتمر قمة بينهما بوضع الخطوط النهائية للاتفاق، ثم يتولى الرئيس كارتر إعلانها على الملأ من شرفة البيت الأبيض، محتفظاً لنفسه بشرف الانتصار لاستخدامه في معركة انتخابات الرئاسة ضد منافسه الجمهوري رونالد ريغان.
الطريف أن هناك نقطتين ركز عليهما روبرت شتراوس في حواراته مع زعماء "اللوبي اليهودي". النقطة الأولى، هي تحذير "لكل من يحب إسرائيل ويعمل لمصلحتها" من أن موقف حكومة بيغين الحالي له نتيجة مؤكدة واحدة، وهي بروز مصر في منطقة الشرق الأوسط كحليف أميركا الاستراتيجي الرئيسي بدلاً من إسرائيل. وقال إن هناك منافسة قوية، وإن كانت في الخفاء بين مصر وإسرائيل للوصول إلى هذا المركز، (مركز الحليف الرئيسي)، وأن السادات بسياسته يكسب موقفاً بعد الآخر وإسرائيل، بسبب مواقف مناحم بيغين، تخسر جولة بعد أخرى. وأضاف شتراوس لزعماء اليهود أن هذا موضوع لا يخص إدارة كارتر وحدها "فهو أمر يتعلق بمصالح أميركا الرئيسية وبأمنها الاستراتيجي". ولن يتغير بمجيء رئيس آخر أو إدارة جديدة.
النقطة الأخرى التي أثارها شتراوس كانت ما قاله "لقد سحبتم تأييدكم لكارتر في ترشيحات ولاية نيويورك لكن هذا لن يمنع ترشيحه عن الحزب الديموقراطي. والشيء نفسه قد يتكرر في انتخابات الرئاسة ضد ريغان، فإن عاد كارتر إلى البيت الأبيض دون الاعتماد على اصواتكم، (الأصوات اليهودية)، فلن يكون هناك ما يمنعه من التصرف بمطلق الحرية حيال إسرائيل. والرئيس كارتر إنسان عنيد جداً، ولن ينسى أبداً أنكم خذلتموه في الانتخابات، بسبب تأييد أعمى لإسرائيل، وستكون النتيجة هي رئيس أميركي يتصرف بما تمليه عليه مصالح أميركا العليا فقط، ولن يأخذ بعين الاعتبار مصالح اي دولة أخرى حتى ولو كانت هذه الدولة إسرائيل نفسها، إن تعارضت هذه المصالح مع المصالح الأميركية كما يراها هو... وهو وحده.
وفهم جميع الحاضرين فحوى الرسالة، وبدأت اتصالاتهم مع بيغين وحاشيته لشرح خطورة موقفه، ولتنبيهه لما سيواجهه من ضغوط عند وصوله إلى واشنطن. وأفهموه أيضاً أن أغلب الجاليات اليهودية بدات تقتنع بوجهة نظر الرئيس الأميركي وتجد صعوبة شديدة في الدفاع عن سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية. كما نبهوه إلى تضاؤل عدد أصدقاء إسرائيل في العالم، وانصراف حتى أشد أنصارها عنها.
السؤال الملح الآن هو: هل اقتنع بيغين؟
وإن لم يقتنع؟
هل يستطيع جيمي كارتر حمله على الاقتناع؟
الإجابة خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
أمين الجامعة العربية يتحدث إلى "الصياد"
ما يجري في جنوب لبنان
ثمرة من ثمار الحلول الجزئية
الصياد تونس: سلامة عبد الرحمن
قضايا عربية ودولية كثيرة أثارها الصياد في حديث صحفي مع الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد الشاذلي القليبي وفي مقدمتها قضية الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على جنوب لبنان والوضع الراهن للجامعة العربية وما ينتظر منها القيام به في هذه المرحلة بالذات وفيما يأتي نص الحديث.
• قمتم مؤخراً بجولة شملت بعض الدول العربية فما هي أسباب هذه الجولة وما هي النتائج التي أسفرت عنها؟
- بعد التغييرات التي طرأت على الجامعة العربية بانتقالها من القاهرة إلى تونس وتعليق عضوية النظام المصري فيها وانتخاب أمانة عامة جديدة ونظراً للتطورات الخطيرة في الساحة العربية فإنه من الطبيعي أن نشرع في الجامعة العربية بسلسلة اتصالات تهدف إلى تأكيد التضامن العربي في هذه المرحلة والذي نعتقد أنه السلاح الأقوى لمواجهة التحديات الخطيرة في الساحة العربية وفي هذا الإطار زرنا عدة دول عربية بالمشرق وسنقوم بمتابعة الجولة قريباً لبقية الدول من أجل تحقيق التضامن ووحدة الصف العربي لمواجهة الموقف الراهن. وقد كانت الجولة ناجحة وتأكدت إرادة العرب في التضامن ووحدة الرأي والموقف لمواجهة العدو المشترك وتطويق المؤامرة المحاكة ضد الأمة العربية ونشط الجامعة العربية حالياً من أجل أن يكون مؤتمر القمة العربي المقبل فرصة لتأكيد وحدة الصف العربي والتضامن الفعال من أجل نصرة الحق العربي والتصدي للأخطار الجسيمة التي تتعرض لها الأرض العربية.
• الاعتداءات المتكررة على جنوب لبنان تشكل البارومتر الذي يقاس به مدى تضامن العرب وإخلاصهم للدفاع عن قضاياهم العادلة فما رأيكم في هذا؟
- إن ما يتعرض له الشعب اللبناني الشقيق في جنوب لبنان من عدوان إسرائيلي إجرامي هو جزء من مؤامرة مدروسة ترمي إلى فرض الحلول الاستسلامية والقضاء على المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان واحتلال الجنوب اللبناني من قبل العدو الإسرائيلي مما يشكل خطراً رهيباً على دول المنطقة ويهدد بانفجار شامل وقد آن الأوان كي تدرك الدول العربية أن الوضع بلغ حداً لا ينبغي السكوت عنه وأن واجبات الجميع العمل فوراً وبكل الوسائل من أجل دعم الصمود في جنوب لبنان وتقديم المساعدات اللازمة لشعب لبنان الشقيق والحكومة اللبنانية من أجل فرض سيطرتها على المنطقة ووقف العدوان الإسرائيلي. فهذه مسؤولية عربية وعلى العرب أن يتحملوها بكل إخلاص وثقة. وإنني أدعو وأوجه ندائي مجدداً إلى جميع الأقطار العربية من أجل الإسهام بفعالية في دعم لبنان حكومة وشعباً لوقف العدوان الغاشم في الجنوب ووضع حد للمجزرة التي يتعرض لها اللبناني والفلسطيني هناك. وقف العدو الإسرائيلي عند حده. إن دعم لبنان في وحدته الوطنية والتصدي للعدوان الإسرائيلي والتغلب على محنته ستكون بمثابة البرهان العملي على مدى تحمل العرب مسؤولياتهم.
• هل تعتقدون بوجود علاقة بين ما يجري في الجنوب واتفاقية كامب ديفيد؟
- المؤكد أن ما يجري في جنوب لبنان الآن من حرب إبادة رهيبة هو ثمرة من ثمرات الحلول الجزئية الخاطئة التي بلورتها اتفاقية الصلح المنفردة الموقعة بكامب ديفيد بين مصر وإسرائيل بهدف تركيع الأمة العربية وتصفية الثورة الفلسطينية وطمسها وفرض الأمر الواقع فالارتباط واضح وأكيد وإن كنا نرى أن حل المشكل بجنوب لبنان مرتبط بحل قضية الشرق الأوسط فإن الأحداث تؤكد أن ما يجري في جنوب لبنان هو مقدمة لمخطط امبريالي صهيوني واسع يرمي إلى أبعد من الأهداف المنظورة. وعلى العرب أن يعوا ذلك وأن يتخذوا المبادرات العاجلة وبكل الإمكانات لدعم الصمود اللبناني في الجنوب وإفشال المؤامرة ووضع حد للعدوان.
• وكيف ترون الحل لقضية الشرق الأوسط على ضوء الوضع الراهن؟
- لا يمكن الحديث أو التحدث عن حل لقضية الشرق الأوسط دون الحديث أو التحدث عن القضية الفلسطينية وهذا الأمر بسيط وبديهي وهو أن القضية الفلسطينية هي جوهر الأزمة وحل أزمة الشرق الأوسط مرتبط أساساً بحل هذه القضية وحلها لن يتم أبداً إلا في إطار واضح وجلي يتمثل في الاعتراف المشروع بحق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه وإقامة دولته المستقلة وبالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني وبالانسحاب الشامل لقوات الصهيونية من كافة الأراضي المحتلة وبترك الشعب الفلسطيني يقيم دولة مستقلة على أرضه.
• على هذا الأساس هل ترون أن اتفاقية كامب ديفيد تجاوزت ؟؟؟ الحق وانتهكت قانون الجامعة.
- بكل تأكيد، وأود هنا أن أضع النقاط على الحروف وأن أؤكد أن كل ؟؟ الجزئية لا تحل المشكلة بل هي وقوع حتى في فخ الصهيونية وإضاعة للحق العربي وانتهاك لميثاق الجامعة العربية.
• هل ترون أن الجامعة العربية اليوم استعادت عافيتها وقادرة على تحقيق التضامن العربي لمواجهة الموقف؟
- أعتقد ذلك.
• الوضع المتفجر في شمال غربي أفريقيا من شأنه أن يعيق التضامن العربي ويعمق الخلافات العربية فما هو موقفكم من هذا الوضع؟
- لا شك أن الوضع العربي ؟؟؟ يتطلب توفير الجهود وتعزيز للجهود وتحقيق التضامن الفعال من أجل رصد كل الطاقات العربية موحدة للتصدي للأخطار المحدقة بالأمة العربية والدفاع عن العالم العربي. والخلافات العربية هنا وهناك لا تخدم هذا الموقف القومي وتساعد على تمرير المؤامرات الإمبريالية وتباعد بين الأشقاء ونحن على يقين بأن أشقاءنا في المغرب العربي يدركون هذه الحقيقة وأملنا أن يعملوا على إزالة كل خلاف وأن يتجاوزوا هذا الوضع بالتفاهم الأخوي خدمة لمصالح الأمة العربية ولسنا نشك في حكمة قادة هذه البلدان في أن يعملوا على حل كل مشكل طارىء بالحوار الأخوي البناء.
• سؤال أخير ويتعلق ببرنامج عمل الجامعة لهذا العام؟
- للجامعة خطة عمل نشطة تقوم على الصعيد العربي بالعمل على تحقيق التضامن العربي والدولي بالدفاع عن الحق العربي ومواجهة نتائج اتفاقية كامب ديفيد عربياً ودولياً. وربط العلاقات العربية مع الدول المحبة للعدل والسلام من أجل ضمان حقوق الحق العربي وتحقيق الحقوق المشروعة ؟؟؟؟ الغزاة ووقف العدوان على جنوب لبنان واستعادة الشعب الفلسطيني حقه المشروع والعودة إلى وطنه وإقامة دولته المستقلة.
_________________________________
بين المسجد الأقصى والهيكل الثالث؟!
المستقبل – الإثنين 28 أيلول 2009
محمد السماك
شهد العالم منذ أيام عملية إقامة نموذج للهيكل اليهودي الثالث في باحة مجاورة للمسجد الأقصى في القدس. وتصادف هذه المبادرة اليهودية مع ذكرى محاولة إحراق المسجد في عام 1969، وهي المحاولة التي أسفرت عنها كرد فعل، القمى الأولى للدول الإسلامية في المغرب وولادة منظمة المؤتمر الإسلامي. وكان أول أهم قرار اتخذته المنظمة الجديدة هو تشكيل لجنة خاصة برئاسة المغرب (الملك الحسن الثاني) لوضع استراتيجية إسلامية مشتركة من أجل تحرير القدس وإنقاذ المقدسات من الخطر الذي يتهددها. فكما أن الصهيونية على حد قول أول رئيس للحكومة في إسرائيل دافيد بن غوريون تؤمن بأنه لا إسرائيل من دون القدس، ولا قدس من دون الهيكل؛ كذلك فإن العالم الإسلامي يؤمن بأنه لا فلسطين من دون القدس ولا قدس من دون المسجد الأقصى. من هنا العلاقة بين استهداف المسجد بالتدمير ومشروع بناء الهيكل.
توجد في مرتفعات الجليل في شمال إسرائيل بلدة صغيرة تعرف باسم "زريفات". عند غروب شمس كل يوم جمعة يتجمع الأصوليون من رجال الدين اليهود المعروفون باسم "بريسلوف هاسيديم" في الكنس ويرددون أنشودة دينية يهودية عنوانها "ليكادولي" ومعناها "ليأت من نحب". والذي يحبون أن يأتي وينتظرون مجيئه هو السيد المسيح. فهم لا يؤمنون بالمسيح الذي بعثه الله، ولكنهم ينتظرون مجيئه.
يقول الاعتقاد الديني اليهودي أن المسيح الحقيقي (؟) سيأتي بعد ظهر يوم جمعة. وأنه سيظهر في بلدة زريفات التي تقع في جبل ميرون في الجليل. وأنه سوف يتوجه من هناك سيراً على الأقدام إلى القدس. والقدس تعني الهيكل. ولذلك لا بد من بناء الهيكل الذي سيطلق منه دعوته الخلاصية للعالم.
من أجل ذلك اتخذ الأصوليون اليهود من هذه البلدة – زريفات – محطة انتظار منذ العام 1900، أي منذ العهد العثماني. وأقاموا فيها مركزاً للدراسات الدينية الأصولية يعتبر المرجع الأساس للفكر اليهودي الديني المعاصر.
وإذا كانت مجمعات الكيبوتز تخرج المتطرفين اليهود في الجيش والإدارة والاقتصاد، فإن مجمعات "باشيفا" تخرج رجال الدين الأصوليين الذين يستعدون لمرحلة ظهور المسيح. ففي هذه المدارس الدينية يتم إعداد "الكوهانيم" وهم فئة من رجال الدين المتخصصين في إعداد وتقديم الضحايا في مذبح الهيكل عندما ينجز بناؤه.
وقد تألفت في الولايات المتحدة منذ احتلال إسرائيل للقدس في عام 1967 هيئات دينية من اليهود ومن بعض الإنجيليين المتصهينين الخارجين عن الإطار العام للمسيحية الكنسية الإنجيلية والكاثوليكية والأرثوذكسية، متخصصة في جمع الأموال اللازمة لتمويل بناء الهيكل؛ وبالفعل جمعت أموال طائلة يتفق بعضها على المدارس الدينية (باشيفا)، وينفق بعضها الآخر على تمويل مشاريع الاستيطان في القدس بما فيها مشروع الاستيطان الجديد في جبل أبو غنيم، وينفق بعضها الثالث على تمويل حركة غوش ايمونيم (أي جبهة العقيدة) وهي واحدة من الحركات الدينية الأصولية المسلحة التي تقود حركة الاستيطان في الضفة الغربية وتتولى تنفيذ المخططات – غير الرسمية – لتدمير المسجد الأقصى وقبة الصخرة ومن ثم لإقامة الهيكل اليهودي.
يبقى أن بناء هيكل يهودي للتعبد شيء، وتدمير المسجد الأقصى وقبة الصخرة وبناء الهيكل على أنقاضهما شيء آخر. الذين يريدون بناء الهيكل فريقان. الفريق الأول من اليهود الذين يعتبرون إنجاز هذا المشروع بمثابة تكريس ليهودية إسرائيل، وانطلاقة جديدة نحو تهويد بقية المناطق المحتلة من فلسطين. وما الإعلان عن يهودية إسرائيل وعن مطالبة الفلسطينيين والعرب والمسلمين بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية سوى تعبير عن هذا الاعتقاد. والفريق الثاني من غير اليهود ومن غير الإسرائيليين، وتحديداً هم فئة من المسيحيين الإنجيليين الأميركيين الذين يعتبرون بناء الهيكل شرطاً مسبقاً لا بد منه من أجل العودة الثانية للمسيح.
تؤمن هذه الحركة بالسيد المسيح وتنتظر عودته. أما اليهودية فإنها لا تؤمن به أساساً لكنها لا تزال تنتظر مجيئه. مع ذلك يلتقي الفريقان عند قاسم مشترك وهو تدمير المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ومن ثم بناء الهيكل اليهودي الذي يدعون أن المسيح سوف يظهر فيه.
الفريق الأول – الصهيونية المسيحانية – غير معني ببناء الهيكل من أجل العبادة. ولكنه معني أولاً وأخيراً بالنتائج المحسوبة لتدمير المسجد الأقصى. وهو وقوع حرب إقليميى تتورط فيها قوى العالم المختلفة، فتتفجر معركة هرمجيدون (نسبة إلى سهل مجيدو الذي يمتد من القدس إلى عسقلان على الساحل) التي يؤمنون بأنها، بوحشيتها وبدمويتها حيث يقتل الملايين من البشر خلالها، تشكل البوابة التي لا بد منها لعودة المسيح. وهي العودة التي ينتظرونها ويعملون على التعجيل لها إيماناً منهم بأنها سوف تقضي على أعداء المسيح (أي على اليهود والمسلمين) بحيث لا يبقى من اليهود سوى 114 ألفاً فقط ينجون لإيمانهم بالمسيح العائد الذي يحكم الأرض لمدة ألف عام، ومن ثم تقوم الساعة!!.
أما الفريق الثاني من اليهود فيعتبر أن من يسيطر على ما يسمونه جبل الهيكل – حيث يقوم المسجد وترتفع القبة – يسيطر على القدس. وأن من يسيطر على القدس يسيطر على فلسطين. كان بإمكان هؤلاء اختيار أي موقع آخر لبناء الهيكل بعد أن أثبتت الحفريات الأثرية التي قام بها عالم الآثار الأميركي غورون فرانز – بتكليف من معهد الأرض المقدسة في القدس – عدم وجود أي دليل على أن المسجد الأقصى أقيم في موقع الهيكل.
إلا أن وجود المسجد ووجود القبة يعطيان القدس صورة المدينة الإسلامية بامتياز. وهم يريدون إزالة هذا الرمز إعطاء القدس من خلال بناء الهيكل صورة المدينة اليهودية بامتياز.
اليهود ينتظرون ظهور المسيح اليهودي. وبموجب قانون هالاشا الذي وضعه اللاهوتي اليهودي بن ميمون في القرن الثاني عشر في الأندلس "يحظر على اليهودي دخول الجبل المقدس إلى أن يأتي المسيح". ولذلك ومنذ عام 1920 يتجمع عدد من علماء اليهود في قرية زريفات لقيادتهم في مسيرة على الأقدام إلى القدس.
وتجمع "منظمة أمناء الهيكل" بين الفريقين باعتبار أن لهما هدفاً مشتركاً وهو تدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل "الثالث". الفريق الأول – اليهودي – يحمل معاول الهدم. والفريق الثاني – الأميركي الإنجيلي – يوفر الأموال اللازمة لتمويل المشروع كما يوفر له المظلة السياسية التي تحميه من ردود الفعل السلبية. والتمويل ليس فقط من أجل البناء. إنما من أجل إعداد كهنة الهيكل. ولتحقيق هذا الهدف تأسست في واشنطن "مؤسسة معبد القدس" برئاسة القس رايزنهوف مهمتها جمع التبرعات والمساهمات المالية. وأنشأت هذه المؤسسة في مدينة القدس القديمة معهداً خاصاً باسم "ياشيف اتيريت كوهانيم" أي معهد تاج الحاخاميين لإعداد الكهنة الذين سيخدمون في الهيكل الثالث بعد بنائه بما في ذلك مناسك التضحية بالحيوان. كما مولت عملية تجري منذ سنوات لاختيار حجارة البناء وصقلها وتجميعها في موقع خاص إلى أن تحين ساعة الصفر. وساعة الصفر، أي تدمير المسجد القصى يمني النفس بإعلانها يهودي هاجر من جنوب إفريقيا في عام 1930 يدعى ستانلي غولد فوت، أعد سيناريوهات متعددة لاقتحام المسجد الأقصى بهدف تدميره، وهو الذي خطط لجريمة إحراق المسجد في عام 1969. فكانت هناك محاولة لقيام طيار في سلاح الجو الإسرائيلي "بسرقة" طائرة حربية مزودة بصواريخ مدمرة لقصف المسجد من الجو. وكانت هناك محاولة أخرى لزرع مجموعة من القنابل الشديدة الانفجار حول المسجد ومبنى قبة الصخرة. ولكن المحاولتين لم تنفذا خوفاً من الضرر الذي قد يلحق من جراء ذلك بالحائط الغربي (حائط المبكى) الذي يقدسه اليهود ويعتبرونه الأثر الوحيد الباقي من الهيكل، وهو المعروف إسلامياً بجدار البراق.
وضع المهندس اليهودي "ايفي يوناه" تصميم الهيكل الثالث على أساس إقامته في موقع قبة الصخرة. وأقرت التصميم الحاخامية في إسرائيل والدياسبورا. كما أقرته المنظمات اليهودية المختلفة، وهو التصميم الذي نصب أمام باحة المسجد الأقصى على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي كله. إن كل شيء أصبح جاهزاً لبناء الهيكل ولم يبق سوى تهديم القبة وإزالة المسجد الأقصى. فالقرار بالتهديم اتخذ منذ عقود، أما التنفيذ فإنه يبدو قاب قوسين أو أدنى. فهل عند المسلمين عامة، والعرب خاصة، ما يتعدى الشجب والاستنكار؟!.
___________________________________
العالم، باستثناء العرب، يواجه إسرائيل
بقلم ميشال اده النهار – الاثنين 9 تشرين الثاني 2009 العدد23870
تهويد القدس، أي الاستئثار اليهودي بهذه المدينة إنّـما يعني، في النظرة الصهيونية العنصرية التقليدية، إلغاء القدس بصفتها أرضاً مقدّسة ورمزاً دنيوياً وسموياً مشتركاً بالنسبة للأديان السموية. والتطرّف الصهيوني لا يعتبر التهويد مكتملاً إلاّ عندما ينجز إلغاء الطابع الكوني لبيت المقدس، بشراً ومعالم وتاريخاً، وذاكرةً للإنسانية جمعاء. فالتصدّي لهذا المشروع الكارثي ليس مسؤولية الشعب الفلسطيني الشهيد فقط وحصراً، بل هي مسؤولية عربية وإسلامية، مثلما هي أيضاً مسؤولية مسيحية كاثوليكية وأرثوذكسية، ومسؤولية الڤاتيكان بالتحديد. كما أنّها مسؤولية البشرية جمعاء.
غلاة الصهاينة الأكثر تشدّداً وتزمّتاً بالمعنيين السياسي والتلمودي، لا يعتبرون التهويد مكتملاً متحقّقاً إلاّ باقتلاع المسجد الأقصى لإعادة بناء "الهيكل" مكانه بالضبط. فسياستهم مبنية على إعادة بناء الهيكل المزعوم. ولها على الدوام وجهان أساسيان :
الأول، هو التطهير العرقي باقتلاع المقدسيين وتهجيرهم، مسيحيين ومسلمين. والذين يزداد عددهم رغم ذلك نظراً الى النمو الديموغرافي الاستثنائي للمقدسيين المسلمين بخاصة.
أمّا الوجه الثاني للتهويد فيتمثل باعتماد أشكال متنوّعة من الاغراءات والتسهيلات ومن مظاهر الترغيب لاستقدام المزيد فالمزيد من اليهود للإقامة في القدس بهدف، من جهة، مواجهة ذلك النمو السكاني العربي المقدسي من جهة. ومن جهة أخرى، لمواجهة هجرة اليهود المعتدلين والعلمانيين من القدس، بعدما بات تعايشهم مع المتطرّفين المتزمّتين أمراً مستحيلاً عليهم.
أمّا التداعيات المقابلة لهذا المشروع في الجانب الإسرائيلي فتتمثّل أساساً بالمتغيّرات النوعية التي بات المجتمع الإسرائيلي يشهدها. وجوهر هذه المتغيّرات هو التراجع الكبير لليسار وللمعتدلين اليهود، لا سيما التيار المعروف بـ"حركة السلام الآن". هذا التراجع قابله صعود، بل طغيان، قوى وتجمّعات التطرّف والتزمّت والتشدّد. الكتلة الأساسية الأشرس لهذا التطرّف تتمثّل بحركة ما يسمى "يشع"، أي "مجلس المستوطنات في الضفة الغربية". فهذا المجلس الذي كان ينمو تدريجاً، أصبح اليوم العنصر الطاغي بلا منازع على سياسة الحكومات الإسرائيلية، اليمينية والمعتدلة على السواء. غير أنّ هذا العنصر الجديد ليس طاغياً فقط على الحكومات الإسرائيلية، بل هو مؤثّر بشكل خطير جداً على كلّ ما يُطرَح من حلول سلمية الطابع، وعلى أوضاع المنطقة برمّتها، بل أوضاع العالم بأسره. لماذا؟
لأنّ الحكومة الإسرائيلية التي يتحكّم بخياراتها وقراراتها مجلس "يشع"، أي المستوطنون بالذات، تملي إرادتها وقراراتها بشكل طاغ على اللوبي الصهيوني "الإيباك" في الولايات المتحدة وتحدّد له الخيارات والمواقف. وهذا اللوبي يمارس بدوره تأثيراً حاسماً على الحكومة الاميركية التي ترخي بثقلها الحاسم على مواقف وقرارات الامم المتحدة. وهكذا، أصبح مجلس "يشع" هو الفاعل الاساسي في توجيه سياسة إسرائيل والتأثير الفعلي تاليا على مجرى السياسة العالمية. وعلى هذا، فإنّه لمن السذاجة بمكان ومن قبيل التبسيط المأسويّ النتائج ليس إلاّ، أن يُسْتَسْهل أمر إزالة المستوطنات أو تجميد ما يعتبره الصهاينة حق نمّوها الطبيعي المزعوم بمجرّد مطالبة إسرائيل بذلك لفظياً، وبالاكتفاء بالإصرار على هذه المطالبة فحسب.
العملية السلمية التي بدأت في مؤتمر مدريد عام ١٩٩١ كانت مبنية على مبدأ الأرض مقابل السلام. لكنّها أصبحت مع حكومات شارون ونتنياهو المتزمّتة مرفوضة تماماً، ليحلّ محلّها فرض الاستسلام تحت عنوان السلام مقابل السلام فقط.
مشروع التهويد هذا لا يحيا إلاّ على فرض الاستسلام. لا سيما أنّ عمليّة السلام تطالب إسرائيل :
أولاً: بإزالة المستوطنات من الضفة الغربية. وهذه مسألة ترفضها إسرائيل بشكل قاطع، وعلى لسان نتنياهو بالذات وسائر القيادات الإسرائيلية. بل يجسّد نتنياهو هذا الرفض القاطع بتوسيع المستوطنات القائمة وبناء المزيد والمزيد منها، وفي القدس بخاصة. فالضفة الغربية إنما هي، بحسب عقيدة هذا التطرّف، "يهودا والسامرة" بالذات. أي أرض إسرائيل الحقيقية الأصلية في زعمهم. فكيف يجوز لإسرائيل أن تنسحب من أرضها «Eretz Israel» وفق عقيدتهم؟
ثانياً: العملية السلمية تطالب إسرائيل كذلك بالتخلي عن القدس، أي القدس العربية. لكن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لا تزال تصّر على اعتبار القدس العربية أورشليم ذاتها القديمة الأصلية، وتعلنها عاصمة إسرائيل الأبدية.
ثالثاً: العملية السلمية تطالب إسرائيل أيضاً بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين طردتهم عام ١٩٤٨. وهذه مسألة تعتبرها حكومات إسرائيل جميعها من رابع المستحيلات.
رابعاً: وأخيراً العملية السلمية تقول بالحلّ على أساس دولتين : قيام دولة فلسطينية مقابل دولة إسرائيل القائمة. وهو ما يعتبره التطرّف الصهيوني من رابع المستحيلات كذلك.
ماذا يعني فعلاً قيام دولتين إسرائيلية وفلسطينية، في منظار الصهاينة المتطرّفين المتزمّتين ؟
الدولتان إنّما تعنيان دولة عربية في الضفة والقطاع، وهي الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها، وسكانها جميعهم من الفلسطينيين. ودولة مختلطة هي إسرائيل الحالية، وسكانها من اليهود ومن عرب ١٩٤٨ . وهي الدولة التي يتوقّع الإسرائيليون اليهود أن تتحوّل حكماً وتدريجاً الى دولة يغلب عليها الطابع العربي، وهو الذي يشكّل اليوم أكثر من ٢٠% من عدد السكان. وَلَسوف يصبح بعد حوالى ٢٥ سنة الطابع الغالب قطعاً بفعل ارتفاع معدّل النمو السكاني العربي، وتراجع هذا المعدّل لدى اليهود عموماً. وهذا ما يسمّيه التطرّف الصهيوني "القنبلة الديموغرافية"، والذي حملهم منذ عقود على السعي الى تنفيذ ما سمّوه "الترانسفير" لعرب ١٩٤٨، أي اقتلاعهم من داخل إسرائيل.
الإسرائيليون في غالبيتهم باتوا يتملّكهم الخوف من حتمية الغرق في هذا الطوفان الديموغرافي الفلسطيني. وبالتالي، فلسوف تظلّ إسرائيل متمسّكة برفضها حل الدولتين، وبالسعي دائماً وأبداً الى ضمّ الضفة الغربية الى دولة إسرائيل الحالية. ففي أي مكان، إذا، سوف تقوم الدولة الفلسطينية المفترضة ؟ هل يعقل أن تقوم، في نظر الصهاينة، على أرض إسرائيل ذاتها؟
بعد هذا كلّه، إذا به، نتنياهو، يتكرّم بدعوة الفلسطينيين الى المباشرة بالمفاوضات ولكن من "دون شروط مسبقة"، على حدّ قوله. فعلامَ ستدور إذن هذه المفاوضات ما دام قد حدّد لها نتائجها وخواتيمها قبل أن تبدأ؟
إنّها دعوة للفلسطينيين الى الاستسلام الكامل الناجز، وقبولهم بالفتات الذي يعرضه عليهم نتنياهو، ألا وهو "السلام الاقتصادي"، أي مجرّد كسرة خبز تجعلهم على قيد الحياة ولو الى حين.
عَلامَ يقوم حقاً وصراحة هذا الجبروت الذي يطبع سياسة نتنياهو؟ لنكن صريحين هنا. ولنكفّ عن خداع أنفسنا المستمرّ عقوداً وعقوداً. إنّه يستند بخاصة الى سلاح بالغ الفاعلية ألا وهو انعدام مواجهة حقيقية تعترض سبيله. وهي المواجهة التي لا يمكنها إلاّ أن تكون عربيةً، بدءا ومنْ حيثُ الأساس. فما دمنا مكتوفي الأيدي ننشد الغيث من صلاة استسقاء الآخرين فعبثاً نرتجي نزوله.
التهويد يتغذى ويستقوي بغياب هذا الدور. بل أكاد أقول بالتخلّي العربي الرسمي حتى عن ما يمليه أضعف الإيمان. إذْ ما الذي فعله العرب والفلسطينيون في مواجهة جموح التطرّف الصهيوني منذ اتفاق أوسلو عام ١٩٩٣ وحتى اليوم؟ لقد اندفعوا في سلسلة من المفاوضات التي بدأت مع حكومة اسحق رابين آنذاك.
إثر ذلك، تمّ انسحاب إسرائيلي تدريجي من بعض المناطق في أريحا وغزّة ورام الله وبيت لحم. وبعدما اغتيل رابين على يد متطرّف صهيوني عام ١٩٩٥، استمرّت المفاوضات مع حكومة شمعون بيريس. وبعد سقوطه في انتخابات ١٩٩٦، استؤنفت لفترة قصيرة مع حكومة بنيامين نتنياهو الذي لم يكتف بوقف الانسحابات، لا بل أطلق عملية بناء المستوطنات وتوسيع المستوطنات القائمة في الضفة الغربية. وانتهى الى تعطيل المفاوضات. وهو الأمر الذي أدّى الى اندلاع عمليات مقاومة فلسطينية جديدة أخذت بالتصاعد. وهذا ما عجّل بسقوط حكومة نتنياهو في العام ١٩٩٩ ومجيء حكومة إيهود باراك، الذي استأنف المفاوضات، متابعاً في الوقت ذاته حركة الاستيطان وتوسيعها. غير أنّ هذه المفاوضات التي جرت مع الرئيس الراحل ياسر عرفات بمشاركة الولايات المتحدة انتهت الى الفشل المدوّي الذي تَوَّجَهُ شارون باقتحامه الاستفزازي للمسجد الأقصى، الأمر الذي أدّى الى اندلاع انتفاضة الأقصى الكبرى. وإثر سقوط باراك في انتخابات ٢٠٠١، تسلّم الحكم ارييل شارون الذي أفشل وأجهض كل المحاولات التي سعى إليها تباعاً الرئيس جورج بوش الإبن من أجل استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتوصّل الى حل سلمي، وذلك من خلال إيفاده ممثلين له في هذه المساعي، وكانوا على التوالي جورج ميتشل وجورج تينيت وأنطوني زينّي ووليم بيرنز. لكنّ شارون لم يكتف بإجهاض كل هذه المحاولات، بل أعاد احتلال كل المناطق التي كان انسحب منها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية. وارتكب هذا الجيش في هذه العمليات مجازر عدة ولا سيما في جنين وبيت لحم ورام الله وغيرها.
بعد ذلك، حاول الرئيس بوش مرة أخرى تجديد المفاوضات بين الفلسطينيين وشارون. لكن هذه المفاوضات الأخيرة وتلك التي سبقتها جميعها لم تكن إلاّ اجتماعات صورية عقيمة لم تؤدِِّ الى أي نتيجة على الإطلاق، في الوقت الذي كان شارون ينتهز فرصة هذه المفاوضات للمضيّ في الاستمرار قدماً كأسلافه في بناء المزيد والمزيد من
المستوطنات وتوسيع المبنيّ منها، ومتابعة تهويد القدس على نطاق أوسع.
أمّا في عهد حكومة أولمرت الذي خلف شارون بعد إصابته بعارض صحي خطير، تمّت العودة الى نغمة المفاوضات، فيما تابع أولمرت هو أيضاً وفي الوقت نفسه، كسائر أسلافه، وبصورة متزايدة تنشيط حركة الاستيطان في الضفة الغربية وتهويد القدس. الى أن سقط وحلّ محلّه نتنياهو في الحكومة الحالية، معلناً بادئ ذي بدء رفض إزالة المستوطنات أو حتى تجميد الاستيطان بل المضي في بناء المزيد منها وتوسيعها، بما في ذلك استكمال تهويد القدس بكلّ أشكال العنف والتنكيل والطرد واحتلال البيوت، والإصرار على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل بما يعنيه ذلك من اقتلاع لفلسطينيي الـ١٩٤٨ من داخل إسرائيل، ناهيك عن إعلان رفضه حق العودة بصورة مطلقة.
إذن، ست عشرة سنة من المفاوضات العقيمة لم تقدم شيئاً على الإطلاق للفلسطينيين. لا بل أسقطت حتى اتفاق أوسلو. وكانت هذه المفاوضات مجرّد أداة بيد إسرائيل انتهزتها لتزرع أرجاء ال
أمّا العرب، وعلى المستوى الرسمي بخاصة، فاقتصرت جهودهم، في تلك الأثناء، في انتظار النتائج من مفاوضات شاءتها إسرائيل أن تستمرّ صوريّة وحسب دون أي نتائج. ولقد انتهى الأمر بالدول العربية الى حدّ التخلّي حتى عن أبسط مظاهر الاهتمام التي كانوا يبدونها سابقاً.
فعندما كانت القمم العربية تلتئم على مستوى الملوك والرؤساء على سبيل المثال، ومن ثمّ على مستوى وزراء الخارجية، لم تعد تعقد حتى على مستوى السفراء للتباحث في مجريات القضية الفلسطينية. كما أنّ الدول العربية التي وقّعت اتفاقات سلام منفرد مع إسرائيل أو بعض التي لم توقّع، تستمرّ في علاقات التطبيع بأشكال مختلفة، بدل أن تقطعها أو تجمّدها على الأقلّ لتضغط بذلك على إسرائيل، أقلّه من أجل تجميد المستوطنات.
ولكم يحزّ في النفس أن ينزلق الفلسطينيون بدورهم أو أن يُستدرجوا للوقوع في أحابيل إسرائيل.
لقد حرصت شخصياً على الدوام، على تجنّب توجيه النقد الى المقاومة الفلسطينية ومنظمة التحرير. فالشعب الفلسطيني هو دائماً الضحية، وهو المستشهد يومياً، وهو المدافع بلحمه الحيّ عن مجرّد الحقّ في الحياة.
لكنّ التشرذم الفلسطيني الحالي كارثة حقيقية. الصراع الحادّ المدمّر بين الفلسطينيين أنفسهم، بين السلطة و"فتح" و"حماس" تحديداً، ليس سوى خدمة مجانية يسديها، بكامل الوعي لمفاعيلها المدمّرة، أبناء القضية أنفسهم الى جلاّدي شعبهم. أرجو أن تصغوا الى ما يقوله حرفياً في هذا الخصوص رئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلية في تقريره المقدّم أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست منذ حوالي الشهر: "إنّ الوضع الفلسطيني الداخلي حيث العداء بين الفصائل يزيد حدّة وشدّة على العداء لإسرائيل، هو عامل أساسي جعل إسرائيل تعيش هدوءً أمنياً لم تشهده من عشرات السنين" (جريدة "الشرق الأوسط" ٢٠٠٩/١٠/٤). هذا أمر غير مفهوم، وغير مبرّر فلسطينياً على الإطلاق. مثلما يصعب أن يُفهم فعلاً بعض من مواقف السلطة الفلسطينية حيال مسائل جليلة الشأن والتداعيات على مصير القضية الفلسطينية ذاتها.
الرئيس محمود عباس قائد معتدل. وهو يضع نصب عينيه إقامة الدولة الفلسطينية هدفه الأساس. وإنّه لعلى حقّ في ذلك. وأحسب أنّه، في هذا الصدد، من طينة اعتدال الرئيس الراحل ياسر عرفات. وهو، بفعل اعتداله هذا، إنّما يشكّل خطراً حقيقياً بالنسبة لإسرائيل. لقد أثبتت تجربة إسرائيل في تعاملها مع الرئيس الراحل أبو عمار أنّها تفضّل المتطرّفين على المعتدلين الذين يصعب عليها أن تتخلّص منهم وتجهز عليهم بسهولة. ولذلك تراها تلجأ لأساليب مختلفة، غير مباشرة، بهدف إحراق الرئيس محمود عباس وتشويه سمعته أمام أبناء شعبه بالذات. ولذلك عمدت أحياناً كثيرة الى استغلال سعيه الدؤوب للحصول على موافقتها على الدولة الفلسطينية. فكانت تسرّب، أو تزوّر، أو تنشر، نقاشات وأوراق عمل سرية جرى تداولها بينه وبين مسؤولين إسرائيليين حسبما تدّعي، بهدف الإساءة إليه ولإفشال الموضوع الأساس ذاته، موضوع الدولة.
هكذا فعلت إسرائيل مع الورقة التي حملت إسم "وثيقة بيلين - أبو مازن". وعلى أساسها جرى التعميم بأنّ الرئيس عباس قد تخلّى عن حق العودة. مثلما أقدمت، من خلال صحيفة "معاريف"، في عددها الصادر في ٢٠٠٥/٧/٢٣، على نشر رسالة سرية تزعم أنّ الرئيس محمود عباس وجّهها الى أرييل شارون يؤكّد له فيها: "أنّه على اقتناع تامّ بأنّ حقّ عودة اللاجئين الى ديارهم التي شرّدوا منها ليس واقعياً وأنّه ليس بالإمكان تحقيقه".
وإذا كان وزير المعارف الإسرائيلي الأسبق، زعيم حركة "ميريتس" يوسي ساريد، قد لاحظ محتجاً على حكام إسرائيل الحاليين، في مقال له في "هآرتس" (٢٠٠٩/١٠/١٩) "أنّ نتنياهو وباراك يريدان تحويل الشريك" (والمقصود الرئيس محمود عباس) الى "عميل بهدف قتله"، فهل يكون لزاماً على قادة فلسطينيين أن يتّخذوا مواقف ملتبسة مثيرة للتساؤل، ممّا يشكّل بذاته سلاحاً ماضياً بيد نتنياهو يواجه به كل من يعلن إدانة إسرائيل، ويطالب بإحالتها الى المحاكمة؟
أمّا رئيس حكومة السلطة الفلسطينية السيد سلام فياض فقد أعلن أنّ الأولوية عنده هي بناء الاقتصاد الفلسطيني. على هذا الأساس أعلن أنّه يوافق على اقتراح نتنياهو المتعلّق بـ"السلام الاقتصادي" تسهيلاً للوصول الى الهدف أعلاه. لكنّ هذا الموقف، لا يخدم بكل أسف إلاّ مصلحة إسرائيل، ويشكّل بحدّ ذاته سلاحاً إضافياً بيد نتنياهو في استمراره في سياسة الاستيطان والتهويد والقضاء على حقّ العودة.
وفيما العرب لا يعيرون اهتماماً جدياً للأوضاع الجارية، يشهد العالم هبّة حقيقية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني الشهيد. فعلى أثر المجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزّة، شكّلت الأمم المتحدة لجنة لتقصّي الحقائق في الجرائم بشأن الحرب الإسرائيلية على غزّة. وأوكلت رئاستها الى القاضي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون - وهو اليهودي "الصهيوني الأصيل" كما يعرّف عن نفسه. وبعد إجراء التحقيق طوال بضعة أشهر، أصدر تقريره الذي يعلن فيه إدانة دولة إسرائيل لارتكابها جرائم حرب وجرائم ترتقي الى مستوى جرائم ضد الإنسانية.
فتسبّب تقريره بإشاعة الذعر في صفوف قادة إسرائيل الحاليين ومنهم إيهود باراك وقادة الجيش. فاضطرّوا الى تجنّب السفر الى بلدان عديدة كانت قد أعلنت، بعد صدور التقرير، عن اتخاذها التدابير اللازمة لإلقاء القبض عليهم وتحويلهم الى المحكمة الدولية. هذا ما جرى في انكلترا، وفي الدانمرك، ودول اسكندينافية وأوروبية أخرى.
وبإزاء الحملة الشرسة التي شنّتها إسرائيل على هذا القاضي واتهامه بخيانة اليهود، أصرّ هو في حينه على التمسّك بإدانته "ممارسات قادة إسرائيل وليس شعبها"، على حدّ قوله، مضيفاً أنّ ضميره لا يتحمّل السكوت عن مثل تلك الممارسات.
ففيما هذا القاضي اليهودي ودول عديدة في العالم يدينون إسرائيل، إذا بنا نجد بعض الدول العربية والرئيس محمود عباس يتبادلون الاتهامات بالعمل على عدم تحويل تقرير غولدستون الى المحكمة الدولية. مراعاةَ منهم لنتنياهو من أجل موافقته على استئناف المفاوضات. أمّا إسرائيل فتركّز حالياً على مطالبة الفلسطينيين بخاصة، والدول العربية الأخرى بعدم التمسّك بهذا التقرير، بل تجاهله تماماً.
إنّ الولايات المتحدة الأميركية ذاتها بدأت تشهد داخلها تحوّلات نوعية ملموسة تختلف بوضوح عن سياسة التأييد والدعم الدائمين لإسرائيل كما كان الأمر من قبل. فاللوبي اليهودي الجديد "جي ستريت" الذي أنشأته اخيراً مجموعة من اليهود الاميركيين، في مواجهة "الإيباك" اللوبي الصهيوني العريق المنحاز دائماً لسياسة إسرائيل والتطرّف الصهيوني، والواسع النفوذ والتأثير في الولايات المتحدة، هذا اللوبي الجديد بدأ يتحرّك وينشط معرّفاً عن برنامجه وأهدافه بشعار: "تأييد إسرائيل وتأييد السلام". وبدأ يدعم مواقف الرئيس أوباما التي سبق وأعلنها منذ انتخابه، بضرورة إزالة المستوطنات من أجل الدخول في مفاوضات جدية. وقد تسبّب هذا الأمر في استنفار إسرائيل والتطرّف الصهيوني ضدّه، وبدأت إسرائيل تشنّ حرباً ضروساً عليه داخل الولايات المتحدة نفسها، ونجحت منذ يومين تحديداً في إلحاق خسارة انتخابية بالرئيس أوباما في ولايتي فرجينيا ونيو جرسي اللتين انتخبتا حاكمين من الحزب الجمهوري.
وهذا في الوقت الذي كان أوباما قد أحرز فيهما تفوّقاً كبيراً في معركة الرئاسة.
إنّ مناهضة "الإيباك" بصورة علنية، ومن قبل يهود اميركيين، إنّما تعني بداية اعتراض علني داخل الولايات المتحدة ذاتها على سياسة قادة إسرائيل المتطرّفة والمعطّلة للسلام.
الحملة الشرسة التي تشنّها اليوم إسرائيل وغلاة التطرّف الصهيوني على الرئيس أوباما ومجموعة "جي ستريت" وصولاً الى اتهام أعضائها اليهود بمعاداة إسرائيل، بل وصمهم بنزعة معاداة السامية، ألا تكفي العرب الساكتين المطبّعين دليلاً، ليدركوا أنّ اعتصامهم بالصمت عن قادة إسرائيل، وتمسّكهم بالتطبيع معها، قد أصبح سلاحاً مسنوناً في يد نتنياهو لتسديد الضربة القاضية للشعب الفلسطيني وقضيته، وللقدس والمسجد الأقصى، وللسلام في المنطقة؟ ثمّة في العالم وقفة واضحة المعالم، مقدامة، ضدّ سياسة قادة إسرائيل المتزمّتة والتطرّف الصهيوني. في حين أنّ السياق العربي ليس غير التخلّي.
أمّا وأنّ الساحة تُخلى عملياً أمام جموح التطرّف الصهيوني المتشدّد، فإنّه يُخشى حقيقة أن تقدم حكومة إسرائيل الحالية على افتعال ظروف وأجواء تسرّع شنّ الاعتداء المعدّ سلفاً على الحرم الشريف والمسجد الأقصى، في غمرة حملتها العسكرية التنكيلية المستمرّة التي ما انفكّت تتابعها أصلاً داخل المسجد الأقصى ذاته وفي ما حوله.
ليس مستغرباً أبداً أن يتمّ انتهاز الاستمرار في أجواء التشنّج والتوتّر الهستيري، للإقدام على إحراق المسجد الأقصى وتدميره لا سمح الله. وهذا، من قبل متطرّفين مدسوسين أو مستغلّين الأحداث الدموية الجارية. عندها سوف تقع الكارثة، فتسارع إسرائيل والصهاينة الى مخاطبة العالم لامتصاص ردود الفعل بالإعلان عن استنكارها وعن تشكيل لجان تحقيق وتعقّب المجرمين، والقول للجميع في العالم: "ماذا تريدون منّا أكثر من ذلك ؟ هل تريدون تدمير الدنيا بأسرها رداً على جريمة ارتكبها فرد أو مجموعة من المتطرّفين المهووسين"؟
على العرب جميعاً، وعلى المسلمين في سائر بلدانهم، وعلى المسيحيين قاطبة، أن يدركوا أنّ إنقاذ المسجد الأقصى من المخطّط الجهنّمي إنّما الآن وقته، وليس في ما بعد. على الجميع أن يدركوا انه كلّما أحرز التطرّف الصهيوني وإسرائيل المزيد من النجاح والتقدّم في سياسة الإجهاز الكامل على الشعب الفلسطيني وعلى الضفة الغربية، كلّما ازداد الخطر الفعلي على المسجد الأقصى.
الوقفة أوانها الآن وليس غداً. ليس أبداً عندما تضع إسرائيل العالم أمام الأمر الواقع. ربما تبدو الصورة التي قدّمتها قاتمة. لكنّني لست بمبالغ. فالوضع أشدّ قتامة بل أخطر من أي وقت مضى، منذ إعلان الكيان الصهيوني في فلسطين. ولكن ليس من حلّ حقيقي إلاّ باعتماد حلّ الدولتين على أساس مبادرة قمّة بيروت العربية التي أطلقها العاهل السعودي، الملك عبدالله بن عبد العزيز. إلاّ أنّ ذلك يستدعي من الجميع العمل الملموس والتعبئة الحقيقية وليس التأييد اللفظي، من أجل تحقيق هذا الهدف الذي يؤكّد رغبة العرب في السلام لجميع دول المنطقة بمن فيهم إسرائيل.(انتهى)
___________________________________________
رأي
حلم أميركا الذي يهدد العالم .. بقلم : سمير كرم
ما كان يمكن ان يدور بخاطر احد ممن يشتغلون بمتابعة الشؤون الدولية وأحوال العالم الذي نعيش فيه ان القرن الحادي والعشرين، الذي بدأناه قبل عشرسنوات، سيكون قرناً تهزه وتهز اركان الحياة فيه حروب، وتهديدات بحروب، على النحو الذي يبدو الآن.
وأياً كان نوع المشكلات التي تعيشها شعوب العالم مع بدايات الألفية الثالثة، وعلى الرغم من هجمة الأزمة الرأسمالية العالمية، فإن من المؤكد أن المشكلات الأكثر ضغطاً بينها جميعاً هي مشكلات الحرب. ونمتنع عامدين عن استخدام تعبير مشكلات الحرب والسلام، كما يرددها كثيرون، لأن المشكلات تكمن في الحرب والتهديد بها ولا تكمن أبداً في السلام.
لعل التاريخ الانساني لم يعرف في السابق حقبة بدا فيها ـ كما يبدو في الحقبة الراهنة ـ ان الخوف من الحرب كان عاملاً اساسياً في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشعوب كثيرة كما هي الحال الآن. وصحيح ان هذه السمة واضحة في منطقة الشرق الاوسط اكثر من غيرها، انما يبدو ان احتمالات الحرب تدق أبواب الشرق الأقصى الآسيوي، وتدق ابواب نصف الكرة الغربي في جنوبه، كما تدق أبواب القارة الافريقية. ولا يبدو ان بالإمكان استثناء القارة الاوروبية، فهي قريبة للغاية من مشكلات الازمة المالية العالمية ومن مشكلات القواعد والصواريخ والتخزين العسكري النووي والتقليدي.
أينما وُجد السلاح بكميات هائلة ونوعيات متطورة وجدت احتمالات الحرب بصورة اكثر جدية وخطورة.
ولقد اعتاد المشتغلون بالعلوم السياسية ان يعتبروا غياب الحرب العالمية عن الساحة الدولية سمة دالة على سيادة السلام، ولكنهم في أغلبيتهم سريعاً ما يصححون انفسهم بالاعتراف بأن العالم لم يسبق ان عرف في حقبة يسودها السلام كما هي الحال الآن، قدراً من التوتر العسكري وكثافة المخاوف من نشوب حروب لأسباب مختلفة. والسبب هو وجود حالة استثنائية من سباق التسلح، الاستراتيجي منه وغير الاستراتيجي، في كثير من بقاع العالم، والسبب هو أيضاً سيطرة عملية «عسكرة» لاقتصادات وسياسات دول كثيرة تملك إمكانات هائلة في هذا المجال.
وإذا ذكرت عملية «عسكرة» مجتمعات بأكملها ـ أي إضفاء طابع عسكري على اقتصادها وقدراتها التكنولوجية والاشكال المختلفة لتقدمها العلمي ـ فإن الولايات المتحدة تأتي في المقدمة، حتى ان كثيرين يلاحظون تراجع الصناعات الاميركية التي كانت في وقت تملأ الأسواق والآن حلت محلها صناعات اخرى يابانية وصينية وكورية... فيما عدا المجال العسكري. وفي الوقت نفسه تتصاعد الى مستويات قياسية حدة التنافس على تصدير الاسلحة من الدول المنتجة لها للدول المستوردة. والامر الذي لا شك فيه ان إضفاء الطابع العسكري على الحياة العلمية والتكنولوجية لدولة بحجم الولايات المتحدة امر بالغ الخطورة ولا يعـطي شعوراً بالأمان، حتى لأصدقائها.
وربما كانت هذه السياسة مبررة في وجود كتلة منافسة لأميركا بنظامها الاقتصادي وحياتها الاجتماعية وثقافتها... اما بعد تفكك هذه الكتلة المنافسة فإنه لم يعد هناك من تفسير مقنع ـ او حتى مقبول ـ للسياسات الخارجية الاميركية إلا سعي الولايات المتحدة للهيمنة على العالم. وهو الاتهام نفسه الذي كانت توجهه الولايات المتحدة الى الاتحاد السوفياتي في وجوده وخاصة في فترة تصاعد قوته.
وقد عاش العالم فترة سادها التوتر عندما سادتها المنافسة الصراعية او الصراع التنافسي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ولكن من المؤكد في الوقت نفسه أن توازن الرعب النووي بينهما ساعد على قدر من الهدوء العالمي. وواضح الآن أن هذه الفترة لم تعقبها فترة هدوء حقيقي ـ كما يمكن ان نتصور ـ بعد تفكك النظام السوفياتي والمنظومة الاشتراكية. فقد انطلقت الولايات المتحدة ـ بلا حواجز او قيود ـ في خطط لتوسيع حلف الأطلسي (الناتو) وتطوير قدراتها العسكرية، بل والزج بنفسها في حروب فعلية متوالية، مرتين في العراق ومرة في أفغانستان... وتمارس الآن تهديداتها بشن حرب على إيران.
اصبح واضحاً ـ من تجارب عشرين عاماً من السياسات الخارجية الاميركية ـ ان الولايات المتحدة تملك خطة عالمية شاملة للسيطرة على العالم بأكمله من أدناه الى أقصاه، من شماله الى جنوبه.
ويجيء الإعلان الأخير (في نيويورك تايمز في يوم 23 نيسان الحالي) عن العمل في اميركا على تطوير منظومة جديدة بديلة لاستخدام السلاح النووي يطلق عليها ـ حسب معلومات وزارة الدفاع الأميركية ـ اسم «صواريخ الضربة العالمية الموجهة». ووصفت بأنها «يمكن ان تستخدم لضرب اي هدف على الكرة الأرضية خلال أقل من ساعة واحدة وبدقة مذهلة». ويمكن للسلاح الجديد ـ المكون من صواريخ تزيد سرعتها على ثلاثة أضعاف سرعة الصوت وتحمل رؤوساً تقليدية، لكنها تضاهي القوة التدميرية للسلاح النووي.
وقالت «نيويورك تايمز» إن السلاح الذي يعمل «البنتاغون» على تطويره منذ سنوات يثير قلق المسؤولين الروس الذين يؤكدون ان تطوير مثل هذه الأسلحة يزيد من خطر نشوب حرب نووية، وسيؤثر سلباً على كل الجهود الرامية الى تخليص العالم من أسلحة الدمار الشامل. ذلك ان روسيا لن يمكنها تحديد ما إذا كانت هذه الصواريخ ستحمل رأساً نووياً أو تقليدياً.
ويزيد من جرعة الإثارة في هذه الأنباء عن المنظومة الصاروخية الجديدة، ما ذكرته الصحيفة الاميركية من ان نشرها لن يستكمل قبل عام 2015 (أي بعد خمس سنوات فقط) كحد ادنى، الا ان ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما تضع الكثير من الاموال لإتمام المشروع في اقرب وقت ممكن. وقد طلبت الادارة من الكونغرس 240 مليون دولار لتمويل المشروع في العام القادم بزيادة بنسبة 45 في المئة عن ميزانية العام الحالي. اذ يتوقع ان تصل القيمة الإجمالية للمشروع الى نحو ملياري دولار. بل ذكرت «نيويورك تايمز» ان سلاح الجو الاميركي يستعد لإجراء تجربة لإحدى وحدات هذه المنظومة في شهر ايار المقبل (...)
ويصطدم نبأ هذه المنظومة الأميركية الجديدة من السلاح الصاروخي غير النووي بعدد من السياسات التي كانت ادارة اوباما قد اعلنتها ونفذت خطوات منها، للبرهنة على رغبتها في نزع السلاح النووي عالمياً. بل إن هذا النبأ يصطدم بمؤتمر الأمن النووي الذي عقدته إدارة اوباما في واشنطن قبل ايام بحضور 43 دولة. ويمكننا ان نزعم ان المنظومة الصاروخية المسماة «الضربة العالمية الموجهة» نسفت من الأساس جهود ادارة اوباما «من اجل عالم خال من الأسلحة النووية».
ولولا اتساع نطاق هذه المنظومة الصاروخية لتشمل العالم كله في اهدافها لقلنا إنه تُبنى بشكل خاص لتهديد إيران وحدها. مع ذلك يمكن القول إن احد اهم سمات هذه المنظومة الجديدة ما يبدو من انها تشكل رداً على نظام التسلح الاستراتيجي الإيراني الذي يعتمد على الصواريخ كأساس للدفاع عن إيران ضد تهديدات إسرائيل بنوع خاص. وهو ما يشمل قدرة إيران على الرد الانتقامي في حالة ما اذا تعرضت لهجوم اميركي و/أو إسرائيلي بهدف ما تم تحقيقه من برنامجها النووي.
إن هذا التقدم النوعي في مجال عسكرة القوة الأميركية أخطر وأوسع من أن يعد رداً على إيران وحدها او استعداداً لمواجهة ايران وبرنامجها النووي... انه يقدم ادلة واضحة على ان النية الحقيقية لاستراتيجية الأمن القومي الاميركية هي تحقيق سيطرة استراتيجية عسكرية على العالم. الامر الذي يعني ان الولايات المتحدة تزود نفسها بقدرة هائلة على فرض قوتها على اي بلد له وجود على خريطة العالم، اذا بدا منه اي تحد للولايات المتحدة او رفض لسياساتها وأهداف هذه السياسات.
وبطبيعة الحال فإنه لا يمكن عزل اهداف هذه المنظومة العسكرية عن الواقع الحقيقي الراهن لانتشار القوات المســلحة الامـيركية في أنحاء العالم من اوروبا الى اوستراليا والمحيط المتجمد الجنوبي. لقد شهدت السنوات العشرون الاخيرة انتشاراً لمجموعات حاملات الطائرات الاميركية والاساطيل التي تحميها في المحيطات والبحار والخلجان جميعها. ومن بين اخطر الانتشارات العسكرية الاميركية الانتشار البحري والبري في منطقة الخليج قريباً من إيران، ومن ميادين القتال في أفغانستان والعراق وباكستان، بالإضافة الى التوسع في قدرات التخــزين للأسلحة الاميركية في اسرائيل (مع الامتناع عن الإفصاح عما اذا كان التخزين يشمل اسلحة نووية ام لا). ومن المعروف جيداً ان الولايات المتــحدة تخــزن أسلــحة نووية لاستخدامها عند الحاجة في عدد من بلدان اوروبا، بينها المانيا وبلجيكا.
واذا لم نستطع ان نرى اسرائيل كجزء من المنظومات العسكرية الاميركية الواسعة في اهدافها للسيطرة على العالم، فإننا لا نستطيع ان نفهم اسباب امتناع اداراتها واحدة بعد اخرى ـ الامر الذي شمل ادارة اوباما على الرغم من كل ما سمع منها من وعود للعرب والمسلمين ـ عن التصدي لإرادة التحدي الاسرائيلية فيما يتعلق بشروط عملية السلام.
ان اهمية اسرائيل كمنظومة مكمــلة للمنــظومات الامـيركية للسيطرة على العالم ينبــغي ان لا تغــيب عن الذهن الــعربي. كما ينبغي ان لا يغيب هدف الاقتراب الخطر، الذي تمارسه واشنطن، الى السلطة الفلسطينية.
ولعله من الضروري البحث عن صوت أميركي يعترف بهذا الهدف الذي يشمل الكرة الأرضية. فالأصوات الأميركية ـ شئنا او لم نشأ ـ لا تزال هي الأصرح والأجرأ في التعبير عن هذا النوع من الأفكار.
في شهر اذار الماضي نشرت اسبوعية «تايم» الاميركية تحقيقاً عما اعتبرته «10 افكار ستحدد شكل العقد المقبل» وذكرت فيه «ان مدى تعرض العالم للتأثير الاميركي خلال الحقبة المقبلة سيكون كبيراً للغاية ... إن العقد القادم سيكون اميركياً وسيــكون التأثير الاميركي على العالم اوضح مما كان عليه من قبل. «وعزت «تايم» ذلك الى التفوق العسكري والثقافي لأميركا».
إن اميركا تسلك الآن في العالم من موقع من يتوقع منافسات لم يكن لها وجود عندما كان الاتحاد السوفياتي هو المنافس الاوحد. وهي تستعد ـ عسكرياً ـ على النحو الذي يجعل اي طرف في العالم ـ من وجهة نظرها ـ يفكر في تحدي الهيمنة الاميركية او مناوأة اميركا على المركز الاول عالمياً، يفكر مرتين وثلاثاً قبل ان يغامر بدخول مثل هذا التحدي. وليس خافياً ان المخططين الاستراتيجيين يعملون في الوقت الحاضر على تحليل احتمالات وصول المنافسة بين اميركا والصين ـ الصاعدة حثيثاً الى المركز الاول اقتصادياً لتحل محل الولايات المتحدة ـ الى حدود الحرب الحقيقية. وهم يشيرون الى مخاوف اميركية من تصاعد قوة الصين العسكرية. بل إنهم لا يستبعدون احتمالات بين اميركا واوروبا، كما يدرسون احتمالات قيام تحالفات مناوئة لأميركا ـ مثل تحالف يجمع روسيا والصين والهند ...وربما البرازيل ـ اذا ما تخطت المنافسة الاقتصادية حدود الصادرات والواردات وقيمة العملات نحو حدود السيطرة على الأسواق ومصادر الثروات الطبيعية والبشرية.
في ضوء هذا الاندفاع الأميركي للدفاع عن نظام الرأسمالية العالمية ـ وعلى الرغم من كل ما يتردد من انه ينبغي ان لا يسمح ابداً بنشوب حرب نووية ـ فإن اميركا تبدو عازمة على السيطرة على العالم، بالسلاح النووي اذا اضطرت، وبدونه اذا استطاعت.
واذا كان حلم اميركا يزداد وضوحاً فليس معنى هذا انه يزداد اقتراباً.
الجمعة 30-04-2010السفير11579
__________________________________
Last Updated (Sunday, 17 October 2010 12:13)




