ليبيا القذافي - Page 2

Tuesday, 10 November 2009 11:06 | PostAuthorIconWritten by | PDF Print E-mail
Article Index
ليبيا القذافي
Page 2
Page 3
All Pages
Page 2 of 3

الكواكبي وطبائع الاستبداد

 المصدر: "القذافي وسياسة المتناقضات" لـ"منصور عمر الكيخيا"

هذا العنوان هو عنوان كتاب شهير لمفكر عربي إسلامي عاش في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهو عبد الرحمن الكواكبي. وكان هذا الرجل من تلاميذ ورفاق كل من السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده. وكان، شأنه شأن بقية أبناء جيله، من الذين رأوا الإمبراطورية العثمانية، آخر الإمبراطوريات الإسلامية العظيمة، وهي تتآكل، وينخر فيها السوس والفساد حتى النخاع، فضعفت أشد الضعف، وأطلق عليها ولقرن كامل قبل وقت الكواكبي، اسم "رجل أوروبا المريض". ورغم وهن الإمبراطورية، وركل القوى الأوروبية لها يميناً ويساراً، والتهام أقاليمها واحداً بعد الآخر: الجزائر (1830)، ومصر وتونس (1882)، والسودان (1891)، والمشرق العربي (1961 – 1918)، فإن سلاطين آل عثمان وممثليهم من حكام الولايات، كانوا يزدادون ظلماً واستبداداً وطغياناً بالرعية، بما في ذلك العرب والمسلمون. ولعلنا نذكر من كتب التاريخ المذابح والمشانق التي ارتبطت باسم جمال باشا في بلاد الشام.
المهم أن هذه المآسي والنكبات في الإمبراطورية العثمانية، وما صاحبها من تعسف وطغيان داخلي، وطمع وجشع خارجي، هي التي أوحت لعبد الرحمن الكواكبي بتأليف كتابه "طبائع الاستبداد". فالطاغية حينما يضعف يصبح أكثر استبداداً من ذي قبل. فهو يعوض ضعفه في مواجهة الخارج بالاستشهاد في مواجهة الداخل.
وقد شهدت السنوات الأخيرة لصالح مقولات وملاحظات عبد الرحمن الكواكبي، في بلدان أجنبية – مثل أوغندا (عيدي أمين)، والفليبين (ماركوس)، ورومانيا (تشاوشسكو)، وتشيلي (أوغستو بيونشيه) ونيكاراغوا (سوموزا)، وصربيا (سلوبودان ميلوسيفيتش). وهو نفس ما شهدناه في السنوات الأخيرة من حكم طاغية العراق، صدام حسين، الذي فتك بما يقرب من نصف مليون من أبناء شعبه، ضمنهم عشرات الآلاف من الأكراد فيما سمي بعملية "الأنفال". بل إن أقرب الناس إليه، وهما زوجا ابنتيه لم يسلما من التنكيل والفتك بهما في أواخر تسعينيات القرن الماضي.
 
نرجسية الاستبداد
حينما يستتب أي مستبد في السلطة، فإن المنافقين يتكاثرون من حوله، ويتسابقون في الرياء، ويتنافسون في التبجيل والتمجيد. فكل ما يتفوه به يصبح "حكمة"، وكل ما يفعله يصبح سلوكاً "عبقرياً فريداً وغير مسبوق". حتى لو شك المستبد في حقيقة ما يردده هؤلاء المتزلفون في البداية، إلا أنه يقبله، ثم يستمتع به، ثم يطرب له، ثم يصدقه هو نفسه، ثم يتوقع العالم أن يصدق مما يقوله هؤلاء المنافقون عن "حكمته" و"عبقريته" و"عظمته". إن هذه الظاهرة هي ما يطلق عليه علماء النفس "النرجسية"، أي الإعجاب المرضي بالذات. وفي حالة حكامنا العرب المستبدين فإن "النرجسية" تأخذ أبعاداً وصوراً شتى.
من ذلك إطلاق منافقي صدام حسين عليه 98 وصفاً من أسماء الجلالة، والتي هي 99. فقد اصبح صدام هو "القادر"، و"القدير"، "المهيب"، و"الجليل"... وربما الحياء وحده هو الذي منعهم من إضافة وصف "الخالق" ضمن منظومة أسماء النفاق والرياء. أما في حالة صاحبنا معمر القذافي فقد اكتفى من الصفات والتسميات بالقليل منها – مثل "الأخ"، و"القائد"، و"زعيم الثورة"، و"صقر إفريقيا" ومع ذلك فلم يكن القذافي أقل نرجسية من صدام. فقط، اختار هو أساليب مختلفة للتعبير عنها، نذكر هنا بعضها فقط، على سبيل المثال لا الحصر:
1 – المفكر، صاحب النظرية الثالثة، والكتاب الأخضر. سمع القذافي عن، وربما قرأ، بعض ما كتبه مفكرون وزعماء ارتبطت أسماؤهم بثورات عظمى في التاريخ الحديث، ومن هؤلاء كارسل ماركس وفردريك أنجلز (رأس المال والمنشور الشيوعي)، أدولف هتلر (كفاحي)، وماوتسي تونغ (الكتاب الأحمر)، وجمال عبد الناصر (فلسفة الثورة). ولا بد أن بعض المنافقين أشاروا عليه بضرورة أن يكون لثورته "نظرية" تكون بمثابة دليل العمل لتغيير ليبيا، وربما العالم، إلى ما هو أفضل. ومن الواضح أن الفكرة راقت له، لغاب عن الأنظار عدة أسابيع، ثم خرج على الليبيين بما سماه "النظرية العالمية الثالثة"، والتي نشرت على نطاق واسع فيما سمي "بالكتاب الأخضر"، تشبيهاً بماوتسي تونغ وكتابه الأحمر. وقد صدر الكتاب الأخضر في جزأين، عامي 1973 و1978، على التوالي. ويقول القذافي في مقدمته إنه تأمل من خلاله الدعوة إلى خلق "مجتمع طوباوي عالمي". ولكن محتوى الكتاب جاء خليطاً عشوائياً من مقولات "اشتراكية" (ولكنها ليست مادية ماركسية)، و"إسلامية" (ولكنها ليست وهابية متزمتة)، و"قومية وحدوية" (ولكنها ليست بعثية أو حتى ناصرية)، وأخيراً مقولات كونية عن حكومة عالمية (ولكنها ليست مؤسسة على أي شيء يقترب من فلسفة الألماني عمانوئيل كانت). ووصلت نرجسية القذافي في هذا الصدد إلى أنه داخلياً جعل من استظهار الكتاب الأخضر (أي حفظه عن ظهر قلب) كما لو كان "قرآناً كريماً"، شرطاً لعضوية "اللجان الشعبية"، التي كانت طبقاً للنظرية الثالثة هي التي تحكم وتدير كل المناشط والمرافق في البلاد، وتحل بذلك محل الوزارات المعتادة في كل الدول المعاصرة (مثل الخارجية والداخلية والتربية والاقتصاد والإسكان). أما الترويج للكتاب الأخضر عالمياً، فقد تم من خلال ترجمة الكتاب إلى كل اللغات الحية، وطبع وتوزيع مئات الآلاف من النسخ مجاناً ثم عقد المؤتمرات، التي دعي إليها مفكرون وأساتذة وصحفيون عرب ومسلمون وأجانب، للمناقشة والحوار حول النظرية الثالثة. وكان القذافي يتكفل بنفقات هذه الأنشطة، ويجزل للمشاركين فيها العطاء. وقد وجد كثير من الانتهازيين العرب والأجانب في هذه الترعة النرجسية عند القذافي – "كمفكر ثورة" وفيلسوف – مجالاً للكسب والإثراء، بنشر مقال هنا أو كتيب هناك عن النظرية الثالثة. غير أنه مع أوائل ثمانينيات القرن الماضي، نسي العالم والعرب، وربما الليبيون والقذافي نفسه "حدّوته" النظرية الثالثة والكتاب الأخضر، كما نسي العديد من مبادرات وشطحات القذافي الأخرى.
2 – الزعيم القومي العربي الوحدوي: قيل عن نرجسية القذافي إنه منذ رحيل مثله الأعلى جمال عبد الناصر (سبتمبر 1970)، أي بعد ثورة الفاتح بسنة واحدة، أصبح القذافي يشعر، ويوحي لآخرين من حوله، أنه مبعوث العناية الإلهية لأمته العربية من المحيط إلى الخليج، لكي يحررها، ويتم لها وحدتها، ونشر رسالتها الخالدة للعالمين أجمعين. وقيل أيضاً إن من آيات نرجسية القذافي أنه كان – وربما ما زال – يعتقد أنه أكبر من ليبيا والشعب الليبي، وأنه أذكى وأقدر، ومن ثم أحسن من أي رئيس أو زعيم عربي آخر. وأنه بناء على ذلك يستحق أن يقود الأمة العربية جمعاء، وأن يرأس دولتها المتحدة من المحيط إلى الخليج، حتى لو بدأت تدريجية مع جيرانه، الأقربين، أو بني قومه الأبعدين.
من ذلك أنه لم يكل ولم يمل عن مبادرات الوحدة أو الاتحاد مع أي بلد عربي آخر يقبل ذلك. ورغم الفشل المتتالي إلا أن الرجل ظل يحاول على مدى عقدين من الزمن. كانت البداية بميثاق طرابلس، الوحدة بين ليبيا ومصر والسودان عام (1970). ثم في العام التالي (1971) باتحاد الجمهوريات العربية (الذي ضم مصر وسورية وليبيا). وسرعان ما تبع ذلك بعدة شهور، ولكن في نفس العام، بإعلان بنغازي، لوحدة اندماجية بين مصر وليبيا (1972). ثم بعد ذلك بعام واحد 1973، وقع القذافي والرئيس الجزائري هواري بومدين اتفاقاً رابعاً في حاسي مسعود لوحدة بين ليبيا والجزائر، ثم في العام التالي (1974) وقع القذافي مع الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة اتفاقية جربه للوحدة بين ليبيا وتونس – وفي عام (1980) وقع القذافي مع الرئيس السوري حافظ الأسد اتفاقية للوحدة بين ليبيا وسورية. وفي العام التالي (1981) وقعت ليبيا اتفاقية للوحدة مع تشاد الجارة الإفريقية (غير العربية). ثم في عام (1984) وقّع القذافي اتفاقية وجدة مع الملك الحسن الثاني للوحدة بين ليبيا والمغرب. وأخيراً في عام (1988) انضمت ليبيا إلى مجلس التعاون المغاربي، الذي يشمل تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. وليت واحدة من هذه الاتفاقيات العشر أثمرت أو استمرت. فالشاهد هو أن الحماسة لكل منها كانت تفتر أو تندثر، حينما يلمس الطرف الآخر أن القذافي يريد الهيمنة وليس الشراكة الندية المتكافئة، أو حينما يكتشف القذافي نفسه فرصة أخرى أفضل مع بلد عربي آخر، أهم أو أكبر أو أسهل انقياداً. والواقع أنه بعد عقدين من المحاولات الفاشلة والمتعثرة أعطى خطاب القذافي لمفهوم الوحدة العربية معاني سلبية للغاية، ليس بين أبناء الشعب الليبي فحسب، ولكن لدى أبناء الشعوب العربية الأخرى، التي حاول القذافي أن يتوحد أو يتحد معها، أيضاً. وللإنصاف، ليس  القذافي وحده هو المسؤول عن ذلك، ولكن شاركه في هذا الصدد أولئك الذين وقعوا تلك الاتفاقيات معه، وكذلك قيادات أخرى رفعت شعارات قومية وحدوية، ولكنها سامت شعوبها العذاب وجلبت عليها الخراب، دون أن تحقق أياً من وعودها الوحدوية، أو أي وعود أخرى.
3 – نرجسية الشعارات الطنانة: الجماهيرية العظمى والنهر الصناعي العظيم: دأب القذافي بعد كل فشل أو انتكاسة خارجية أن يفاجىء الشعب الليبي والأمة العربية والعالم، بشعار أو مشروع مبهر، يغطي به على ما أصيب به. ففي أعقاب محاولة انقلابية اتهم القذافي فيها زميليه عضوي مجلس الثورة عمر المحيشي وبشير هوادي، ورفض الولايات المتحدة تصدير طائرات نقل حربية كانت ليبيا قد تعاقدت عليها، وتظاهر طلبة الجامعات في بنغازي ضد النظام، أعلن القذافي تطهير القوات المسلحة، وحل الاتحاد الاشتراكي، واستبداله بما أسماه "مؤتمر الشعب العام"، وحل مجلس قيادة الثورة، وقيام الجماهيرية العظمى الليبية (1976/1977). كذلك في أعقاب فشل أحد مشروعات البحث عن المياه، التي ورث القذافي مخططها من العهد الملكي، وهو مشروع الكفرة، والذي استثمر فيه عدة مليارات من الدولارات دون طائل، جاء من أقنع القذافي بمشروع بديل وأكثر طموحاً، وهو ما أطلق عليه اسم "النهر الصناعي العظيم"، أو كما وصفته دعاية القذافي (قبل أن يبدأ) بأنه سيكون "أعجوبة العالم الثامنة". والمشروع، الذي بدأ في أواخر الثمانينيات، ينطوي على حفر آبار عميقة في أقصى جنوب الصحراء الليبية، وحيث دلت المسوح الجيوفيزيائية على وجود مخزون مائي ضخم من عصور جيولوجية سحيقة. ثم نقل هذه المياه عبر أنابيب إسمنتية ضخمة، لمنع تبخرها، إلى المناطق الساحلية. وقدرت التكلفة الأولية للمشروع وقت الإعلان عنه بـ27 مليار دولار أمريكي – أو ما يزيد عن 50 مليار بأسعار 2005. وفي رأي كثير من الخبراء، أن مشروع "النهر الصناعي العظيم"، وقد تكشفت النتائج المخيبة للآمال بعد إتمام مرحلته الأولى عام 1993، هو من قبيل المشروعات المظهرية، والتي يطلق عليها اسم "الأفيال البيضاء"، لضخامتها وقلة عائدها.
4 – نرجسية فتى الصحراء السينمائي: يحلو للقذافي أن يبدو كما لو كان زعيماً أصيلاً، وفياً للتقاليد الليبية الصحراوية – القبطية. من ذلك إصراره على الإقامة الرسمية في "خيمة"، وعلى ارتداء الأزياء الليبية التقليدية. بدلاً من الزي الغربي  (الجاكيت والبنطلون) الذي أصبح هو النمط السائد في معظم أقطارنا العربية منذ القرن العشرين بين معظم الرسميين ورجال المال والأعمال والمشتغلين في المؤسسات الحديثة. ولا بأس من التمسك بالتقاليد، ومنها ارتداء الأزياء الأهلية الشرقية، والتي تختلف من بلد عربي إلى آخر، بل بين مناطق مختلفة في نفس البلد. وقد تمسك معظم عرب الخليج بأزيائهم التقليدية، ولا سيما الرسميون والمسؤولون منهم (وهي العباءة والجلباب والحطة والعقال على الرأس)، ومن ثم لا بأس أن يفعل القذافي ذلك، من حيث المبدأ. ولكن ما يجعل من هذا السلوك تعبيراً عن نرجسية صارخة هو ما تنطوي عليه الممارسة من استعراضية مبالغ فيها، تضعها في عداد العروض السينمائية "الهوليودية". فالملابس، ولو أنها تحمل بعض ملامح الزي الليبي القبلي، زاهية الألوان وذات تصميمات أنيقة، ونادراً ما يصادف أي زائر مثيلاً لها في كل ليبيا، أو يرتديها أي ليبي آخر. وقد اتضح مؤخراً أن القذافي يتعامل مع عدة بيوت أزياء عالمية (مثل ماكس فاكتور، وإيف سان لوران، لتفصيل هذه الملابس خصيصاً له، وله وحده. فلا نجد مسؤولاً ليبياً آخر، ولا أحداً من أفراد أسرته مسموحاً له أن يرتدي مثلها.
تنعكس هذه النرجسية أيضاً في إحاطة القذافي نفسه بحرس خاص من أجمل وأصح الفتيات الليبيات. وهو الوحيد في ليبيا الذي يخص نفسه بهذه التقليعة اللافتة للأنظار. هذا علماً بأنه في السنوات الأولى للسلطة، وحتى صدور الجزء الثاني من الكتاب الأخضر (1978) كانت مقولاته عن النساء متخلفة للغاية. فقد كان الرجل إلى ذلك الوقت يعتقد أن "حيض المرأة" في مكانة متدنية لا تسمح لها بممارسة أي من أعمال الرجال، ومن ثم لا يمكن أن تتساوى معه، ولكن، كعادة القذافي، فهو لا ينسى فقط أو يتناسى شحطاته السابقة، ولكن ايضاً يناقضها بشطحات لاحقة. ولعل تجنيد النساء، وانتقاء أجملهن لحراسته الخاصة، يقول لنا الكثير عن نرجسية الرجل.
6 – الجملوكية الليبية: أخيراً وليس آخراً يبدو أن القذافي، مثل كل المستبدين الذين تلعب العظمة بعقولهم وقلوبهم، قد عزم على أن يعد أحد أبنائه لوراثة السلطة من بعده. وهذا ما فعله حافظ الأسد في سورية من قبل (عام 2000)، وما كان يخطط له صدام حسين إلى أن دهمه الغزو الأمريكي في عقر داره (عام 2003)، وكذلك هذا نفسه هو ما يخطط له الرئيس المصري حسني مبارك، وربما ما يخطط له الرئيس اليمني عبد الله صالح. لقد تواترت هذه الظاهرة، وهو ما دفعنا منذ ست سنوات إلى نحت مصطلح جديد، هو "الجملوكية"، وهو شكل هجيني خليط من "الجمهورية" و"الملكية". ونرجسية القذافي هنا ليست في اعتقاده بأنه عبقري زمانه فحسب، ولكن في أن هذه العبقرية "تورث" أيضاً، ومن ثم فلا بد أن يرث الحكم عنه أحد أولاده، مثل سيف الإسلام، أو حتى إحدى بناته مثل الأميرة عائشة.

بداية النهاية
كان السقوط المدوي لكبير المستبدين العرب، صدام حسين (2003) جرس إنذار لبقيتهم. فمن كان منهم يعادي الولايات المتحدة – مثلما كان صدام حسين – فإنه سارع في البحث عن طرق ووسائل للتراجع وخطب الود. وكان معمر القذافي أولهم وأسرعهم.
فبعد أن كان يتحدى الغرب عموماً وأمريكا خصوصاً طوال الثلاثين عاماً السابقة، توقف عن ذلك بعد سقوط صدام، وبعدما لاوع وراوغ في قضية نسف طائرة ركاب بان آم الأمريكية فوق بلدة لوكربي، فإنه سارع فجأة بقبول المسؤولية ودفع تعويضات سخية لعائلات الضحايا تجاوزت في مجموعها ألفي مليون دولار، أي بمعدل عشرة ملايين دولار لكل عائلة. كذلك سارع بالاعتراف بأن لديه موارد وتكنولوجيا وخطط إنتاج لأسلحة دمار شامل بيولوجية وكيماوية، وهو ما كان ينكره من قبل، وأنه الآن على استعداد لاستقبال بعثة دولية من الخبراء للتفتيش على هذا النوع من الأسلحة، وللإشراف على عملية تدميرها والتخلص منها نهائياً. كما عرض القذافي دفع تعويضات لأسر ضحايا تفجير طائرة ركاب فرنسية وناد ليلي في ألمانيا. باختصار تحول القذافي بعد سقوط بغداد من مشاكس وإرهابي دولي إلى "حمامة وديعة" تبغي المصالحة والمواددة مع من كان يعاديهم طوال ثلاثة عقود.
وتباينت تفسيرات هذا الانقلاب المفاجىء في سلوك معمر القذافي. فأغلبية المراقبين يرون أنه بعد سقوط بغداد، والطريقة المهيمنة التي تم بها القبض على صدام حسين في حفرة كان يختبىء فيها تحت الأرض وهو أشعث الوجه ويرتدي أثمالاً بالية، فإن القذافي أيقن بالحقائق الجديدة للنظام الدولي ذي القطب الدولي الأمريكي الأوحد، وأنه ربما يستطيع أن يجري أو يشاكس، أو يهرب إلى حين، ولكنه لن يستطيع أن يختفي من أمريكا إلى الأبد. ومن ثم سلم لها تسليماً كاملاً وذليلا. ولكنه في كل الأحوال يظل أفضل حالاً من صدام حسين.
أما التفسير الثاني، فيذهب إلى أن ثمة عملية "مصالحة"، وليس استسلاماً، مع أمريكا والغرب، وأن هذه المصالحة بدأت قبل حرب العراق، على يد ابن القذافي، سيف الإسلام، والذي كان يدرس في جامعة لندن منذ عام 1999. وهو الذي أدرك أن سلوك أبيه، واستمرار عناده، يؤدي إلى طريق مسدود في أحسن الأحوال، وإلى الهلاك في أسوأ الأحوال، وأنه هو الذي أقنع معمر القذافي بتغيير ممارساته. وسواء أخذنا بالتفسير الأول أو الثاني، فإن النتيجة هي هي: وهي التسليم أو الاستسلام، ولكن بأسلوب أقل ذلاً وإذلالاً مما حدث لصدام حسين، أو الذي يوشك أن يحدث لبشار الأسد. بل يذهب بعض المراقبين إلى أن القذافي ما زال مراوغاً من الطراز الأول، وأنه بتراجعه هذا الذي رآه العالم في السنوات الثلاث الأخيرة، يشتري بعض الوقت لنفسه في السلطة. وأهم من ذلك، يشتري فرصة لابنه. سيف الإسلام، الذي يقوم بدور الغراب أو السمسار الوسيط بين أبيه والغرب، ولكن حتى إذا صحت هذه التخمينات، فإنها تعني أن نظام القذافي كما عرفه الليبيون والعرب والعالم قد قارب نهايته. فحتى إذا بقي معمر القذافي في السلطة لعدة سنوات قادمة فإنه لن يكون قادراً على الاستمرار في ممارسة الاستبدادية المعتادة. فهيبة القذافي تتآكل، وأركان نظامه يضعفون، وجدار الخوف الذي أحاط بالليبيين يتشقق. لذلك لا بد للقيود أن تنكسر، ولا بد لفجر ليبي جديد أن ينبلج. والله أعلم. (سعد الدين إبراهيم القاهرة: 1/1/2006)

سياسة التناقضات
يستطيع عدد ضئيل من أنظمة دول العالم الثالث اليوم أن يدعي البقاء في الحكم لفترة تصل إلى فترة بقاء نظام العقيد معمر القذافي في حكم ليبيا( ). فمنذ توليه مقاليد الأمور في ليبيا منذ أكثر من ربع قرن استطاع نظام القذافي أن يصمد أمام العديد من المشاكل الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تعرض لها على الجبهات الداخلية والإقليمية والعالمية. لقد زج القذافي بليبيا وشعبها المسالم، بتعداده المتواضع وموارده المحدودة، في صراعات إقليمية مسلحة مع معظم جيرانها، فكبد مواردها البشرية وخزينتها خسائر جسيمة، وحولها إلى دولة منبوذة دولياً، متهمة – صحت التهمة أم لم تصح – بإثارة الفتن والضلوع في دعم الإرهاب الدولي. وطوال الحقبة الماضية كانت كلمة "ليبي" في الإعلام الغربي مرادفة لكلمة "الإرهابي"، فيما أصبح القذافي أشبه "بالغول" الذي يقاس به كافة الديكتاتوريين الآخرين في العالم. وقد تركت هذه السمعة السيئة ذيولها السلبية على وضع ليبيا العالمي، وترتب عليها في نهاية المطاف المساس بسيادتها وتعريضها للخطر. حدث ذلك أول الأمر من خلال الهجمات العسكرية المباشرة، كتلك التي شنتها قوات الولايات المتحدة الأمريكية المسلحة على مدن طرابلس وبنغازي عام 1986 والتي لقي خلالها أكثر من مائتي ليبي حتفهم، بالإضافة إلى العديد من مختلف قرارات الحظر، والتي كان آخرها الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة في 15 نيسان/أبريل عام 1992. وقد تم فرض هذا الحظر على ليبيا بإيعاز أنجلو أمريكي رداً على تحطم طائرة ركاب أمريكية مدنية فوق (اسكوتلاندا) بواسطة متفجرة إرهابية اتهم نظام القذافي بالمسؤولية عنها.
قد يكون القذافي ديكتاتوراً شديد الذكاء، فقد برهن خلال فترة حكمه على أنه يتعلم بسرعة، وأنه يناور من أجل البقاء. وهو يمارس نموذجاً غريباً مما يسمى بسياسة "ريل بولتيك" (التي تغفل المبادىء والأخلاق في سبيل غاياتها) معتمداً في مسلكه السياسي على تجاربه الذاتية، وهو نموذج أقرب إلى الميكيافيلية منه إلى البسماركية. وعلاوة على ذلك، فقد برهن على تفوق بارع في التلاعب والمناورة تشكل سياسة محلية ليبية تتسم بالخطورة محلياً ودولياً. إن نظرية القذافي العالمية الثالثة، والتي تمثل وجهات نظره بشأن العالم والمجتمع، تعد نظرية فكرية (أيديولوجية) ذات نسيج محلي خاص يتأثر إلى حد بعيد بشخصيته. وكما فعل العديد من قادة دول العالم الثالث، فقد حاول أن ينأى بنفسه عن الأيديولوجيات والأفكار الشرقية والغربية من خلال تبني مزيج من نظريات التنمية والتطور المنبثقة عن الناصرية والماركسية الكلاسيكية، إلى جانب الاشتراكية الإسلامية( ).
وهذه الأيديولوجية، التي تمثل الإطار الرسمي وغير الرسمي لتطوير البلاد وسياستها في غضون العقدين القادمين، يمكن اعتبارها أيديولوجية محلية شاذة قام العقيد القذافي بتطويرها في أوائل السبعينيات وأدرجها ضمن إطار نظريته العالمية الثالثة التي أحاطها بالكثير من الدعاية.

النظريات الفكرية (الأيديولوجية) وتغيراتها المتفاوتة
تسود الأيديولوجيات المحلية الشاذة في المجتمعات التقليدية الطابع، والتي تكون قد أخضعت لمؤسسات وتقنية عسكرية حديثة. وفي كثير من الحالات فإن التغيرات الاجتماعية البطيئة تمكن النظام العسكري، وهو المجموعة الأولى التي تمارس التغيير بسرعة، من تولي مقاليد الحكم والحفاظ عليها( ). وفي العادة، فإن الأيديولوجيات الشاذة تنتمي إلى تلك الأيديولوجيات التي يضعها الحكام الأفراد لدى توليهم زمام السلطة. وفي كتابه "أوامر الحاكم" يحلل (و. هوارد ريجينز) الأساليب التي يعتمد عليها حكام الدول النامية في آسيا وأفريقيا في محاولتهم التمسك بالسلطة( ) قائلاً إن أكثر تلك الأساليب شيوعاً هو أن يقوم الحاكم بالترويج لنظرية فكرية (أيديولوجية) ( ).
وتعدّ الأيديولوجيات الشاذة السمة المميزة لأنظمة الحكم في العالم الثالث والتي تولت السلطة عن طريق إزاحة أنظمة حكم تنتمي لمرحلة الاستقلال. وفي العادة فإن الدول الجديدة النامية، والتي تكون قد مُنحت الاستقلال أو حصلت عليه بوسائل تخلو من العنف، تتبنى الأنظمة السياسية ذاتها التي كان يتبناها أسيادها من المستعمرين السابقين. وهناك القليل جداً من الدول التي حافظت على عهود الاستقلال الغابرة، غير أن الغالبية قد مرت منذ استقلالها بتغيير واحد أو أكثر. والأنظمة القليلة التي حافظت على بقائها عقدين من الزمن بعد الاستقلال تدين بالفضل في استقرارها وبقائها للأيديولوجيات المتماسكة المحكمة التي استعملت، من قبل، كإطارات توجيهية للتنمية السياسية والاقتصادية. وهذا لا يعني أن الأيديولوجيات هي التي مكنت تلك الأنظمة من البقاء في الحكم، ولكن قد تكون قد مكنتها من التمسك بالحكم فترة أطول. ومن خلال الأيديولوجيات يستطيع الحكام إظهار شخصياتهم وبناء التنظيم وتنمية الاقتصاد والتوسع في المشاركة السياسية أو تعميقها.
وكما يدل عليها اسمها، تختلف كل "أيديولوجية شاذة" عن أختها كل الاختلاف. وقد تكون هناك ملامح يشترك فيها الجميع، إلا أن الاختلاف بينها، وبالنظر للطبيعة المحلية لهذه النظريات الفكرية، فأن لا يقتصر على التفاوت في الأهداف والغايات، ولكنه يمتد كذلك إلى بيئة العمل( ). وهناك مجموعة مختلفة من التفسيرات السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية لتسويغ عدم وجود مؤسسات ذات مضمون محدد لدى الدول النامية، ولعل أكثرها إثارة وأهمية، مما يتصل بتحليل دور القائد، أن عدداً كبيراً من قادة العالم الثالث يرفضون أن تخضع سلطاتهم لقيود الإطار الدستوري، حتى لا يضطروا إلى اقتسام السلطة مع مؤسسات أخرى يتوجب عليهم إنشاؤها كجزء من العملية الدستورية. وهكذا فقد كان الاتجاه السائد هو الافتقار للدساتير، أو وجود دساتير تخول الحاكم التنفيذي الكثير من الصلاحيات، ومن هنا، وباستثناء  حالات قليلة، فإن غالبية النظريات الفكرية كانت تميل إلى الغموض أو كانت ذات مضامين عامة. وتعدّ نظرية زعيم تنزانيا جوليوس نيريري المسماة نظرية "الأوجاما" أو نظرية نظام الأسرة، مثالاً طيباً على غموض ومراوغة هذه النظريات الفكرية. وتصف تلك النظرية الاشتراكية الإفريقية نفسها بأنها "تعارض الرأسمالية لأنها تسعى لبناء مجتمع سعيد، رافضة استغلال الإنسان للإنسان، كما أنها تعارض الاشتراكية النظرية التجريدية لأنها تسعى لبناء مجتمعها السعيد، برفضها فلسفة الصراع الحتمي بين الإنسان والإنسان"( ).
وبعد التعبير عن معارضته للأيديولوجيات الغربية والشرقية وأساليب تطورها، أوضح (نيريري) أفكاره الخاصة فيما يتعلق بعملية التنمية والتطور في تنزانيا المستقبل قائلاً: "نحن في إفريقيا لم نعد بحاجة إلى "التحول" إلى الاشتراكية، كما أننا لسنا بحاجة إلى من "يعلمنا" الديمقراطية ذلك أنهما موجودتان منذ الأزل في ماضينا، في المجتمعات التقليدية التي أنجبتنا". إن بوسع الاشتراكية الإفريقية الحديثة أن تستقي من تقاليدها الموروثة مبدأ الاعتراف بالمجتمع بوصفه امتداداً لوحدة العائلة، غير أنه لم يعد في مقدورها المضي في حصر فكرة المجتمع العائلي في إطار القبيلة، أو حتى الأمة. وليس بوسع أي اشتراكي إفريقي مخلص أن ينظر إلى خط مرسوم على خارطة ثم يقول: "إن الناس على هذا الجانب من الخط هم إخواني ولكن الآخرين، الذين شاء لهم القدر أن يعيشوا على الجانب الآخر من الخط ذاته، ليس لي بهم شأن، ذلك أن كل مواطن في هذه القارة هو أخ له".
ولقد حذا آخرون من قادة الدول النامية حذو (نيريري) في تأكيد الحاجة إلى أيديولوجيات مميزة لتوجيه مجتمعاتهم، كجمال عبد الناصر في مصر، وباتريس لومومبا في زائير (الكونغو سابقاً) وماو تسي تونغ في الصين. من جهة أخرى تبنى قادة آخرون أيديولوجيات محلية أقل طموحاً، من أمثال (ني وين) و(يو نو) وكذلك النظام العسكري الحاكم حالياً في ماينمار (بورما سابقاً)( ). ويرى عدد من المفكرين الآسيويين أن الثورة البورمية، على الرغم من كل محدثاتها، تظل "ثورة بسيطة" ذات أيديولوجية تقتصر على عدد محدود من القيم( ). وفي العديد من دول العالم، حيث تسير عجلة التطور ببطء ملموس، أصبحت القوات المسلحة الأداة الرئيسية للتغيير، ولذا لم يكن مفاجئاً أن تتبنى غالبية الدول التي تحكمها أنظمة عسكرية أنماطاً مختلفة من الأيديولوجيات الشاذة لتوجيه مسيرة التنمية لديها().
وبالنظر لطبيعتها الخاصة فإن تلك الأيديولوجيات تبدو مؤقتة، إذ إنها تموت وتنقضي بمجرد انتهاء صانعيها. فقد ماتت الناصرية بوفاة جمال عبد الناصر عام 1970، وانتهت الاشتراكية الإفريقية مع نهاية (لومومبا) عام 1961، والشيوعية الصينية بعد وفاة ماو تسي تونغ عام 1976. ويصدق هذا القول تماماً في الأحوال التي لا يتم فيها إيجاد مؤسسات شعبية سياسية دائمة. ويمكن أن يُعزى ذلك جزئياً إلى الطبيعة التجريبية لتلك الأيديولوجيات، ذلك أن واضعي تلك الأيديولوجيات يحاولون عادة إيجاد مجتمعات جديدة من صلب المجتمعات التي ورثوها دون استبعاد الكثير من القديم. وبين الحاجة إلى الابتكار والحاجة إلى الاستمرارية، يحاول غالبية قادة العالم الثالث جاهدين إيجاد حلول وسط من خلال البحث عن إطارات جديدة يغلفون بها النظريات والمفاهيم القديمة. ويمكن للأيديولوجية المحلية أن تسجل نجاحاً مرموقاً كمعتقد سياسي، إذ يمكن أن توفر هيكلاً لفهم واستيعاب العالم، كما يمكن أن توفر منهاجاً للعمل الفردي أو الجماعي، علاوة على أنها أداة بناءة في التحكم في المنازعات. وكغيرها من الأيديولوجيات، فإن الأيديولوجية المحلية تسهم في صياغة حياة الناس من خلال حثهم على الإحساس بالالتزام تجاه الأعمال والتحولات الاجتماعية.
وعلى الرغم من أن عدداً من تلك الأيديولوجيات قد سار على نهج الذين قاموا بصياغتها، إلا أن معظمها قد ترك ندوباً عميقة، أو آثاراً سلبية في بعض الحالات، كتلك التي خلفها (بول بوت) و(الخمير الحمر) في كمبوديا، وهي واحدة من أسوأ الحالات، أو كالنظام الراهن في سنغافورة اليوم، حيث سجلت الموارد البشرية نجاحاً طيباً في مجال التنمية، على الرغم من أن نظام الحكم هناك يتمتع بطابع خاص مميز يعد ديكتاتورياً في بعض الأحيان. ويمكن القول بأن تجربة القذافي تندرج بين هذين المثالين المتطرفين، وإن كانت أقرب للنظام الأخير منها للنظام الأول.
فمن خلال استغلال أيديولوجية تقليدية محلية قام العقيد القذافي كذلك بالإطاحة بنظام حكم تقليدي. وتوصف المجتمعات المماثلة للمجتمع الليبي أحياناً بأنها مجتمعات "تقليدية جديدة" أو "أبوية جديدة"، وذلك لأنها تمكنت من البقاء ودخول عصر جديد بدون إحداث تغيرات جوهرية على هياكلها الثقافية والاجتماعية والتقليدية( ). وفي معظم الحالات تقوم المجوعات المدنية بإرساء قواعد التحكم من خلال الأجهزة السياسية العاملة ضمن المؤسسات التقليدية والقبلية والقروية في المناطق الريفية، على حين تحافظ النخبة على تضامنها باتباع أساليب المحسوبية، والفساد، والغنائم، والامتيازات التي توزع على المجموعات التي تمثل مصالح مجموعات المدن والصفوة القبلية.
وفي الدول التي تغلف التقاليد نظرياتها الأيديولوجية يتمتع الحاكم عادة بدرجة ما من الشرعية، على الرغم من أن ذلك الحاكم قد يبدو، وفق المقاييس الغربية، حاكماً مستبداً. والأمثلة على ذلك نجدها في المملكة العربية السعودية والمغرب وسوازيلاند وملاوي وإيران. وتوصف أنظمة الحكم في مثل هذه الأنظمة بأنها استبدادية، غير عسكرية، علاوة على افتقارها للمؤسسات السياسية التي يمكن أن تخدم الآخرين بجانب الصفوة الحاكمة. ويتم التحكم في تلك المجتمعات من خلال قوانين اجتماعية متأصلة وتقليدية، وهي ليست من القوانين العلمانية الحديثة. وتتواجد الأجهزة المساندة الحديثة كالشرطة والجيش والمخابرات العامة، غير أن الاستعانة بها تقتصر فقط على الحالات التي ترى فيها السلطة الحاكمة ما يتهدد مصادر سلطاتها الدينية والثقافية. وقد بدأت أنظمة الحكم التقليدية الحديثة في التراجع كنتيجة مباشرة لعملية التحديث. إذ أسهمت الضغوط التي تعرضت لها الممارسات والتقاليد المحلية من جراء الاحتكاك بأساليب التعليم والإعلام العالمي والتقنية، وما إلى ذلك من المؤثرات الأخرى من أرجاء المعمورة، في تآكل أسس الأيديولوجيات الشاذة( )، لا سيما أن الأيديولوجيات التقليدية المحلية تنحو إلى إرساء قواعدها فوق الأعراف الثقافية والاجتماعية السائدة. إلا أن الأيديولوجيات، إلى جانب تلك التقاليد والثقافة الشاذة، تظهر عادة سمات وهوايات القادة الذين وضعوها.

سياسة التناقضات
إن تحليل الجانب الفكري (الأيديولوجي) للقذافي يشير إلى وجود مزيج انتقائي مبتكر من الأفكار التي تترابط معاً من خلال شخصية العقيد المعقدة. إن الكثير من أيديولوجيته ينم عن بساطة مثالية كثيراً ما تفتقر إلى فهم القوى التي تسهم في صياغة التطور البشري والعلاقات الإنسانية في بعض الأحيان. وطوال ربع القرن المنصرم تمكن القذافي من إبقاء المجتمع الليبي على حافة الشك وعدم اليقين. إن معظم النظم السياسية والاقتصادية في عالم اليوم، بما في ذلك غالبية النظم التقليدية والاستبدادية، تتسم بالوضوح التام بالنسبة لما تتطلبه من مجتمعاتها الخاصة، ومن ثم فإن العديد من تلك المجتمعات تتمكن من تكييف نفسها من أجل ضمان بقائها. غير أن النظام السياسي الليبي لا يوفر للمجتمع الليبي مثل تلك الإمكانات، ذلك أن العقيد القذافي عمد في عام 1974 إلى تطبيق نظام سياسي واقتصادي وثقافي يستهدف إبقاء المجتمع الليبي في حالة تغيير وتبديل دائب مستمر. إن قواعد اللعبة (السياسية) في ليبيا تتغير باستمرار، وهي في ذلك تشابه إلى حد بعيد بالوناً لا شكل له يمتلىء بالماء ويتعرض باستمرار للإثارة والتحريك بما يكفي لجعل الماء في حركة دائبة دون أن يسمح له على الإطلاق بأن يطور طاقة مكتسبة تكفي لتمزيق جدار (البالون)  الخارجي، وبذا يمكن القول بأن النظام السياسي والاقتصادي في ليبيا هو نظام فوضى منضبطة( ). وتتمثل عبقرية القذافي في قدرته على التحكم والتلاعب بحالة الفوضى هذه، في نفس الوقت الذي يظل هو نفسه بداخلها. ويقوم القذافي بتغذية هذه الحالة من الفوضى لأن بقاء نظامه يرتبط بها، ذلك أن التغيرات السريعة المتواصلة توفر حالة عدم الاستقرار.
ولعل أحد أسرار نجاحه في الحفاظ على نظامه الحاكم وتمكنه من التصدي للعديد من العواصف المحلية والدولية هو اعتماده على استعمال ما سوف نشير إليه هنا باسم "سياسة التناقضات" والتي تشكل الأساس لإيجاد حالة التشوش والارتباك والمحافظة عليها. وقد يمكن القول أن ليبيا تشابه كثيراً المجتمعات النامية الأخرى التي تمر بتجارب سياسية واجتماعية، إذ تبدو المؤسسات ظاهرياً ديمقراطية وحديثة ولكنها ليست في حقيقتها بالديمقراطية ولا بالمستحدثة. وتحمل هذه المؤسسات ما استعارة القذافي من آراء المفكرين الآخرين من أفلاطون إلى ماو تسي تونغ، بما في ذلك النبي الكريم محمد (ص)، وجمال عبد الناصر في مصر. وهي تشمل ممثلين شعبيين منتخبين، وكذلك تنظيمات شعبية ووزارات وقوات مسلحة وشرطة وبيروقراطيين ونقابات عمال، إلا أنه لا توجد في ليبيا أحزاب سياسية، إذ يتوجب أن ينحصر كل النشاط السياسي ضمن إطار المؤتمر الشعبي، وهو الإطار الذي يلتقي فيه كل ممثلي المؤسسات الرسمية لتطوير السياسات وإقرارها. ومن الناحية الدستورية، فإن المؤتمر الشعبي هو أقوى سلطة سياسية في البلاد؛ أما في الواقع المعاش فإن المؤتمر وجميع أعضائه يخضعون لأهواء وهيمنة جهاز حكومي غير رسمي. وفي ليبيا يتألف جهاز الحكومة غير الرسمي من طليعة ثورية تلتزم بأفكار ومقولات العقيد القذافي كما وردت في "الكتاب الأخضر"( ). ومن الجدير بالذكر أن القذافي يزعم دائماً أن لا سلطان له على اللجان الثورية، وعلى الرغم من أنه يحاول دائماً أن ينأى بنفسه عنها، إلا أنه يندر أن يرفض سياساتها. وتتمتع اللجان الثورية بقدر كبير من حرية العمل فيما يتصل بتفسير وتطبيق أفكار القائد الليبي. أما دور القذافي فهو مزيج من "الملك الفيلسوف" كما يراه أفلاطون والمحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية. فهو عادة لا يتدخل في تشريع السياسات أو تطبيقها، غير أنه يحتفظ لنفسه بحق الاعتراض (الفيتو) فيما يتعلق بمدى تمشي تلك السياسة مع أيديولوجيته أو تعارضها معها. واللجان الثورية حرة في تفسير أفكاره، وكثيراً ما يتبنى ما يشعر بأنه التفسير المثير لأيديولوجيته الخاصة، إلا أنه في بعض الأحيان يبلغ به الدهاء أنه ينتظر ردود الفعل الجماهيرية قبل أن يتخذ قراره الحاسم. فإذا كان رد الفعل إيجابياً، فإن القرار يصبح جزءاً من أيديولوجيته، أما إذا كان رد الفعل سلبياً إلى حد بعيد فإنه يعيد الأمر إلى مراكز القوى الرسمية لمناقشته وتقويمه. وعادة ما يتيح له هذا الأسلوب فرصة كافية من الوقت لإعادة النظر في الأمر، وربما تعديل وجهة نظره بشأنه. ولكنه، إذا راقت له تلك السياسة، حمل المؤتمر الشعبي على إقرارها، ومن ثم يزيح الغضب الجماهيري عن عاتقه ليضعه على عاتق المؤتمر. ومن جهة أخرى، إذا كان الأمر لا يشكل أهمية تذكر بالنسبة للعقيد، فإنه يسمح للمؤتمر الشعبي برفضه ثم يستغل الأمر للحديث  عن المرونة التي يتسم بها نظامه السياسي.
وكمثال على ذلك فقد حدث في أوائل الثمانينيات أن اقترحت لجنة ثورية إلغاء المدارس الابتدائية، واقترحت أن يتم التعليم الابتدائي في المنزل كوسيلة للتوفير في النفقات. ويبدو أن تلك الفكرة المستحدثة قد استهوت العقيد القذافي فانطلق يتحدث عن التعليم المنزلي وعقد الندوات لمناقشة مزاياه، وقد بلغت حماسته للأمر أن حاول حمل المؤتمر الشعبي على الموافقة على الاقتراح، غير أنه أوقف العملية وألغى المناقشة التي كان من المقرر إقامتها بشأن التعليم المنزلي بعد أن جوبه الاقتراح بمعارضة عارمة من جانب النساء الليبيات، ذلك أن الهيمنة التقليدية للمرأة الليبية على المنزل كانت تشكل دائماً الجهة التي تصمد في مواجهة العقيد القذافي. وبالقياس للرجل الليبي، فإن المرأة الليبية أوفر إنتاجية، فهي تعمل في البيت وخارجه، وتعتبر مسؤولة عن اقتصاديات الأسرة، كما أنها تحقق وتحتفظ بثروة تفوق ما يحققه ويحتفظ به الرجل، على الرغم من أن عدداً لا يستهان به من النساء أميات وغير متعلمات. وقد رأى العديد من النساء أن فكرة التعليم المنزلي تمثل محاولة من جانب الدولة لإضعاف موقفهن( ).
ومن الجدير بالذكر أن جهاز السلطة غير الرسمية لا يتمتع بالحصانة إزاء عمليات الإثارة والتشويش المتواصلة، فالعقيد القذافي يواصل القيام بتطهيره وتغيير تشكيله من حين لآخر. وعندما انبثق جهاز السلطة غير الرسمي للمرة الأولى، كان يتألف من مجموعة من اللجان الشعبية، ولم تلبث هذه أن تعرضت للتطهير وحلت مكانها اللجان الثورية، ثم تغيرت هذه بدورها وحلت مكانها اللجان العقائدية (الأيديولوجية). وكان أحدث إضافة لهذه الحلقات لجان التطهير التي شكلت في الأول من سبتمبر/أيلول عام 1994. وكان الهدف الأول من وراء عمليات التطهير استبعاد العناصر "المناوئة للثورة" والحيلولة دون تمكين أي عضو لجنة من تحقيق الثراء الفاحش. أما الهدف الثاني فهو أكثر تعقيداً لأنه يعكس عوامل النمو والتغيير التي تطرأ على شخصية القذافي. ولأن اللجان، كما هو مفترض، كانت تعكس بصدق شخصية العقيد القذافي وسياسته، فإن أي تغيير يطرأ على القائد الليبي ما يلبث أن تنتقل عدواه إلى تلك اللجان، يضاف إلى ذلك أن عمليات التطهير تعكس الملامح التقليدية، وربما القبلية أيضاً في شخصية القذافي، إلى جانب العناية الخاصة التي يوليها النظام لروابط الدم التقليدية.
وخلال الحقبتين الماضيتين تمكنت عمليات التطهير المتتالية من تزويد العقيد بفرص ممتازة لوضع أقاربه في مناصب قيادية على جميع مستويات الجهاز غير الرسمي، كما زودت أولئك الشبان والشابات بالفرص العديدة لاكتساب النفوذ والتعليم والثراء علاوة على الامتيازات غير المتاحة لقطاعات أخرى في المجتمع، مما يجعلهم مدينين بالولاء التام للعقيد، وقد برهنوا خلال السنوات القليلة الماضية على أنهم آذان النظام وعيونه وعموده الفقري أيضاً. وهم يحاكون العقيد في ملبسه وتصرفاته، وحتى في تصفيفة شعره، حيثما أمكن.
والآن ما هو مكان العقيد القذافي في هذا النظام؟ سوف نجيب عن هذا السؤال بالكامل في الفصل الخامس من هذا الكتاب، ولكن يكفي في هذه العجالة أن نقول إنه ليس له لقب أو دور رسمي، غير أن وضعه بوصفه "الفيلسوف" – "الملهم" و"الملهَم" يضمن له دوراً قيادياً في أي نشاط سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، أو أي عملية تحدث في أي وقت في أي مكان في البلاد. إن كل شخص في الجهاز الرسمي وغير الرسمي إنما يشغل منصباً ثانوياً بالنسبة له، بما في ذلك الرئيس الرمزي للجهاز الرسمي في الدولة، والذين يدين له بمنصبه.
وسيشغل الحديث عن التاريخ الليبي وتطوره الفصل الثاني من هذا الكتاب، فأستعرض فيه تنوع المجتمع الليبي والقوى المؤثرة في ذلك التنوع، كما سأتناول بالحديث تأثير التاريخ والاستعمار على الشخصية الليبية، والعلاقات التي تربط سكان البلاد بغيرهم من سكان المنطقة.
أما في الفصل الثالث؛ فسوف أتناول موضوع القوى الفكرية الأيديولوجية التي كانت سائدة في المجتمع الليبي خلال العهد الملكي، وتلك السائدة خلال العهد الثوري، وسوف تكشف المقارنة بين الأيديولوجية المحلية إبان العهد الملكي والأيديولوجية الشاذة السائدة في مرحلة القذافي، مظاهر التشابه والاختلاف بين النظامين، علاوة على تزويد القارىء الكريم بتحليل شامل لمراكز القوة والمؤسسات والأحزاب وعامة الناس في كلا العهدين، وما يترتب على ذلك من إيضاح كيفية قيام النظام الثوري باستنباط وتطبيق سياسة التناقضات سعياً وراء إقامة مجتمع تبقى تصوراته فقط في فكر العقيد القذافي. كما سأتطرق إلى تحليل أجهزة السلطة الرسمية وغير الرسمية، والحديث عن اللجان الخاصة المنبثقة عن كل منها وتفرعاتها.
هذا، أما الاقتصاد الليبي وعملية التنمية في ليبيا منذ الاستقلال، فسيكون الحديث عنهما في الفصل الرابع من هذا الكتاب، حيث سأحرص على مناقشة أهداف التنمية تحت كلا النظامين، وبيان مدى النجاح والإخفاق الذي تحقق خلال كل مرحلة أيديولوجية منهما. وسوف أتحدث عن تأثير سياسة التناقضات على المجتمع الليبي خلال عهد العقيد القذافي في الفصل الخامس، حيث أستكشف تشكيل قطاع السلطة غير الرسمي وعلاقته بالعقيد القذافي ونظريته العالمية الشاملة، والأهم من ذلك كله الطريق المثير الذي كان على المجتمع الليبي أن يخطوه للتمشي وفق مقتضيات هذا العهد والتصرف حيالها وما يتبع ذلك من ضمان أسباب البقاء.
وفي الفصلين السادس والسابع أتحدث عن أهداف سياسة ليبيا الخارجية، وأتناول القاعدة التي تعتمد عليها تلك السياسة الخارجية، مستعرضاً علاقات البلاد بالعالم العربي من جهة، وبالقارة الإفريقية من جهة أخرى، كما سأناقش العلاقة بين أيديولوجية القذافي وبين مغامرات سياسته الخارجية، مع التركيز بصورة خاصة على تقييم العلاقات المتغيرة بين العقيد القذافي وبين الولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولة الوقوف على مسببات تلك التغيرات. ويناقش هذا الفصل بوجه خاص أسباب ودوافع الصراع بين القائد الليبي وبين الولايات المتحدة الأمريكية التي أدت إلى قطع العلاقات بينهما علم 1980، وإلى الغارة الجوية الأمريكية على ليبيا عام 1986، وإلى قيام الأمم المتحدة بفرض الحصار على ليبيا عام 1992. وسأتناول بالتحليل موضوع التصادم بين شخصية القذافي وأيديولوجيته من جهة، وبين السياسة الأمريكية التقليدية من جهة أخرى، بوصفها مصدر ذلك الصراع. وسأخصص الفصل السابع لدراسة تأثير مصر على العقيد القذافي والدور الذي لعبته في صياغة وتشكيل سياسة ليبيا الخارجية، كما سأقوم بتحليل دور كل من جمال عبد الناصر والسادات واتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وتأثير كل هؤلاء على علاقات ليبيا بالولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفييتي السابق. أما الفصل الثامن، الذي اختتم الكتاب به، فيتضمن خلاصة لما جاء فيه من خلال إيجاز سياسة التناقضات في ليبيا.(انتهى)

(انتهت النشرة)

<< Prev - Next >>

Last Updated (Thursday, 24 February 2011 11:41)

 
القائمة الرئيسية
  • الرئيسية
  • الأرشيف
  • عن الوكالة
  • عباس بدر الدين
  • قالوا في عباس بدر الدين
  • الصحف اليومية
  • راسلنا
Banner
Banner
حول ملف الإخفاء
  • س س
  • العقيد القذافي
    • ليبيا القذافي
  • لكلمته صولة
  • مطالبات
  • مطالبات - تابع
  • التوطين
  • د.مسيكة :هذه هي وقائع التحقيق
  • التحقيق الايطالي في جريمة الاخفاء
  • من المؤكد
  • قانون انشاء المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى ونظامه الداخلي وملاك موظفيه العام
  • موسى الصدر لماذا هو؟
  • معلومات عن خطف الإمام وصحبه
Banner
للعلم والمعرفة
  • العلمنة
  • الوفاق الذي عاش 30 عاماً
  • مصير لبنان في مشاريع
  • تاريخ قوات حفظ السلام في لبنان
  • الخريطة الاميركية للشرق الاوسط
  • الاستراتيجية الاميركية في المنطقة
  • الثورة الإسلامية الإيرانية
  • طائرة الموت الايرانية
Banner
Banner
Banner
Banner

Copyright © 2010 LNA.
All Rights Reserved.

Designed by MS Graphics.