العلمنة

Monday, 07 February 2011 17:44 | PostAuthorIconWritten by | PDF Print E-mail
Article Index
العلمنة
Page 2
Page 3
Page 4
Page 5
Page 6
Page 7
Page 8
Page 9
Page 10
Page 11
All Pages

العلمنة للدكتور محمد يكن -رحمه الله-في كتابه "لبنان وتحديات الحاضر"
الميثاق الوطني: علماني النزعة

(ا.ل) – منذ أن أعلن "الميثاق الوطني" سنة 1943 والأندية السياسية تتناوله بالنقد أو التأييد حتى غدا هذا "الميثاق" نتيجة التفسيرات المتناقضة التي أعطيت له ميثاقاً مبهماً ووسيلة من وسائل المزايدات السياسية. فأخرج "الميثاق الوطني" الذي صدر عقب الاستقلال عن جوهره وأهدافه وأصبح ميثاقاً للحفاظ على امتيازات الطائفية السياسية لا ميثاقاً وطنياً يؤلف ما بين الشعب الواحد ويؤكد وحدته ووحدة مصيره. وفي ذلك قول الشيخ أميل الخوري: "ومن نكد الدنيا على لبنان أن ميثاقه ضعفت ركائزه وأفقدت الأحداث شيئاً غير قليل من مادته".
ومبادىء "الميثاق الوطني" الأساسية كما رسمها واضعوه الشيخ بشاره خليل الخوري ورياض الصلح ـ متوفرة في خطب الأول ومذكراته ومحتواة أيضاً في البيان الوزاري الذي ألقاه رياض الصلح في جلسة 7 تشرين الأول عام 1943. وعلى ذلك فإن مبادىء "الميثاق الوطني" متضمنة في وثائق مكتوبة هي خطب الشيخ بشارة خليل الخوري المتعلقة بالميثاق والمدرجة في مذكراته وكذلك في البيان الوزاري الأول لعهد الاستقلال.
ومراجعة لخطب الشيخ بشارة خليل الخوري وللبيان الوزاري الأول لعهد الاستقلال تؤكد لنا بصورة جازمة أن "الميثاق الوطني" ليس ما تتناوله الأندية السياسية اليوم، ذلك لأنه لم يكن ميثاقاً لترسيخ امتيازات الطائفية السياسية ولم يكن ميثاقاً لتوزيع المقاعد النيابية على الطوائف السياسية التي يتكون منها لبنان أو ميثاقاً لتوزيع مناصب الدولة عليها، بل كان ميثاقاً وطنياً ديمقراطياً في جوهره وعملياً في منهجه وعلمانياً في أبعاده. وأما امتيازات الطائفية السياسية فكانت سابقة له وكان يعمل في ضوئها قبل صدوره منذ زمن بعيد – منذ عهد المتصرفية والقائم مقاميتين ومن بعدهما في فترة الانتداب.
وتتأكد لنا هذه الملاحظات بالوقائع التالية:
1 – إن المادة 95 من الدستور اللبناني لعام 1926 وقبل تجريدها من البنود المتعلقة بحقوق الدولة المنتدبة وواجباتها في سنة 1943 دعت إلى تمثيل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة. فقد قالت: "بصورة مؤقتة وعملاً بالمادة الأولى من صك الانتداب، والتماساً للعدل والوفاق تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الوطن".
2 – إن توزيع المقاعد في المجالس واللجان التمثيلية والإدارية قام على أساس طائفي منذ عهد المتصرفية.
3 – إن اعتبار منصب الرئاسة الأولى من حقوق الطائفية المارونية كان قد تقرر مبدئياً سنة 1926 إلا أن العمل بذلك أرجىء نظراً لموقف المفوض السامي الذي اعتبر شارل دباس خير من يولى الرئاسة الأولى آنئذ.
تحقق إسناد الرئاسة الأولى للطائفة المارونية في مطلع الثلاثينات وذلك عندما عين حبيب باشا السعد رئيساً للجمهورية. وتحقق إسناد رئاسة الوزارة للطائفة السنية في أواخر الثلاثينات عندما عين خير الدين الأحدب رئيساً للحكومة سنة 1937.
5 – لم يتحقق إسناد الرئاسة الثانية للطائفة الشيعية قبل حزيران سنة 1947 فقد تولاها قبل التاريخ المذكور نوباً من غير الطائفة الشيعة كحبيب أبو شهلا الذي تولاها ما بين 22 تشرين الأول 1946 و7 نيسان 1947.
6 – فيما عدا الرئاسات الثلاث لم يتبع توزيع مناصب الدولة ووظائفها على الطوائف السياسية قاعدة ثابتة.
وبكلمة موجزة، قام "الميثاق الوطني" على الدعوة إلى صهر المجتمع اللبناني لا إلى تمزيقه. كما قام على الإيمان بأن لبنان هو لبنان مواطنيه وبأن إرادة مواطنيه أياً كانت مذاهبهم هي أساس سياسته، أياً كانت هذه السياسات، وبالتالي قام على قاعدة سلوكية عملية وهي أن ما من سياسة يمكن أن يكتب لها النجاح في لبنان إذا لم يرتضيها غالبية مواطنيه.
فأساس "الميثاق الوطني" ومرتكزه الأولي هو اتفاق اللبنانيين على الانصهار في وطن واحد مستقل سيد نفسه وأمره.
ولعل أفصح ما يؤكد نزعة "الميثاق الوطني" العلمانية أننا لم نجد في خطب الشيخ بشارة خليل الخوري ومذكراته المتعلقة "بالميثاق الوطني" والشارحة له ما يشير إلى ضرورة تكريس امتيازات الطائفية السياسية أو العمل في ضوئها أو الحث على استمرارها. بل على عكس ذلك، إننا نلاحظ تركيزاً بائناً على ضرورة تدعيم وحدة الشعب اللبناني وصهره. ويكفي للدلالة على ذلك التوضيحات والخطب التي حدد فيها مضامين "الميثاق الوطني" وأبعاده ومنها قوله:
"وما الميثاق الوطني سوى اتفاق العنصرين اللذين يتألف منهما الوطن اللبناني على انصهار نزعاتهما في عقيدة واحدة: استقلال لبنان التام الناجز دون الالتجاء إلى حماية الغرب، ولا إلى وحدة أو اتحاد مع الشرق".
ومنها قوله:
"هذا الميثاق... هو عهد بين جميع اللبنانيين على اختلاف طبقاتهم وميولهم: استقلال صحيح، وسيادة قومية، ومحافظة على دستور البلاد، لا انتقاص فيها ولا هوادة، ومودة خالصة، وتعاون وثيق بين الأقطار العربية ولبنان لمصلحة الجميع وعلى قدم المساواة، وبروح العدل والإنصاف".
ومنها قوله:
"... وقد كان لنا ما نريد وبلغنا المنى... (فـ) لم يعد في لبنان سلبيون ولا إيجابيون، لا مسلمون ولا نصارى، بل أصبح اللبنانيون شخصاً واحداً، لبنانياً، قومياً، استقلالياً، عربياً...".
وجدير بالذكر أن البيان الوزاري الأول لعهد الاستقلال الذي رسم في ضوء مبادىء "الميثاق الوطني" قد تضمن خططاً ومناهج للحفاظ على لبنان وطناً مستقلاً قائماً على اتفاق مواطنيه والتقاء إراداتهم. وتنطوي هذه الخطط والمناهج على مبادىء جوهرية وقواعد إصلاحية أساسية منها:
1 – تأليف قلوب جميع اللبنانيين على حب الوطن واعتبار المحافظة على الاستقلال مسؤولية كل مواطن لبناني، كل بحسب ما بيده. وفي ذلك يقول البيان: "ولا يستقيم لوطن كيان واستقلال ما لم ينبض له قلوب بنيه جميعاً، فالقلوب الوطنية هي خير سياج للوطن، وهي الزم لحفظه وصيانته من سلاح المادة... فرائدنا الأول في تنظيم الاستقلال سيكون إذن تأليف قلوب جميع اللبنانيين على حب وطنهم".
"... إن الاستقلال والسيادة الوطنية وديعة ثمينة وضعت بين أيدينا، وإن كل فرد من أفراد الوطن اللبناني العزيز مسؤول عنها، كل بحسب ما بيده".
2 – اعتبار مصلحة لبنان العليا الشاملة سياسة للحكم وإفساح المجال لكل لبناني للمساهمة في رسمها بالفكر والعمل. وفي ذلك يقول البيان أن الحكومة "... لن تتعرف إلى السياسة الضيقة التي ألهت اللبنانيين بأمور محلية محدودة وأورثت الاختلافات والأحقاد بينهم (وانها) تريد أن تكون للبنان سياسة عليا يرتفع إليها، ويساهم فيها كل لبناني فكراً وعملاً.. وهي ستعمل بجد وإخلاص على جمع الصفوف وإزالة الأحقاد.. حتى تنصرف القوى والجهود إلى خدمة مصلحة البلد العليا الشاملة".
3 – اعتبار الطائفية والنظام الطائفي إهانة للحياة الوطنية في لبنان وعائقاً أمام تقدم الوطن وسبباً من أسباب ضعفه. وفي ذلك يقول البيان: "ومن أسس الإصلاح التي تقتضيها مصلحة لبنان العليا معالجة الطائفية والقضاء على مساوئها، فإن هذه القاعدة تقيد التقدم الوطني من جهة وسمعة لبنان من جهة أخرى فضلاً عن أنها تسمم روح العلاقات بين الجماعات الروحية المتعددة التي يتألف منها الشعب اللبناني. وقد شهدنا كيف أن الطائفية كانت في معظم الأحيان أداة لكفالة المنافع الخاصة كما كانت أداة لإيهان الحياة الوطنية في لبنان إيهاناً يستفيد منه الأغيار. ونحن واثقون أنه متى غمر الشعب الشعور الوطني الذي يترعرع في ظل الاستقلال ونظام الحكم الشعبي يقبل بطمأنينة على إلغاء النظام الطائفي المضعف للوطن".
"إن الساعة التي يمكن فيها إلغاء الطائفية هي ساعة يقظة وطنية شاملة مباركة في تاريخ لبنان. وسنسعى لكي تكون هذه الساعة قريبة بإذن الله...".
4 – اعتبار مساوىء الإقليمية في منزلة مساوىء القاعدة الطائفية لأن استفحال الإقليمية يجعل من "الوطن الواحد أوطاناً متعددة".
5 – ضمان تمثيل شعبي صحيح تمام الصحة.
6 – اعتبار علاقات لبنان "بالدول العربية الشقيقة في طليعة" الاهتمامات وذلك لاعتبارات عدة هي موقعه الجغرافي ولغة قومه وثقافته وتاريخه وظروفه الاقتصادية و"إقامة هذه العلاقات على أسس متينة تكفل احترام الدول العربية لاستقلال لبنان وسيادته التامة وسلامة حدوده الحاضرة، فلبنان وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب".
7 – الالتزام بسياسة ترفض أن تجعل لبنان ممراً لاستعمار الدول العربية. وفي ذلك يقول البيان: "إن إخواننا في الأقطار العربية لا يريدون للبنان إلا ما يريده أبناؤه الأباة الوطنيون، نحن لا نريده للاستعمار إليهم ممراً، فنحن وهم إذن نريده وطناً عزيزاً، مستقلاً، سيداً حراً".
8 – الالتزام بسياسة تربوية تخرج "نشئاً واحداً موحد الهدف والشعور والوطنية".
وأخيراً لا بد لنا من أن نتساءل هل فقد "الميثاق الوطني" مبرر وجوده؟
إن الإجابة عن هذا السؤال بعد الملاحظات التي أوردناها أعلاه لا تكون إلا بالتساؤل عما إذا فقدنا فعل إيماننا بلبنان الغد وطناً مستقلاً ديمقراطياً علمانياً روحانياً يقوم على إرادة مواطنيه. فإذا لم نفقد هذا الالتزام فإن لاستمرار "الميثاق الوطني" بحلته الصحيحة مبرره وأهمية متجددة دوماً في حياتنا.

العلمنة ليست إلحاداً


الدعوة إلى علمنة النظام السياسي دعوة قديمة قالت بها قوى سياسية متعددة ونادت بضرورة اعتمادها في أكثر من مناسبة. ومع ذلك بقيت هذه الدعوة دعوة عامة وشعاراً نظرياً تفتقر إلى الأسانيد العلمية وإلى الدراسات الموضوعية.
ولعل من إيجابيات الأحداث المأساوية التي عاشها لبنان أنها جددت هذه الدعوة وجعلت منها مطلباً عاماً للخلاص من الأسباب التي حالت دون تطور النظام السياسي اللبناني من وضعيته التقليدية إلى وضعية جديدة تضعه في مصاف النظم السياسية الحديثة. ويتراءى ذلك في تزايد الحديث عن العلمنة وأبعادها.
ومما يؤسف له أن الحديث عن العلمنة اتخذ منطلقات سلبية بدأت تشوّه جوهرها وأبعادها الحقيقية وبالتالي بدأ يضفي عليها صفات ليست منها وصفات بعيدة عنها.
فمفهوم العلمنة في جوهره مفهوم حيادي لا صيغة أو لون له. وجل ما فيه أنه مفهوم يدعو إلى تحييد النظم رفضاً للطغيان وقطعاً للتسلط وتأكيداً لحيادية هذه النظم في سائر الأمور المتعلقة بتدبير شؤون الأفراد والجماعات في المجتمع السياسي وبالتالي ضماناً لحرية الفرد وحقوقه.
ويقوم هذا المفهوم على الإيمان بأن الفرد هو وحدة المجتمع الرئيسية وبأن له حقوقاً وحريات أساسية تنبع من ذاته كإنسان. كما تقوم على الإيمان بأن تلوين المؤسسات والنظم وصبغها بألوان معينة هو عائق للفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لأن تلوينها يجعلها أداة للخدمات الشخصية أو الفئوية لا أداة في سبيل الخدمة العامة دونما تمييز أو تفريق. فبقدر ما تكون المؤسسات والنظم متحررة من أي لون، أي حيادية، بقدر ذلك تكون مؤسسات ونظماً للجميع – لكل فرد في المجتمع بدون استثناء. وبقدر التزامها بلون أو بصبغة معينة بقدر ذلك تكون عائقاً أمام الفرد في المجتمع وعائقاً يحول دون تحقيق ذاتيته بحرية ودونما إجحاف.
ومن هنا كانت العلمنة في جوهرها دعوة لتحرير النظم والمؤسسات من طغيان الإنسان وتسلطه بتركيزها على حكم القانون لا حكم الأشخاص أو الفئات. ومن هنا أيضاً كانت دعوتها لتحرير النظم والمؤسسات من أية صبغة شخصية بتركيزها على الدستورية ومن أية صبغة دينية أو فئوية بتركيزها على "فصل الدين عن الدولة" واعتبار علاقة الإنسان بخالقه علاقة مباشرة لا واسطة أو وسيط بينهما واعتبار الإنسان لا النظم والمؤسسات الأصل في كل إجراء واعتبار حقوقه وحرياته المعيار لكل تصرف.
وقد تجسدت الدعوة أولاً بتأكيد سيادة الدولة ومن ثم بإخضاع الدولة عبر الدستورية لحكم القانون. كما تجسدت بتأكيدها على التسامح الديني وعلى حقوق الفرد وحرياته الدينية والمدنية والسياسية. وتجسدت أيضاً بتبنيها للديمقراطية كمفهوم رافض لحكم الامتيازات وحكم الأوصياء وكمفهوم يقوم على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وعلى مبدأ الاقتراع العام المباشر ومبدأ السيادة الشعبية.
وفي ضوء كل ذلك يبدو لنا واضحاً أن مفهوم العلمنة مفهوم حيادي يدعو في جوهره لتحييد نظم الدولة ومؤسساتها بحيث تصبح هذه النظم والمؤسسات في خدمة سائر المواطنين دونما تمييز أو تفريق وبحيث يكون المواطن لسان حاله دونما أوصياء على حقوقه وحرياته الشخصية والمدنية والسياسية.
فالعلمنة ليست إلحاداً أو إيماناً، وبالتالي فهي لا تناهض المعتقدات الدينية أو تتعارض معها. وجل ما فيها أنها تحيد نظم الدولة وتحررها من الامتيازات تاركة للإنسان – المواطن حرية التصرف دونما إكراه. فالإنسان المواطن هو الأصل والنظم والمؤسسات هي في خدمته.
وهذا المفهوم ينسجم مع المفهوم الديمقراطي لوظيفة الدولة. فوظيفة الدولة بما في ذلك نظمها ومؤسساتها ليست أن تكره الناس على الإيمان بقيم أو مثل معينة بل إن وظيفتها أن تؤمن الأجواء المساعدة لأن تتمكن القيم والمثل من الانطلاق بحرية وبأمان. ووظيفة القانون في الدولة ليست جعل الإنسان صالحاً بل إن وظيفته أن يترك للإنسان الحرية في أن يكون صالحاً أو غير صالح.
وفي ضوء كل ذلك يمكننا القول أن لقضية العلمنة في لبنان وجهان: وجه سياسي ووجه قانوني. فالوجه السياسي يتعلق بالنظام السياسي اللبناني والدعوة إليها على هذا الصعيد تتركز على هذا النظام لا على الدولة أو على دستورها، وذلك لأن الدولة اللبنانية دولة علمانية ولأن دستورها دستور علماني. وأما نظمها فهي نظم فئوية. وبكلمة موجزة إن الدعوة إلى العلمنة على هذا الصعيد هي دعوة لتحييد نظم لبنان – أي تحرير النظم القائمة – من الاعتبارات الفئوية أكان ذلك على مستوى الرئاسات والوظائف أم على مستوى التمثيل النيابي – كل ذلك في سبيل تحقيق مرتكز دعوة العلمنة الرئيسي ألا وهو احترام الإنسان كإنسان وتأكيد حقوقه وحرياته دونما تفريق أو تمييز بمساواة تامة مع سائر المواطنين.
وأما الوجه الآخر، أي الوجه القانوني للعلمنة، فيتعلق أساساً بقوانين الأحوال الشخصية والدعوة على هذا الصعيد هي دعوة إلى إشراف الدولة على كل ما يتعلق بالأحوال الشخصية، دون أن يمس ذلك حرية المواطن في اختيار التشريع أو الطقس الذي يود الالتزام به من حيث عقد الزواج والطلاق والإرث. وبكلمة أخرى، دعوة لإيجاد تشريعات مدنية اختيارية مع الإبقاء على التشريعات المذهبية القائمة. وبذلك تكون الدعوة دعوة منسجمة مع نفسها ومع مرتكزها الأساسي وهي إيجاد الأجواء المناسبة للفرد لتحقيق ذاتيته بحرية وعن قناعة دونما إكراه ودونما وصاية ودونما إحراج. فاختيار شخصين طقساً معيناً أو تشريعاً معيناً لتحقيق الرباط الزوجي يستتبعه التزامهما بموجبات هذا الطقس أو التشريع والعقد شريعة المتعاقدين. ففي حالات الخلاف أو الإرث يكون الرجوع إلى قوانين الطقس أو التشريع الذي تم في ضوئه الزواج.
وجدير بالذكر أن تحقيق العلمنة على هذا الصعيد يضمن انسجاماً أفضل ما بين الواقع والمرتجى. فالواقع مليء بالتناقضات. فالدولة تشرف على بعض المحاكم المذهبية ولا تشرف على بعضها الآخر. والدولة تعتبر بعض الموظفين الروحيين موظفين لديها ولا تعتبر غيرهم كذلك. والدولة لا تفسح في المجال للزواج المدني فيها إلا أنها تعترف بالزواج المدني عندما يتم خارج البلاد. والدولة تأخذ بالأحكام المذهبية لجهة الأحوال الشخصية وفي الوقت ذاته تعمل بموجبه وتقر قوانين تتعارض واحكام هذه المذاهب.
إن علمنة نظم الدولة على صعيد النظم السياسية وعلى صعيد الأحوال الشخصية هو طريق الخلاص للبنان وهو الطريق إلى لبنان الجديد حيث تصان حرية الإنسان وحقوقه وحيث لا ميزة لإنسان على الآخر إلا بسعيه دونما إكراه ودونما تمييز ودونما إحراج.

تحييد النظام

الحديث عن بناء لبنان جديد هو حديث الساعة. وهذا الحديث فرضت ضرورته الأزمة وأكدت لزومه الأحداث الدامية التي واجهت اللبنانيين بأهوالها ومآسيها.
 ويتنازع هذا الحديث تياران رئيسيان: تيار يقول بالإبقاء على أسس النظام السياسي القائم مع إدخال بعض التعديلات عليه وتيار آخر يقول بضرورة الخروج منه إلى نظام جديد يقوم على أسس جديدة ترتكز على قواعد المواطنية الصحيحة والولاء المباشر للوطن والدولة. وبكلمة أخرى تيار يقول بالإبقاء على نظام الطائفية السياسية مع بعض التعديلات وتيار ثان يقول بالعلمنة وبتحرير النظام السياسي القائم من سائر امتيازات الطائفية السياسية.
والجدير بالذكر أن التيار الأول هو تيار تقليدي يهدن الأوضاع ليفجرها في المستقبل تاركاً لبنان في عرضة دائمة لأزمات تنبع من اختلالات طبيعية ومحتملة في موازين قوى أصحاب الامتيازات الطائفية والمستفيدين من بقائها كما وأنه يحول دون تحديث نظم لبنان بصورة تتلاءم ومواصفات الدولة الديمقراطية الحديثة تلك المواصفات التي تقوم على وحدة الولاء للوطن ووحدة السلطة السياسية ووحدة السيادة في الدولة.
وأما التيار الثاني فهو تيار عصري يتلاءم مع قواعد الدولة الديمقراطية الحديثة ويتوافق مع مواصفاتها ومستلزماتها وذلك لأن منطلقاته تقوم على مفهوم وحدة الولاء للوطن وعلى اعتبار المصلحة الوطنية مقياس سياسة الدولة وبأنها أسمى المصالح لا تعلو فوقها مصلحة لا تعبر عن سيادة الشعب، أي غالبية المواطنين.
ولا يمكن للمتتبع للتطورات التي أدت إلى بروز الدولة الحديثة في الديمقراطيات الغربية إلا أن يخلص إلى قناعة مفادها أن الصراع بين التيارين المذكورين سيكون غالباً على الساحة اللبنانية وبأن الغلبة فيه ستكون للتيار الثاني.
فمجتمعات الديمقراطيات الغربية كانت قبل بروز الدولة الحديثة فيها وقبل "دمقرطتها" كالمجتمع اللبناني – مجتمعات تفتقر إلى السلطة الموحدة ومجتمعات تتنازعها الامتيازات ومجتمعات تتعدد فيها الولاءات وتعلو فيها الولاءات التي هي دون المصلحة الوطنية أهمية. إلا أن الإيمان بالإنسان المواطن والإيمان بكونه قيمة بحد ذاته والإيمان بأن له حقوقاً وحريات أساسية ترتبط بإنسانيته أكدت أن القاسم المجتمعي المشترك لتأكيد الاحترام له هو بعلمنة نظم الدولة، أي بتحييدها، واعتبارها نظماً محايدة هدفها الرئيسي الحفاظ على حقوق المواطن وحرياته وحماية هذه الحقوق والحريات من التعدي في ظل سيادة القانون لا سيادة الأشخاص أو الجماعات وفي ظل سلطة تعبر عن سيادة الشعب – الأغلبية – من خلال نظم تمثيلية نيابية سليمة.
هذا، ويقوم اعتراض أصحاب التيار الأول على أصحاب التيار الثاني على اعتبارات متعددة أهمها:
أولاً: استحالة العلمنة في لبنان وعلى الأقل في الظروف الحاضرة.
ثانياً: إن العلمنة تتعارض والمعتقدات الدينية.
والاعتراضان ليسا في محلهما. فبالنسبة للاعتراض الأول لا يمكننا التقرير باستحالة العلمنة طالما أننا لم نقدم عليها ولا يمكننا التقرير في ذلك أيضاً طالما أننا لم نستفت المواطنين ليبدو آراءهم ومواقفهم فيها. ثم إن القائلين باستحالة العلمنة هم في غالبيتهم المستفيدون من غيابها، أي المستفيدون من امتيازات نظام الطائفية السياسية. ولا غرابة إن قالوا باستحالتها لأن العلمنة تؤدي إلى اضمحلال نفوذهم وانحساره. فقلة منهم من يتمتع بقواعد شعبية تتجاوز حدود طائفة سياسية معينة لتشمل لبنانيين من سائر الطوائف.
وبالإضافة إلى ذلك إن الاعتراض المذكور يتعامى عن حقيقة جوهرية ألا وهي أن الدولة اللبنانية دولة علمانية بدستور علماني. فدستور لبنان لا يعلن لبنان دولة دينية كما وأنه لا يحتوي مادة تخص ديناً معيناً أو مذهباً معيناً برئاسة الدولة، أو رئاسة حكومتها أو مجلسها النيابي. ومواد الدستور لا تفرق بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات.
وفي ضوء ذلك أن مطلب العلمنة ينحصر في تحرير نظم الدولة من حكم الامتيازات الفئوية التي بدأت بالترسخ في لبنان منذ عهد القائمقاميتين. وبكلمة أخرى أن القضية ليست قضية علمنة الدولة ودستورها فهما علمانيان إنما القضية هي قضية تحرير مناصب الدولة ووظائفها وكذلك مجلسها التمثيلي من الاعتبارات الفئوية، وهي قضية حد من النظم التي تقيد حريات المواطن الشخصية. وبكلمة موجزة إنها قضية تحديث النظام السياسي في لبنان ودمقرطته بصورة تجعل ولاء المواطن للدولة والوطن ولاء مباشراً لا ولاء غير مباشر أو ولاء ثانوياً يمر عبر الطوائف السياسية. كما أنها قضية إقرار حقوق وحريات شخصية للمواطن مدنية المرتكز دون أن يتعارض ذلك مع حقوقه وحرياته الدينية.
ومما يؤسف له أنه بالرغم من مآسي الأحداث فقد ظلت بعض المقترحات التي طرحت لتسوية الأزمة مقترحات تنطلق من منطلقات طائفية لا من منطلقات وطنية ومن منطلقات فئوية لا من منطلقات ترتبط بالمواطن – الإنسان وبحرياته وحقوقه. وبذلك فهي تتجاهل كون الطائفية السياسية سبباً جوهرياً إن لم نقل السبب الرئيسي للأزمة في بعدها اللبناني. ومما يؤسف له أيضاً أن المقترحات المذكورة وبخاصة تلك التي تتعلق "ببدعة المناصفة" وبالإبقاء على التمثيل الفئوي في المجلس النيابي وبالإبقاء على طائفية بعض الوظائف والمناصب هي مقترحات لا تنسجم مع متطلبات المصلحة الوطنية اللبنانية ولا تتواقف مع شروط الدولة الديمقراطية الحديثة. وأقل ما يقال فيها أنها مقترحات تدعم نظام الطائفية السياسية المجزأ لسيادة الدولة والمضعف للسلطة السياسية والحادّ للمجالات المفتوحة أمام أصحاب الكفاءة من المواطنين والمرسخ لنظم الامتيازات والمتجاهل لتطلعات غالبية اللبنانيين إلى لبنان دولة المواطن والمواطنية ولبنان الواحد الموحد ولبنان السيد بشعبه وسلطاته والديمقراطي بمناهجه وقواعده والإنساني برؤاه وتحركاته.
وعدا ذلك، لا بد لكل مواطن من أن يتساءل عن مبررات القول باستحالة العلمنة ولا بد له من أن يتساءل عن الخطوات التي أقدمت عليها السلطة لتحقيق العلمنة أو على الأقل لتوعية الشعب إلى أهميتها إذا كانت مقتنعة فعلاً بضرورتها وبضرورة اعتمادها. هل المبررات التي يرتكز عليها القول باستحالة العلمنة مبررات تحول دون تحقيقها الآن أم في المستقبل أيضاً؟ هل هي مبررات جوهرية يستحيل التوفيق ما بينها وبين مطلب العلمنة في كل الظروف والأوقات، أم لا؟
وأما بالنسبة للاعتراض الثاني فهو ليس في محله أيضاً وذلك لأن العلمنة في نظام ديمقراطي وفي مجتمع يدين أبناؤه بمذاهب دينية متعددة لا يمكن أن تتعارض مع المعتقدات الدينية. بل على عكس ذلك إنها تفسح المجال أمام كل مواطن لأن يمارس دينه عن قناعة كما تفسح المجال أمامه لأن يتعرف على حقيقة معتقده الديني بعيداً عن الممارسات التي ما برحت تشوه الدين وتضفي عليه صوراً بعيدة عن مبادئه الجوهرية وتعاليمه السامية.
وحتى وإن تعارضت العلمنة مع المعتقدات الدينية فهي تؤدي بنظام ديمقراطي إلى وضع أفضل من الوضع القائم في لبنان ذلك لأن في تحريرها للنظام السياسي من الاعتبارات الطائفية والفئوية تحرير للمجتمع من هؤلاء الذين ما فتئوا يستغلون الدين والمشاعر الدينية لتمرير مصالحهم.
ثم إن العلمنة في نظام ديمقراطي لا تتعارض والحريات الدينية بل على نقيض ذلك إنها تساعد على صيانة هذه الحريات دونما إكراه ودونما تشويه وبصورة بعيدة عن العصبيات وحكم الانفعال والتهور مما يساعد على تعميم التعارف البناء والتعايش السليم بين أبناء الوطن الواحد.
وبالإضافة إلى ذلك إن العلمنة في النظام الديمقراطي تقوم على اعتبار المواطنين سواسية في الحقوق والواجبات. وهذا مطلب منسجم مع مبدأ المساواة التي أقرته سائر الأديان السماوية. فالتعاليم السماوية قول بالمساواة والعلمنة في النظام الديمقراطي تقول أيضاً بالمساواة وترفض حكم الامتيازات. فما هي الحجة الدينية لحكم الامتيازات الفئوية الطائفية لبنان؟
إن رفض العلمنة على أساس أنها تتعارض مع المعتقدات الدينية هو رفض ليس في محله. وإذا كانت بالفعل تتعارض مع المعتقدات الدينية فلماذا القبول بوضع يجعل الناطقين باسم سائر المواطنين من المدنيين ومن طوائف لا تمثل طوائف سائر اللبنانيين؟ ولماذا القبول بنظام غير ثيوقراطي وبنظام لا يلتزم بدين معين وبمعتقد مذهبي معين؟ ولماذا القبول بأوضاع وقوانين وضعية لا تتلاءم والأحكم الدينية لبعض المذاهب الدينية؟ هل من حجة لهذا القبول سوى أن القاسم المجتمعي المشترك والسليم في لبنان لا يكون إلا من خلال نظم محيدة غير مصطبغة بصبغة دينية معينة ونظم تؤكد الاحترام لحرية المواطن الدينية ولحرية ممارسته لتعاليم دينه.
إن حلاً للأزمة اللبنانية في بعدها اللبناني دون اعتماد العلمنة ليس حلاً ذلك لأن حلاً دون العلمنة هو حل بتجاهل أسبابها وبالتالي فهو حل يزرع أسباب أزمة ثانية، وبكلمة أخرى إنه حل وقتي يساعد على تهدين الأزمة ليفجرها من جديد في المستقبل. ثم إنه حل لا يستفيد منه عبر التاريخ ومن تجارب دول ومجتمعات أخرى تشابهت أوضاعها وأوضاع لبنان.إن حلاً على أسس تقليدية ومن منطلقات فئوية أو طائفية سيترك لبنان عرضة للانفجار عند مواجهة أية مشكلة وهو لا شك خطوة إلى الوراء – خطوة لا تساير تطلعات اللبنانيين ولا توحد بينهم وخطوة تزيد الجسم اللبناني تمزقاً – خطوة ستضعف علمانية الدولة وعلمانية دستورها وقد تصبغهما بصبغة طائفية.
وأخيراً لا يمكن لأية دولة ديمقراطية أن تفرض سلطتها إذا لم يكن غالبية مواطنيها مقتنعين بضرورة ذلك. وضرورات التعايش بين اللبنانيين تقتضي بأن تكون نظم الدولة نظماً محيدة، أي نظماً غير مصبوغة بصبغة معينة ذلك لأن النظم المحيدة هي النظم الوحيدة التي يمكن لغالبية المواطنين القبول بها والعيش في ظلها وهي بطبيعتها ما يشكل قاسماً مشتركاً لهم. وتحييد النظم لا يكون إلا بعلمنتها وعلمنتها في ظل الديمقراطية لا يتنافى مع الحريات الدينية للمواطنين.(انتهى)

______________________________________________________


 العلامة السيد محمد حسين فضل الله لـ"الشرق":
ولاية الفقيه غير واقعية في لبنان ذي النظام العجائبي
لبنان سيبقى رئة تتنفس بها كل مشاكل المنطقة

أجرى الحوار: أسامة الزين – هانية غندور
الشرق – الأربعاء 15 تموز 2009  - العدد 18061

في التاريخ، رجال كبار، وفي كل عصر عظماء وعلماء قدموا للبشرية إنجازاً ما أو طوروا شيئاً ما، العلامة السيد محمد حسين فضل الله من هؤلاء الكبار الذين خرقوا سكون العقل وكسروا جموده، ليفتح أبواب الجدل بهدف الوصول إلى اليقين: وعلى أساس ما قاله وأفتاه تفجرت إمكانيات العقل والتطور. آمن بأن الدين يسر وليس عسراً، وبأن الله سبحانه وتعالى، علم الإنسان ما لم يعلم، فاستعان بالعلم الذي يعكس الحقيقة ويعبّر عنها، فاستحق ألقاباً متعددة منها العلامة، وهو لقب يحوي ما هو مخزون داخل هذا الرجل الكبير من فكر وإيمان وعلم، بل وكفاح ونضال دفاعاً عن المحرومين والمظلومين والأيتام والفقراء وفلسطين. أصاب في كل ما قاله فكان محللاً استراتيجياً من الدرجة الأولى، أغضب العدو الإسرائيلي فحاول اغتياله، ونجا مواصلاً الطريق الذي رسمه، على رغم أن هذا الطريق كان شاقاً وصعباً.
كنا نتمنى أن يطول الحوار معه، لكن سلسلة المواعيد التي ارتبط بها منعتنا من ذلك، على رغم أنه وبناء على طلبنا، استجاب لنا بلطف ومدّد اللقاء.
الأسئلة كثيرة على قدر اجتهاده، سألناه عن مستقبل لبنان وعن ولاية الفقيه وعن العراق وعن زواج المتعة وعلم الفلك، والاستنساخ والتلقيح الاصطناعي، وطلاء الأظافر عما إذا كان مفسداً للوضوء، وعن إيران وعن الديموقراطية، فكان بأجوبته ديموقراطياً.
اعتبر أن ولاية الفقيه لا تصلح في لبنان ذي النظام العجائبي، فيما وضع زواج المتعة في خانة الجدل مؤكداً أن الرسول محمد أجازه وأجاد السيد فضل الله الاستنساخ إذا كان لأهداف طبية، واصفاً كل شيء لاصق بأنه لا يفسد الوضوء.
أما عن رؤية هلال رمضان فأسهب في فتواه، بأن علم الفلك اليوم يستطيع إثبات هذه الرؤية التي إذا ظلت بالعين المجردة، قد تخطىء بسبب تلوث المناخ والبيئة، وفيما يلي نص الحوار:

كل شيء لاصق "كطلاء الأظافر" لا يفسد الوضوء
شرعنا طفل الأنبوب والتلقيح
والاستنساخ لأسباب طبية

ولاية الفقيه
س: هناك أهداف سياسية حول موضوع ولاية الفقيه، فما هو رأي سماحتكم بولاية الفقيه من الناحية الدينية والسياسية؟
ج: أساساً بتعريف ولاية الفقيه نستطيع القول أنها نظرية فقهية، سياسية، عندما يبحث الفقهاء عن الشخص المؤهل ليكون قائد في الدولة.
ففي هذا المنحى هناك نظريتان، نظرية الشورى ونظرية ولاية الفقيه.
أولاً نظرية الشورى ترتكز على أن الأمة تتشاور في ما بينها وتختار القائد الذي يتمتع بمواصفات معينة في الدولة الإسلامية التي ترتكز في نظامها وقانونها على الفقه الإسلامي والذي يمثل ثورة قانونية يعتد بها حتى الآن، من خلال آراء المجتهدين في فهمهم للكتاب والسنة.
أما النظرية الثانية الموجودة فهي نظرية ولاية الفقيه وهي تتمثل بالآتي:
أنه إذا كان هناك دولة إسلامية فمن الطبيعي أن يحكمها الفقيه الخبير الذي يعرف أمور زمانه ويملك القدرة على الإدارة في السياسة وتحيط به مجموعة من المستشارين وينتخب من خلال المجلس الذي ينتخبه الشعب. ولذلك قضية ولاية الفقيه فيها تزاوج بين الديموقراطية في انتخاب الولي أي الفقيه وبين مسألة الولاية. ويمكن للمجلس الذي انتخب الفقيه بالأكثرية أن يعزله ولذلك فهي تمثل قيادة "تمثيلية" في حركة تنفيذية للقانون.
وفي النظرية الإسلامية تجوز المعارضة حتى لولي الفقيه، فهو عندما يخطىء أو ينحرف مثلاً فمن الطبيعي أن ينتقده البعض. فكان أبو بكر الصديق يقول: "وليت عليكم ولست بخيّركم".
وكان الإمام علي (عليه السلام) يقول: "فلا تكلمونني بما تكلمون به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة (أهل السيف والقوة) ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل أو عدل يعرض علي فإن من استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يعرض عليه فإن العمل بهما اثقل"...
إن الحكم بالإسلام سواء أأخضعناه لنظرية الشورى أو لنظرية ولاية الفقيه هو ليس حكماً استبدادياً بل حكماً منفتحاً يرعى شعوب الأمة ويتقبل الملاحظات عندما يخطىء ومن الطبيعي جداً أن هذه النظرية لما كانت نظرية فقهية اجتهادية فالعلماء يختلفون حولها كأي نظرية أخرى.
إننا نلاحظ أن علماء المسلمين الشيعة ومجتهديهم يختلفون، فالكثيرون لا يرون ولاية الفقيه العامة بل يرون أن للفقيه ولاية خاصة في الإشراف على الأيتام أو على القصر أو على الأوقاف التي لا ولي لها، ولذلك فمن الطبيعي أن موقع ولاية الفقيه ليس الدولة الإسلامية بل المجتمع الإسلامي الذي يغلب فيه المسلمون مثلاً، أما في مجتمع مثل لبنان فليس هناك واقعية لولاية الفقيه. ولذلك فنحن نعتبر أن الجدل السياسي حول الفوز بولاية الفقيه من قبل المعارضة، أو أي جهة معينة، لا معنى له لأنه ليس هناك أي جهة سياسية قادرة على أن تحكم النظام اللبناني بنظام ولاية الفقيه، لأن أساساً النظام اللبناني كما أسميته "نظام عجائبي، ولن يكون جمهورية إسلامية ولا جمهورية مسيحية بل سيكون جمهورية مختلطة فيها ديموقراطية، حتى أنها ليست ديموقراطية بالمعنى الذي نفهم فيه خطوط "ديموقراطية" بل هي أقرب إلى "المزرعة منها إلى الدولة".
أنا لا أرى ولاية الفقيه المطلقة لكنني أرى أن هناك قاعدة في الإسلام وهي حفظ نظام المجتمع، حفظ النظام الأمني، الاقتصادي والاجتماعي.
وإذا توقف حفظ النظام على أن يتولى الفقيه بمستشاريه الحكم فنقرها، أما إذا لم يتوقف هذا النظام، فيمكننا بالتالي أن نختار شخصاً أميناً، مخلصاً وبمستشارين خبراء يستطيعون أن يعاونوه ويساعدوه في إدارة شؤون الدولة وبالتالي لا ضرورة لولاية الفقيه.
مع العلم أن على هذا الشخص المختار يجب أن يكون لديه فكرة عامة عن الفقه وإلى جانبه الفقهاء الذين يستشيرهم في أمور الفقه أما الخبراء فيستشيرهم في الجوانب الأخرى الإدارية.

ولاية الفقيه ولبنان
س: سماحتكم تقولون إن ولاية الفقيه لا تتمتع بالأهمية في النظام اللبناني لكن ألا يوجد لها آثار سلبية تنعكس على الواقع السياسي؟
ج: سأكتفي بالقول إن هناك فريقاً من الناس يلتزمون بولاية الفقيه باعتبار أنهم يرجعون بالفتوى إلى "الفقيه" الذي يرى الولاية في هذا الموضوع ولذا فهم يلتزمون بها التزاماً دينياً لذلك فهي لا تمثل أية مشكلة للوضع اللبناني السياسي فلا يوجد أحد ينادي بتقليد ولاية الفقيه في القضايا السياسية والاقتصادية ولكن هي مسألة أقرب للمسألة الدينية منها إلى المسألة السياسية عندما تطرح في الوسط الثقافي.

فصل الدين عن الدولة
س: هل تؤيدون سماحتكم فصل الدين عن الدولة؟
ج: شعار فصل الدين عن الدولة هو شعار انطلق من خلال التجربة الغربية للدين بحيث أن المؤسسات الدينية كانت تتدخل في الدولة حتى أنها كانت تضطهد العلماء الذين يختلفون في نظرياتهم العلمية مع بعض النظريات التي يتبناها رجال الدين ولا يتبناها الدين.
ولذلك انفصلت أوروبا أو الغرب بشكل عام عن الدين كقاعدة لنظام الدولة أو منهج للسياسة وما إلى ذلك واعتبرت أن الدين هو علاقة بين الإنسان وربه.
أما بالنسبة إلى الإسلام، فعندما ندرس الإسلام من جوانبه، نرى أن هناك الفقه الإسلامي الذي يمثل التنظيم القانوني الشرعي للحياة في العبادات وفي المعاملات وفي العلاقات العامة على مستوى المجتمع وعلى مستوى الدول وقضايا الحرب والسلم.
لذلك فالإسلام يختزن الدولة في داخله، فلا معنى أن نفصل بين الدين والدولة في هذا المجال، لأن الدين يختزن الدولة فبذلك كأنك تريد أن تفصل بين الشيء وذاتياته.
لأننا عندما ندرس التراث الفقهي في الإسلام سواء ما تركه العلماء المسلمون السنة أو الشيعة فلا نرى أنه هناك أية قضية من القضايا التي تتعلق بالإنسان الفرد والإنسان في حياته الخاصة أو العامة وفي ارتباطات الدول ببعضها بعضاً وحقوق الإنسان وإلى ما ذلك.
فنحن نرى أن الدين لا نقصان فيه وما زال باب الاجتهاد مفتوحاً عند السنة والشيعة في الوقت الحاضر، فإن أية قضية جديدة تفرض نفسها على الواقع، فإن المسلمين المجتهدين تباعاً يجتمعون ويقربون الحكم الشرعي الإسلامي الذي ينظم لهذا الحدث الجديد مساره وطريقه. حتى أن الفقه الإسلامي عالج قضية علاقة المسلمين مع غير المسلمين، وغير المسلمين الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي أو في الدولة الإسلامية. ونحن نعلم أن النبي محمد (ص) عندما هاجر إلى المدينة كتب وثيقة بين المسلمين واليهود وأعطى اليهود حقوقهم الحياتية والشخصية تماماً لما هي للمسلمين في هذا المجال وهذه كانت أول وثيقة رسمية قانونية إسلامية أكدت مسألة المواطنة باعتبار أن اليهود حتى وإن لم يكونوا مسلمين ولكنهم مواطنون لذلك أعطاهم الإسلام حق المواطنة ونحن نقرأ كما نستمع إلى بعض المسيحيين في الجدل السياسي الذين يقولون إن المسلمين يريدون أن يجعلوهم أهل ذمة.
وأوضح هنا أن قانون الذمة هو قانون إنساني عندما يدرس في عناصره القانونية ولكن إلى جانب هذا القانون، هناك قانون المعاهدة الذي يوجد نوعاً من المعاهدة الاجتماعية بين فئات المجتمع بحيث لو هناك أكثرية إسلامية وكان هناك يهود أو بوذيون فالإسلام سيعقد معهم على هذا الأساس معاهدة تحفظ حقوقهم الإنسانية، الدينية أو الطريقة التي يعيشون فيها حياة طبيعية فنحن نعرف الآن كما كنت أقول لبعض الغربيين إن المسلمين هم الذين قاموا بحماية اليهود، فاليهود موجودون في كل العالم الإسلامي بينما الغرب هو من اضطهدهم.
حتى أن الكنائس المسيحية موجودة في كل العالم الإسلامي وأننا نعلم أنه في إيران هناك الزردشتية، على رغم أن إيران دولة إسلامية كما تعبر عن نفسها فهناك ممثلون لليهود والنصارى في مجلس الشورى الإسلامي لذلك فنحن نقول أن مسألة فصل الدين عن الدولة لا تنسجم مع طبيعة التكوين القانوني والفكري والحركي للإسلام هذا إنما تنطبق على المسيحية، لأنها لا تملك نظاماً قانونياً شاملاً، كما هي المسألة في الإسلام وعلى أساس ما يرددوننه: "ما لله لله وما لقيصر لقيصر".

إيران ليست معصومة عن الخطأ
س: لقد أشرتم سابقاً إلى أن الإسلام يجيز المعارضة وأعطيتم الأمثلة عن الخلفاء الراشدين، فهل تشير بشكل ما إلى المعارضة في إيران؟
ج: أنا أتصور أن هناك معارضة في إيران، ولكن إثارة هذه الأجواء، أي ما حدث إنما هو نوع من أنواع المعارضة، هناك إصلاحيون ومحافظون الآن في إيران ومجلس الشورى يضم الاثنين في تركيبته.
وقد حدثت الانتخابات على أساس أن الشعب الإيراني انطلق بكله فعندما ينطلق. مليون إيراني ليضعوا أوراقهم في صناديق الاقتراع لا بد من تواجد رابح وخاسر ومن الطبيعي جداً  أن الخاسرين بفعل التعقيدات الموجودة في الداخل وبفعل الحرب الإعلامية العالمية التي بدأت منذ زمن طويل ضد إيران ولا تزال خصوصاً في الجانب الإعلامي في هذا المقام أن يكون هناك نوع من الإثارة الذي جعل الخاسرين يشعرون بسلبية.
وقد قيل لهم من قبل المسؤولين في إيران بأن هناك قانوناً ودستوراً يحدد طبيعة الانتخابات أي حصولها على الجانب القانوني أو عدم حصوله. ولكن المعارضين لم يقبلوا ذلك، وقيل لهم تعالوا وقدموا ما عندكم مما تسجلونه على الانتخابات كي يصار إلى إعادة الانتخابات من جديد وهم لم يقدموا ذلك، بل قدموا ما يدعونه، وقدموا بعض الأشياء التي درسها لمصلحة مجلس صيانة الدستور.
لذلك فالقضية في إيران كانت مماثلة للقضية في لبنان فالخاسرون هنا أيضاً يتحدثون بالعودة إلى المجلس الدستوري ولكن هناك في إيران لم يقبلوا ومن الطبيعي فإيران ليست معصومة عن الخطأ، ففيها معارضة، هناك جماعة مع النظام وهناك من هو ضد النظام.
وأرادت الدولة أن تكون التظاهرات سلمية لكن دخل عليها من حولها إلى ما يشبه الفوضى وانطلقت الحرب الإعلامية لتصب الزيت على النار.
وحتى نعرف أن الرئيس السابق جورج بوش عندما نجح، فقد نجح من خلال المحكمة العليا، لأنه كان هناك جدل في الانتخابات إن كانت تعطى لآل غور مثلاً.
 وهذا الأمر كان طبيعياً في إيران ولكن طبيعة الأوضاع المحيطة بالجمهورية الإسلامية من خلال أميركا ومن خلال الغرب وإسرائيل، خصوصاً، في نظرتهم إلى الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد فكل هذه العوامل اجتمعت وأدت إلى هذا الجو المحقون وغير المتوازن.

الوضع العراقي
س: ماذا تقولون عن الوضع في العراق؟
ج: أنا لا أثق بأميركا لأنها دخلت العراق بالبداية كما قال"جوني أبو زيد" هذا القائد الأميركي – اللبناني الأصل: "دخلنا العراق للسيطرة على النفط، ولأن العراق جسر لكل الدول المجاورة (جسر للسعودية، لتركيا، لسورية ولإيران).
لذلك أميركا دخلت العراق من جهة للسيطرة عليه كموقع استراتيجي لحماية مصالحها في المنطقة، لكن كما يقال: "لم يجر حساب الحقل على حساب البيدر".
فقد عانت من العراق كثيراً، فنحن نقرأ في الإحصائيات أن عدد قتلى الجيش الأميركي بلغ 4 آلاف وأن الجرحى يزيدون عن 30 ألفاً. لذلك فإن الوضع الأميركي في العراق أصبح وضعاً مثيراً للرأي العام الأميركي من العراق، لا سيما بعدما دخلت الحرب في باكستان وهي أيضاً تعمل على ما يسميه بوش: "الفوضى الخلاقة" بحيث أنها دخلت لتربك الواقع في الصومال وفي السودان وحتى في لبنان كما نلاحظ في موقفها في الانتخابات وفي موقفها الآن في تعقيد قضية تأليف الحكومة وما إلى ذلك.
ولاحظنا أن نائب الرئيس الأميركي جون بايدن عندما جاء إلى العراق حاول أولاً التدخل في قضية المصالحة بين العراقيين وبين الأكراد والعرب وكان يقول إذا امتد العنف فسوف تتخلى أميركا عن التزاماتها في العراق.
وثم نلاحظ أن أميركا التي وقعت اتفاقية أمنية مع الحكومة العراقية وبدأت الآن في الانتقال من المدن إلى خارج المدن ربما نجد أنها تفكر من خلال التطورات في أن تجعل من العراق قاعدة عسكرية تماماً كما في القواعد في الكويت وقطر.
أنا لا أثق بها باعتبار أنها تعمل على أساس أن يكون بيدها قيادة العالم. وكذلك هي تخاف من أن يحصل العراق على قوة عسكرية، لأنها دخلت العراق من اجل إسرائيل كما صرح بعض القادة الأميركيين: "إننا أنقذنا إسرائيل من قوة كبرى كانت تمثل خطراً عليها وهي العراق لذلك كان من بين أهداف أميركا إضعاف العراق وإسقاط قوته من أجل حماية إسرائيل من كل المناطق القوية العربية التي تحيط بها".
وإسرائيل بالنسبة إلى أميركا تمثل موقعاً يكاد يكون أقوى من أية ولاية أميركية ولذلك كنت أقول لبعض الصحافيين الأميركيين أن الانطباع عندنا في العالم العربي والإسلامي أن إسرائيل تتمرد على أميركا في هذا المجال بطريقة أو بأخرى.
وعندما رأت إسرائيل أوباما يتحدث عن الدولتين، تحدث بالتالي نتانياهو عن دولة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، دولة لا تملك جيشاً ولا سلطة لها على المياه والحدود. دولة لا سلطة لها على أية علاقات مع الخارج وتبقى المستوطنات.
وقد ارتاح أوباما لمجرد كلمة الدولة الثانية وإن كانت فارغة من المضمون وإنني قرأت لمسؤول إسرائيلي قوله: "فليسمونها دولة فليسمونها امبراطورية، هذا أمر لا يخصنا المهم نحن علينا أن نعمل على ما يمثل مصالحنا وأما التسويات فلنناقش بحسب ما يريدون".
كأنهم يضحكون على ذقون العرب كما ضحكوا مدة ستين سنة!

أحمل لواء الوحدة الإسلامية منذ 1952 ومرجعيتي
ليست محصورة فقط بالشيعة
س: يقول الكثيرون أن مرجعيتكم محصورة فقط بالطائفة الشيعية مع العلم أنها مقبولة عند مختلف الطوائف ولا سيما عند الطائفة السنية فما هي الخطوات لتوحيد المسلمين؟
ج: الكلام عن انحسار حركتي الشرعية والفقهية في الدائرة الشيعية غير واقعي لأنني منفتح على الواقع الإسلامي، وأن انطلقت في الحياة، من أول الخمسينيات كإسلامي.
وأذكر أن في  أول سفرة أتيت فيها إلى لبنان سنة 1952، وأنا في الأصل ولدت في العراق ألقيت قصيدة في بيروت في منطقة قصقص في تأبين السيد محسن الأمين دعوت فيها إلى الوحدة الإسلامية وأنا أحمل لواء الوحدة منذ ذلك الوقت.
وأنا على يقين أن الكثير من إخواننا المسلمين السنة يصومون ويفطرون بناء على الفتوى التي أفتيها على أساس الحسابات الفلكية العلمية.
وأنا قلت لا فرق بيننا وبين السنة في أوقات الصلاة، لذلك كانت تأتينا بعض الاستفسارات عن مسلمة مثلاً شيعية متزوجة من مسلم سنّي وعند وضع المائدة للإفطار، مثلاً فالشيعة عادة يبقون إلى ذهاب الحمرة المشرقية، فأنا قلت لهم إنكم تستطيعون أن تفطروا معهم، لأننا نتفق مع إخواننا المسلمين السنة في قضية أن الغرب يتحقق بسقوط القوس.
الحسابات الفلكية أدق من الرؤية ولن تخطىء
ولو حتى واحد في المئة؟
"الله خلق الشهور قبل أن يخلق العيون".
س: أين أصبحت فتواكم في العالم الإسلامي بالنسبة إلى موضوع اعتماد الفلك؟
ج: أنا أعطيت هذه الفتوى انطلاقاً من دراسة عميقة وهي أن العلماء المسلمين من السنة والشيعة يعتمدون على قول الرسول (عليه الصلاة والسلام): صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، فيعتبرون أن الرؤية هي الأساس إنما أنا أرى أن الرؤية هي وسيلة من وسائل المعرفة وليست لها موضوعية بحيث يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً ولذلك كنت أضرب المثل الآتي لبعض الناس الذين يستفهمون في هذا الشأن أنه إذا قال لك شخص إذا رأيت فلاناً فأخبره هذه الخبرية، ولكنه اتصل بك ولم تره إلا تخبره؟ ولكنك لم تره! ما يبرهن أن الرؤية إنما هي وسيلة من وسائل المعرفة.
هذا جانب، أما الجانب الثاني فهو أن الحسابات الفلكية أدق من الرؤية، لأن الفضاء أصبح ملوثاً من خلال المصانع والمعامل حتى أنه يمكننا رؤية 20 هلالاً تلمع في الأفق ولا هلال حقيقياً.
لذلك فالرؤية قد تخطىء ولكن الحسابات الفلكية لن تخطىء ولو حتى 1% في هذا الموضوع، ولذلك كنت أقول أن الشهر يمثل النظام الكوني في الزمن، لأنه ليس هناك حواجز مادية بين شهر قمري وشهر قمري آخر، وإنما ينطلق الشهر القمري إذا دخل القمر في الميحاق مثلاً ودخل في الجانب المظلم فينتهي الشهر وإذا دخل في الجانب المضيء يبدأ الشهر الآخر.
فالقضية أن الله (سبحانه وتعالى) يقول: "إن عدة الشهور عند الله 12 شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض" فالله بالتالي خلق الشهور قبل أن يخلق العيون.

الاستنساخ لا يُعتبر خلقاً لأنه لا يخلق القانون
نشرع طفل الأنبوب والتلقيح الصناعي
س: سماحتكم اجتهدتم ففتوتم وحللتم الاستنساخ لماذا؟
ج: الاستنساخ فيه جانبان أولاً الجانب الذي يتصل بالخلق وجانب يتصل بعملية مفاسد الواقعية المترتبة عليه.
الاستنساخ لا يعتبر خلقاً لأن الخلق هو خلق القانون لا خلق الشكل ولذلك فنحن مثلاً نشرع طفل الأنبوب والتلقيح الاصطناعي، لأن مسألة ولادة الكائن الحي يخضع لخلية مؤلفة من 46 كروموزوم، 23 نطفة و23 بويضة.
والمستنسخ يفرع البويضة من الـ23 ويأتي بخلية ناضجة ويزرعها فيتحقق الكائن الحي فإذا معناها أننا ما زلنا على قانون الـ46.
وهو القانون الذي أودع الله فيه "سر الخلق" وإذاً معناها أن الإنسان لم يتحول إلى خالق ولكنه استهدى الخالق في القانون الذي يمكن فيه من تكوين الكائن الحي.
أما في مسألة تحويل الاستنساخ إلى واقع فهذا لا بد أن يدرس من خلال التجربة هل أن النفع أكثر من الضرر أو أن الضرر أكثر من النفع؟.
هذا لا نستطيع أن نحكم به الآن، إلا بعد أن ينتشر الاستنساخ وهذا ليس بوارد ولا يمتلك فرصة، لأن الناس تستخدم موانع الحمل كي تحدّ وتقلل الإنجاب. كما أن الاستنساخ بالنسبة إلى مال وجهد وإلى ما ذلك.
ولهذا فهو مجرد نظرية علمية قد نحتاج إليها في ما إذا أمكن استنساخ عضو واحد مثلاً أو ما شابه ذلك وعملية استخدام الأعضاء إذا كان هذا واقعياً، ولذلك لا أرى ذلك حراماً، فليس هناك اساس للتحريم.
س: السنة يتهمون الشيعة بأن زواج المتعة لا يجوز فما قولكم في ذلك؟
ج: علينا إذاً، أن نعترض على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأن المسلمين كانوا في غزوة وجاؤوا إلى رسول الله ورخص لهم الاستمتاع. والسنة والشيعة متفقون على أن النبي شرع المتعة.
ولكن السنة يقولون إن النبي نسخها بعد زواجه ولكن الشيعة يقولون أنها لم تنسخ ويروون عن ابن عباس وعن عبد الله ابن عمر أنهم كانوا يستمتعون في عهد الرسول وفي عهد أبي بكر وفي قسم من عهد عمر، حتى حرمها عمر، وقال: "متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما" (متعة النساء ومتعة الحج).
وقيل إن هذا تحريم إداري وأن ليس له حق التشريع.
والمسألة هي محل جدل فقهي بين السنة والشيعة وقد كتب فيها الكتب الكثيرة بين من يثبت النسخ ويقول إنها غير شرعية وبين من ينفي النسخ وهم الشيعة.
وذلك أتصور أن المسألة لا بد أن تدرس فقهياً ولا يرجع في هذا المجال إلى الوسائل التشهيرية التي ربما يكذب بها أحدنا الآخر لأنها مجرد مسألة فقهية لا بد أن تبحث في الأصول الفقهية في هذا المجال.

لا فائدة للمؤتمرات الدينية
س: مع اقتراب شهر رمضان المبارك فما قولك على اختلاف بدايته ونهايته حتى بين الشيعة نفسهم والسنة نفسهم؟
ج: إن الوقائع العلمية التي شهدها العالم كله، وخصوصاً في السنوات القليلة الماضية، تؤكد بأن الحل المنطقي والشرعي لهذه المسألة تتمثل في الأخذ بالحسابات الفلكية الدقيقة، ولكنني منفتح على أي مؤتمر يضم الفاعليات العلمية والوحدوية السنية والشيعية، لأننا منفتحون على كل ما يمثل مصلحة الأمة ومصلحة الإسلام في مختلف المسائل الشرعية والميدانية.
س: هل يفسد طلاء الأظافر الوضوء؟
ج: كل شيء لاصق لا يفسد الوضوء. ولقد أصدرت فتوى بهذا الموضوع.

سيبقى لبنان مجرد رئة تتنفس بها مشكلات كل المنطقة
س: بالنسبة إلى مستقبل لبنان في ظل الوضع السياسي الحالي فما رؤيتكم؟
ج: استشهد ببيت شعر يصف الحال:
وكأننا والماء حولنا  
قوم جلوس حول الماء
إن لبنان سوف يبقى مجرد رئة تتنفس فيها مشكلات كل المنطقة ومجرد شعب يتبع أشخاصاً.
فالانتخابات ليست انتخابات الشعب اللبناني وإنما هي انتخابات أشخاص عدة يسير وراءهم كل الأبناء.


 لبنـان والعلمانيـة

ميشال إده

السفير السبت 5 كانون الاول 2009

العَلمانية، بحسب التعريف الأصلي المعتمد في بلد المنشأ فرنسا، والذي يورده قاموس لاروس Larousse، هي «نظام أو منهج système يُقصي الكنائس عن ممارسة السلطة السياسية أو الإدارية، وعن تنظيم التعليم الرسمي بخاصة»
«Système qui exclut les Eglises de l’exercice du pouvoir politique ou administratif, et en particulier de l’organisation de l’enseignement public».
وعلى هذا، فالمبدأ الأساس المكثّف حقاً لمضمون العلمانية ـ والشائع كذلك ـ هو فصل الدين عن الدولة.
في لبنان، ثمّة أخذ واضح بهذا المبدأ العلماني. فالدستور اللبناني، سواء الذي وضع في العام 1926، أو الذي وضع مع الاستقلال في العام 1943، ثمّ المعدّل في العام 1990 على أساس «وثيقة الوفاق الوطني» في الطائف، هو الدستور الوحيد ـ بخلاف كل دساتير البلدان العربية الشقيقة الأخرى ـ الذي لا ينصّ على أنّ للدولة ديناً معيناً، والذي لم تُسْتَمَدّ قوانينه من دين معين أو شرائع دينية معينة.
الدولة في لبنان ليست، إذاً، دينية. بل هي بهذا المعنى، عَلْمانية. مثلما أنّها علمانية كذلك على مستوى التربية والتعليم الرسميين، إذْ إنّ دستورها لم يعطِ للسلطات أو المرجعيات الدينية الحقّ في أن تمارس هي، بهذه الصفة، تنظيم التعليم الرسمي في لبنان.
غير أنّنا، في أوجه أخرى من الحياة المدنية، لم ننجح إلى الآن في إقرار حتى «القانون الاختياري للزواج المدني»، والذي كان قد وافق عليه مجلس الوزراء بأكثرية الثلثين، على أساس مشروع تقدّم به الرئيس الراحل الياس الهراوي. لكنّ ردود الفعل الإسلامية، وكذلك من قبل الكنائس المسيحية، قد رفضت إقرار هذا المشروع وتطبيقه بشكل قاطع.
فإذا كان مجرّد قانون اختياري (أي غير إلزامي) للأحوال الشخصية أمراً متعذّر الحصول حتى الآن، فكيف لأمور أخرى من أوجه العلمانية أن تتحقّق في شروطنا الراهنة، لا سيما إذا كان لها طابع إلزامي؟
والسؤال الذي يفرض نفسه حكماً هنا: هل بالإمكان، بل هل من الجائز، أن يُصار اليوم في لبنان، إلى فرض العلمانية بكامل أمورها وأوجهها وإنْ بموجب قانون، إذا لم تكن مكوّنات المجتمع اللبناني متوافقة على ذلك؟
أفلا تلزم الحكمة هنا بالتبصّر الملّي لخصوصيتنا المجتمعية والكيانية بدلا من جلدها واستسهال إصدار الحكم بإعدامها؟
إنّ وقائعنا اللبنانية تقدّم على صعيد التجربة الديموقراطية صورة مختلفة تظهر بناء نظامنا السياسي البرلماني الديموقراطي على أساس مختلف عمّا قامت عليه الديموقراطية في فرنسا مثلاً تحقيقاً لمبدأ العلمنة الكاملة.
وقائعنا تُظهر أنّ عدم التجانس دينياً في لبنان كمسيحيين ومسلمين لم يحصل لاحقاً بعد تكوّنه بيئة جغرافية، وبلداً، ولا بعد قيام الدولة اللبنانية الحديثة. بل هو في أساس تكوين لبنان مجتمعاً وبلداً قبل أن يتكرّس دولة. وتجربتنا في لبنان هي ديموقراطية لأنّها تقوم بالضبط على مبدأ التمثيل السياسي لجميع عائلات لبنان الروحية، بشكل متوازن. وهو الأمر الذي يعني تحديداً الاعتراف السياسي، ودستورياً، في الحق بالاختلاف، واحترام الآخر وقبوله باختلافه. هذا النظام من التمثيل السياسي ديموقراطي فعلاً لأنّه يتوافق وتركيبة لبنان المجتمعية، منذ أن راح يتكوّن، على مدى قرون، وبصورة تلقائية غير مفتعلة ولا مقصودة، على أساس مجموعات غير متجانسة دينياً، ولا حتى مذهبياً ضمن الدين الواحد. ولقد تمكّنت هذه العناصر المختلفة من أن تكتشف معاً، وعبر اختبارات التجربة، مضمون ونعمة الغنى القائم في هذا التنوّع والتعدّد. فارتضت معاً، وراحت تنسج معاً، صيغة مجتمعية هي صيغة العيش المشترك في ما بينها على أساس التنوّع وليس الأحادية.
أعلم أنّه ما من أحد سوف يأخذ هذا الكلام على محمل رفض المسار الآيل إلى إزالة أي شكل من أشكال التفرقة بين المواطنين. ولا سيّما على أساس التعصّب أو الفئوية، أو التقوقع. إنّني من موقعي العَلماني بالذات، أدعو إلى أن يُحْسِنَ الجميع في لبنان قراءة الوقائع العنيدة. فلا يُقْدِمَنّ الواحد منا على إحلال رغباته واقتناعاته الذاتية محل هذه الوقائع اللبنانية التي تثبت بكل بساطة أنّ الحاجة إلى تمثيل العائلات الروحية ضرورة حيويّة ماسّة بالنسبة إلى اللبنانيين، ولا سيما في الظروف الراهنة. وإنّ إزالة هذا التمثيل بصورة إرادوية سترتدّ حكماً بالعواقب المعاكسة للمتوخى من ذلك، مثلما أنّه ليس من الجائز، من جهة أخرى، أن يستسلم الواحد منا أمام الوقائع بمعنى التخلّي عن ضرورة السعي إلى تغيير السلبي منها في مضمار التطبيق والممارسة. إنّ مقاربة الأخطاء في الممارسة في ما يتعلّق بمسألة «الطائفية السياسية» في لبنان، تفترض من جميع الحريصين على بقاء لبنان وعلى تطوّره الديموقراطي أن يتعاملوا مع هذه المسألة بعيون ترى وليس بعيون تعوّدت أن تعتقد لا أن ترى.
الأخطاء التي تنسب إلى نظامنا المبني على التمثيل السياسي للعائلات الروحية إنّما مردّها الحقيقي ومرتعها الخصب المحسوبية والمحاصصة والفساد والتي أوجدتها وعزّزتها الممارسة المشوَّهة والمشوِّهة لنظامنا التمثيلي عندما ضربت، وما تزال تضرب، عرض الحائط بدولة الحقّ L’Etat de droit التي يفترضها، ويشترطها، ويلزم جوهرياً بها النظام الديموقراطي البرلماني.
والجميع يعلم أنّ المحسوبية والزبائنية والمحاصصة، والفساد بشتى أشكاله، أمراض لا تزال تعاني منها ومن تفشّيها، أعرق الديموقراطيات، وفي البلدان المتجانسة دينياً بالذات كفرنسا والولايات المتّحدة واليابان وسائر دول أوروبا وأميركا الجنوبية وغيرها.
عندما أدعو إلى قراءة خصوصية تجربتنا الديموقراطية اللبنانية، فهذا لا يعني إلاّ أن نقرأ نقدياً بصورة متواصلة كلّ ما يلحق بروحية هذه التجربة الفريدة من شوائب اعتورتها وما تزال، ومن أخطاء ألحقتها بها الممارسات المشوّهة وما تزال. هنا تبرز بخاصة أهمية دولة الحقّ التي تلزم بالمساءلة والمحاسبة، وتصحّح بآلياتها الدستورية والقانونية بصورة دائمة هذه الممارسات والأخطاء والمخالفات والارتكابات، والفساد بمظاهره كافة.
لبنان التنوّع، بصيغته المجتمعية القائمة وبنظامه بالتمثيل السياسي للعائلات الروحية، إنّـما يجسّد في هذا الشرق حوار الحياة بين المسيحية والإسلام، خدمة لتلاقي هاتين الديانتين وائتلافهما في العالم كلّه. فبلدان العالم، غرباً وشرقاً، بدأت تشهد في داخلها توتّرات وصدامات مقلقة تؤشّر على انعدام التعايش في ما بين مواطنيها المعتنقين ديناً مختلفاً عن الدين السائد في هذه البلدان أو الذي كان سائداً من قبل. ففي بعض البلدان ذات التراث المسيحي والتي أصبحت علمانية، يعاني المسلمون فيها من تداعيات التهميش، ومن مظاهر شتى من عدم القبول بالآخر، ومن عدم الاعتراف باختلافه. بالأمس القريب جداً، بدأت تعلو الضجّة ومظاهر الاحتجاجات على رفض بناء المزيد من المآذن في سويسرا مثلاً. ولا تزال فرنسا تعيش القلاقل والاضطرابات المختلفة التي تعكس عدم قدرة المجتمع الفرنسي حتى الآن على التكيّف والعيش بصورة طبيعية مع أكثر من ستة ملايين مواطن فرنسي مسلم مهمّشين بصورة شبه كاملة في شتّى القطاعات السياسية والإدارية والمجتمعية. كما أنّ المسيحيين المواطنين في بلدان إسلامية عديدة كأندونيسيا والباكستان وغيرهما، وفي بعض البلدان الإسلامية العربية كذلك، يتعرّضون إلى التهميش، والنبذ السياسي والمجتمعي بكل صوره.
ثمّة مشكلة حقيقية هي فعلاً مشكلة الألفية الثالثة في كلّ بلدان العالم والمتمثّلة بعدم التوصّل إلى صيغة مجتمعية تؤمّن العيش المشترك الكريم بين المسلمين وغير المسلمين.
وعلى هذا، فلبنان يتقدّم بعيشه المشترك العريق في هذا السياق، قدوة ومثالاً يُحتذى. إنّ هذا اللبنان الذي كنّا نكتفي بالاغتباط به «همزة وصل بين الشرق والغرب»، بات علينا جميعاً، بعائلاتنا الروحية كافة، أن نوفّر له موجبات بروزه اليوم بكونه «ضرورة للشرق والغرب» معاً، على حدّ قول قداسة الحبر الأعظم الراحل يوحنا بولس الثاني في زيارته الرسولية التاريخية للبنان.
لكنّ ثمّة عنواناً آخر أساسياً جداً، وصنواً للبنان بصيغته هذه، ألا وهو الديموقراطية. وهذا بخاصة بإزاء معاناة التجارب العربية من غياب أو تعثّر الديموقراطية والحرية، بما هما الركن الأساس في بنية المجتمعات وضمان تطوّرها. غياب الديموقراطية هو ما شكّل العامل الجوهري الأوّل الذي عطّل وشلّ ما تختزنه شعوبنا من طاقات، في مجرى صراعنا مع الكيان الصهيوني، ومن أجل التقدّم والتطوّر كذلك.
نظامنا بالتمثيل السياسي للعائلات الروحية، والذي يحترم خصوصيات جميع الأقليات ويعترف بحقّها في الاختــلاف، إنّما هو الذي أوجد الديموقراطية التي ينعم بـها لبنان. وبفضل هذه الصيغة تحديداً، يبــرز لبـنان البلد العربي الوحيد الذي لم يقع ضحية الانقلابات العسكرية، ولا أنظمة الديكتاتورية السياسية. وهو البلد العربي الوحيد الذي يتمّ فيه تداول السلطة بشكل دوري وطبيعي : كلّ ست سنوات بالنسبة لرئاسة الجمهورية، وكلّ أربع سنوات بالنسبة للمـجلس النـيابي، ولا تقوم فيه الحكومات إلاّ بعد نيلها ثقة المجلس النيابي. واللجان النيابية تُنْتـَخَب وتجتمع دورياً، والموازنة يُصَادَق عليها سنوياً، الخ.
ولبنان هو البلد العربي الوحيد الذي نهض شعبه تلقائياً إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، واستكمال تحرير أرضه إلى جانب الجيش. وهذا منذ اجتياح آذار 1978، ومن ثمّ اجتياح 1982، وصولاً إلى تحرير الجنوب نهائياً في العام 2000 دون قيد أو شرط، ثمّ إفشال العدوان الإسرائيلي في العام 2006.
ذلك أنّ تعلّق الشعب اللبناني بالحرية والديموقراطية، في ظلّ تعدّدية الأحزاب والتيارات السياسية المتنافسة المتصارعة سياسياً، كان في أساس صنع هذه الحيوية السياسية والنضج السياسي والكفاحيّ لشعبنا. لأنّ الديموقراطية التي نتمسّك بها إنّما يتربّى المواطن في ظلّها على الأمل بالتغيير الديموقراطي، وعلى أنّ حصوله أمر ممكن. أمّا في الأنظمة القامعة للديموقراطية، فهو لا يتربى كمواطن إلاّ على الخوف. أي على اليأس والقعود والتسليم.
كفانا هذا النوع من الجلد الذاتي لحياتنا المجتمعية. ولديموقراطيتنا التي لا تتصحّح عوراتها إلاّ بالمزيد من الديموقراطية المتأسّسة حقاً على الحقّ في الاختلاف واحترام الآخر وقبوله باختلافه.
أَوَليس التمثيل السياسي للعائلات الروحية تعبيراً فعلياً عن هذا الحقّ؟ وتعبيراً فعلياً عن أمر آخر يوازيه أهمية، ألا وهو تأمين الضوابط التي تلجم الاستقواء؟
لقد دعوت إلى التحلّي بالحكمة في هذه الكلمة. إنّـما أرمي من ذلك إلى لفت الانتباه إلى عدم استصغار الاختبار والتجربة اللبنانيين كمرجعية يصعب على كلّ من يباشرها بالأفكار المسبقة أن يتبيّن ثمارها اليانعة.
فيا سياسيي لبنان ! قليلاً من الحكمة.

[كلمة في افتتاح مؤتمر العلمانية في مساءلة متجددة في جامعة الكسليك

([) وزير سابق

_________________________________________


 العلمانية كخيار سعودي: المساحة بين الممكن والضرورة
أحمد عدنان – الأخبار اللبنانية – 5 مايو 2010

· العلمانية ليست دينا ولا تتناقض مع الإسلام.. ولكنها تتصادم مع تيارات الإسلام السياسي وبعض رجال الدين
· الدولة العلمانية هي الدولة الحَكَم التي لا تنحاز لتيار ضد آخر، وفي نفس الوقت، تمنع أي تيار من فرض أجندته على الآخرين

الحديث عن العلمانية في السعودية قد يبدو ضربا من الجنون بسبب الفتاوى الهائلة التي تكفر العلمانيين وتحرم العلمانية تحت عناوين "الحكم بغير ما أنزل الله" أو "الحكم بالطاغوت".. وبسبب الأرض التي تضم حدودها الحرمين الشريفين.. ونشوء الدولة على تحالف بين مؤسسة دينية ومؤسسة سياسية.
ولكن هذا الجنون.. واستنادا على معطيات الحاضر.. وأسئلة المستقبل، قد تجد النخب الثقافية والسياسية في السعودية أنه أصبح – مع وطأة الوقت – نوعا من الضرورة لاستكمال بناء الدولة الحديثة (دولة القانون والمؤسسات والمجتمع المدني).. ومعالجة مظاهر الانتماء لمستويات أدنى من مستوى الدولة (القبيلة – المذهب - الإقليم) وتعزيز الولاء للنظام السياسي، وتصحيح علاقات المؤسسة الدينية بالسلطة والمجتمع.
الحديث عن العلمانية في السعودية كخيار لا بد منه، يقف وراءه 3 محرضات: تصريح وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل في 14 مارس 2010 لـ (نيورك تايمز): "السعودية الآن تتحرر من أغلال الماضي وتسير إلى مجتمع ليبرالي"، الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام مؤخرا عن حصول مواطن سعودي على حق اللجوء السياسي في نيوزلندا بسبب اعتناقه المسيحية، والحرب الدورية بين الليبراليين والتيار الإسلاموي في ساحة الصحافة السعودية والإعلام.
العلمانية، كأي مفهوم في فضاء العلوم النظرية يحتمل تعريفات واسعة، منها: "الفصل بين الدين والدولة"، "نظام أخلاقي واجتماعي يقوم على اعتبارات الحياة المعاصرة وتبني المدنية والمواطنة، ورفض تدخل المؤسسة السياسية في أمور الاعتقاد.. ورفض تدخل المؤسسة الدينية في أمور السياسة".
وهذه التعريفات المتعددة، أدت بالضرورة إلى نماذج تطبيقية متباينة كما يوردها رقيق عبدالسلام في بحثه (السياسة والدين في العصر الحديث): نموذج التصادم مع الدين كما في المثال الشيوعي، ونموذج حياد الدولة إزاء الشأن الديني كما في الدول الاسكندنافية، وأخيرا.. نموذج التناغم مع الكنيسة (المؤسسة الدينية) كما في الولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا، ومن خلال أغلب النماذج نلاحظ أن تطبيق "الفصل" بين الدين والدولة أو تحييد الدين في الحياة السياسية بصورة مطلقة لم يتحقق لصالح موضعة المؤسسة الدينية كإحدى معطيات الحياة العامة دون هيمنة أو تسلط، ويجدر التأكيد على خطأ منهجي بالحكم على العلمانية عبر إحدى تجلياتها – كما يقع في ذلك بعض الباحثين الإسلامويين – والأصوب قراءتها في سياقها التاريخي ومجموع أمثلتها والمحصلة النهائية لتطبيقاتها.
وبدون الخوض في التفاصيل، نستطيع استعراض جذور العلمانية منذ انطلاقة حركة الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر والتي شددت في بواكيرها على الكتاب المقدس كمرجع وحيد لتفسير العقيدة المسيحية وحرية هذا التفسير.. وتقديم الطاعة للسلطة الزمنية على حساب السلطة الروحية أو ما يعرف بـ (السلطان المطلق للملوك).. كردة فعل على طغيان الكنيسة الكاثوليكية –وليس الدين المسيحي– وأخطائها (صكوك الغفران – محاكم التفتيش – نفوذ البابا المطلق- تحالف الكنيسة مع الإقطاع) الذي أتاح مؤازرة شعبية ونخبوية للحركة التي تزامنت – بشكل أو آخر – مع قيام الممالك والإمارات الصغيرة على أنقاض الإمبراطورية الرومانية الغربية ونزعة بعض الأمراء والملوك للاستقلال عن النفوذ البابوي مما حقق أرضية سياسية تتعاطف مع الحركة، وبداية الكشوفات الجغرافية – ثم النزعة الاستعمارية والتحول إلى الحداثة الصناعية - التي خلقت مبررا آخر – اقتصادي – لاستقلال السلطة الزمنية عن الكنيسة تحت تحريض مصادرة ممتلكاتها وعدم إعفائها من الضريبة!.
ووفقا لهذه المعطيات، نشبت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر معارك دينية في أوربا بين البروتستانت والكاثوليك وطدت – في النهاية – سلطان البروتستانت في شمال القارة الأوربية – وربما أغلبها – لينحصر المذهب الكاثوليكي في جنوبها.
وخلال احتدام هذه المعارك، بقيت السلطة الزمنية – غالبا – على ظلم الناس ودعم الإقطاع الزراعي، لذلك.. اتجهت النخب الأوربية في نتاجها الفكري إلى تقييد سلطان الملك بالله وبالشعب، وبعد ذلك.. مع تطور الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية نضجت فكرة "أن سلطة الملك تستمد من الشعب وحده" فتتبلور نظرية العقد الاجتماعي: "رضا المحكوم أساس سلطة الحاكم".
وخلال هذا السياق – المعقد – ومع تبلور مفهوم الدولة القومية وانتقال أوربا من مرحلة الاقتصاد الزراعي إلى الحداثة الصناعية ونمو المدينة – وبالتالي نشوء الطبقة البرجوازية – اشتعلت الثورة الفرنسية في 1789 كانتفاضة على الإقطاع الزراعي والنفوذ الكاثوليكي والسلطة المطلقة للملك بشعارها المشهور (حرية – إخاء – مساواة)، وإن كانت الحركة البروتستانتية عاملا غير مباشر في قيام الثورة الفرنسية، إلا إن هذه الثورة تأثرت مباشرة بثورتين سبقتاها زمنا: الثورة البريطانية 1688 ووثيقة الحقوق التي أصدرها البرلمان البريطاني 1689.. والثورة الأميركية التي بدأت بحفلة الشاي 1773 وشعارها المعروف "لا ضرائب بدون تمثيل" ثم إعلان الاستقلال في 1776 الذي جاء فيه: " إننا نؤمن بأن الناس خُلقوا سواسية، وأن خالقهم قد وهبهم حقوقاً لا تقبل المساومة، منها حقّ الحياة والسعي لتحقيق السعادة"، وهنا نلمس إحياء جديدا للديمقراطية – التي نشأت منذ دولة المدينة في الحضارة اليونانية – عبر البرلمان البريطاني الذي حقق السلطة العليا بعد الثورة البريطانية.. والكونجرس بعد الثورة الأميركية.. ومجالس الثورة الفرنسية، ومن خلال هذه الثورات نشير – كذلك – إلى تشكل البذور الأولى لمفهوم حقوق الإنسان (الذي توج – فيما بعد – بإعلان الأمم المتحدة 1948) .
هذه التطورات أدت إلى آثار اجتماعية واقتصادية أبرزها: حرية الاعتقاد وحرية الفرد والسوق المفتوح تحت عنوان عريض هو "الليبرالية".. أي حق أي إنسان أن يحيى حرا وفق قناعاته تحت مظلة مسؤولية الاختيار.. وحرية اختيارات الآخرين، مع التأكيد على أن الليبرالية في الأصل مفهوم اقتصادي مثّل النقيض – لاحقا – في مواجهة الاشتراكية والشيوعية.
الخلاصة من هذا السرد التاريخي أن العلمانية ليست مفهوما مغلقا.. بل متسلسل، يرتبط بمفاهيم : "الديمقراطية"، "الحداثة"، "الليبرالية"، "المواطنة"، و"حقوق الإنسان"، وتكمن أهمية هذه الإشارة.. في وضع الصراع مع جماعات الإسلام السياسي في إطاره الدقيق، أي كتحد ثقافي واجتماعي وليس مجرد الاختلاف على تفسير النصوص الدينية، وفي إطار آخر.. توصيف الاختلاف بين الشعوب وبعض الأنظمة في سياقه السليم، أي المنطق الحقوقي والسياسي في المجمل لا المباهاة بمحاربة جماعات الإسلام السياسي أو عدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية كما الحال في سوريا وتونس على سبيل المثال، وبالتالي فإن الحديث عن اجتزاء مفهوم بعينه – دون غيره – من هذا التسلسل سيفضي إلى نموذج شائه يعيد إنتاج التخلف بدلا من معالجته.
إذن، فالحديث عن الخيار العلماني يعني في محصلته النهائية: الاستقلال المتبادل بين المؤسستين السياسية والدينية وعدم الخلط بين المعايير الدينية والمعايير السياسية، الشعب هو مصدر المشروعية الوحيد للنظام السياسي وصاحب الحرية في تحديد موقفه من المؤسسة الدينية – والدين - دون إكراه، ويتألف هذا الشعب من أفراد.. وكل فرد (مواطن) له حقوق وواجبات متساوية مع غيره دون تمييز ودون حاجة الانتماء إلى قبيلة أو إقليم أو حزب أو مؤسسة أو طائفة.. ومن أهم هذه الحقوق: الحق في الحرية والحياة.. المساواة أمام القانون.. حرية التفكير والضمير والتعبير.. وفي مقابل هذه الحقوق على المواطن واجبات أهمها: موالاة النظام السياسي واحترام القانون وتفويض النظام باستخدام الإكراه المشروع، ومجموع هذه الحقوق والواجبات يعبر عنه من خلال عقد (دستور أو نظام أساسي للحكم) بين المواطن وبين المؤسسة السياسية التي يجب أن تتسم بالفصل بين السلطات الثلاث وتداول السلطة والخضوع للمراقبة والمحاسبة.. على أن يكون المواطن هو صاحب الكلمة الأولى في التداول والمحاسبة عبر "المشاركة الشعبية" التي هي الأصل في العملية السياسية ومحورها.
لذلك، فالدولة الحديثة بطبيعتها لا يمكن إلا أن تكون علمانية، والحديث عن استكمال بناء الدولة ومؤسساتها أو إصلاحها – من وجهة نظري – يعني الاقتراب من مفهوم العلمانية، أما الابتعاد عن نوايا الإصلاح وبناء المؤسسات يعني – أيضا – الابتعاد عن العلمانية.
والدولة كمفهوم، ليس وليد الثقافة الإسلامية أو العربية، وحتى الإصلاحات التي أدخلها الخلفاء على دولة المسلمين.. أتت اقتباسا أو تقليدا لنموذجي الفرس والروم، وبالتالي لا يعيب الحاكم المسلم في هذا العصر اقتباس منظومة الحكم الغربية وإجراءاتها خصوصا وأن الدين الإسلامي لا يحمل في مصادره الأصلية نظرية سياسية تحدد مواصفات الحاكم وشروط تعيينه وعزله أو تقدم منهجية واضحة لصنع القرار السياسي.
ويعزز هذا الاتجاه أن العلمانية ليست دينا، وليست في مواجهة الدين، لأنها ولدت علاجا للحروب الدينية في أوربا بالقرن السادس عشر انتصارا لحرية الاعتقاد وإنقاذا لكيان الدولة، ويشرح هذه النقطة د. رقيق عبدالسلام: "العلمانية السياسية، بما هي فصل الكنيسة عن الدولة لم تكن خيارا أيديولوجيا بقدر ما كانت حلا إجرائيا فرضته الصراعات الدينية في حالة تاريخية كانت مطبوعة بالتصدع والأزمات الخانقة بما جعل من غير الممكن تأسيس الاجتماع السياسي والثقافة العامة على أساس وحدة الدين، وقد اقتضى ذلك إعادة بناء التفكير الديني على ضوء الموازنات الجديدة التي أفرزتها هذه الحروب الدينية"، ونستنتج من السياق التاريخي للعلمانية بأنها حاجة للدول ذات الدين الواحد – بسبب تعدد تفسيرات الدين – وللدول ذات الأديان المتعددة على السواء.
العلمانية أقرب إلى الصدام مع بعض رجال الدين، وتحديدا.. أولئك الذين يحتكرون تفسير الدين ولا يرون للآخرين – وإن كانوا رجال الدين أيضا – حقا في أن يحملوا تفسيرهم الخاص.. وتتصادم الدولة العلمانية – كذلك – مع كل رجل دين يعتقد بتميزه عبر سلطة سياسية أو وصاية ثقافية واجتماعية أو قوة إكراه على المواطنين لمجرد دوره الوظيفي دون قبول المواطن أو رضاه.. خصوصا وأن قوة الإكراه المشروعة محتكرة في يد الدولة وحدها.
الدولة العلمانية، وحين تتصور أغلب جماعات الإسلام السياسي أنها موجهة ضد الإسلام تحديدا، لا يلاحظون قيادة حزب إسلامي (العدالة والتنمية) لتركيا أعتى الدول علمانية في العالم الإسلامي، ولا يدركون أن حضارة المسلمين مكون أساسي في الفكر العلماني، وهنا نستشهد بمحمد جابر الأنصاري الذي كتب في صحيفة (الحياة) بتاريخ 21 أبريل 2010: "ولكن بحكم نشوء قوى (مدنسة) أو (دنيوية) – بالنسبة للكنيسة - في الفكر والمصالح والحياة، وهي قوى (للمفارقة العجيبة) تنامت مع تأثر أوروبا بالمعطيات العلمية للحضارة الإسلامية، فقد اسهم هذا التأثير العلمي للمسلمين في رفد تلك القوى الأوروبية الصاعدة وتحرير عقولها من السطوة الكنسية لترفع في وجهها مطلب (العلمانية)"، ومن قبله نلاحظ في نتاج محمد عابد الجابري حرصه – في أكثر من مؤلف – على التأكيد على المرجعية الإسلامية لأفكار علمانية مثل العقد الاجتماعي وتأثر فلاسفة التنوير والإصلاح الديني في أوربا بالحضارة الإسلامية والقرآن الكريم.
قد تستشهد تيارات الإسلام السياسي بممارسات في دول علمانية لتكريس التصور الشائع والخاطئ بالعداوة بين العلمانية والدين أو بين العلمانية والإسلام، وهنا من الضروري رفض هذه الاستشهادات – أو وضعها في سياقها الاجتماعي والثقافي– إلا إذا أرادت تلك التيارات اعتبار (طالبان) نموذجا لمشروع الإسلام السياسي!.
في الدول التي ترفع لواء الإسلام السياسي، تعاني الأقليات المسلمة – التي تنتمي لمذهب يختلف عن مذهب الأغلبية – قبل غيرها من اضطهاد وتمييز، ولكن كل هذه الطوائف والمذاهب تحيى في أغلب الدول العلمانية دون شكوى أو تذمر، وبالتالي.. نجزم بأن الدولة العلمانية لا تعادي الإسلام.. ولكنها تتصدى لتسييس الإسلام أو ولاية الفقيه أو احتكار تفسير الدين لتتمتع الأديان والمذاهب – في مجملها – بحرية كبيرة.. ويحقق الفقيه استقلالا صادقا، فإذا كان الفقيه يرى تحليل أو تحريم التدخين أو الاختلاط – على سبيل المثال– فإنه يستطيع أن يعبر عن رأيه – أيا كان – بغض النظر عن مرونة أو تصلب الظرف السياسي، وفي مقابل هذه الحرية، يتاح للمواطن – على الصعيد الشخصي – تطبيق هذه الفتوى أو رفضها، أما إذا أراد الفقيه.. من زاوية أخرى.. أن يبيح قتل دعاة الاختلاط أو ملاك الفضائيات.. أو تعقيم طائفة معينة.. فهنا من الواجب أن تتصدى له الدولة وتنزل به أشد العقوبات.. كونه حرض على عمل إجرامي واعتدى على السلم الأهلي والوئام الاجتماعي.
العلمانية – على كل حال– ليست مطلبا أقلويا بالدرجة الأولى، لأن هدفها الأسمى تحرير النظام الاجتماعي من القيود – لا القيم – وكفالة العدل والمساواة لجميع المواطنين.
حين ينتقل الحديث عن العلمانية إلى السعودية التي قام نظامها السياسي على تطبيق الكتاب والسنة، يعني بكل وضوح، تخصيص قيم مستمدة من الكتاب والسنة أو لا تتعارض معها، أي إقامة العدل وضمان حرية المواطن وحقوقه المدنية وأمنه، أما أساس شرعية النظام فهو رضا المواطن وقبوله بقيام النظام بهذا الدور، وبالتالي.. فإن علمنة النظام الأساسي للحكم.. تعني الإيمان به كعقد اجتماعي حقيقي بين النظام السياسي والمواطنين.
والحديث عن أرض الحرمين في المملكة، من الواجب أن ينتقل من الزاوية السياسية إلى الزاوية الفقهية، بمعنى أن السعودية ليست أرض الحرمين.. إنما فيها أرض الحرمين التي لها احكام خاصة لا يجوز أن تطبق على غيرها مثل أحكام الصيد على سبيل المثال.. وهي خصوصية يجب أن تحترم في كل الأحوال دون تمدد أو تعميم، وإذا كانت هناك مسؤولية معنوية على السعوديين لوجود الحرمين الشريفين في نطاق حدودها.. فلا شك أنها التأكيد على سماحة الإسلام وحضارته وتفاعله مع روح العصر واندماجه مع حقوق الإنسان وحقوق المرأة وتصالحه مع الديمقراطية والمواطنة، ولكننا – للأسف – نشاهد المؤسسة الدينية في السعودية تقوم بالدور المعاكس.. والأمثلة لا حصر لها.. ما ينعكس سلبا على صورة الإسلام في العالم.. ويعيق مسيرة التحديث والتطوير في السعودية.
علمنة القضاء السعودي، تظهر في إزالة الحساسية من مفهوم القانون وتقديمه على مفهوم الفتوى، وإذا استبعدنا الحدود والأحكام التي نص عليها القرآن الكريم فسنلاحظ أن أغلب الأنظمة التي تطبق في المملكة أنظمة وضعية أو لم ينص عليها قرآن أو حديث كنظام الخدمة المدنية أو نظام مجلس الوزراء أو نظام المناطق أو حتى نظام مجلس الشورى حيث لم ترد هذه الأنظمة – وغيرها – في آية كريمة أو حديث شريف، وهنا يحتال البعض بحجة أن هذا النظام – أو ذاك – مستوحى من الكتاب والسنة أو لا يتعارض معها، ولا يدرك هؤلاء أن القانون في قيمه العليا من إعلاء مبادئ الحق والعدل لا يتعارض – أبدا – مع الكتاب والسنة، ولا يمكن أن تقوم الدولة – فقط – على تطبيق الحدود وأحكام المواريث وأداء الزكاة، والالتجاء إلى تقنين الفقه الإسلامي الدليل الأبلغ على هذا التصور.. ويمكن قراءة هذه المحاولة كاحتيال آخر على حتمية الالتفات إلى القانون الوضعي لأن الاجتهادات الفقهية في النهاية نتاج بشري يخضع للصواب والخطأ والتغير، فتشابك مؤسسات الدولة وتعقيد دورها يقتضي الالتجاء – بالضرورة والقطع – إلى القانون الوضعي الذي يجب أن يصوغه المختصون وينال رضا المواطن مع احترام أحكام الإسلام في قوانين الأحوال الشخصية والحدود وفق ضوابط التخيير والتطوير لمراعاة غير المسلمين أو مختلف تفسيرات وتأويلات الدين الإسلامي ومتطلبات الواقع ومستجداته.
علمنة التعليم السعودي، تعني حرية المواطن وحقه في تحديد التعليم الديني الذي يتلقاه أبناؤه كما ونوعا، وهنا يتحرر النظام من التصادم مع الأقليات (الإسماعيلية والشيعة) والتصادم مع المذاهب الفقهية السنية التي لا تدين بالمذهب الرسمي (الحنبلي) كالمالكية في المنطقة الشرقية والشوافع في المنطقة الغربية، وهذا ينطبق على المذاهب العقدية بين الأشعرية والماتريدية والسلفية، ويتوازى مع هذا المنهج إعلاء مكانة العلوم العقلية والدنيوية إلى المقام الذي تستحق في سبيل النهضة والتحضر.
للأسف الشديد، فإن النخبة السعودية انساقت وراء النزعة الشعبوية في ذم العلمانية والتبرؤ منها، لذلك.. فإن هذه النخبة مطالبة بتصحيح تلك الصورة المغلوطة خصوصا وأن العلمانية لم تغب عن الحياة العامة في السعودية عبر التيارات القومية واليسارية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وتتضح اليوم عبر بعض إسهامات ما يسمى بالتيار الليبرالي.
ومن نتائج التبرؤ من العلمانية.. الحرب (الإعلامية – الثقافية) المشتعلة بين التيارات الفكرية في المملكة، ومن تجلياتها – مؤخرا – الهجوم المتبادل بين الليبراليين والإسلامويين حول الدعوة إلى الاختلاط.. وحول إعلان د. محمد العريفي نيته زيارة القدس.. وتصريحات متعددة للداعية يوسف الأحمد.. وإلصاق تهمة الإساءة للرسول الأعظم بالكاتب يحيى الأمير، وقد سادت في هذه الحروب لغة متردية وعدائية من كافة الأطراف بسبب خشية كل طرف من تبني المؤسسة السياسية لدعوات الطرف الآخر!.
إن الدعوة إلى التفكير في الخيار العلماني بالسعودية لا يعني الرغبة في قهر التيار المحافظ أو الإسلاموي أكثر منه حلا يمنع المحافظين من فرض أجندتهم على الغير، فالدولة العلمانية، هي الدولة الحَكَم التي لا تنحاز لتيار ضد آخر، وفي نفس الوقت، تمنع أي تيار من فرض أجندته على الآخرين، وهذا يستدعي ركيزتين، الأولى : حرية الفرد في اختيار قناعاته وممارسة حقوقه دون أي مثبطات، والثانية.. المساواة بين الأفراد أمام القانون.. وفي الحقوق والواجبات، ومعنى الحياد لا يقترب من سياسة جبر الخواطر (إقالة مسؤول يقترب من الإسلامويين مقابل إقالة مسؤول يقترب من الليبراليين أو إصدار قرار يرضي الليبراليين مقابل قرار يرضي الإسلامويين)، إن معنى الحياد يتجسد في التزام الدولة بتأمين حقوق مواطنيها في الحياة والاعتقاد والتعبير.. والتفريق بين مفهوم الحق ومفهوم الخير قبل التفريق بين مفهوم الخير ومفهوم الشر، فالحقوق متفق عليها.. ويفترض أن ينص عليها "الدستورأو النظام الأساسي للحكم" و"القانون" والمواثيق والمعاهدات الدولية، أما "الخير" – وإن كان يستظل بالحق – يبقى مفتوحا لتفسيرات متباينة و تطبيقات عدة تختلف من زمن وآخر.. ووجهة نظر وأخرى، بمعنى أن الحقوق تقترب من الثبات وتضمن العدل.. بينما يقترب الخير من التغير والتقلبات ويضمن التنوع.
وكما أنه ليس هناك أي تعارض بين العلمانية والإسلام، لا أجد تناقضا بين العلمانية والنظام الملكي، فالنظام الملكي في مصر – قبل الثورة – كان نظاما علمانيا، والنظام الشاهنساهي السابق في إيران هو الآخر علماني، وكلها ملكيات فاعلة – وليست صورية – نضيف إليها الحكم الملكي في الأردن والحكم الملكي في المغرب (نص دستورا الأردن والمغرب على أن الامة هي مصدر الشرعية والسلطة، وسيادة القانون، والفصل بين السلطات)، وهذه الإشارات تستلزم التنويه إلى خطأ شائع يتمثل في اصطلاح دين الدولة أو الفرد العلماني، فالعلمانية صفة تطلق على الدولة وحدها – وهذا رأي د. عبدالوهاب أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء في السعودية – وفي المقابل لا دين إلا للأفراد، فالدولة جهاز مثلها مثل أي جهاز آخر – لا يصلي ولا يصوم ولا ينطق بالشهادتين– ولم أسمع يوما عاقلا يصف المصعد أو الوعاء بأنه ينتمي إلى دين معين!.
إن شيوع صورة نمطية (سلبية) عن العلمانية في السعودية واضح ومبرر لظروف نشأة الدولة وموقع رجال الدين اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، لذلك فالمطلوب معالجة هذه الصورة من منظار البحث قبل منطق التبشير، والوصول إلى السياق المأمول يتحقق باستكمال مشروع إصلاح وتجديد الخطاب الديني الإسلامي باتجاه تصالح حقيقي مع المدنية والمواطنة وسيادة القانون والحرية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وإعلاء قيمة العقل والمنهج العلمي، ولعل الخطوة الأولى تكمن في تأمل أصول الإسلام التي أوردها الإمام محمد عبده في كتابه (الإسلام دين العلم والمدنية): النظرة العقلية في تحصيل الإيمان، وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، والبعد عن التكفير، ومودة المخالفين في العقيدة، وقلب المؤسسة الدينية والإتيان عليها من أساسها، والجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وحماية الدعوة، والاعتبار بسنن الله في خلقه وتجارب الأمم الأخرى.

____________________________________


 


الطائفية السياسية في محفوظات دولة فرنسا من 1860... وحتى اليوم
قانون التجنيس في 1994 أفاد الطائفة السنّية وسبب اهتزازاً للموارنة

النهار – الأربعاء 20 كانون الثاني 2010
اميل الياس عيسى: الأمين العام للمؤسسة المارونية للانتشار.


جدول رقم 1
المسيحيون                        العدد         %          المسلمون              العدد             %
الموارنة                          208180    42.69          الدروز                  44160       9.06
الروم الأرثوذكس                68040      13.95          السنّة                 76565      15.70
الروم الكاثوليك                  33475      6.87            الشيعة               55120       11.30
المجموع                         309695    63.51          المجموع               175845     36.06
                                   المجموع                       485540                             99.57
                                   اليهود        2060                                                   0.43
                                   المجموع العام 487600                                             100.00

جدول رقم 2
المسيحيون                        العدد        %            المسلمون             العدد             %
الموارنة                           171800   64.35          الدروز                  28560           10.70
الروم الأرثوذكس                 29426    11.02          السنّة                 7611             2.85
الروم الكاثوليك                   19370    7.28            متوالي                9820             3.68
المجموع                          220596  82.65          المجموع               45991           17.23
                                    المجموع                    266587                                   9.88    
                                    اليهود                       405                                        0.12
                                   المجموع العام              266992                                   100.00


جدول رقم 3
متصرفية
المسيحيون والأقليات                   العدد             %             المسلمون            العدد           %
                                       1895                                                          1895
الموارنة                                229680          57.49          الدروز                   49812       12.47
الروم الأرثوذكس                     54208            13.57          السنّة                   13576       3.40
الروم الكاثوليك                       34472             8.63           الشيعة                 16846       4.21
المجموع                              318360           79.69   
الأقليات                               936                0.23   
                                        319296           79.92                                   80234        20.08
                               1913                                                          1913
الموارنة                               242308           58.42          الدروز                   47290        11.40    
الروم الأرثوذكس                    52356             12.62          السنّة                  14529        3.50
الروم الكاثوليك                      31936             7.72            الشيعة                 23413        5.65
المجموع                             326600           78.76                                    85232        20.55
الأقليات                              2882              0.69   
                                       329482           79.45                                    85232        20.55


جدول رقم 4
كل لبنان
                                 1920                                                          1920
الموارنة                  199182     32.70                    الدروز       43633                   7.16
الروم الأرثوذكس       81409       13.37                    السنّة      124786                 20.49
الروم الكاثوليك         42426       6.96                      الشيعة    104947                 17.24
المجموع                323017     53.03                                  273366                 44.89
الأقليات                 12561      2.08   
                          335668    55.11                                   273366                 44.89


جدول رقم 5
المسيحيون والأقليات                     العدد               %                    المسلمون          العدد            %
                                              1932                                                          1932
الموارنة                                     226378         28.82                 الدروز              52047          6.75
الروم الأرثوذكس                          76522           9.74                   السنّة             175925        22.40
الروم الكاثوليك                            46000           5.86                   الشيعة            154208        19.63
المجموع                                   348900         44.42                                      383180         48.78
الأقليات                                    53463           6.80   
المجموع العام                             40463          51.22                  المجموع العام    383180        48.78


                                              1943                                                          1943
الموارنة                                     318202        30.42                  الدروز               71711         6.85
الروم الأرثوذكس                          106658         10.19                  السنّة              222594       21.27
الروم الكاثوليك                            61956           5.92                    الشيعة            200698        19.18
المجموع                                   486816         46.53                                        495003        47.30
الأقليات                                    64602           6.17   
المجموع العام                            551418          52.70                  المجموع العام     495003        47.30

منذ إثارة مسألة الغاء الطائفية السياسية من رئيس مجلس النواب صدرت ردود فعل كثيرة متباينة في الآراء عن صوابية مناسبة التحدث عن هذه المبادرة.
حصلت من البحوث التي قمت بها في هذا المضمار على كم كبير من المستندات، العائدة إلى كيفية إنشاء النظام التأسيسي الخاص بلبنان والمستقاة من محفوظات دولة فرنسا. والفضل في هذه المراجع هو للوزير السابق ميشال اده رئيس المؤسسة المارونية للانتشار، ومنها المعلومات والإحصاءات العائدة إلى التطور السكاني خلال المدة التي تراوح ما بين 1860 و1943، وقد ورد قسم كبير منها خلال مداخلاته على محطات التلفزة، إلى الدكتور أنطوان حكيم في كتابه الموثق عن مكونات الدستور اللبناني في العام 1926.
وارتأيت أنه من المفيد أن أضع هذا الكم الفريد من المعلومات التاريخية في تصرف اللبنانيين، كما وردت حرفياً في المحفوظات من دون تأويل أو تفسير من قبلي، حتى يتسنى لهم استقصاء ماهية هذه القضية، والتحقق من أن قانون العددية لم يكن يوماً من الأيام سمة الحكم في لبنان.
على أثر حوادي عام 1860 (سنة الحركة بالعامية) أرسلت فرنسا قوة عسكرية لتثبيت الأمن، بعد التقاتل الدامي بين الموارنة والدروز في غالبية مناطق جبل لبنان، ومن ثم أجرت عملية إحصاء طالت الأقضية الـ36 التي كانت في ذلك الحين توازي لبنان الحالي، بما فيه قضاء الحولة الذي تم إلحاقه عام 1920 بدولة فلسطين.
وسجلت عملية الإحصاء وجود 487600 نسمة موزعة وفق الطوائف كما يتبين في الجدول الرقم "1".
بتاريخ 9 1861 صدر أول بروتوكول لتنظيم الحكم في لبنان مكون من حاكم مسيحي تعينه السلطة العثمانية مسؤول تجاهها، تعاونه هيئة إدارية مركزية مؤلفة من اثني عشر عضواً منهم: (يرجى مراجعة الجدول رقم1) 2 للموارنة، 2 للدروز، 2 للروم الاثوليك، 2 للروم الأرثوذكس، 2 للشيعة و2 للسنة.
في 6 أيلول 1864 صدر تنظيم جديد للمتصرفية، الذي ألغى 7 أقضية إذ تدنى عدد اللبنانيين إلى 266992 نسمة موزعة على الطوائف كما يتبين في الجدول الرقم "2" وهذا اللبنان المبتور بقي كما في السابق يحكم من مسيحي تعينه السلطة العثمانية مسؤول تجاهها، تعاونه هيئة إدارية مركزية مؤلفة من اثني عشر عضواً منهم: 4 للموارنة، 3 للدروز، 2 للروم الأرثوذكس، 2 للروم الكاثوليك، 1 للسنة، 1 للشيعة.
انتهى عهد المتصرفية عام 1915 على أثر احتلال جبل لبنان من الجيش العثماني، الذي ألغى الاستقلالية التي كان يتمتع بها منذ 1864. كما حلت السلطة العثمانية الهيئة الإدارية المركزية وأبدلتها بالحكم العرفي، ومركزه مدينة عاليه.
ثم تتالت الكوارث على جبل لبنان من جراء الاعتداءات التي افتعلتها السلطة العثمانية في احتجاز الأملاك الزراعية والحصاد والمواشي، مع قفل الحدود البرية والبحرية ما أوقف عمليات الاستيراد والمعونات والتحويلات من المغتربين. زد على ذلك جيوش الجراد التي اجتاحت البلاد والتي أكلت الأخضر والمتبقي واليابس.
هذه الأحداث المؤلمة والكارثية التي عمت جبل لبنان، تمثلت بانخفاض كبير في عدد الموارنة، الذين كانوا يمثلون 58,52% في عهد المتصرفية سنة 1913 إلى 32,70% سنة 1920 في كل أقضية لبنان الكبير (يرجى مراجعة الجدول "4").

مكونات الدستور اللبناني للعام 1926
وفي ما يأتي مقتطفات من كتاب الدكتور أنطوان حكيم التي استقاها من محفوظات دولة فرنسا والتي تتعلق بموضوع هذا البحث: "لدى نجاح اليساريين في الانتخابات النيابية الفرنسية، استبدل المفوض السامي الجنرال فيفان، الذي اتسمت سياسته في الحكم بالتروي والحكمة، بالجنرال موريس سراي ذي الشخصية العنصرية الحاقدة والباغضة، لكل ديانة واكليروس، تابع للماسونية وجاهل كل الجهل، خصوصيات الشرق وأوضاعه. إذ كان يعتبر كل متخرج من جامعة اليسوعيين منصاعاً لإرادة البطريرك ولليسوعيين. ومن أخطائه السياسية الكبيرة في سوريا حركة تمرد الدروز، وفي لبنان حل المجلس التمثيلي الذي كانت مهمته اقتراح مشروع النظام الدستوري. وقرر اعتماد العلمنة بغية كسر نفوذ الإكليروس بإصدار مشروع قرار يعدل قانون الانتخاب بفرض إلغاء توزيع المقاعد وفق التركيبة الطائفية بين أعضاء المجلس التمثيلي".
"من الآن وصاعداً لن تؤخذ في الاعتبار الطوائف المتعددة في عملية انتخاب المجلس التمثيلي. كان ساراي يتوخى من ذلك أن الناخب له الحق بأن يعطي صوته إلى المرشح الذي يختاره من دون أي موجب باختيار المرشح حسب الطائفة التي ينتمي إليها".
"خلال آذار 1925 صدر مشروع القرار الآنف الذكر في كل الصحف وكانت ردود الفعل عليه كثيرة، فتنبهت الخارجية الفرنسية لهذا الأمر، خاصة تجاه الانتقادات القاسية التي وجهتها البطريركية المارونية، فعمد رئيس مجلس الوزراء الفرنسي ادوار هيريو، الذي لم يكن على علم بمضمون مشروع القرار، إلى توبيخ ساراي من دون أن يأخذ في حقه أي قرار. دامت هذه المشاحنات بين ساراي والخارجية الفرنسية حتى 18 حزيران 1925، تاريخ البرقية القاسية المرسلة من رئيس الوزراء التي أرغمت ساراي على الرضوخ من دون مراوغة وفي ما يأتي نص البرقية:
"لا تكون تعليماتي نافذة إلا إذا حصلت الانتخابات في جبل لبنان في آخر هذا الشهر بموجب القانون الحالي، وفي كل الأقضية الانتخابية القديمة، مع توزيع المقاعد وفق النموذج الحالي واعتماد مكاتب الانتخاب في ذات الأمكنة".
"وصرح ساراي في برقية بتاريخ 23 حزيران 1925 موجهة إلى الرئيس أنه سيعتمد وينفذ كل مطالب وزارة الخارجية".
وهكذا انتهت المشاحنات بين ساراي والخارجية، وعين السيد جوزف بول بونكور بتاريخ 25 حزيران 1925 رئيساً للجنة دراسة الدستور، عوضاً عن ساراي الذي ترك منصبه كمفوض سامي بتاريخ 13 تشرين الثاني 1925.
أبدل ساراي بالمفوض السامي هنري دي جوفنيل، الذي أعاد المجلس التمثيلي المنتخب بموجب القوانين النافذة وعين لجنة صياغة الدستور التي كان من أولى مهماتها درس الأجوبة على جملة أسئلة طرحت على ما يقارب 180 من نخبة الأعيان المختارين من كل الأقضية والمذاهب.
الجواب عن السؤال السادس: "هل يجب اعتماد الطائفية في توزيع مقاعد مجلس النواب؟".
"ورد في تقرير أمين سر اللجنة شبل دموس بعد دراسة دقيقة للأجوبة التي وردت ما يأتي:
"إن السنة في ا لمدن الساحلية، طرابلس، بيروت وصيدا، كما سنة البقاع المؤيدين للوحدة السورية رفضوا الانضمام إلى صياغة الدستور الجديد، بحجة أنهم يعترفون بذلك بحدود لبنان الكبير 1920 ويقبلون بالانتماء إليه.
ومن أصل 132 إجابة واردة 11 منها رفضت الاشتراك وطالبت بحل المجلس التمثيلي وجميعها من خارجه". "أما الشخصيات الـ 121 الباقية فأرست مذكرة تعترف ضمنها ولو على مضض، بالنظام الطائفي كأساس للتمثيل، وذلك للأسباب الآتية:
1 – "ان الشعب اللبناني مؤلف من طوائف عدة، كل واحدة منها لها معتقداتها الدينية، وعقليتها وتراثها الخاصان بها. ان الغاء التمثيل، الطائفي يزعزع التوازن ويعطي الأفضلية إلى بعض الطوائف على حساب الطوائف الأخرى. وينتج عن هذا الخلل الغيرة والإحباط والغبن التي تولد في بعض الأحيان اضطرابات دائمة".
2 – "على التمثيل البرلماني أن يعكس هيكلية البلد المؤلف من طوائف عدة، فمن الطبيعي أن تكون هذه الطوائف ممثلة جميعها لئلا يكون هذا التمثيل غير محق".
3 – " لا يزال الشعب اللبناني تحت تأثير الفكر الطائفي. لم يحن الوقت لإزالة هذه الرواسب، لأنه ليس من السهل التخلي عن عقلية راسخة منذ أجيال عدة".
4 – التمثيل الطائفي يحافظ على حقوق الأقليات ويبعدها عن الاحتجاجات والاعتراضات".
5 – "ان التضامن غير مكتمل بين الطوائف حتى يجرد النظام من السياسة الطائفية.
6 – "ان الشعب اللبناني غير ناضج لإعطاء الأولوية في الانتماء إلى الوطن بدلاً من الطوائف".
7 – "ان الطوائف في لبنان تقوم بالأعمال التي هي عادة في عهد الأحزاب السياسية".
"يجب التذكير أنه بعدما قام المفوض السامي بالاتصالات ببعض الفئات التي امتنعت عن التصويت لصالح الدستور من جراء ضغوط مورست عليها، أصبحت الطائفة الشيعية أكثر ميلاً إلى الالتزام. خلال كانون الثاني 1926 قام السيد الشيعي الكبير عبد الحسين شرف الدين، يرافقه ثلاثة نواب من طائفته، بزيارة بعض مندوبي المفوض السامي لإعلامهم بالاطمئنان الكبير الذي يعم الشيعة لحصولهم على إقرار المذهب الجعفري وتنظيم المحاكم الشرعية الشيعية واعترافهم بأن الحركة الانفصالية قد قضي عليها وأن كل الشيعة في مناطقهم ينتسبون إلى وحدة لبنان الكبير".
"وقام القاضي والمفتي السني لمدينة صيدا بزيارة مماثلة، وأوضحا بأي ظروف قاسية أجبروا على توقيع المذكرة التي طالبت بإلحاق لبنان الجنوبي بدمشق ورفض الإجابة عن الأسئلة التي وجهت لهم من لجنة صياغة الدستور. وقد ثبتوا عزمهم على عدم المشاركة من الآن وصاعداً في أي أعمال انفصالية".
بعد تزويد لجنة صياغة الدستور كل هذه المعلومات، تمكنت من إنهاء النص الذي صوت عليه بالإجماع في المجلس التمثيلي بتاريخ 23 أيار 1926 والذي ظل نافذاً حتى 1943، السنة التي كرست عقد التفاهم بين الطوائف المسيحية.

النمو السكاني في لبنان
منذ عهد الانتداب حتى 1943
إن الأرقام الواردة في الجدول الرقم 4 هي كما وردت في سجلات وزارة الداخلية المبنية على إحصاء 1932.
عانى لبنان منذ الاستقلال، من انتكاسات عدة مهمة، عائدة في أكثر الأحيان إلى إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، بدأت بحوادث 1958 مروراً بفتح لاند 1969 والاعتداءات والحروب الإسرائيلية في 1968، 1972، 1978، 1982، وخصوصاً الحوادث التي أشعلت لبنان في عام 1975 وحتى 1990 وكانت لكل هذه الكوارث انعكاسات سلبية أدت إلى هجرة كثيفة من المسيحيين إلى بلاد الحرية والعدالة:
يضاف إلى ذلك ما يأتي:
- قانون التجنيس الرقم 5247 تاريخ 20/6/1994 الذي أفادت منه أكثرية عارمة من السنة، مسببة اهتزازاً عميقاً في التوازن الطائفي، وخاصة بالنسبة إلى الطائفة المارونية.
- عدم تمكن مسيحيي الانتشار من تسجيل زيجاتهم وولادة أبنائهم لدى القنصليات اللبنانية، لأنه حتى 1970 كانت أكبر الدول المضيفة للمغتربين (الولايات المتحدة – البرازيل – أميركا اللاتينية والوسطى) تمنع ازدواجية الجنسية.
نتيجة كل ما تقدم، واستناداً إلى إحصاءات سجلات الأحوال الشخصية في وزارة الداخلية، أصبحت نسب اللبنانيين المسجلين وفق الطوائف بتاريخ 2009 كما يأتي:
المسيحيون 34,96 في المئة – المسلمون 64,64 في المئة، أي بنقص يناهز 30 في المئة بالنسبة إلى معدلات 1943.

الخلاصة
يمكن تلخيص الاستنتاجات من هذا البحث بما يأتي:
- إن العلمنة في المنطلق، وليس إلغاء الطائفية، هي ترجمة لنظام تقدمي يصلح تطبيقه في كل مكان إذا اكتملت وسائل وسبل نجاحه.
- إن المسيحيين، وخاصة الموارنة الذين كانوا  أكثر عدداً بغالبية كاسحة، عاملوا بالمساواة والطوائف الأقل عدداً.
- في العام 1926 قبل المسيحيون، وهم الغالبية كما قبل الشيعة وسنة صيدا، بأن تتمثل كل الطوائف في مجلس النواب.
- إن المذكرة التي ورد نصها بحرفيته في هذا البحث والمقدمة من الأعيان (بغالبية مسيحية) إلى لجنة صياغة الدستور تعطي صورة فعلية واضحة عن أوضاعنا الحالية.
للحؤول دون حدوث اعتداءات وانحرافات في ممارسة الطائفية السياسية يجب، في رأيي، اعتماد سلسلة إجراءات مهمة منها:
- قانون انتخاب يحافظ على تمثيل مختلف شرائح الوطن، ليتمكن الناخب من اختيار المرشح من معرفة شخصيته وتفاصيل برنامجه السياسي.
- إدخال عامل الثقة بين اللبنانيين باعتماد "دولة القانون" ليكون أمل ولاء اللبناني إلى دولته ومؤسساتها.
- إعادة كل مؤسسات الرقابة واعتماد اللامركزية الإدارية.

وأخيراً
- لا بد من التذكير بمضمون وصايا المغفور له سماحة الإمام محمد مهدي شمس الدين، الذي تراجع عن مواقفه السابقة إلى حد أنه طلب بإلحاح من المسلمين، وخاصة أهل الشيعة، الاعتراف بصوابية التمثيل الطائفي في النظام اللبناني، مع الاحتفاظ بمبدأ المناصفة في المقاعد بين المسيحيين والمسلمين.
- ليس في الإمكان المحافظة على "لبنان الرسالة" إلا بالتصرف الوفاقي الهادىء والفريد أخلاقياً بين مختلف الطوائف بحيث يتحرر المسيحي من كل الاعتداءات والإكراه العدواني التي تشعره، من وقت إلى آخر، بالسخط والإحباط. ليتمكن من وضع طاقاته وإمكاناته في تصرف الدولة وليلعب دور الجسر ما بين الحضارات شارحاً أهمية العيش المشترك "النظام الصالح للإنسانية كافة".
من البديهي القول أن هذه الخلاصة لا تلزم أحداً إلا شخصي.(انتهى)

__________________________________________


عبد الهادي محفوظ: قواسم مشتركة بين الحركة الشبابية والإمام الصدر


وكالة أخبار لبنان والشمس - الأربعاء 17/3/2011

(ا.ل) - رأى رئيس المجلس الوطني للاعلام عبد الهادي محفوظ في محاضرة عن "الإمام موسى الصدر والنظام الطائفي والشباب"، في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية -الفرع الأول - أن "هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الإمام الصدر والحركة الشبابية التي تطرح شعار إسقاط النظام:
- المسألة الطائفية المتمثلة بالنظام الطائفي.
- المسألة الإجتماعية: السكن، البطالة، الهجرة، المستقبل، الفساد.
- الشعب يمثل في نظر الإمام موسى الصدر المتحد الإجتماعي أو الكتلة التاريخية القادرة على إحداث التغيير.
- المواطنية وإلغاء السقوف المتعددة لها.
- دور الإعلام: إما أن يكون له وظيفة بناء أو وظيفة هدم: الوظيفة الإعلامية للطوائفية السياسية هي وظيفة الهدم وتعميق الإنقسام والتحضير للفتنة الأهلية.
- الإعتراض على شعار عزل الكتائب باعتبار أن ذلك يستتبع في الظرف الذي طرح فيه عزل المسيحيين والإخلال بمعادلة الشعب الواحد ودفعه نحو الفتنة والإنقسام والحرب الأهلية. من هنا كان اعتصامه هو اعتراض على هذه الحرب ولتحريض الرأي العام على وقفها. كذلك اعترض على طرح الزعيم الليبي معمر القذافي الذي تعامل مع الوضع اللبناني عبر معادلات طوائفية والذي اعتبر المسيحيين بأنهم صليبيون جدد والذي شجع على الحرب الطائفية في لبنان. ولذلك كان إخفاء الإمام الذي ذهب إلى ليبيا بعد أن وفر غطاء للحفاظ على لبنان الواحد عبر السعي إلى الفصل بين الأزمتين اللبنانية والأوسطية مع الحفاظ على ثوابت الصراع العربي الإسرائيلي والتزام لبنان بها.
- الأخذ بالقيم المدنية وبإعطاء الأولوية للحوار وبإسقاط لغة التحدي في العلاقات بين الطوائف. وهذه الناحية التقى فيها الإمام موسى الصدر مع المطران غريغوار حداد والمطران جورج خضر والدكتور صبحي الصالح والدكتور حسن صعب والأب يواكيم مبارك.
- التشديد على الوحدة الوطنية واعتبار الإعلام أحد الأسلحة الأساسية لحماية الصيغة اللبنانية التي هي حصيلة حوار الحضارات.
- حتى لا يبقى شعار إسقاط النظام حالة رومانسية لا بد من الأخذ في الإعتبار أنه يحتمي بمنظومة اقتصادية اجتماعية طوائفية بمعنى أن النظام الطائفي لن يسقط غدا. وبالتالي المطلوب رؤية سياسية اقتصادية اجتماعية لتفكيك هذا النظام عبر خطوات مرحلية مستقطبة لكل فئات الشعب : بحيث يكون هناك تحركات تهم كل القطاعات من نوع التظاهر تحت عناوين مختلفة:
يوم المحروقات: البنزين والمازوت، يوم السكن، يوم البطالة، يوم الأرياف، يوم مشاكل الشباب، يوم الهجرة، يوم الطبابة، يوم التأمين الإجتماعي والصحي، يوم الفساد الإداري والسياسي... وهذا يتطلب ندوات في الأحياء وفي الأرياف وفي منابر النقابات والجمعيات. كما ينبغي التحرك على صعيد الأرياف وتبني مطالب المحافظات المهملة واعتبارها جزءا من المطالب الوطنية. فالنظام الطائفي سيلجأ إلى عزل الحركات الشبابية إذا بقيت في سياق الطرح النظري عبر إغراق المجتمع اللبناني بالإنقسامات الطوائفية والمذهبية. من هنا اهمية تشكيل هيئة الغاء الطائفية السياسية, وانشاء مجلس الشيوخ, وانجاز قانون للانتخابات يعتمد الغاء القيد الطائفي والنسبية... وكذلك المطالبة بقانون مدني اختياري للاحوال الشخصية".(انتهى)
____________________________________________________


«ثورة الشباب اللبناني»
وشعار إسقاط النظام الطائفي


 الشمس العدد 135 2011

يحظى شعار «إسقاط النظام الطائفي في لبنان» باهتمام الشباب الشعار هو القاسم المشترك مع «الثورات العربية» التي رفعته «إسقاط النظام».
وأما الإضافة اللبنانية فكانت الصفة الطائفية. من هنا يمكن اكتشاف تأثير «الثورات العربية» على الحركة الشبابية في لبنان. وهو تأثير «البعد القومي» الذي في حالات الصحوة العربية يؤدي عمليا الى تراجع العامل الطائفي او القبلي او الجهوي.
النظام الطائفي في لبنان متجذر وهو الأرسخ في المعادلة اللبنانية. والمحاولة الاصلاحية الوحيدة جاءت من جانب الجنرال فؤاد شهاب الذي ساهم في تكوين مؤسسات الرقابة والمحاسبة وفي تحييد ادارة الدولة عن تدخلات الاقطاع السياسي. كما أعطى حيزاً واسعاً للكفاءة والخبرة بأن تكون مدخلا لقطاعات شبابية من خريجي الجامعات في الدخول الى ملاكات الدولة عبر مجلس الخدمة المدنية كما انه حاول إحداث إنماء متوازن في الأطراف والأرياف البعيدة لمعالجة النمو العشوائي لأحزمة البؤس في بيروت وضواحيها نتيجة الخلل الكبير الناجم عن ان دولة لبنان الكبير ألحقت الأقضية الاربعة «بنظام المتصرفية» من دون ان تنقل «الدولة اليها».
باختصار عزز فؤاد شهاب «فكرة الدولة» وإن لم ينجح في إلغاء السقوف المتعددة للطوائف وللمواطنية. على الأقل حاول من داخل السلطة... وكانت نقطة الضعف الأساسية في مشروعه انه لم يشتغل على قوة اجتماعية من داخل المجتمع المدني تحمل مشروع الاصلاح.
الحركة الشبابية الآن تحمل وعداً إصلاحياً بزخم رومانسي يصيب عمق المشكلة اللبنانية حيث العلة الاساسية هي في النظام الطوائفي الذي تحميه شبكة واسعة من المصالح الاقتصادية والاجتماعية والذي يتجه في العمق نحو صيغة فيدرالية من كانتونات الطوائف عبر اضعاف فكرة الدولة وتهميش مؤسسات الرقابة والمحاسبة واستبعاد الكفاءة وتعزيز المحسوبية. وواقع الامر لا يمكن للنظام الطوائفي الا ان يكون مصدراً للتوترات الداخلية. وهذا ما لمّح اليه البيان الحكومي الأول لحكومة الاستقلال في 7 تشرين الاول 1943 حيث اعتبر «ان الطائفية تقيّد التقدم الوطني من جهة وتشوّه سمعة لبنان من جهة أخرى فضلاً عن انها تسمّم روح العلاقات بين الجماعات الروحية المتعددة التي يتألف منها الشعب اللبناني. وقد شهدنا كيف ان الطائفية كانت في معظم الاحيان أداة لكفالة المنافع الخاصة. كما كانت أداة لإيهان الحياة الوطنية في لبنان إيهانا يستفيد منها الأغيار...»
والواضح ان الطائفية السياسية هي مصدر أساسي من مصادر الإنقسام اللبناني والنزاعات اللبنانية. والايجابي في «الثورة الشبابية اللبنانية» انها تأتي كعنوان للاعتراض على هذا الانقسام وهذه الطوائفية عبر التشديد على فكرة المواطنة غير المرتبطة بحسابات الطوائف وأمرائها. وبهذا المعنى اذا كان المحرّك الأساسي المباشر للثورات العربية هو فساد السلطة السياسية والفقر وغياب الضمانات الاجتماعية والصحية وتفشي البطالة بين الشباب وخريجي الجامعات... اذا كان هذا هو المحرّك مضافاً اليه عنصر الصحوة القومية فإن «الثورة الشبابية في لبنان» هي على تماس يومي بفساد السلطة كما ان الشباب هم الأكثر تحسساً لمشكلة السكن والزواج والوظيفة والتمزق الاجتماعي والحروب الأهلية المتربصة بهم عندما يختلف أمراء الطوائف.
نحن في مرحلة يصح فيها القول المأثور لتوصيف المجتمع السياسي اللبناني: «كثرة الخلاف شقاق وكثرة الاتفاق نفاق»... هذه هي فعلا المعادلة التي تحكم العلاقة داخل الطبقة السياسية اللبنانية. ومن حسن الحظ ان «الثورة الشبابية» هي جزء من المشهد اللبناني الحالي بقواه الشبابية الحية وهي يمكن ان تكون نقطة استقطاب للقواعد الشبابية سواء للأحزاب التقليدية التاريخية أو للأحزاب الطوائفية. وهذا يفترض وعياً اضافياً من الحركات الشبابية بحيث تدرك ان ما تطرحه يمكن ان تستجيب له هذه «القواعد» اذا أحسنت التعاطي ولم تحرق المراحل. فالواضح ان هناك تفاوتا في الرؤية السياسية لدى التيارات الشبابية يستتبع احيانا خلافا في ترتيب الأولويات او الانجرار الى نوع من «الطفولة اليسارية» التي تكتفي بالتميّز وبأن «الشعب» سيلحق بها عفوياً وبنوع من «الحتمية التاريخية»، فالمسألة اكثر تعقيداً وحساسية مما يعتقد البعض. فالتعريف بالمصطلح أمر ضروري كما تحديد توقيته اكثر ضرورة. فللأسف ان مصطلح «العلمانية» مفهوم خطأ لدى غالبية الناس اذ تعتبره نقيض الدين. ولذلك السؤال هل يُفترض ان يكون في الواجهة ام من الممكن استبداله بمفهوم القيم المدنية المرتبطة بالدولة المدنية. هذه الناحية قد يكون التفت اليها مبكرا المطران غريغوار حدّاد الذي يمكن ان تستفيد «الحركات الشبابية» من تجربته وطروحاته وتعريفاته للمصطلحات ومن الكراريس التي أصدرها حول المجتمع المدني. فالمطران غريغوار حددا شارك مع الإمام السيد موسى الصدر والأب يواكيم مبارك والدكتور حسن صعب منذ بداية السبعينات في بلورة «توجّه مدني» يغلب فكرة المواطنية في وطن على المواطنية في طائفة... وهذا تراث مهم قطعت الطريق عليه الحرب الاهلية في العام 1975 وهي حرب طوائفية هدفها باستمرار تجديد «النظام الطائفي» الذي يتيح احيانا فترات موقتة من الهدنة. فقد اسقط اتفاق الطائف «نظام المارونية السياسية» وانما لم يُسقط النظام الطائفي الذي أسّس لمحاصصات طوائفية غير مستقرة باعتبار ان المشاريع الطوائفية هي في نهاية الأمر بلاء على الوطن وعلى طوائفها.
وحتى لا تكون «الثورة الشبابية» في لبنان مجرّد «إضافة فولكلورية» كما يرغب في ذلك أركان «النظام الطوائفي» باعتبارها «ظاهرة موقتة وعابرة» ينبغي ان تدرك «الحركات الشبابية» ان النظام الطائفي «لن يسقط غدا». فمن سمة الشباب السرعة والعجلة. وسيفاجئهم هذا النظام الطوائفي بأنه قادر على زرع الانقسام بين مكوّناته الأهلية بحيث يعزلهم اذا لم يعرفوا كيف يطرقون بابه الطائفي من عنوان «المشترك بين اللبنانيين» وبمراكمة الإنجازات. وهذا يفترض ربط شعار إسقاط النظام الطائفي بالهموم التي يعاني منها كافة اللبنانيين. اذ لا حماية في هذا البلد الا للنظام المصرفي الذي يقود عمليا من خلف الستار كل الطبقة السياسية الطوائفية... وهكذا لا بد من بلورة مشروع جامع لكل التيارات الشبابية وبإنتاج صيغة تنظيمية تستفيد من التجربة المصرية بحيث تكون القيادة جماعية ولا مكان فيها «لزعيم» بحيث تطرح المساءلة والمحاسبة من القواعد وبحيث تحول دون انحراف هذه «التيارات» او احتوائها. وفي هذا السياق حتى تحوز هذه «التيارات الشبابية» على دعم شبابي حقيقي المطلوب ان يكون هناك عناوين للتحرك منها يوم للمحروقات.يوم للبطالة. يوم للنخب. يوم للصحة والطبابة. يوم لاقساط الجامعة والمدرسة. يوم لقانون انتخابات يلغي القيد الطائفي ويعتمد النسبية. يوم لمشاكل الأرياف... كما المطلوب الربط بين «تيارات المدن» و«تيارات الأطراف» وابتداع الصيغ التنظيمية لذلك. وفي هذا المجال ثمة تجربة غنية للمؤتمر الوطني لنبذ الطائفية في البقاع وعكار حيث تم تحديد المطالب المرحلية من النظام الطائفي وتم تحديد الأولويات التي تخرج المحافظتين من أسر الحسابات الطوائفية.
في كل الاحوال ثمة قضية مطروحة على «التيارات الشبابية» وتتناول تحديد موقع لبنان في بعده القومي العربي، وفي علاقاته بالثورات العربية وفي موضوع الصراع العربي - الاسرائيلي. وباختصار شديد اسقاط النظام الطائفي هو الذي يلغي على المدى البعيد ان نكون نحن اللبنانيين ضحايا حروب اهلية مستمرة وهدنات موقتة.
عبد الهادي محفوظ


حوار مع جورج قرم عن العلمانية

ما معنى افتقار الإسلام إلى كنيسة وفيه سلطة أشدّ وطأة؟
ميشيل كيلو

نشر الأستاذ الدكتور جورج قرم مقالة في مجلة اللوموند ديبلوماتيك (عدد شهر آذار من عام 2010) حول إشكاليات العلمانية بين أوروبا والعالم العربي، جعل عنوانها «حرية التأويل هي المفتاح في الإسلام». في مقالته، يؤكد الكاتب مجموعة مسائل رئيسة، أهمها اثنتان: أن تاريخ أوروبا ليس تاريخ المسلمين والعرب، وأن اختلاف التاريخين يكمن في كون ثانيهما عرف حرية الفكر، وهو قيمة جوهرية في العلمانية، بينما لم يعرفها الآخر، الأوروبي، قبل نهاية القرن السابع عشر. لذلك كانت المسألة الرئيسة في أوروبا هي فصل الدين عن الدولة، والفصل بين الروحي، المستولى عليه من قبل مؤسسة منظمة وحاكمة هي الكنيسة، والزمني، كما مثلته دولة اختلفت في ماهيتها ووظائفها عن الكنيسة، التي تزايدت الحاجة إلى التحرر من قبضتها الممسكة بكل شيء، بعد أن تبلورت في الواقع العناصر الكفيلة بجعل تجاوزها أمراً ضرورياً وممكناً، علماً بأن سيطرتها استمرت حتى القرن التاسع عشر، وكان آخر شكل رمزي لها قيام بابا روما بوضع تاج الإمبراطورية على رأس نابليون بونابرت مطالع القرن المذكور. بالمقابل، لم يعرف الإسلام كنيسة تدير شؤونه، ولم يكن على رأس دولته رجل دين كالبابا، بل حكمه دوماً رجال دولة مدنيون، فصلوا بين الدين والدولة، وإن اتبعوا تعاليم الدين إلى هذه الدرجة أو تلك، لكنهم جعلوها متفقة مع مصالح الدولة لا الدين. المشكلة عندنا هي أن باب التأويل أغلق في القرن العاشر، مما قيّد حرية الفكر وحدّ من العلمانية كأمر واقع، فلا حاجة هنا ولا مجال لعلمانية من نمط أوروبي تفصل الدولة عن الدين أو تطيح بسلطة كنيسة وبابا لا وجود لهما. ولا بد من فتح الطريق من جديد أمام حرية التأويل، التي ستعيد الأمور إلى نصابها وتتكفل بحل المشكلة. آمل أن لا يكون هذا التلخيص قد حجب بعض جوانب مقالة الدكتور قرم أو أساء إليها، وأجد أن من الضروري إبداء بعض الملاحظات حولها:

1ـ عرفت سيطرة الكنيسة البابوية على الدولة والحياة العامة في أوروبا مراحل متباينة، وكانت في صعود وهبوط ـ بلغ صعودها أوجه قبل وخلال حروب الفرنجة، ثم بدأ بالهبوط بعد أن مر في مراحل خمس، كانت أولاها في القرنين الخامس والسادس، عندما تمتعت السلطة الكنسية بالأولية على السلطة الزمنية، وبدأت ثانيتها مع مجيء شارلمان وانفصال كنيسة الغرب عن كنيسة الشرق وركون البابا إلى الغرب، وثالثتها مع سيطرة شارلمان وإقامة النظام المسيحي تحت إشراف الإمبراطورية في الغرب، ورابعتها مع استيلاء الكنيسة على تراث شارلمان وثأرها من السلطة الزمنية التي كان قد خلّفها وراءه، وخامستها مع محاولة سلالة أوتو إعادة بناء إمبراطورية الغرب ـ . هذه الأطوار المتعاقبة، تقول إن سيطرة الكنيسة لم تكن من طبيعة واحدة في جميع مراحلها قبل الإصلاح البروتستانتي، كما يؤكد الدكتور قرم. من الأدلة على ذلك رسالة بعثها شارلمان عام 800 إلى البابا ليون الثالث يخاطبه فيها قائلاً: «نحن نقاتل دفاعاً عن صليب المسيح ضد الكفار ومن أجل نشر رسالته بين الوثنيين، وتبارك أنت أسلحتنا وتصلي من أجل انتصاراتنا ... وتحرص على أن يكون سلوكك متفقاً مع تعاليم المسيح». بينما وجه هوغو كابيت، الملك الفرنسي المتمرد على البابوية، كلامه إلى رئيس الكنيسة (البابا) قائلاً: «كلانا تلقى سلطته من الله ـ حسب قول بولس الرسول: «كل سلطة من الله» ـ فلست بحاجة إلى بركتك وتطويبك لي ملكاً». ومن المعلوم أنه سادت في تلك الحقبة من صراع السلطتين الدينية والزمنية نظرتان: إحداهما في الشرق المسيحي اعترفت بوحدة الإمبراطورية والمجتمع المسيحي وقبلت إقامة نظام موحد يختلط فيه الزمني بالروحي ويقبل أحدهما الآخر، والثانية في الغرب وضع أسسها القديس أوغسطين، فصلت جذرياً بين النظامين المسيحي والإمبراطوري، لكنها اقتبست عن الشرق مبدأ ربط الإمبراطور ومصيره بمصير الدين الرسمي. هذا المبدأ، انتشر في الغرب على يد قسطنطين، قبل سقوط روما، علماً بأن تدهور مؤسسات الإمبراطورية لم يلحق ضرراً جدياً بالكنيسة، التي عرفت كيف تتأقلم مع الوضع الجديد وتفيد منه. إلى هذا، هناك رسالة للبابا غريغوار الكبير يخاطب فيها الإمبراطور، «هذا الكركدن الذي دجنه لله»، بالقول: «لقد أعطيت السلطة كي تساعد من يبتغون فعل الخير وتوسيع الطريق التي تقود إلى السماء، لتكون المملكة الأرضية في خدمة ملكوت السموات». وبلغ تنظير السيطرة الكنسية أوجَهُ في نظرية السيفين لبرنارد دو كليرفو، التي تقول: «يخص السيفان الروحي والمادي كلاهما الكنيسة، لكن السيف المادي يجب أن يشهر من أجل الكنيسة، والروحي من قبلها، على أن يكون أحدهما بيد الكاهن والآخر بيد الجندي، ويكون الأمر للكاهن بقيادة الإمبراطور». إلى هذا، هناك خلاف حول المدة التي بقيت سيطرة الكنيسة خلالها، وحول ما إذا كانت سيطرة إلهية مباشرة مارستها الكنيسة أم سيطرة كنسية بتكليف من الله، والفارق بينهما كبير، ما دامت الثانية تحتمل وجود سلطة زمنية إلى جانب السلطة الكنسية، وفي قراءات معينة، فوقها، بالنظر إلى أن الإمبراطور أو الملك هو من الكنيسة، وأنه يمارس سلطة منحه إياها الله، فلا يحق للكنيسة التدخل فيها أو الاعتراض عليها. في القرن الثالث عشر، سيقول فيلسوف الكنيسة الأكبر توما الأكويني إن: «أفضل النظم السياسية هو ذلك الذي يخضع الهيئة الاجتماعية إلى حكم فرد واحد. لكن هذا لا يعني أن النظام الأمثل هو أن ينفرد بحكم الدولة رجل واحد، فالأمير لا يستطيع تأمين خير الشعب العام إلا إذا استند إليه (إلى الشعب)، وعليه إذن الدعوة إلى تعاون جميع القوى الاجتماعية المفيدة للمصلحة العامة، كي يتولى قيادتها وتوحيدها، وينشأ نظام أحكمت مقاديره». أما روبرت فولز، فيلاحظ: «إن تاريخ أوروبا يتسم منذ القرن الثاني عشر بإعادة بناء الدولة الملكية، انطلاقاً من النظام الإقطاعي»، قبل أن يضيف: «إن إحدى نتائج الإصلاح الغريغوري بالنسبة إلى البابوية المعززة كانت النزوع إلى محاكاة الإمبراطورية». أريد القول: إن علاقة السلطة الكنسية بالسلطة الزمنية ظلت طيلة نيف وثلاثة عشر قرناً في صعود وهبوط، وبقيت محل شدّ وجذب شديدين، وكانت أكثر تعقيداً بكثير من أن تلخصها عبارة أو فكرة تعميمية، تخضع السلطة الزمنية للكنسية، وتؤكد ذلك بمثال نابليون الذي وضع البابا تاج الإمبراطور على رأسه، علما بأن البابا هو الذي استدعي إلى باريس، وأن نابليون وضع التاج على رأسه بيديه، وليس بيدي البابا.

2ـ يقول الدكتور قرم: «إن دولة القانون، وحقوق الإنسان، وصون كرامة كل كائن بشري، هي أيضاً مفاهيم دمجت بثقافة النهضة العربية الحديثة، لكن هذه المفاهيم فقدت معناها تحت تأثير «الصحوة الإسلامية» المحافظة والسلطوية». أعتقد أنه كان من الصحيح لو أن الكاتب ذكّر بدور الحركة القومية العربية ودولتها، التي ألغت، قبل الصحوة الإسلامية بفترة غير قصيرة، دولة القانون وحقوق الإنسان، بينما أنتجتهما وحمتهما الحركة القومية الأوروبية، مما يفسر العوز الديموقراطي الذي أصاب الحركة القومية العربية ودولتها منذ ستينيات القرن الماضي، ويظهر عيبها الرئيس والسبب الذي أفرغها من مضمونها التقدمي وقاد إلى تقويضها في مرحلة مبكرة من حكمها. رفضت الصحوة الإسلامية هذه المفاهيم، لكن الدولة القومية كانت قد قضت قبل ذلك على وجودها الفعلي ودورها، ولم تكتف فقط بإفقادها معناها.

3ـ ينفي الدكتور قرم أن يكون في الإسلام كنيسة، ويطالب في الوقت نفسه بإطلاق حرية التأويل، فمن هي الجهة التي يطالبها بذلك، ومن الذي يقيد هذه الحرية؟ إذا كانت هناك جهة بيدها منع وإطلاق حرية التأويل، ألا تكون هذه الجهة كنيسة أو سلطة كنسية وإن لم تتخذ شكلاً كنسياً؟ ألا تستخدم في هذه الحالة قراراتها وسيطرتها لأغراض كنيسة؟ ما معنى الحديث عن افتقار الإسلام إلى كنيسة، إذا كانت توجد في مكان ما سلطة لا يستطيع، أو لا يريد أحد تحديدها، نجحت في تقييد حرية التأويل طيلة عشرة قرون، وفرضت عقائد ومذاهب بعينها على المؤمنين، من الصعب مناقشتها ونقض مقولاتها والخروج على اجتهاداتها وفقهها؟ ومن الذي قام في الإسلام بـ«تجميد العقيدة وعد الفكر الفلسفي خطراً على الإيمان الديني» حسب قول الدكتور قرم، وكيف لا يكون هذا أشد هولاً من الكنيسة، التي بدأت سيطرتها الفكرية والسياسية تتداعى منذ القرن الثالث عشر، مع أنها لم تدم غير خمسة قرون واجهت خلالها مقاومة متشعبة وضارية، فكرية وسياسية( 1)، بينما يستكين عالم الإسلام في رحاب الأشعرية، التي جمدت الاجتهاد والتأويل واعتبرتهما بدعة وضلالة، وما زالت قادرة اليوم أيضاً على تجميدهما.

4 ـ يتحدث الدكتور قرم عن «السلطة السياسية المدنية، التي يخضع الفقهاء والعلماء المسلمون بصورة عامة لرقابتها الوثيقة». هل كانت هذه السلطة السياسية محمولة من مجتمع مواطنين أحرار، فيصح عندئذ اعتبارها مدنية تغطي مجمل المجال السياسي والعام، أم أنه يجب أن نفتش لها عن صفة أخرى، سياسية لكنها غير مدنية؟

أود إضافة ملاحظة أخيرة تناقش فقرة من نص الدكتور قرم تقول: «إن المسار التاريخي للديانة الإسلامية مختلف تماما (عن المسار الأوروبي الحديث)، إذ اتبعت هذه الأخيرة تطورا معاكسا لتطور المسيحية، واتسمت خصوصيتها أيضا بتكيفها مع التركيبات الاجتماعية السياسية التي ورثها الغزاة العرب. إنها، من جهة، تركيبات الإمبراطورية البيزنطية التي كانت مسيطرة على المحيط الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط مع ظهور الإسلام، ومن جهة أخرى تركيبات الإمبراطورية الفارسية الساسانية التي كانت تبسط سيطرتها على بلاد ما بين النهرين والهضاب الإيرانية العالية. فالأهمية المعطاة لسلطة الإمبراطور في الشؤون الدينية، كما كانت عليه الحال في بيزنطة، ستولد الممارسة السنية للسلطة خلفا لها، فيما نجد اليوم السلطة الدينية للكهنة الزرادشتيين في الإمبراطورية الساسانية متمثلة في نفوذ رجال الدين الشيعة واستقلاليتهم بالنسبة إلى السلطة السياسية». لن أتوقف عند «نفوذ رجال الدين الشيعة واستقلاليتهم بالنسبة إلى السلطة السياسية»، التي تناقض أطروحة أستاذنا حول عدم وجود كنيسة في الإسلام، وأسجل أن السلطة السياسية ليست اليوم مستقلة عن نفوذ وتحكم رجال الدين الشيعة، وأن سيطرتهم عليها كانت تستحق وقفة طويلة ومتأملة، بسبب أهميتها بالنسبة إلى أطروحة «فرادة النموذج الإسلامي»، الذي تماشى وتماثل مع نماذج حكم البلدان المجاورة، القائمة في عصره، وأخذ تنظيمه عنها، قبل حدوث انعطاف من نمط غير مسبوق في أشكال السياسة ونظمها، جسده النموذج الأوروبي الحديث، الذي قام على ركائز ومفردات لم تكن معروفة في النماذج التي اقتبس الإسلام نظامه عنها، وشكل ظهورها ونجاحها في الغرب تحولا تاريخيا نوعيا طاول جميع نظم السياسة، وجعلها ترى نفسها وتعيد إنتاج ذاتها بدلالته، لكونه ابتدع منظومة مفاهيم ومقولات ونظريات لم تعرفها النظم السابقة جميعها، وفي مقدمها النظام الإسلامي، السياسي والأيديولوجي، وأخذ بأشكال من التنظيم السياسي والاجتماعي ما كان الانتقال من العصر الزراعي ثم التجاري إلى العصر الصناعي لينجح بدونها، ارتكزت، بين أشياء أخرى، على العلمانية وما ترتب عليها من مواطنة وحقوق إنسان وديموقراطية ودولة تمثيلية/مدنية. السؤال هو : هل يمكن فعلاً إعادة إنتاج «النظام الإسلامي» في حاضنة هذا الانقلاب، الذي يمثل حقبة جديدة في تاريخ البشرية طبعت بطابعها وجود وثقافة الشعوب والأمم الأخرى؟ وهل يستطع النظام الإسلامي تجديد وتحديث دولنا ومجتمعاتنا وضمان لحاقنا بالعصر والانتماء إليه؟ وهل تكفي حرية التأويل الديني لـ: تحقيق انقلاب سياسي/ اجتماعي، مفهومي وعملي، يبقي من جهة على فرادتنا، ويمكننا من جهة أخرى من تحقيق ما سبق لغيرنا أن حققه من تقدم مادي وثقافي، ولكن عبر دروب خاصة بنا مختلفة عن دروبه؟

أصل الآن إلى لب الموضوع، الذي فيه مفتاح الإجابة على الأسئلة السابقة، وألخصه في السؤال التالي : هل صحيح أن العلمانية اقتصرت في الغرب على فصل الدين عن الدولة، أو الزمني عن الروحي؟ وهل صحيح أن حرية التأويل هي المفتاح في الإسلام؟ أعتقد أن العلمانية ليست مفهوما سياسيا إلا على السطح، أما في العمق، فهي مفهوم فلسفي/ ثقافي أحدث نتائج ثورية في الفكر والممارسة السياسيين، كما في الحركة الاجتماعية. فلسفياً، تعني العلمانية فصل الإلهي عن الإنساني، فصل المقدس عن الدنيوي، ورؤية الإلهي بدلالة الإنساني، عقب تاريخ طويل رأى الإنسان نفسه فيه بدلالة الإلهي، بتأثير الدين وسطوة الكنيسة كمؤسسة وسلطة. هذا التحول جعل الإنسان مركز ومحور العلاقة مع الله، فصارت مركزيته العامل الذي سيعين ويفسر سائر جوانب وجوده، بعد أن فتح الباب أمام نمو وتبلور نمط جديد من النظر أفضى إلى منظومة فكرية مفتوحة ومتكاملة، تشمل سائر مناحي وجود الإنسان وظواهره، وترى الله والطبيعة بدلالته.

هل هذه النظرة خاصة بأوروبا وحدها، ألا يتسع لها الإسلام ؟ أعتقد أن الجواب على شق السؤال الأول موجود لدى أرسطو، الذي يعرف الإنسان بالكلمات التالية: «ذات حرة وجديرة بالحرية بغض النظر عن تعييناتها». إذا قبلنا فكرة أن الإنسان يتعين بالحرية، بحريته، كان علينا الإقرار بأن الفكر الديني عامة والإسلامي خاصة لم يعرفه، وأن انتفاء وجوده يجعل الإسلام عاجزاً عن تحقيق نمط العلمانية الذي فصل الإنساني عن الإلهي والدنيوي عن المقدس، ورأى الإنساني والدنيوي في أولويته واستقلاليته المطلقتين.

يقدم الدكتور قرم حلاً لهذه المعضلة من طبيعة فقهية/ سياسية، يرى أنه سيفضي إلى العلمانية أو هو العلمانية في تجربتنا المختلفة عن التجربة الأوروبية. ولكن: ألا يشترك الإنسان عندنا مع إنسان أرسطو وأي إنسان آخر في كونه ذاتاً حرة تتعين بحريتها، أم أنه يجب أن يبقى متعينا بواحدة من تعييناته الموضوعية، أي إيمانه، الذي ليس، في فلسفة أرسطو، محددا أوليا، بل هو محدد ثانوي إن عيّناه من خلاله عجزنا عن رؤية الدين والله بدلالته، وعجز هو عن تحرير نفسه، بالعلمانية أو بغيرها، من الكنيسة. مشكلتنا في هذا «النموذج الإسلامي الفريد» أنه يحل المؤمن محل الإنسان، يعين الإنسان بالإيمان، فتنتفي المساواة بين البشر، والعلمانية تعني ـ بين أشياء أخرى ـ مساواة البشر، كما تنتفي السياسة كفاعلية تمكّن الإنسان، حسب تعبير لبيير مانيه في كتاب «مدينة الإنسان»، من أن «يقرر تلقي إنسانيته من نفسه، ويعمل على أن يكون خالق تكوينه الخاص»( 2).

ليس الإنسان الحر محور العقل السياسي والفلسفي الإسلامي الحالي، مع أن الله استخلفه هو، ولم يستخلف المؤمن أو المسلم في الأرض، بعد اكتمال الرسالة المحمدية، كما يخبرنا القرآن الكريم. بيد أن العقل الإسلامي السائد يجهل أو يتجاهل هذا للأسف، ويضع المؤمن فوق الإنسان، ويرفض وجود الأخير كاسم نوع مستقل عن صفاته، ويراه تحت حيثية وحيدة الجانب هي الإيمان، يعتبره متعيناً بها، وأراها ـ بفضل أرسطو ـ ثانوية وتسببت بجزء من الخراب الذي نعيشه، في الفكر والواقع، السياسة والمجتمع، العقل والروح... الخ.

هل يمكن بناء مفهوم إسلامي للعلمانية، إن بقي العقل الإسلامي مفتقراً إلى فهم للإنسان يرى فيه كائنا قوامه ذاته الحرة، منفصلا ومستقلا عن الإلهي؟ هل يمكن لحرية التأويل أن تفضي حقا إلى العلمانية، إن هي افتقرت إلى هذه الركيزة الفلسفية، التي أذكّر من جديد أنها أنجبت نمطاً جديداً من علاقة الإنسان بذاته وبالعالم، وبالدولة والمجتمع، قامت على المواطنة والمساواة والعدالة والحرية والديموقراطية؟ ما هذه العلمانية التي ترفض فكرة المساواة بين البشر، وتضع المؤمن، في سائر أحواله، فوق الإنسان، إن كان غير مؤمن؟ وهل سيترتب فصل الدين عن الدولة بالضرورة على حرية التأويل، التي كانت متاحة طيلة قرنين تقريباً، لم ينفصل الدين عن الدولة خلالهما، ثم منعتها سلطة ما طيلة القرون العشرة الماضية، دون أن ينتقص منعها من اقتناع العقل الإسلامي السائد بامتلاكه أجوبة صحيحة على جميع أسئلة الوجود والواقع والفكر، وإيمانه بأن الحرية تستهدف تقويض عالم الإسلام الكامل وإخضاعه لعالم أوروبا: الكافر والناقص؟

أخيرا، هل فصل الزمني عن الروحي يعادل تماما فصل الدين عن الدولة، وهل يجوز أن نساوي بين الفصلين في السرد؟ أليس أمرا لافتا أن تطور العقل الإسلامي بقي مقاربا لتطور العقل الأوروبي حتى نهاية القرن الحادي عشر وربما أواسط القرن الثاني عشر، ثم افترقا، فتطور الثاني عبر معارك فكرية شتى داخل وخارج الكنيسة نحو العلمانية بمعناها الفلسفي ثم السياسي، في حين انتكس الأول ودخل في حالة همود وجمود جعلته يحظر الأسئلة ويتمسك بتأويل وحيد للنص (هنا مكمن المشكلة الحقيقية)، يرفض حق المسلم في أن يقوم بقراءته الخاصة له؟ ألم يتسبب هذا الاختلاف في افتراق المنهجين الفكريين ونشوء عالمين متباينين أشد التباين تفصلهما هوة تعاظمت حتى صارا بصورة متزايدة من زمنين وتاريخين مختلفين، ينتج أحدهما شروط تقدم لا قيد عليه ـ نعرف جميعا عيوبه ونواقصه ـ وثانيهما غربة متعاظمة عن التقدم والعالم، فيتقوقع أكثر فأكثر على ذاته، ويحبس نفسه في زمن مضى ومفاهيم تقادمت، يبدد جهوده ووقته في سعي فاشل لإعادة إنتاجها في حاضر تنتفي منه شروط وإمكانيات بعثهما، فلا يجد جوابا على هزيمته وغربته غير الخروج على زمنه ومنه، وإن بقوة السلاح.

أعتقد أن العلمانية مشكلة فلسفية/ فكرية ذات مضامين ونتائج اجتماعية وفكرية، قبل أن تكون مشكلة سياسية. أما جذرها فلا يكمن في علاقة الدين بالدولة، بل في علاقة الإنساني بالإلهي، وما يمكن أن يترتب عليها من ثورة ثقافية متنوعة المنطويات غنية المضامين، تفضي إلى إعادة إنتاج السياسة والمجتمع والاقتصاد في حاضنة مفتوحة مركزها الإنسان بما هو ذات تتعيّن بالحرية. إذا لم نمتلك هذا الأساس الفلسفي/ الفكري، الذي ليس معادياً بالضرورة للدين أو لرجاله، ولم ننجز هذه الثورة الثقافية الشاملة والعميقة، التي ستجسر الهوة بيننا وبين عصرنا، وستضعنا فيه وستجعلنا منه، فإن أي تدبير سياسي أو إجرائي سيكون ناقصا، لن يلبي حاجتنا إلى حال تجعل «الشأن السياسي حقيقة نسقنا البشري، والديموقراطية حقيقة شأننا السياسي، وطاعة القانون، الذي نعطيه لأنفسنا، حقيقة ديموقراطيتنا»، كما يقول بيير مانيه !

المراجع :
1 ـ تاريخ لأفكار السياسية. تأليف جان توشار وترجمة ناجي الدراوشة. إصدار وزارة الثقافة، دمشق عام 1984. الجزء الأول، صفحات مختلفة .
2 ـ مدينة الإنسان، تأليف بيير مانيه، ترجمة فاطمة لجيوشي. إصدار وزارة الثقافة، دمشق 1972، صفحات مختلفة .


 تأملات حول مقالة ميشيل كيلو عن العلمانية

لا تقلّ المسيحية الغربية وطأةً على المجتمع عن الإسلام، لكن الأشكال مختلفة

د. جورج قرم
جريدة السفير السبت 25 أيلول 2010 – العدد 11701

نشكر الأستاذ ميشال كيلو على تعلـيقه المفصَّل حول مقالي المنشور في النسخة العربية للمــوند ديبــلوماتيك في آذار 2010 والذي صدر في جريدة السفير بتاريخ 20 أيلول 2010 تحت عنوان «حوار مع جـورج قرم عن العلمانية، ما معنى افتقار الإسلام إلى كنيسة وفيه سلطة أشد وطأة؟».

إنَّ مقالي هذا لم يكن يهدف إلى إعطاء لمحة تاريخية كاملة تقارن بين مسار الديانتيْن الإسلامية والمسيحية، ولا إلى إجراء مقارنة بين نفوذ الديانتيْن في العالم المعاصر. هذا ما فعلْتُه في مؤلفيْن سابقيْن لا بدَّ من أن يكون الأستاذ ميشال كيلو قد اطلع عليهما. فالمؤلَّف الأوَّل هو تعدد الأديان وأنظمة الحكم الذي صدر عام 1999 لدى دار النهار في بيروت وكانت له طبعات متتالية؛ أما الثاني فهو بعنوان المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين الذي صدر في بيروت لدى دار الفارابي في عام 2007. كما لا بدَّ من أن يكون قد اطلع على الدراستيْن اللتيْن نشرْتُهما في مجلة الآداب البيروتية: الأولى بعنوان «ملاحظات منهجية للتعامل مع مفهوم العلمانية في الإطار العربي» (الصادر بتاريخ 10/11 تشرين الأول ـ تشرين الثاني 2007، العدد 55)، والثانية بعنوان «حول الإصلاح الديني في العالم العربي والإسلامي» (نص مقابلة بتاريخ 4/5/6 نيسان ـ حزيران 2009، العدد 57).

أما مقالة الموند ديبلوماتيك فهيَ في الحقيقة ملخَّص مختصر جداً عمَّا أتى في الدراستيْن المذكورتيْن أحذِّر فيهما المثقفين العرب المتأثِّرين إلى درجة كبيرة بالثقافة الأوروبية وأدبياتها «الديموقراطية الطابع» من استيراد الإشكاليات الفلسفية والسياسية للثقافة الأوروبية عشوائياً وتطبيقها على الأوضاع العربية أو الإسلامية دون فحص نقدي لمدى ملاءمتها في المسار التاريخي للمجتمعات العربية. ومنذ سنوات عديدة أُلاحظ تنامي تبنّي إشكاليات فلسفية وتاريخية نابعة من الثقافة الأوروبية والأمـيركية دون نقدها أو السعي إلى اختيار ما يناسب الأوضاع العربية فيها. وقد لاحظْتُ أيضاً أنَّ أدبيات الحركات السلفية الإسلامية المتشددة وكذلك أدبيات الحركات التكفيرية، المستلهَمة من أعمال سيّد قطب في مصر أو من أعمال المودودي في باكستان، متأثِّرة بدورها إلى حدٍّ بعيد بإشكالية الرومنطيقية الأوروبية التي اخترعت الحيْرة بين الأصالة والحداثة؛ وهذه الإشكالية تحوَّلت إلى معارك فلسفية سياسية كبيرة في أوروبا وجـوارها (وخاصة روسيا)، وهي إشكالية استوردت في مجتمعاتنا العربية لما تعبِّر عنه من عواقب فقدان الاتصال بالروحانيات والماورائيات، وكذلك الحيرة أمام التطورات المجتمعية المتسارِعة التي تنتج الحنين إلى سلطة الدين في التنظيم المجتمعي وفي الحفاظ على التراتبية التـقليدية الاجتماعية. وهذا ما قمْتُ باستعراضه بشيء من التفصيل في مؤلَّف جديد سيصدر قريباً في بيروت تحت عنوان «من موزرت إلى هتلر ماذا حصل: تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب».

إنَّ السلفيات الدينية العربية المعاصِرة على غرار ما فعله العديد من كبار الأدباء والفلاسفة الأوروبيين المعادين للثورة الفرنسية ومبادئها التحررية، تقع في نفس المنهج التخيُّلي الذي يعظِّم الماضي إلى أقصى الدرجات لتوبيخ الحاضر، ولحث كل الساخطين على فقدان العدل والاستقرار على القيام بثورات مضادة لمبادئ فلسفة التنوير والثورة الفرنسية، وكذلك كل ما أتت به النهضة العربية التي انطلقت وازدهرت خلال قرن كامل ونجحت في إحداث تغيير كبير في حياة الشعوب العربية من حيث بداية تحديث العلاقات الاجتماعية ومؤسسـاتها ونهضة اللغة واستيعابها التطورات العملاقة الحاصلة في العالم وممارسة الفكر النقدي حتى في أمور العقائد والممارسات الدينية الجامدة.

أنا لن أناقش هنا كل المعلومات التاريخية القيِّمة التي أتى بها الأستاذ ميشال كيلو حول تاريخ العلاقة بين سلطة الكنيسة والسلطات المدنية المختلفــة في أوروبا، فهـي كما هو واضح من محتوى التعليق، كانت متموِّجــة باستمرار وخاضعة لحــركة مد وجزْر، وقد استمرّت على هذا النحو إلى أن أتت الثورات البروتستانتــية المختلفة والمتــنوعة في اتجاهاتها السياسية لتقلّص من حيّز سيطرة الكنيسة في أوروبا، وأتى بعد ذلك انتصار مبادئ فلسفة التنوير والثورة الفرنسية بالتدريج في كل أوروبا ليسبّب تراجعاً إضافياً متصاعداً. إنَّما المهم هنا، بغض النظر عن تموّجات العلاقة بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية في تاريخ أوروبا المسيحية، إبراز أهمية المؤسسة الكنــسية وسطوتها على تنظيم كل تفاصيل حياة المجتمعات الأوروبية ـ وهذا ينطبق أيضاً على المجتمعات التي اعتمدت إحدى الكنائس البروتستانتية القائلة بالفصل بين مجتمع رجال الدين والمجتمع المدني، كمرجعية دينية، وأدخلت بذلك المقدّس في صلب حياة المجتمع. وقد بقـيت سطوة الكنــيسة الكاثوليكية على المجتمع قوية في كل دول جـنوب أوروبا حتى نصف القرن العشرين؛ ناهيك عن سطــوة الولايات المتحدة التي تـصف نفســها بأنَّها «أمة من المؤمنين»، والتي رأت في أراضي القارة الأمـيركية «أرض ميعاد» جديدة وهبها إليها الله وأوكلها مهمة إبادة السكان الأصليين لها.

أما في المجتمعات الإسلامية، فأنا لا أزال على قراءتي التاريخية بأنَّ فئة العلماء كانت دائماً تحت سيطرة الحكم المدني إلا باستثناءات قليلة، حيث كان العلماء والجوامع معاقل ضد استبداد مفرط من قبَل حاكم هنا أو هناك. وسأكتفي هنا بذكر ما قام به الحكم الصفوي في إيران التي كان يسود فيها آنذاك المذهب السني، عندما عمل على نشر المذهب الشيعي واعتماده سياسياً كمذهب رسمي للحكم في إطار مواجهاته المتواصلة والدامية مع السلطنة العثمانية. وأنا على اطلاع على الأدبيات الغربية التي ضخَّمت أهمية ظاهرة اللجوء إلى العلماء ضـد جور الحكم، وهي أدبيات نمت نمواً كبيراً عندما بدأ توظيف الدين في مناهضة الشيوعية ونفوذ الاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية كما في دول العالم الثالث، حيث استعـمل هذا التوظيف في الوطن العربي لمكافحة المد القومي العربي بألوانه المختلفة والمعبِّرة جميعها عن مناهضة الإمبريالية الغربية. وهذا ما أثَّر كثيراً على العديد من المثقفين العرب، بحيث ذهبوا إلى اعتماد مقولة غربية عجيبة، تدَّعي أنَّ كبار شخصيات النهضة العربية، بمن فيهم العلماء الأجلاّء مثل محمد عبدو وعبد الرحمن الكواكبي وأحمد أمين وطه حسين، كانوا قد أخذوا المسلمين إلى موقع ليس موقعهم، وكانوا يكتبون ويفكرون حصرياً تحت تأثير الحداثة الأوروبية الاستعمارية الطابع، بينما ما يمثِّل الأصالة الإسلامــية والعربية هو الفكر الديني التقليدي والموروث الذي يجب أن يُعيد سيطرته على المجتمع كمدخل لا بدَّ منه لمحاولة نشر ديموقراطية ليبرالية.

وربما ما لفت انتباهي في مقال الأستاذ ميشال كيلو غياب ذكر ظاهرة عودة توظيف الدين في ظروف الحرب الباردة وكذلك العمل الأميركي الدؤوب على استثارة المشاعر الدينية في العالم كله، للتخلُّص من نفوذ الأحزاب الشيوعية المتنامية، خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية، في أوروبا كما في دول العالم الثالث، وذلك بهدف زعزعة مكانة الدولة السوفياتية في العالم الثالث وهيمنتها وقبضتها القوية على دول أوروبا الشرقية وكذلك زعزعة حكام دول عدم الانحياز المناهضين لها. وهذا ما أدى إلى إعادة ظهور المظاهر الدينية في أوروبا الشرقية (وخاصة في بولونيا) للتعبير عن السخط تجاه هيمنة الاتحاد السوفياتي على مصير تلك الدول والى صعود الحركات الدينية ـ السياسية في العالم العربي والإسلامي.

وفي هذا المضمار، إذْ لا أنفي إساءة تصرُّف الأنظمة العسكرية العربية التي كانت قد تبنَّت القومية العربية المنفتحة حضارياً والمتفاعلة مع الثقافات والإيديولوجيات السائدة في العالم حينذاك، في موضوع الحريات العامة، وخاصة تجاه الحركات الدينية المتشددة التي كانت تكفّر الحكام بسبب تطوير هؤلاء، في نظرها، العلاقات مع الاتحاد السوفياتي الملحد وإدخالهم الاشتراكية في بلدانهم. غير أنَّ هذه الظروف السياسية لم تشكِّل سبباًَ وجيهاً لما تمّ من جهود ثقافية ـ سياسية للقضاء على التراث الحديث للنهضة العربية وإخضاعه لعملية طمس وتهميش عملاقة، لكيْ يحل محلّه الفكر التبسيطي للتيارات الدينية المتشددة والمعتمِدة على نظرة تخيُّلية غير تاريخية لما يجب أن تكون المجتمعات الإسلامية عليه.

وكما هو معلوم، فإنَّ تلك الحركات أصــبحت تكــافح بشدة كل أنواع القومية العربية العلمانية الطابع باستبدالها بأيديولوجيا قومية إسلامية مقفلة، أدَّت إلى انبثاق حركات عبــثية إرهابية تقتــل الآلاف من المسلمين في العراق وأفغانستان وتقوم بعمــليات إرهابية فتّاكة ضد المدنيين في كل من مصر والأردن ولبنان والجزائر والمغرب واليمن واندونيسيا وباكستان. ولا حاجة هنا إلى التذكير بمصادر تمويل تلك الحركات، خاصةً تلك التي نمت نمواً كبيراً بعد غزو أفغانستان من قبــَل الجيش السوفياتي. فقد شكَّلت هذه الخطوة لعبة سياسية دولية لا تزال قائمة حتى يومنا هذا على خلفية طروحات قديمة تدَّعي العداء الأبدي السرمدي بين الشرق والغرب، أو بين الإسلام والمسيحية، كما قام بتجديدها الباحث الراحل صمويل هانتينغتون بطرحه مقولة صراع الحضارات ولا يزال ينشرها الباحث المستشرق الصهيوني الهوى برنارد لويس.

والجميع يعلم أنَّ العديد من الأنظمــة العــربية دخلت في المخططات الأميركية والصهــيونية بإثارة المشاعر الدينية عبر إبراز صورة متشددة للديـانة الإســلامية تسيء إلى المسلمين وتثير منذ مدة التـوتر والعداء بين السنّة والشيعة. وقد أضعف هذا التحرُّك في نهاية المطاف كل المجتمعات العربية، وأدى إلى تزايد سطوة الحكّام العرب على شعوبهم، وهم في أغلب الأحــيان يلهمون، حسب الظروف والمآرب، هذه أو تلك من الفتاوى المتشددة أو الأقل تشدداً، التي تظهر هنا وهناك كما يشجعون على الوجود المكثَّف لمراجع دينية في الإذاعات والتلفزيونات العربية.

وفي نظرة أشمل، تعتمد على قراءات متعمِّقة لآليات وديناميات الديانات التوحيدية الثلاث، أيْ اليهودية والمسيحية والإسلام، المتفرِّعة كل واحدة عن الأخرى، فإنَّ تأسيس حرية الإنسان لا يمكن أن يتم إلا عبر حرية التعامل مع النص المقدَّس والاجتهاد فيه، بلْ وأيضاً بالتأويل. فهذه هي أم الحريات في الديانات الثلاث. ولذلك أركِّز على هذه النقطة بالذات لأنَّ في المجتمعات التي تدين بهذه الديانات الثلاث لا حرية للإنسان عندما لا يُسْمَح له باستعمال عقله ورشده في فهم دينه وممارسته. وقد عرفت الحضارة الإسلامية روْنقها في كل الميادين الأدبية والفلسفية والعلمية والدينية عندما كانت هذه الحرية قائمة وأنتجت مِللاً ونِحلاً مختلفة في فهم النص المقدَّس. وقد دخلت أوروبا المسيحية عصر النهضة ثم عصر التنوير عندما بدأت قراءة النصوص المقدَّسة بشكل مستقل عن التفسير المهيْمن لها بحيث توسَّع تدريجياً حيّز الحرية في التعامل معها، مما فتح المجال أمام كل الحريات الشخصية الأخرى.

وفي نهاية المطاف أنا أرى أنَّ السلطة «الأشد وطأة» على المجتمع، التي يراها الأستاذ ميشال كيلو في الإسلام، رغم عدم وجود كنيسة، مردّها إلى موجة عودة الدين التي ذكرْتُها باقتضاب. وقد ساهم العديد من الحكام العرب فيها بنشاط واندفاع، لأنَّ ذلك أمَّن لهم حماية كبيرة من الغضب الشعبي أمام تردي أوضاع اقتصادية واجتماعية بشكل متواصل خلال العقود الأخيرة. وإذا كانت حركة عودة الدين مصطنعة في الأساس، فقد أخذت ديناميتها الخاصة التي تنتج إما الحركات التكفيرية العبثية، وإما تصبح ملجأ لكل المهمّشين والمقموعين والفقراء الذين لا يتمتعون بأي من فوائد ومزايا الحضارة الحديثة، وهي غربية المصدر، شئنا أم أبيْنا، في حين ترى الفئات الاجتماعية المحرومة محاسيب الحكام يعيشون في بحبوحة كبيرة لا يبررها ولا يشرعنها أي عمل مفيد للمجتمع، مما يخالف الأخلاق الاقتصادية الإسلامية نفسها.

وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أنَّ هذا التقوقع على الهوية الدينية في المجتمعات العربية والتمسّك بمظاهر ممارسة الدين أصبحت أيضاً ردة فعل طبيـعية لمظاهر عودة الدين في الدول الغربية. وإن لم تأخذ في هذه الدول شكل العودة إلى ممارسات الطـقوس الدينية بحذافــيرها كــما هو الحال عندنا، فقد أخذت طابعاً جغراسياً يستفزنا كلّنا كعرب؛ إذْ أصبحت الثقافات الغـربية تخترع جذوراً يهودية ـ مسيحية لحضارتها، بعد أن كانــت قد اعتُمِدَت، منذ عصر النهضة في أوروبا، رواية الجــذور اليونانية ـ الرومانية القديمة كأساس لحضارتها. وباختراع هذه المقولة التخيُّلية الجديدة، تتنكر أوروبـا بل وتلغي كل القرون الطويلة، حــيث هُمِّشَت وقُمِعَت واضــطُهِدَت الديانة اليهودية على يد الكنيسة المسيحية، ومن ثم تمت محاولة إبادتها في القارة عينها تحت تأثير النظرة العنصرية والمادية والإلحادية للنازية. وبطبيعة الحال، أنه ليس هناك من قيَم مشتركة بين المسيحية واليهودية، وأنَّ هذه الأسطورة الجديدة التي أتى بها جو صراع الحضارات، ليست إلا ذريعة بشعة لوضع الشرق المسلِم في مواجهة مع الغرب المسيحي ـ اليهودي وتبرير مساندة الصهيونية وإعادة إخضاع المنطقة العربية ومجتمعات إسلامية أخرى إلى مشاريع هيمنة الإمبريالية الأميركية وملحقاتها الأوروبية.

وإذْ أشارك الأستاذ ميشال كيلو انزعاجه من وطأة الدين عبر كثافة المتكلّمين باسمه في المجتمعات العربية، فإنَّ تفسيري لهذه الظاهرة مغاير تماماً لتفسيره الذي ينتمي إلى الكتابات الأنتروبولوجية الدينية، المتأثّرة في كثير من الأحيان بالاستشراق الغربي، والتي تقول بخاصية مطلقة للديانة الإسلامية بالنسبة للديانات الأخرى، وخاصة بالنسبة إلى المسيحية. فترى تلك المدرسة بأنَّ الإسلام في جوهر رسالته لا يمكن أن يفرِّق بين الروحي والزمني، وهذا قول يردده العديد من المثقفين المسلمين الذين انخرطوا في تنشيط عودة الدين وهم كانوا في بعض الأحيان من التقدميين المناضلين للأحزاب السياسية العروبية، ماركسيةً كانت أم غير مركسية. وهذا أيضاً قول نجده بكثافة في كل أدبيات السلفــية الدينية، متشددة كانت أم معتدلة، وعلى خلاف ما كان الوضع عليه في حقبة النهضة العربية.

شخصياً، أرى أنَّ في أنتروبولوجيا الديانتيْن، المسيحية والإسلام، وفي مسارهما التاريخي أوجه تشابه ناتجة من جوهر التوحيد الديني، كما التمايز في المسار التاريخي في كل من المسيحية الأوروبية والإسلام العربي. فغياب الكنيسة وسطوتها في الإسلام سمة لا يمكن إنكارها. فبعدم وجود المؤسسة الدينية الواحدة التي تجمع بين كل المسلمين، كان من المنطقي أن يصبح الحاكم المدني (وإنْ كان لقبه أمير المؤمنين أو السلطان أو الخليفة) هو الذي يوجه ويسيطر على العلماء الموزعين في مناطق وبلدان ومجتمعات متفرّقة ومتناثرة بعد انهيار الخلافة العباسـية. وخلافاً لنظرة ميشال كيلو، فإنني أرى في تعددية المراجع الدينية في المذهب الشيعي نوعاً من استمرار حرية الاجتهاد والتأويل في النصوص المقدَّسة. ومما لا شك فيه في هذا المضمار أن الثورة الإسلامية في إيران والنظام الدستوري الديني المختلط الذي أسسته، قد أطلقت اتجاهات تصعيدية في ظاهرة عودة الديني في منطقة الشرق الأوسط، بحيث أصبح هذا النظام يتنافس مع النظام الملكي في المملكة العربية السعودية الذي اختار من المذهب الوهابي المتشدد السند الرئيسي لنظامه السياسي. وقد تعاظم هذا التنافس نتيجة عودة ظاهرة الدين التي كانت في الأساس مرتبطة بالسياسة الأميركية لمكافحة الشيوعية والاتحاد السوفياتي.

إنَّ وقوعنا في فخ عودة الديني يؤكّد أننا نمر كعرب بفترة انحطاط متواصلة وما سميْتُه «بدينامية الفشل» في مؤلَّفي «انفجار المشرق العربي» (دار الفارابي، عام 2006). هذا الانحطاط هو أيضاً انحطاط فكري. ومن بين الأسباب العديدة للانحطاط الفكري استيراد الإشكاليات الغربية بطريقة عمياء لتحليل أوضاعنا ومعاينتها واستنباط الحلول التي لا تناسب الأوضاع الميدانية في مسارها التاريخي. وهذا ما لم يفعله معظم رواد النهضة العربية، وخاصة العلماء منهم الذين تميّزوا بجرأة أدبية وأخلاقية كبيرة نسبة لما تشهده الساحة الفكرية ـ السياسية ـ الدينية اليوم من تدهور عملاق.

ولذا أنا العلماني أسعى الى النظر إلى الحــركات الإسلامية بشيء من الدقة وأفرِّق في ما بينها، فأرى أنَّ حركات المقاومة الإسلامية للاحتلالات الإسرائيلية أو للاحتلالات الأميركية هي حركات يجب أن تُدْعَم وتُصان وتُشَجَّع لأنَّها هي بريق الأمل في مستــقبل أفضل، خاصةً بعد الإنجازات التي حققها حزب الله في لبنان، وإنْ لم نكن من الناحية العقائدية من أتباع الإيمان بنــظام ولاية الفقيه. ففي النهاية، إنَّ الدافع الأساسي الذي أدى إلى استشهاد كل هؤلاء المقاومين اللبنانيين الشرفاء هو الدفاع عن كرامة الإنسان والوطن والمجتمع الذي ينتمون إليه. وهناك جدلية معقَّدة بين كرامة الإنسان ومجتمعه وبين الحرية الفردية لن أغوص فيها هنا، لكن الحرية الفردية الشكلية بدون كرامة مؤمَّنة، لا جدوى منها ويمكن أن تكون أيضاً سلعة مستوردة من الخارج لا قيمة فعلية لها، ما لم تنبع من حركة نهضوية ذاتية في جميع الميادين، ومنها خاصة القدرة على صدّ الغزوات والاحتلالات الأجنبية التي يتعرض اليها العرب منذ غزو نابليون بونابرت لمصر عام 1798 .


هل يسقط النظام الطائفي في لبنان؟
المستقبل اللبنانية

2011 الإثنين 4 أبريل

محمد السماك

رفع شباب مصر شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". وسرعان ما انتشر هذا الشعار في العالم العربي من المحيط إلى الخليج انتشار النار في الهشيم. غير أن الدولة العربية الأحق برفع هذا الشعار هو لبنان. ذلك ان النظام الطائفي المعتمد فيه لا مثيل له في أي دولة أخرى في العالم.
نشأ هذا النظام في العهد العثماني، وتحديداً في فترة ترهل الامبراطورية وتحولها إلى "رجل أوروبا المريض". فقد بلغت الامبراطورية من الضعف إلى حد اضطرت معه إلى الاستجابة إلى الطلبات الابتزازية للدول الأوروبية. وكان من هذه الطلبات الادعاء بحق حماية الأقليات المسيحية. وهو الادعاء الذي صنع ما يعرف بـ"المشكلة الشرقية" أي مشكلة مسيحيي الشرق. وبذلك تولت فرنسا حماية المسيحيين الموارنة، وأعطت روسيا القيصرية لنفسها حق حماية المسيحيين الارثوذكس، والنمسا حماية الكاثوليك.. أما بريطانيا الانكليكانية، فلحقت بالركب في وقت لاحق، إذ انها بعد أن منحت اليهود بموجب وعد بلفور 1917 وطناً قومياً في فلسطين، أصبحت أحد أطراف لعبة حماية الأقليات الدينية في المنطقة.
كرس هذا الواقع القانون الذي كان قد صدر في 18 شباط / فبراير 1858 عن السلطان العثماني والذي يعرف بـ"الخط الهمايوني". وبموجب هذا القانون أصبحت الدول الأوروبية تمارس دور حماية الأقليات المسيحية بموافقة من السلطان العثماني وبموجب قانون همايوني !!
بعد سقوط الامبراطورية العثمانية تولى الانتداب الفرنسي على لبنان مواصلة هذه السياسة. وكرسها دستورياً أيضاً.. ولكنه نقل إلى الأقليات الدينية، التي أصبحت طوائف، مسؤولية ادارة شؤونها الذاتية بنفسها. حتى ان عصبة الأمم أقرت هذا التنظيم الطائفي في وثيقة صدرت عنها في تموز /24 يوليو من عام 1922.
ثم جدد تكريس الدستور اللبناني الأول الذي صدر في عام 1926 هذا الواقع الطائفي وكان لبنان لا يزال تحت الانتداب الفرنسي. فقد أعطى الدستور الأول الطوائف الدينية حق ادارة شؤونها الاجتماعية والعائلية والتعليمية من دون أي تدخل من الدولة.
استمر هذا الوضع حتى بعد استقلال لبنان في عام 1943 وأصبح يشكل الاساس الذي يقوم عليه نظامه السياسي وتقاسم السلطات. ورغم ان الدستور لا يتضمن نصاً بذلك، الا ان الأعراف (التي لها قوة دستورية) تقول اليوم بتوزيع الرئاسات على الطوائف على الشكل التالي :
رئيس الجمهورية مسيحي ماروني.
رئيس مجلس النواب مسلم شيعي ونائبه مسيحي ارثوذكسي.
رئيس مجلس الوزراء مسلم سني ونائبه مسيحي ارثوذكسي.
أما مجلس النواب فانه يكون مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، على أن يتقاسم النصف المخصص للمسلمين كل من السنة والشيعة والدروز والعلويون، وأن يتقاسم النصف المخصص للمسيحيين كل من الموارنة والارثوذكس والكاثوليك والأرمن.. إضافة إلى الأقليات المسيحية الأخرى، ومنها السريان والانجيليون والكلدان والأشوريون.
كذلك فان المناصب الادارية العليا تحترم هذه المناصفة الطائفية - المذهبية وتلتزم بها، وذلك استناداً إلى الدستور اللبناني نفسه، كما تنص على ذلك المادة 95 منه، علماً أن قائد الجيش اللبناني وحاكم البنك المركزي يكونان حكماً ودائماً من المسيحيين الموارنة.
هذا يعني ان الديموقراطية في لبنان متعددة السقوف. فالدرزي مثلاً، بموجب النظام الطائفي لا يستطيع أن يطمح بأن يكون رئيساً للدولة أو للحكومة أو لمجلس النواب، أو حتى نائباً لأي منهم. وان أقصى طموحاته هو أن يكون وزيراً. وكانت هذه عقدة الزعيم الراحل كمال جنبلاط الذي كانت كفاءاته العلمية والفكرية والسياسية تتجاوز السقف المنخفض الذي يفرضه النظام الطائفي على طائفته!
غير ان لهذا النظام جانباً إيجابياً. وهو انه يشجع كل طائفة على تطوير مؤسساتها الاجتماعية والعلمية. وعندما انهارت الدولة وتعطلت مؤسساتها خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، تولت المؤسسات الأهلية التابعة للطوائف المختلفة تقديم الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية. ولذلك فان الصيغة التي يكاد لبنان يتفرد بها هي أن المجتمع اللبناني هو أقوى من الدولة. فالمواطن يعتمد على الخدمات التي تقدمها له المؤسسات الطائفية أكثر من اعتماده على الخدمات التي توفرها مؤسسات الدولة.
ورغم ان هذا النظام الطائفي اعتبر نظاماً موقتاً منذ الاستقلال، كا جاء في البيان الوزاري لأول حكومة استقلالية برئاسة رياض الصلح، فان هذا المؤقت يتمتع بقوة الاستمرار. بل انه يكاد يصبح احد اكثر الثوابت التنظيمية رسوخاً. فالدستور الذي جرى تعديله في عام 1990 على قاعدة اتفاق الطائف يعطي رؤساء الطوائف الدينية حق الطعن في القوانين أمام المجلس الدستوري. وهو حق يتمتع به عشرة على الاقل من أعضاء المجلس النيابي.
وفي كل مرة يجد لبنان نفسه غارقاً في دوامة أزمة سياسية، لا يجد مخرجاً منها إلا بإضافة سابقة جديدة تكرس النظام الطائفي. وهكذا ابتدعت في مؤتمر الدوحة 2009 نظرية التوافق على حساب الديموقراطية في التصويت. وبموجب هذه النظرية التي تعطي الطوائف عملياً حق الفيتو، لم يعد ممكناً اقرار أي تنظيم أو اتخاذ أي موقف سياسي ما لم تتوافق عليه كل الطوائف.
حاول رئيس الجمهورية الأسبق الياس الهراوي فتح ثغرة في النظام الطائفي من خلال تشريع الزواج المدني. والزواج المدني شرعي بموجب القانون اللبناني اذا عقد خارج لبنان (في قبرص أو في أي دولة غربية أخرى) ولكنه يصبح غير شرعي اذا عقد في لبنان. ولذلك قضت المحاولة بوضع نص يقول بشرعية عقود الزواج الاختيارية، دينية كانت أو مدنية. غير ان تلك المحاولة باءت بالفشل.. فقد رفضها المسلمون على خلفية احترام القواعد الشرعية المتعلقة بالإرث والحضانة.. ورفضها المسيحيون على خلفية مبدئية تعتبر الزواج سراً كنسياً لا يصح خارج الكنيسة. علماً أن المسلمين والمسيحيين اللبنانيين يتزوجون مدنياً في دول المهجر ويسجلون عقودهم لدى القنصليات والسفارات اللبنانية المنتشرة في هذه الدول.
من أجل ذلك يشكو اللبنانيون من مساوئ هذا النظام. ويكادون يجمعون على ادانته والتشهير به، وهم الذين نادراً ما يجمعون على أمر. ولكن عندما تطرح مبادرات لإعادة النظر فيه أو لتعديل بعض مواده، ترتفع علامات الاستفهام المعطلة.
لقد نص اتفاق الطائف الذي هو في مستوى وثيقة وفاق وطني على تشكيل هيئة عليا لإلغاء الطائفية السياسية. ولكن رغم مرور 22 عاماً على صدور هذه الوثيقة، فان مجرد طرح مبدأ تشكيل الهيئة يكهرب الجو العام ويطعن بسلامة نوايا أصحابه.
واستقواء بالانتفاضات الشبابية العربية التي تطالب بالتغيير في معظم الدول العربية ـ بل فيها كلها ـ تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" تحركت قوى شبابية في لبنان تدعو إلى إسقاط النظام الطائفي.. وإلى اعتماد نظام مدني بدلاً منه، على قاعدة احترام الأديان والحريات الدينية.
غير ان صدى هذه الأصوات ـ خلافاً لما يجري في الدول العربية الاخرى ـ تخنقه مواقف المتضررين الذين يعرفون كيف ومتى يدقون أجراس الكنائس ويرفعون مكبرات الصوت في مآذن المساجد.



 

 

 

Last Updated (Tuesday, 17 May 2011 15:29)

 
القائمة الرئيسية
  • الرئيسية
  • الأرشيف
  • عن الوكالة
  • عباس بدر الدين
  • قالوا في عباس بدر الدين
  • الصحف اليومية
  • راسلنا
Banner
Banner
حول ملف الإخفاء
  • س س
  • العقيد القذافي
    • ليبيا القذافي
  • لكلمته صولة
  • مطالبات
  • مطالبات - تابع
  • التوطين
  • د.مسيكة :هذه هي وقائع التحقيق
  • التحقيق الايطالي في جريمة الاخفاء
  • من المؤكد
  • قانون انشاء المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى ونظامه الداخلي وملاك موظفيه العام
  • موسى الصدر لماذا هو؟
  • معلومات عن خطف الإمام وصحبه
Banner
للعلم والمعرفة
  • العلمنة
  • الوفاق الذي عاش 30 عاماً
  • مصير لبنان في مشاريع
  • تاريخ قوات حفظ السلام في لبنان
  • الخريطة الاميركية للشرق الاوسط
  • الاستراتيجية الاميركية في المنطقة
  • الثورة الإسلامية الإيرانية
  • طائرة الموت الايرانية
Banner
Banner
Banner
Banner

Copyright © 2010 LNA.
All Rights Reserved.

Designed by MS Graphics.