مصير لبنان في مشاريع د. محمد المجذوب
الدكتور محمد المجذوب
أستاذ في الجامعة اللبنانية
وجامعة بيروت العربية
مصير لبنان
في مشاريع
- نظام الكانتونات
- اللامركزية السياسية
- تدويل الأزمة اللبنانية
- البوليس الدولي
- حياد لبنان وتحييده
منشورات عويدات
بيروت - باريس
الدكتور محمد المجذوب
أستاذ في الجامعة اللبنانية
وجامعة بيروت العربية
مصير لبنان
في مشاريع
- نظام الكانتونات
- اللامركزية السياسية
- تدويل الأزمة اللبنانية
- البوليس الدولي
- حياد لبنان وتحييده
منشورات عويدات
بيروت - باريس
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ولدار
منشورات عويدات
بيروت – باريس
ملاجظة:نشرت هذه الطبعة بعد موافقة كاتبها على ان تبقى على الانترنت فقط.
الطبعة الأولى: نيسان (أفريل) 1978
الغلاف
عندما اجتاحت لبنان، في العامين 1975 – 1976، أزمة رهيبة كادت تطيح بمنجزات استقلاله، سارعت بعض الفئات السياسية إلى طرح الحلول والمشاريع القادرة، في رأيها، على معالجة الأزمة وإنقاذ الوطن من الهزات التي يتعرض لها حيناً بعد حين.
وطالبت فئة بتطبيق نظام الكانتونات السويسري وتحويل لبنان إلى دولة فدرالية لتحقيق "الوحدة في التعددية".
ودعت فئة ثانية إلى الأخذ بنظام اللامركزية السياسية بحجة أن لبنان يتكون من مجموعة "ثقافات وحضارات وأعراق".
وخيل إلى فئة ثالثة أن الحل يكمن في طلب النجدة من الأمم المتحدة عن طريق تدويل الأزمة.
واعتقدت فئة رابعة أن قوات الطوارىء الدولية هي وحدها لاقادرة على توفير الأمن والاستقرار للبنان.
ونادت فئة خامسة بوجوب تحييد لبنان لعزله عن التيارات التي تهب على الوطن العربي.
الكتاب يرد، بموضوعية رصينة، على هذه الأفكار والمشاريع ويرسم، من خلال الرد والتنفيذ والمناقشة، صورة لبنان الجديد.
مقدمة الناشر
عندما اشتدت الأزمة السياسية في لبنان، خلال العامين 1975 – 1976، وتحولت إلى حرب أهلية مدمرة، شعر الكثيرون بأن النظام اللبناني مصاب بخلل وبأن العلاج يجب أن يتناول هذا الخلل.
وقُدّمت، خلال الأزمة وبعدها، مشاريع ومقترحات كثيرة، أهمها:
1 – الأخذ بنظام الكانتونات السويسري وتحويل لبنان إلى دولة فدرالية قادرة على تحقيق "الوحدة في التعددية".
2 – المطالبة بتطبيق نظام اللامركزية وتقسيم لبنان إلى مناطق أو مقاطعات تتمتع بالحكم الذاتي. ولكن فكرة اللامركزية الإدارية اختلطت، في أذهان الكثيرين، بفكرة اللامركزية السياسية.
3 – المناداة بتدويل الأزمة اللبنانية وعرضها على الأمم المتحدة والطلب إلى الدول الكبرى التدخل لإيجاد الحل المناسب للأعاصير التي يتعرض لها لبنان من وقت إلى آخر.
4 – الاعتقاد بأن أزمة لبنان مرتبطة بالخطر الإسرائيلي الجاثم على الحدود، وبأن الخطر يمكن أن يزول (وتزول معه الأزمة) إذا تمركزت القوات الدولية على حدود لبنان الجنوبية.
5 – الدعوة إلى حياد لبنان أو تحييده لإبعاده عن المشكلات والمحاور العربية التي تجري وتتفاعل حوله.
وبعد طرح هذه المشاريع قام صديقنا الدكتور محمد المجذوب يتصدى لها ويبرز أخطارها، دون أن يُغفل الإشارة إلى بعض المحاسن أو الفوائد فيها. وكل ذلك بأسلوب موضوعي رصين يعتمد على شرح الفكرة ومقارعة الحجة بالحجة.
وهذا الحوار الفكري الذي يشترك فيه المؤلف يثبت أن لبنان، على الرغم من شدة العاصفة التي اجتاحته، لم يفقد بعد تلك الميزة التي اشتهر بها، وهي حرية الفكر. فهو يتبع أسلوباً علمياً ومنطقياً في معالجة المواضيع المطروحة. أنه يشرح الموضوع من جميع جوانبه، ويبين محاسنه ومساوئه، ويعرض وجهة نظر المنادين به، ثم يعمد إلى تفنيد الحجج التي أتوا بها والكشف عن الخلفيات التي تكمن وراء الدعوة إليه.
ولأننا نتمنى لهذا الأسلوب الفكري الهادىء أن يسود وينتشر ويشكل الأساس المتين لإنتاجنا العلمي، فقد حرصنا على نشر هذه الدراسات. ولأننا نتمنى أن يحل الحوار محل الرصاص في وطننا لبنان، فقد حرصنا على تقديم هذه الدراسات إلى شبابنا لتكون لهم نموذجاً في طريقة التفكير، وتبادل الآراء، وتحليل المواقف، بغية الوصول إلى الحل المنشود.
الناشر
بيروت في أول آذار (مارس) 1978.
___________________________________
الوجه الآخر
لنظام الكانتونات السويسري
قبل الحرب الأهلية(*) في لبنان، كنا نسمع ونقرأ الكثير عن سويسرا. وكان كل ما يقال فيها يوحي بأنها جنة الله في أرضه، أو المدينة الفاضلة التي تحدث عنها أفلاطون والفارابي. وكانت فئات كثيرة من اللبنانيين تبدي، في كل مناسبة، تقديرها البالغ للنظام الديموقراطي والبرلماني المطبق في سويسرا، وتطالب، عند حدوث أي خلل في النظام اللبناني، بنقل التجربة السويسرية إلى لبنان، جازمة بأن العمل بالنظام السويسري كفيل بإزالة أسباب الصراع الطبقي أو الفئوي أو الطائفي، وتعزيز الروح الديموقراطية، وتوفير الرفاهية والازدهار للمواطنين. وكنا، بشيء من التحفظ والحذر، نصدق كل ما يقال ويكتب، منتظرين أول فرصة سانحة للانكباب على درس الموضوع والوقوف على صحة المعلومات الشائعة.
وخلال الأحداث الدامية، طرح اليمين اللبناني بعض الأفكار والمشروعات لمعالجة الأزمة كان من أبرزها فكرة الأخذ بنظام الكانتونات السويسري، من أجل تحويل لبنان إلى دولة فدرالية (اتحادية) قادرة على تحقيق "الوحدة في التعددية". وجُنّدت الأفواه والأقلام للتبشير بالفكرة، والإشادة بالديموقراطية السويسرية، والتأكيد على وجود العديد من نقاط الالتقاء والتشابه بين أوضاع لبنان وأوضاع سويسرا. وبالغ أهل اليمين في امتداح النظام السويسري حتى خيل إلى البعض أن إنقاذ لبنان، من محنه المزمنة، لن يتم إلا باقتباس نظام شبيه بهذا النظام.
وانتهزنا هذه الفرصة، وألقينا نظرة شاملة على الأوضاع السويسريى، محاولين التعرف إلى الدوافع والحوافز التي حدت باليمين اللبناني إلى المناداة باعتماد نظام الكانتونات، ومحاولين كذلك اكتشاف حقيقة النظام السويسري الذي أحيط بهالة من الإكبار. وبعد التدقيق توصلنا إلى النتيجة التالية:
1 – إن سويسرا دولة تحكمها طبقة أوليغارشية تبهر العالم بدعاياتها المضللة، وتسخّر أنظمة الدولة ومرافقها لخدمة مصالحها المرتبطة بمصالح الإمبريالية العالمية. واليمين اللبناني يسعى إلى نقل التجربة السويسرية إلى لبنان لأنها، في رأيه، تضمن له استمرار امتيازاته وتعود عليه بالمزيد من المكاسب المادية.
2 – إن سويسرا لم تتبوأ مركزها المالي والمصرفي الضخم إلا بسبب مشاركتهافي استغلال ثروات الشعوب المسحوقة.
3 – إن سويسرا تتمتع بمركز اقتصادي رفيع، ولكن هذا المركز يخفي وجهاً قبيحاً، لأنه يضع الاقتصاد في خدمة الاحتكار واللصوصية، لا في خدمة الشعوب.
4 – إن سويسرا تعيش في ظل واجهة زائفة من الديموقراطية لأن الحكم فيها يخضع لسيطرة أرباب الشركات الاحتكارية.
ــــــــــــــــــــ
(*) دراسة نشرت في مجلة شؤون فلسطينية، العد 63/64، شباط – آذار (فبراير – مارس) 1977.
5 – إن سويسرا تخدع الشعوب بأسطورة حيادها، لأنها ما زالت تستغل هذه الأسطورة لتحقيق أغراض مادية واستعمارية.
وسنعالج هذه النقاط بشيء من التفصيل.
أولاً – نظام الكانتونات وامتيازات اليمين
ماذا يقصد اليمين اللبناني عندما يتحدث عن نظام الكانتونات؟
إنه يقصد النظام الدستوري والسياسي المطبق في الاتحاد السويسري أو (حسب التسمية الرسمية للدولة السويسرية) الكونفدرالية السويسرية. وكانتون كلمة من أصل إيطالي تعني: المقاطعة أو المنطقة أو الولاية.
وسويسرا مكونة، حالياً، من 22 كانتوناً أو ولاية ذات سيادة، كما ينص على ذلك الدستور الدستوري. ومن المحتمل أن ينضم إلى العدد الراهن كانتون جديد يحمل اسم جورا Jura، مكون من المناطق الشمالية الناطقة بالفرنسية، والداخلة في ولاية برن، منذ عام 1815. فسكان هذه المناطق يناضلون منذ أعوام للانفصال عن ولاية برن وتكوين ولاية خاصة بهم. وقد تم الاتفاق على إجراء استفتاء شعبي في العام القادم للبت في موضوع إنشاء الكانتون الجديد.
وتاريخ سويسرا حافل بالأحداث المثيرة. وهي لم تصل إلى نظامها الاتحادي إلا بعد سلسلة من الحروب والمعارك الدينية والسياسية، كانت آخرها الحرب الأهلية التي نشبت في عام 1847 بين المقاطعات الكاثوليكية المحافظة والمقاطعات البروتستانتية المتحررة، وتمت الغلبة فيها للبروتستانتيين الذين خاضوا غمار تلك الحرب القصيرة بقيادة جنرال كاثوليكي، هو دوفور Dufour، وعقد مؤتمر وطني بعد الحرب تمخض عن دستور عام 1848، الذي تم إبداله، في عام 1874، بالدستور الراهن للاتحاد.
وفي غمرة الأحداث اللبنانية، وبعد إخفاق فكرة التقسيم، أقدم أقطاب اليمين على طرح فكرة الكانتونات كمخرج للأزمة وبديل للصيغة التي أرسى قواعدها الميثاق الوطني. ويبدو أن الفكرة وبديل للصيغة التي أرسى قواعدها الميثاق الوطني. ويبدو أن الفكرة من وحي أميركي ومباركة أوروبية. وكان الدكتور شارل مالك أول من لوح بها وبشر، ففي تموز (يوليو) الماضي أدلى بتصريح قال فيه: "إن الولايات المتحدة تنظر إلى الحرب اللبنانية من زاوية أنها تتركب من ثلاثة أشياء: حرب داخلية أهلية، وحرب فلسطينية – لبنانية، وحرب راديكالية – شيوعية أو انقلابية عالمية". وأضاف إنه لا يملك معلومات عن خطة أميركية للتقسيم ولكنه يتصور اليوم "بعد الذي حصل في لبنان، صار عند الأميركان استعداد للنظر في المساهمة في إيجاد نوع من التنظيم الداخلي الذي يؤول إلى الاستقرار، وهذا قد يشمل شيئاً من الفدرالية أو نظام الكانتونات، ولكن من ضمن إطار وحدة لبنانية". وأكد في نهاية حديثه "إن لبنان هو واقعياً مقسم"( ).
وبعد أسابيع عاد الرئيس السابق شارل حلو من أوروبة، بعد غياب استمر ستة أشهر، وأدلى بتصريح لإذاعة هولندا استهله بالدعوة إلى اعتماد نظام الكانتونات والعمل باللامركزية في المجالات الاقتصادية والإدارية والمالية، معتبراً أن هذه الخطوة مرحلية ولا بد منها إعادة توحيد لبنان شعباً وأرضاً. وأكد في حديثه، على أن لبنان هو سويسرا الشرق، وتساءل: "ولماذا لا يكون لبنان سويسرا الشرق على الصعيد السياسي؟"( ).
وعلى أثر هذا التصريح كثر الحديث عن مشروع الكانتونات. وذكرت بعض الصحف أن صيغة جديدة ومفصلة لمشروع سمي بمشروع "الإدارة الجديدة للبنان" قد عرضت، في إطار من السرية التامة، على الرئيس فرنجية، وأن هذه التسمية التي تم اختيارها ليست غير مشروع نظام الكانتونات، الذي يقسم لبنان إلى مجموعة مقاطعات تتمتع كل منها بالاستقلال الذاتي والحكم المحلي، وأن المشروع استوحى دستور الدولة السويسرية، وأن بعض كبار القانونيين في أوروبة درسوه من مختلف النواحي قبل صبه في صياغته الأولية الحالية( ).
وفي اليوم الذي توجه فيه الرئيس حلو إلى الأردن، موفداً من قبل "جبهة الكفور" لإجراء اتصالات بالملك حسين والمسؤولين في عمان، أشارت بعض الصحف إلى أنه يحمل اقتراحاً (مشفوعاً برسالة من الرئيس شمعون، صديق الملك حسين) بحل الأزمة اللبنانية عبر نظام الكانتونات واللامركزية، لأن الهدف من الزيارة هو الوقوف على رأي الأردن في الاتحاد الكونفدرالي (بين الأردن وسوريا ولبنان والمقاومة الفلسطينية)، وفي نظام الكانتونات للبنان تمهيداً لطرحه على دمشق مقروناً بموافقة الأردن( ).
وفي نفس اليوم تضمن التصريح اليومي للشيخ بيار الجميل إشارة واضحة إلى اتفاق أقطاب اليمين على مخطط الكانتونات، فقد تحدث عن بناء لبنان عن طريق إحياء التعايش الإسلامي المسيحي، وقال إن ذلك غير ممكن "إلا إذا أتيح للمسيحيين أن يمارسوا نوعاً من العناية المباشرة بشؤونهم... أن يتاح لهم أن يكونوا أحرار في مناطقهم على الأقل، فلا تفرض عليهم الفوضى الفلسطينية ولا مطامع اليسار الدولي ولا شهوة الأقلية الفاجرة إلى التسلط والسيطرة"( ). وفي اليوم التالي صعد صراحته إلى حد الدعوة إلى نظام لامركزي يكون أساسه "الوحدة في التعددية". وفهم الجميع أن الترجمة الصحيحة لكلامه هي الدعوة إلى إقامة نظام الكانتونات( ).
وعندما أصبح هذا النظام المشروع المفضل لليمين اللبناني أسرع الدكتور هنري كيسنجر \وزير الخارجية الأميركية آنذاك) إلى الترويج له عن طريق الحديث عن مشروع إعادة توحيد لبنان على أساس الكانتونات، لأنه "يجب أن يكون لكل من الطائفتين المسيحية والإسلامية نمط حياة خاص يتوافق مع التقاليد الخاصة بكل منهما"( ).
وفي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، اقترحت اللجنة السياسية المنبثقة من "مؤتمر البحوث اللبنانية – الكسليك" أربع صيغ لبناء لبنان الجديد، دون أن تخفي تفضيلها للشكل الاتحادي للدولة. والصيغ الأربع هي:
1 – صيغة الميثاق الوطني المعدل بموجب وثيقة 14/2/1976 (أي ما سمي بالوثيقة الدستورية).
2 – صيغة الدولة الوحدوية العلمانية.
3 – صيغة الدولة الاتحادية المؤلفة من مقاطعات ذات استقلال داخلي واسع، يتأمن داخل كل منها أكبر مقدار ممكن من التجانس السكاني، وتلتقي في اتحاد تمارس داخله مشاركة متساوية في الحكم وتتمتع كل منها بحق النقض.
4 – صيغة الدولة الفدرالية ذات المقاطعات التي تتمتع باستقلال داخلي وتشارك في الحكم المركزي دون أن يكون لها حق النقض، إذ أن المناصفة في التمثيل والتصويت بأكثرية مزدوجة يعوضان ضمانات هذا الحق( ).
وتبنى حزب الوطنيين الأحرار فكرة الكانتونات، فدعا الرئيس شمعون إلى تطبيقها على الطريقة السويسرية بحيث يكون لكل كانتون دستوره وجهاز حكمه. ولكن المحامي موسى برنس (وهو من المنظرين في الحزب) اقترح مشروعاً، عرضته صحيفة الحزب مع خرائط تفصيلية، وأسماه "المناطقية"، تصل اللامركزية فيه إلى درجة الكونفدرالية، ليس بين الطوائف، وإنما بين المناطق الثلاث التي سيتكون منها لبنان الجديد( ).
ونلاحظ أن كل حديث عن الكانتونات يقترن بالمثال السويسري ويتضمن رغبة عارمة في تحويل لبنان إلى سويسرا شرقية، أو سويسرا الشرق. ويبدو أن إعجاب اليمين اللبناني بسويسرا له ما يبرره، فهو نابع، في الدرجة الأولى، من المركز الرفيع الذي تتبوأه سويسرا في مجال القدرة المالية والاقتصادية، فعلى رغم ضآلة مساحتها (41.295 كلم2)، وقلة سكانها (6.5 مليون)، فإنها تعتبر السوق المالي الأول في العالم، والسوق العالمي الأول للذهب، والسوق العالمي الأول لتثنية التأمين Reassurance. وتأتي في المرتبة الثالثة في العالم من حيث القوة المالية، وفي المرتبة الحادية عشرة من حيث القوة الصناعية. وهي مركز أقوى صناعة غذائية في العالم. والسويسريون هم الشعب الثاني الأكثر ثراء في الدنيا( ). وفي بلادهم أكثر من أربعة آلاف مصرف، ففي مدينة لوغانو Lugano وحدها، التي لا يزيد عدد سكانها على 25 ألف نسمة، أكثر من 300 مصرف، وشركة مالية، ووكالة استثمار.
وإعجاب اليمين اللبناني بالنظام السويسري ليس بالأمر المستغرب، لأن اليمين، أنى كان، يطمح إلى تبني النظام السياسي والاقتصادي الذي يستطيع أن يحقق له أكبر قدر ممكن من الخدمات والتسهيلات.
ويمكننا تلخيص الميزات البارزة التي يتسم بها النظام السويسري، والتي تستهوي أهل اليمين في كل قطر وتجعلهم يتمنون نقل التجربة السويسرية إلى أوطانهم، بالأمور الأربعة التالية:
1 – المركز المالي والمصرفي الحر الذي تتمتع به سويسرا.
2 – نظامها الاقتصادي الذي يجعلها من أغنى الدول.
3 – نظامها البرلماني الديموقراطي الذي يطبق بحكمة ومسؤولية.
4 – حيادها الذي يضرب به المثل.
ولو تركنا جانباً ما تزودنا به وسائل الإعلام (التي توجهها الاحتكارات الدولية) عن الأوضاع السويسرية، وحاولنا الغوص في الأعماق، فماذا نجد في سويسرا؟ هل يستحق نظامها السياسي والاجتماعي والمالي والمصرفي تلك الهالة من القداسة والإكبار التي تضفي عليه؟ هل يصلح النظام السويسري لأن يكون قدوة حسنة للدول، ولا سيما النامية منها، التي تسعى، بالطرق الشريفة والمشروعة, إلى توفير السعادة الدائمة لمواطنيها والإسهام مع غيرها من الدول المحبة للسلام في إزالة أسباب الخصام؟ وبتساؤل موجز: هل سويسرا هي، حقاً، ذلك البلد المثالي الساحر الذي تتحدث عنه بعض الكتب كما تتحدث الكتب السماوية عن الجنة التي وعد بها المتقون؟
إن لسويسرا وجهاً آخر غير مألوف يختلف كل الاختلاف عن الصورة المرتسمة في أذهاننا عنها. ولعل الإمبريالية العالمية (المستفيدة الأولى من الخدمات التي يوفرها لها هذا البلد) هي التي تحرص كل الحرص على إخفاء وجه سويسرا الحقيقي خوفاً من تعرض وجودها (وجود الإمبريالية) ومصالحها للخطر.
وللكشف عن الوجه الآخر يمكننا الاعتماد على ما كتبه بعض المفكرين السويسريين المرموقين، من ذوي الضمائر الحية والجرأة النادرة والوطنية الصادقة. ويأتي جان زيغلر Jean zeigler، الأستاذ الجامعي والنائب في البرلمان السويسري، في طليعتهم. فقد نشر في العام الماضي كتاباً رائعاً بعنوان "سويسرا فوق كل شبهة"، اعتبر فيه أن وطنه أصبح العقل المدبر لوحش عالمي اسمه الإمبريالية. ومن هذا الكتاب القيم سنستقي كثيراً من المعلومات( ).
ثانياً – الوجه الآخر لمركز سويسرا المالي والمصرفي
يريد أهل اليمين أن يصبح لبنان، كسويسرا، مركزاً مالياً ومصرفياً حراً تتكدس فيه أموال الدنيا. وهم يعلمون أن لبنان لن يصبح كذلك إلا إذا وافق شعبه على أن يقوم بلده بتأدية نفس الدور الذي تمارسه سويسرا داخل النظام الإمبريالي العالمي. فسويسرا تقوم بدور المخبأ أو المخزن أو المستودع لمسروقات الامبريالية. إن الأوليغارشية الإمبريالية، المتواطئة مع الأوليغارشيات المحلية، تحتاج إلى بلد آمن يسمح تشريعه المصرفي وتسهيلاته النقدية واستقراره السياسي بتكديس الأموال المسروقة من العالم الثالث فيه واستثمارها من جديد بغية تحقيق أرباح جديدة خيالية.
وقد وجدت الأوليغارشية العالمية ضالتها في سويسرا. ولم يخيب حكام سويسرا آمالها. فالأموال المسروقة تحول إلى سويسرا بوسائل مشروعة وغير مشروعة. والمصارف نفسها تشارك سراً في تنفيذ هذه المهمة. وهناك مهربون محترفون ينقلون الأموال النقدية من مختلف الدول إلى المصارف السويسرية مقابل عمولة تصل أحياناً إلى 7%( ).
والغريب أو المستغرب أن الصحافة، بشكل عام، تحجم عن نشر أية معلومات رسمية عن مقدار المبالغ الفلكية المهربة إلى سويسرا. وكلما سئل المجلس الفدرالي (الحكومة) عن ذلك أكد جهله بحجم هذه المبالغ، وبمصدرها، وبأمكنة إيداعها، مع أن الجميع يعلمون أن المصارف الخمسة الرئيسية في سويسرا تسيطر وحدها على نسبة من المبالغ توازي قيمة الإنتاج القومي، وأن الرساميل المهربة لا تخضع للضريبة في أقطارها الأصلية، وأن بعض هذه الرساميل هو ثمرة أعمال إجرامية قابلة للعقاب، وأن مصدر كميات كبرى من الأموال هو الطبقات الحاكمة في الدول النامية، وأن الدول التي تفقدها تتشدد عادة في إخراج الرساميل منها. ويمكننا إيراد ثلاثة أمثلة:
1 – بعد انهيار النظام الدكتاتوري في البرتغال، في نيسان (أبريل) 1974، هُرّبت أموال كثيرة إلى الخارج، على الرغم من صدور مراسيم تحظر ذلك. وفي تموز (يوليو) 1975، نشر مصرف البرتغال تقريراً جاء فيه أن أكثر من مليار (اسكودو) هربت من البلاد بشكل أوراق نقدية ما بين نيسان 1974 ونيسان 1975، وأن مصارف الدول التي تلقت هذه المبالغ قد أعادتها إلى مصرف البرتغال لاستبدالها بالذهب أو بالعملات الصعبة. وأكد التقرير على أن المصرف الوطني السويسري كان له حصة الأسد في هذه العملية.
2 – عندما خلع الانقلابيون الأثيوبيون، في أيلول (سبتمبر) 1974، الإمبراطور هيلاسيلاسي، اكتشفوا أنه كان يستولي على كميات الذهب المستخرجة من بلاده ويحولها إلى الخارج. وقدروا أن الرساميل التي أودعها في المصارف الأجنبية، ولا سيما في المصارف السويسرية، تبلغ 6 مليارات من الدولارات وقد أقدم على ذلك على الرغم من فقر شعبه وحاجة بلده إلى الرساميل لإنجاز بعض المشاريع العمرانية واستثمار بعض الخيرات المدفونة في الأرض.
3 – في 12 نيسان (أبريل) 1975، ذكرت مجلة "التايم" أن طائرة سويسرية حطت في مطار سايغون في نهاية مارس من نفس العام، أي قبل أيام من الإطاحة بالجنرال ثيو، رئيس جمهورية فيتنام الجنوبية، والمارشال لون نول، رئيس جمهورية كمبوديا، وكانت تحمل مواد غذائية ومعدات طبية. وبعد تفريغ شحنتها اتصل رجال القصر الجمهوري في سايغون بقائدها وطلبوا منه نقل 16 طناً من الذهب إلى سويسرا لحساب الرئيسين المذكورين.
ويبدي أهل اليمين إعجابهم البالغ بسرية المصارف في سويسرا، فما هي، في الحقيقة، سرية المصارف؟
إنها أسلوب متقن وبارع يقضي بتشجيع بعض المارقين من رجال الحكم في الدول النامية على تهريب أموال شعوبهم وإخفائها في دهاليز المصارف السويسرية. وهي كذلك أسلوب ذكي للاستيلاء على ما يتيسر من هذه الأموال عندما تسمح الظروف بذلك.
وإذا حدث، مثلاً، أن أودع مبلغ ما في أحد المصارف السويسرية وأحيط بالسرية التامة، وتبين فيما بعد أن المبلغ مسروق وأن هناك من يطالب به، فإنه يصبح بحكم المستحيل تقريباً استعادة المبلغ. فلكي يحق لمدع ما حجز حساب للغير في المصرف يتوجب عليه التقدم بطلب يحدد فيه اسم صاحب الحساب، وهويته، ورقم حسابه، واسم مصرف الإيداع، والقيمة التقريبية للمبلغ المودع. ومن النادر أن تكون في حوزته كل هذه المعلومات. وحتى لو حصل عليها ورفعها إلى السلطات المختصة فمن المحتمل (والتجارب تثبت ذلك) ألا يحصل على بغيته. ولو تصورنا أن الشكوى رفعت إلى المراجع القضائية فإن صاحب الحساب لا يعدم وسيلة لتهريبه، فيكفيه أن يتصل هاتفياً بالمصرف ليطلب منه تغيير رقم حسابه فوراً، أو تحويل الحساب إلى مكان أو مصرف آخر.
إن عدداً كبيراً من القادة والسياسيين الذين سيطروا على مقدرات الدول النامية (وأحياناً مقدرات الدول المتقدمة) قد تمكنوا من الاستيلاء على قسم من ثروات بلادهم وتحويله إلى المصارف السويسرية. وبعد الإطاحة بهم لم يتمكن القادة الجدد الذين حلوا محلهم من استعادة هذه الأموال بسبب سرية المصارف. فالنظام الجديد الذي خلف نظام الدكتاتور تروخيو، الرئيس السابق لجمهورية الدومينيكان، طالب مرات ومرات باستعادة الأموال التي ابتزها أبناء تروخيو وأودعوها مصارف سويسرا، فلم يوفق حتى الآن. وتقدر هذه الأموال بنصف مليار دولار.
وقصة محمد خيضر وأموال جبهة التحرير الجزائرية المودعة في أحد المصارف السويسرية ما زالت ماثلة في الأذهان. فقد كان خيضر أميناً لصندوق الجبهة. وقبل استقلال الجزائر أودع البنك التجاري العربي (وهو سويسري) مبلغ خمسين مليون فرنك سويسري. وفي عام 1964، وعلى أثر الخلافات بين أعضاء المكتب السياسي للجبهة، حل السيد آيت حسين محل خيضر، فعهدت إليه الحكومة باسترجاع المبالغ من سويسرا. ولكن خيضر سارع إلى تحويل قسم منها إلى خارج سويسرا. ورفعت القضية إلى المحاكم الفدرالية في لوزان (وهي المحكمة العليا في البلاد)، فكان جوابها واضحاً: إن خيضر هو الذي وضع المبلغ في المصرف، والمصرف لن يسلمها إلا لصاحبها. وهذا الحكم قد صدر في صيف عام 1974، أي بعد عشر سنوات من إقامة الدعوى، وبعد اغتيال خيضر. وما زالت أموال الجبهة (وهي مبالغ مكونة من الاشتراكات المالية التي تبرع بها العمال الجزائريون في فرنسا ما بين عام 1954 و1962) قابعة في خزائن المصرف السويسري. وقد تبقى مدة في حوزة المصرف قبل أن تصدر الحكومة السويسرية مرسوماً بتوزيعها على المؤسسات الخيرية، ومنها المبرات اليهودية( ).
وماذا تفعل سويسرا بالرساميل المهربة والمخزونة في مصارفها؟
إن الطبقة الحاكمة تدلي بعدة حجج، لعل أهمها الحجة القائلة بأن هذه الرساميل ضرورية لتمويل الإنتاج القومي في سويسرا. ولكن الحجة واهية لأن الادخار القومي فيها يكفي وحده لتمويل كل مشاريع الازدهار الاقتصادي. إن الرساميل المهربة ضرورية، في الحقيقة، لشيء آخر، لتمويل عمليات مشبوهة ومغامرات استغلالية ترسمها الإمبريالية وتنفذها الأنظمة المتواطئة معها. وما حل بدولة التشيلي أعظم مثل على ذلك.
ففي الخمسينات من هذا القرن، وبعد ظهور بعض الحركات الوطنية في العالم النامي، قررت الإمبريالية العالمية التصدي بسرعة لأية حركة تحررية. وهذا ما فعلته، وبشكل مباشر، في دول أميركا اللاتينية ابتداء من عام 1956، وخصوصاً بعد نجاح حركة كاسترو في كوبا. وهذا ما فعلته كذلك في افريقية، بعد نجاح الثورة المصرية في عام 1952، وظهور لومومبا في الكونجو البلجيكي في عام 1960.
ولكن هزيمتها في فيتنام لقنتها درساً يتلخص في وجوب الاعتماد على الحلفاء والعملاء لقمع حركات التحرر. وغيرت أسلوب عملها، فلم تعد تتدخل مباشرة، بل أصبحت تعتمد على الأنظمة الخاضعة لها، أو المتواطئة معها، للقيام بنفس الدور. ومثل ظفار لا يحتاج إلى شرح. إن الإمبريالية العالمية تقف بالمرصاد لأية حركة ترمي إلى تغيير أي نظام رجعي أو متخلف، والأنظمة العميلة تنتظر إشارة منها للانقضاض على بوادر التحرر.
وحتى لو حدثت الثورة الداخلية بالطرق السلمية والدستورية فإن الإمبريالية مستعدة لخنقها مالياً واقتصادياً. وما حصل في التشيلي مثال صارخ على التكتيك المستحدث الذي تبعه الإمبريالية. فمنذ أن تسلم الرئيس المنتخب الراحل، سلفادور اللندي، سلطاته الدستورية، في أواخر عام 1970، بدأت الإمبريالية تنظم وتنفذ أعمال التخريب والمقاطعة ضد اقتصاد التشيلي. وكان للأوليغارشية السويسرية الحاكمة باع طويل في خنق النظام الديموقراطي الذي أطل على هذا البلد. وقد تم ذلك بواسطة تخريب القطاعات المهمة في اقتصاده وخصوصاً قطاع المواد الغذائية الذي تسيطر عليه الشركات السويسرية. ودخلت الإمبراطوريات المصرفية السويسرية حلبة الصراع فامتنعت عن تقديم أي اعتماد أو عون للنظام الجديد. واشتركت وكالة الاستخبارات الأميركية في المؤامرة فأفسدت (باعتراف رئيسها السابق) كبار الموظفين وحرضتهم على ارتكاب الأخطاء الجسيمة لعرقلة أعمال الدولة( )، ولم تتورع عن توزيع ملايين الدولارات في البلد وتحريض أعضاء النقابات على الإضرابات والاستمرار فيها مقابل إغراءات مالية كبيرة( ). ودمغت الحكومة السويسرية نفسها بالتواطؤ عندما رفضت، خلافاً للبروتوكول، تنكيس أعلامها عند مقتل الرئيس اللندي، وإرسال برقية تعزية إلى أرملته.
ثالثاً – الوجه الآخر للنظام الاقتصادي الحر في سويسرا
لو قمنا بدراسة عميقة وموضوعية لهذا الاقتصاد لخرجنا منها بخيبة أمل مريرة، ولاكتشفنا أن سويسرا ليست سوى نظام تسيطر عليه أوليغارشية ضيقة الأفق تسخر التشريع والأنظمة السياسية والاقتصادية والانتخابية والعقائدية لخدمة مآربها. وبفضل نظام مصرفي مصاب بالتضخم أو الانتفاخ غير الطبيعي يعتمد على السر المصرفي وعلى الحسابات المرتكزة إلى الأرقام لا الأسماء، استطاعت هذه الأوليغارشية تحويل بلدها إلى مخبأ ضروري لمسروقات النظام الرأسمالي، وتحويل نظامها إلى جهاز امبريالي مساعد للإمبريالية العالمية.
إن أسياد المصارف السويسرية الكبرى لا تقتصر أعمالهم على الشؤون المالية، بل هم يمارسون كذلك وظائف سياسية. إنهم ينجزون مهمات استعمارية، فهم، مثلاً، يشتركون مع الإمبريالية العالمية في خنق النظام الشعبي الديموقراطي في التشيلي عن طريق تخفيض الاعتمادا المصرفية له ثم قطعها عنه. وهم يسهمون بقدراتهم المالية الهائلة، في تعزيز الأنظمة العنصرية في جنوب أفريقية وروديسيا، وفي إطالة عمر الأنظمة الدكتاتورية الطاغية في مختلف أنحاء العالم. إنهم يفسدون الرأي العام في سويسرا ويشوهون نضال الشعب السويسري عندما يحاولون إقناعه بوجود انسجام أو تناغم تام بين مصالحه وأهدافه الوطنية وبين استراتيجيتهم القائمة على نهب ثروات الشعوب المسحوقة.
إن الإمبريالية، التي اعتبرها لينين أعلى مراحل الرأسمالية، تعاني اليوم أزمة. ولكنها ليست أزمة احتضار، بل أزمة تكيف وإعادة تكوين. إن الهدف الأساسي للإمبريالية هو استغلال الشعوب. وكانت طريقة الاستغلال في الماضي تتم بواسطة دولة أو دول قوية. وبعد ظهور المعسكرين العالميين وانتشار نزعة الاستقلال والحرية لدى الشعوب المضطهدة، أدركت الإمبريالية أن الأسلوب القديم لم يعد صالحاً أو اقابلاً للحياة، فعمدت إلى تبني أسلوب آخر لا يعتمد على الاجتياح والاحتلال. لقد حلت الشركات العالمية ذات الجنسيات المتعددة محل الدول الاستعمارية. وتهدف هذه الشركات إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية عن طريق سيطرتها على الأنظمة السياسية في العالم. وقد عمدت مؤخراً إلى إلغاء فكرة التنافس فيما بينها لئلا يسيء ذلك إلى قدرتها على نهب الشعوب.
وسويسرا هي اليوم المقر المركزي والرئيسي لهذه الشركات الضخمة. وهي تقوم بدور الحليف للإمبريالية العالمية. وعلاقاتها الاقتصادية والتجارية بالدول النامية مؤشر مهم، ففي عام 1971 (وحسب إحصاءات الإدارة الفدرالية للجمارك في سويسرا) كانت قيمة الصادرات السويسرية إلى هذه الدول 4.9 مليارات من الفرنك السويسري، مقابل 2.6 مليارات من الواردات. وفي نهاية عام 1972، بلغت قيمة الاستثمارات السويسرية الخاصة في العالم الثالث أربعة مليارات.
رابعاً – الوجه الآخر للديمقراطية السويسرية
عندما يسأل عشاق الديموقراطية السويسرية عن سر ولعهم بها يجيبون بأن الأمر بسيط لا يحتاج إلى شروح. إن السر يكمن في أن هذا النظام الديموقراطي يزخر بميزات كثيرة، أهمها: قدرته على تحقيق التطور السياسي للبلد بشكل هادىء ورصين، وكفالته لحرية الرأي والتعبير، وتأمينه لحرية العمل الجاد والمنافسة الشريفة للأحزاب السياسية، وتطبيقه لنظام برلماني سليم. غير أن هذه الميزات، عندما توضع تحت مجهر الواقع الأليم، لا تقوى على الصمود.
1 – إن المتعمقين في الدراسات السويسرية يؤكدون أن تاريخ سويسرا لم يكن هادئاً، وأن تطورها السياسي، عبر العصور، لم يكتمل إلا عبر المآسي والآلام. فأصل الاتحاد السويسري يعود إلى ميثاق التحالف الذي أبرمته، في عام 1291، ثلاث مقاطعات بقصد الدفاع عن نفسها ضد السيطرة النمساوية والجرمانية. وفي عام 1315، جرت معارك طاحنة حاسمة بين الطرفين انتهت بطرد المستعمر الأجنبي من المقاطعات. وارتفع عدد المقاطعات، آنذاك، إلى الثلاث عشرة، واتسم تاريخ البلاد بسيطرة الإقطاعية والمركزية وبانتشار الفوضى والاضطرابات في العلاقات المتبادلة بين المقاطعات.
وفي نهاية القرن الثامن عشر بدأت العناصر التقدمية في الشعب السويسري تتحرك للمطالبة بالوحدة الوطنية وبتحويل الكانتونات إلى دولة موحدة. وكانت الثورة الفرنسية مناسبة كبرى للتعبير عن نقمة الشعب السويسري على النظام الإقطاعي المستبد ونظام كانتوناته الهزيل. ولكن الجيوش الفرنسية التي احتلت سويسرا، في عام 1798، وفرضت عليها دستوراً جعلتها بموجبه "جمهورية سويسرية موحدة وغير قابلة للتجزئة" ارتكبت خطأ فادحاً عندما أرادت إخضاعها لتوحيد مطلق سابق لأوانه، على غرار التوحيد الذي حققته الثورة في فرنسا. وكان من نتيجة هذا الخطأ أن نشبت في عام 1800، ثورة في سويسرا أطاحت بالحكومة التي تشكلت بحماية حكومة "المديرين" الفرنسية. وبعد عام اندلعت حرب أهلية بين المقاطعات حدت بنابليون إلى التدخل( ).
وفي عام 1815، وعلى أثر انهيار الإمبراطورية النابليونية، ارتفع عدد المقاطعات المنضمة إلى التحالف السويسري إلى اثنتين وعشرين، وظهر في البلاد تياران: وحدوي واتحادي. غير أن كفة التيار الاتحادي هي التي رجحت.
وتأثرت سويسرا، في النصف الأول من القرن المنصرم، بالتيارات الديموقراطية والتحررية التي هبت على الغرب. وشهدت الصناعة فيها تطوراًً محسوساً حملها على توحيد أنظمتها المالية والاقتصادية، وإلغاء الجمارك بين مقاطعاتها، والبحث عن أسواق خارجية لتصريف منتوجاتها. ولكن الخلافات والمنازعات الدينية عادت لتعكر صفو العلاقات بين المقاطعات الكاثوليكية (الأقل عدداً وثروة) والمقاطعات البروتستانتية. وفي عام 1847، اندلعت حرب أهلية خاطفة فيها انتهت بانتصار المقاطعات الأخيرة.
وما دمنا نتصفح تاريخ سويسرا فلا بد لنا من الإطلاع على صفحة سوداء فيه. لقد عرف السويسريون، بعد عام 1315، فترة سلام اتسمت بتكاثر السكان وقلة الموارد. ولكن حكامهم، الذين كانوا ينتمون إلى الطبقة الإقطاعية، استنبطوا حينئذ وسيلة بارعة وغريبة لحل مشكلة التضخم السكاني، فراحوا يبيعون أو يؤجرون، علناً ورسمياً، العدد الفائض من مواطنيهم للحكومات الأوروبية التي كانت تستخدمهم كمرتزقة في جيوشها وتخوض، بسيوفهم وأرواحهم، حروب التوسع والسيطرة، إرضاء لنزوات ملوكها أو تحقيقاً لأطماعهم، فكان أبناء المقاطعات السويسرية، وجلهم من الفقراء المعدمين، يموتون أو يشوهون من أجل أهداف لا تعود على بلدهم بأي نفع أو خير. وفي نهاية القرن الثامن عشر كان هناك أكثر من سبعين ألف سويسري مجندين، بشكل دائم، في الجيوش الأوروبية.
ومما تقدم نستنتج أن تاريخ سويسرا لم يكن، كما يتصور البعض، ناصع البياض، وأن تطورها السياسي والاجتماعي لم يتم، كما يزعم البعض، بشكل متزن وهادىء.
2 – والمطلعون على الأوضاع العامة في سويسرا يعرفون أن الدستور ينص على وجوب احترام الحريات العامة، وخصوصاً حرية الرأي والتعبير، ولكنهم يعرفون كذلك أن ثمة فرقاً أو هوة بين النص المكتوب والممارسة الفعلية. إن معظم الدول التي تخضع لأنظمة رأسمالية أو أوليغارشية تحرص على تزيين دساتيرها بأروع ما قيل عن تقديس الحريات العامة، تاركة لرجالها مهمة التلاعب بهذه الحريات والتحايل عليها.
صحيح أن الحريات العامة في سويسرا مكفولة دستورياً. وصحيح أن المواطن يستطيع، إذا شاء، أن يعبر عن رأيه ومعتقده بمختلف السبل المتوافرة. وصحيح أن الحاكمين والمسؤولين يتعرضون، من وقت لآخر، لانتقادات واتهامات لاذعة فيتقبلونها برحابة صدر. ولكن كل ذلك يجري ضمن المخطط الذي تضعه وتنظمه الأوليغارشية الحاكمة. إن حرية الرأي مصونة، نظرياً، ولكنها في الواقع مقيدة. إن النظام القائم قد رسم لها حدوداً معينة لا يجوز لها أن تتجاوزها. وكل مخالفة للأسس والركائز التي يقوم عليها النظام توصف بأنها هدامة وخطرة، وتقمع فوراً أو بعد حين، ويتعرض صاحبها لأنواع شتى من الضغط والوعيد والتهديد.
إن النائب في البرلمان السويسري يتمتع بالحصانة التي تخوله حق التعبير عن آرائه بحرية تامة وبمختلف الوسائل، إلا أن إقدامه على خرق حرمة "المقدسات" التي يفرضها النظام يعرضه لحملة فورية وواسعة النطاق من القمع أو التهديد أو العزل الاجتماعي. فهو، في البداية، ينعت بأنه غير رصين. ثم توصف آراؤه وأقواله بالتطرف والتهور. وبعد ذلك يعمد أهل النظام إلى شن حملة قدح وذم وتحقير ضده، من شأنها الحط من قدره في أعين المواطنين. وهذا ما خبره السيد Arthur Villard، النائب الاشتراكي في البرلمان، عندما حمل على الحكومة لبيعها الطائرات السويسرية من طراز Pilatus-Porter إلى الولايات المتحدة وحلفائها واستخدامها في حرب الإبادة في فيتنام( ).
والمؤلم حقاً أن أهل النظام ما زالوا حتى اليوم يبررون كل تفاوت طبقي، أو على الأقل كل تفاوت في الأجور والرواتب، بنظريات بالية عفى عليها الزمن، مثل نظرية "منطق الأشياء" أو "طبيعة الأشياء".
وإذا كانت المعارضة، في كل بلد ديموقراطي، هي الوجه الأساسي البارز لحرية الرأي والتعبير، فإن أهل النظام في سويسرا يبذلون الجهود ويجندون الطاقات للحيلولة دون توافر الظروف والفرص لظهور معارضة نوعية بناءة. إنهم، على غرار ما يحدث في دول أوليغارشية كثيرة، يسمحون بانتقاد كل شيء ما عدا الأيديولوجية التي يعتنقونها. إنهم يستاهلون بانتقاد الشكل ويفاخرون الغير بمدى ما وصلت إليه الحرية في بلادهم، أما الجوهر الذي يتناول أسس النظام فشيء مقدس لا يخضع للنقد ولا يحتمل المناقشة. ولو حاول أحد المواطنين يوماً أن يتسلح بالجرأة ويهاجم "مقدسات" النظام لهبّت في وجهه على الفور، ومن كل الجهات، زوابع عاتية كفيلة بإخراسه أو تحطيم مستقبله.
3 – والمتخصصون في علم الاجتماع والسياسية يجزمون بأن الأحزاب السياسية في سويسرا لا تقوم بدورها المطلوب ولا تتنافس في سبيل الخير العام.
إن حكام سويسرا يشيدون بنظامهم الديموقراطي الذي لا يخضع لدكتاتورية البروليتاريا، ولا لسطوة الحزب الواحد، بل لحكم الأحزاب المتحالفة المتعاونة. ولكن ما هي القيمة الفعلية للأحزاب السويسرية، ولا سيما للأحزاب الحاكمة؟ وما هي الفروق الأيديولوجية البارزة بينها؟ وما هو مدى تأثيرها في الحياة العامة؟
في سويسرا 29 حزباً. وفيها ثلاثة ملايين ناخب، لا ينتسب إلى الأحزاب أكثر من 10% منهم. وغالبية الأحزاب تنشط على صعيد إقليمي دون أن يكون لها تأثير في بقية أجزاء الوطن. هناك ثلاثة أحزاب فقط لها وجود ملموس في معظم الكانتونات. والثلاثة، مجتمعة ومتآلفة، لا تحصل على أكثر من 20% من أصوات المقترعين. وهذا يعني أن ليس في البلاد حزب كبير يمثل الأغلبية.
وإذا كانت وسائل الإعلام الموجه في العالم تتحدث بإعجاب وتقدير عن مدى الوعي الاجتماعي والسياسي الذي يتمتع به المواطن السويسري، فإن الحرص على تأدية الواجب الانتخابي يجب أن يكون من مقومات هذا الوعي. ولكن الإحصاءات تشير إلى عدم اكتراث هذا المواطن كلياً بالشؤون الانتخابية، فظاهرة الامتناع عن الاقتراع في سويسرا أمر يسترعي الانتباه ويستدعي التحليل والتفسير. ففي انتخابات عام 1972، ضرب الامتناع رقماً قياسياً فتجاوز 67% وهذه النسبة تقلل من أهمية التمثيل الشعبي وتجعل من البرلمان منبراً لا يمثل أكثر من 30% من الناخبين، وأكثر من 14% من المواطنين (إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد المقترعين وعدد السكان).
4 – وعلماء السياسة يرون أن النظام البرلماني السويسري لا يستحق كل هذه الضجة التي تثار حوله فهذا النظام ككل نظام اتحادي، يتكون من برلمان (يسمى الجمعية الفدرالية) ذي هيئتين تسميان
في سويسرا: المجلس الوطني ومجلس الولايات. والمجلسان يتمتعان بصلاحيات متشابهة، ويتكون الأول من 200 نائب ينتخبون لمدة أربع سنوات بطريقة الاقتراع أو التمثيل النسبي، ويشكل كل كانتون (أو ولاية) دائرة انتخابية. أما مجلس الولايات فيتكون من 44 نائباً، بمعدل ممثلين اثنين عن كل كانتون.
ودراسة بسيطة للحياة البرلمانية في سويسرا تؤكد لنا أن البرلمان لا يمثل الشعب السويسري تمثيلاً صحيحاً:
1 – فالمواطنون الذين تتراوح أعمارهم ما بين 20 و40 عاماً يمثلون الغالبية في الهيئة الانتخابية، ولكن 7% من النواب فقط تنتمي إلى هذه الفئة.
ب – والنساء يشكلن 53% من الهيئة الناخبة، ولكن 15 امرأة فقط استطعن الوصول إلى مقاعد البرلمان. هذا مع العلم أن حق الانتخاب لم يمنح للمرأة السويسرية إلا في عام 1971، في حين أن المرأة اللبنانية قد نالت هذا الحق منذ عام 1952.
ج – وفي سويسرا 1.350.000 عامل، ليس لهم سوى ممثل واحد.
د – والعائلات الغنية الكبرى تتوارث، ابناً عن أب، المناصب النيابية، ففي كل دورة انتخابية يلاحظ المراقبون أن نسبة التغيير في وجوه النواب ضئيلة وأن الأبناء والأنسباء يخلفون الراحلين أو المتقاعدين أو المتغيبين من النواب السابقين.
هـ - والدخل السنوي المتوسط للمواطن لا يتجاوز 18 ألف فرنك، أما الدخل المتوسط المعلن للنائب فيتجاوز 53 ألفاً.
والأوليغارشية السويسرية تحكم سيطرتها على البرلمان ليبقى التشريع رهن إرادتها. وكلما رغب نائب في مناقشة بعض القضايا التي تمس جوهر النظام، أو عمل المصارف، أو العلاقات الخارجية، تصدت له الأوليغارشية وثبطت من عزيمته. وهي تتبع أسلوباً ماهراً في الهيمنة على أعضاء البرلمان والحكومة، وفي ترويضهم وتوظيفهم لخدمة مصالحها. إنها تسيطر على معظم الشركات الكبرى ذات النفوذ الواسع. وكلما توسمت خيراً في نائب جديد وجهت إليه سهام الترغيب والإغراء وعرضت عليه عضوية مجالس الإدارة في شركاتها. بل إنها تكافئه أحياناً (وخصوصاً عندما تثبت من كفاياته وتتلقى خدماته) بترفيعه إلى رئيس لمجلس إدارة إحدى الشركات. وكل ذلك مقابل تعويضات مالية مغرية. و82% من نواب البرلمان السابق كانوا أعضاء في مختلف مجالس الإدارة.
وفي سويسرا حكومة، تسمى المجلس الفدرالي، مكونة من سبعة أعضاء تنتخبهم الجمعية الفدرالية (البرلمان) في بداية كل دورة تشريعية. ويتناوب السبعة على الرئاسة ونيابة الرئاسة. ويعتبر رئيس المجلس الفدرالي رئيساً للاتحاد السويسري. وليس للرئيس صلاحيات خاصة. إنه يتولى تمثيل الاتحاد في الداخل والخارج ويدير جلسات المجلس. والحكومة ليست مسؤولة أمام البرلمان، ولا يمكن إسقاطها خلال الدورة التشريعية. إنها تستمد فترة بقائها من عمر البرلمان.
وهل يطلب من الوزير، قبل انتخابه أو بعده، مؤهلات أو كفايات معينة؟ يطلب منه أن يلتزم الصمت الطويل، فلا يتدخل في المناقشات العامة إلا بحكمة وحذر، ولا يبدي أي رأي أو يقدم أي اقتراح من شأنه عرقلة مخططات الأوليغارشية المهيمنة. المطلوب منه، باختصار، أن يكون إنساناً مغموراً وطيعاً لا لون له ولا طعم.
ذلك هو الوجه الحقيقي للديمقراطية السويسرية. والفئات اللبنانية المغرمة بالتجربة السويسرية تصر على نقلها إلى لبنان لأنها تمكنها، باسم الديمقراطية والحرية، من توسيع حلقة امتيازاتها، وستر عوراتها، وتسخير الدولة لتحقيق مآربها. وإذا كانت تظن أن أروع ما في هذه التجربة ليس النظام السياسي والاجتماعي وإنما التزام الحياد، فهي واهمة، لأن حياد سويسرا فقد فضائله منذ زمن وتحول إلى أداة ووسيلة لخدمة مصالح الطبقة الحاكمة.
خامساً – الوجه الآخر للحياد السويسري
الحياد، في القانون الدولي العام، نوعان: مؤقت ودائم والمؤقت موقف تلتزمه الدولة تجاه حرب معينة لا تود المشاركة فيها. وهو ينتهي بانتهاء الحرب. أما الحياد الدائم فهو مركز قانوني تتعهد فيه الدولة التي تتبناه بعدم اللجوء مطلقاً إلى القوة إلا دفاعاً عن نفسها. ومقابل ذلك تتعهد الدول المجاورة والكبرى، عادة، باحترام هذا الحياد وضمانه ضد كل دولة تحاول خرقه. وسياسة الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر، والرغبة في المحافظة على وجود الدول الصغيرة، والحرص على تجنب الاحتكاك بين الدول الكبرى، والميل إلى إيجاد توازن دولي يقترن بسلام عالمي، هي التي أملت فكرة الحياد الدائم.
والمصدر الأساسي للحياد الدائم هو، قبل كل شيء، اتفاق دولي. وهذا الاتفاق قد يكون معاهدة جماعية، كحياد بلجيكا لعامي 1831 و1839، وحياد اللوكسمبورج لعام 1867. وقد ينتج عن قرارات منفردة متضامنة كحياد سويسرا، الذي صدر عن تصريح أدلت به الدول الموقعة على معاهدة باريس لعام 1815، وعن قرار وقعته الدول الكبرى والبرتغال في نفس العام واعترفت فيه بحياد سويسرا وبعزمها على حمايته واحترامه. وقبلت هذا القرار، بعد ذلك، دول عديدة. وحياد النمسا لعام 1955 مر بنفس المراحل تقريباً.
والغرض الأساسي من الحياد الدائم هو تجنب الأخطار الحربية في منطقة يتنازع عليها الكبار، أو في منطقة يمكن أن تندلع منها شرارة الحرب إذا بقيت مسرحاً للخصومات والمساومات. فالحياد هو، إذن، بمثابة وسيلة أو محاولة تهدف إلى توفير السلام في منطقة خطرة.
وإلى جانب هذا الغرض الجوهري هناك أهداف جانبية خاصة تختلف من دولة حيادية إلى أخرى، فحياد سويسرا، الذي كان قبل عام 1815، تقليداً قديماً لا يخضع لأنظمة واضحة، كان الغرض منه تجنيب المقاطعات السويسرية أخطار الحروب التي كانت محتدمة في أوروبة بين الدول الكاثوليكية والدول البروتستانتية. وبعد مؤتمر فيينا أصبح الهدف من حيادها إقامة سد منيع في وجه المطامع الفرنسية. وبعد تحقيق الوحدة في كل من إيطاليا وألمانيا بدا الحياد كوسيلة فعالة لإنقاذ سويسرا، ذات القوميات واللغات والأديان المختلفة، من أطماع جيرانها الذين كانوا ينادون بوجوب تكوين الأمم انطلاقاً من مبدأ القوميات. ويفسر البعض حياد سويسرا في الوقت الحاضر برغبتها في الابتعاد عن المنازعات بين الشرق والغرب وعن الأحلاف العسكرية. والمعجبون بالحياد السويسري كثيرون، ومنهم أهل اليمين اللبناني. وهم يعتقدون أن هذا الحياد مثل أعلى لكل دولة نامية، ولكل دولة تضم قوميات ومذاهب متعددة. ويبالغ بعضهم فينسب إليه كل المحاسن والميزات والفضائل التي تشتهر بها سويسرا.
وعندما ندقق ملياً في الأمر نجد أن الطبقة الأوليغارشية الحاكمة قد أفرغت الحياد من مضمونه الأصيل لتتمكن من استغلاله في سبيل مصالحها. وهي تردد في كل مناسبة النظرية التي أذاعها مرة Pictet-de-Rochemont وهو دبلوماسي سويسري كان له دور بارز بعد مؤتمر فيينا لعام 1815. فقد كان يحاول إقناع الدول الكبرى بضرورة الحفاظ على الحياد السويسري، معتبراً أن سويسرا قد ارتضت الحياد لخدمة المصلحة الأوروبية. قال: "إن سويسرا لا تلتزم الحياد من أجل نفسها، بل من أجل الآخرين، لأن وجود دولة حيادية في قلب أوروبة يتجاوب مع المصلحة الخاصة لكل دولة من دول القارة". وقال في إحدى المناسبات للسياسي المشهور مترنيخ: "إن الحياد السويسري هو في مصلحة جميع دول أوروبة".
غير ان الأديب الفرنسي Cateaubriand (1732 – 1799) كان، من قبل، قد اكتشف حقيقة هذا الحياد عندما قال: "إن السويسريين الذين يلتزمون الحياد خلال الثورات الكبرى التي تندلع في الدول المحيطة بهم يغتنون من مصائب غيرهم ويؤسسون مصرفاً بفضل الكوارث الإنسانية".
ولو عدنا إلى المعنى اللغوي لكلمة "محايد" في اللاتينية لألفينا أنها تعني "لا هذا ولا ذاك"، أي أن المحايد "ليس أحد الاثنين". وهذا يدل على أن الحياد عمل سلبي. وبما أن سويسرا كانت تمتنع باستمرار عن اتخاذ أي موقف في الحقل الدولي، وترفض الإفصاح عن أي اتجاه، وتذهب في بعض الأحيان إلى حد إنكار حقيقة المنازعات التي تمزق الشعوب، فإن أحد مفكريها، A. Gorz، قد اضطر إلى التأكيد على أن "سويسرا لا وجود لها، بمعنى أن ليس لسويسرا، في الحقيقة، وجود دولي محسوس.
ومع ذلك فإن حكام سويسرا لا يملّون من التطبيل والتهليل لحيادهم، والحديث عن ضرورته لسلام العالم، والتركيز على إيجابيته. وإذا سئلوا عن أبرز معالم هذه الإيجابية أجابوا بأنها تتجلى في الوساطة. فهل تمارس سويسرا، حقاً، هذا الدور؟.
إن دور الوساطة التي تؤديه سويسرا، من وقت إلى وقت، دور متواضع جداً لا يكاد يذكر. بل هو في الواقع لا يستحق هذه التسمية، لأنه ليس سوى تدبير بسيط تقوم به السلطات السويسرية ويسفر عن السماح لطرفين دوليين متنازعين بعقد اجتماعات أو إجراء مفاوضات فوق أرضها. إن العامل الجغرافي هنا يتفوق على كل دور سياسي.
ففي عام 1962، جرت في إحدى المدن السويسرية مفاوضات بين الفرنسيين والجزائريين. إلا أن سويسرا لم تكن، بالنسبة إلى هذا الحدث، إلا مكان لقاء للطرفين المتحاربين. ومع أن الحكومة السويسرية قد انتدبت أحد سفرائها ليكون تحت تصرف الطرفين، فإنه لم يقم أبداً بمهمة وساطة، بل قام بدور ساعي البريد. ولهذا قال المفكر Zeigler: "منذ الحرب العالمية الثانية لم تقبل الحكومة السويسرية مطلقاً، أو بشكل أوضح لم يتح لها أن تمارس وظيفة وسيط حقيقية"( ).
ولعل أخطر ما ينطوي عليه الحياد السويسري في الفترة الراهنة هو رعايته لتجارة الحرب أو تجارة الموت. وتعد هذه التجارة التي تنطلق من سويسرا، الدولة التي تفاخر الدنيا بمحبتها للسلام واحتضانها للعديد من المنظمات الدولية ذات الطابع الإنساني، وصمة عار في جبين حيادها. وتكفي وحدها لنسف كل ركائز الحياد وفضائله من أساسها.
وتجارة الحرب والدمار نشاط أساسي تتقنه الإمبريالية على مختلف أنواعها وأشكالها. بل إن هذه التجارة تعتبر من صلب الإمبريالية التي تبني مجدها ورفاهيتها على أشلاء الضحايا وجثث الأبرياء. وازدهار هذه التجارة ورواجها في سويسرا دليل ساطع على تواطؤ نظامها مع الإمبريالية، وبرهان واضح بالتالي على انحراف حيادها عن الخط السليم المعلن. وتتحمل سويسرا هنا مسؤولية كبرى لأنها تسمح باستخدام أرضها كمركز ومقر ومكان لممارسة هذه التجارة:
1 – فأرضها تستخدم كمركز تجمع وانطلاق لتجار الحرب العالميين، فهؤلاء يتخذون من سويسرا مركزاً لشراء الأسلحة الفتاكة وبيعها ونقلها وإعادة بيعها دون إدخالها إلى الأرض السويسرية. إن هذه العمليات تتم يواسطة مكاتب، موجودة في بعض المدن السويسرية المهمة، تديرها شركات تجارة الحرب.
2 – وأرضها تستخدم كمقر للشركات الكبرى ذات الجنسيات المتعددة والإنتاج المتنوع. وهي من أصل أجنبي، ولكنها تقيم في سويسرا. فزوريخ، مثلاً، مقر لأكبر شركة في العالم لصنع مادة النابالم. وجنيف مقر لأكبر شركة في العالم لصنع القذائف التي تستعمل ضد الأشخاص. وفي كل يوم، وفي جميع أرجاء الدنيا، يستعمل النابالم وتلقى القذائف فيحترق الأطفال وتتمزق أجساد الأبرياء ويعم الخراب. وأكد تقرير رفع إلى مجلس الشيوخ الأميركي، في حزيران 1971، أن مليونين من أطفال فيتنام قد لاقوا حتفهم، ما بين عام 1968 و1971، بسبب استعمال هذه "المبيدات البشرية". وقدمت استجوابات عديدة إلى المجلس الفدرالي السويسري حول هذا الموضوع فأعلن أنه لا يستطيع أن يتخذ أي تدبير ضد هذه الشركات.
3 – وأرضها تستخدم كمكان لإنتاج الأسلحة المختلفة. ففي سويسرا، حالياً، عدة شركات لإنتاج الأسلحة، أشهرها اثنتان يكون كل منهما إمبراطورية كبرى لإنتاج أدوات الموت الزؤام: شركة Buhrle، المتخصصة في صنع الرشاشات والمدافع وأبراج الدبابات. وشركة Sig-Schaffouse، المتخصصة في صنع بنادق الاقتحام. وهذه الشركات تعمل في سويسرا، معززة مكرمة. وهي تحظى برعاية الحكومة ودعمها لأنها، أولاً، تصنع الأسلحة للجيش السويسري، ما يجعلها تدعي بأنها تعمل لخير الوطن، ولأنها، ثانياً، تتمتع بنفوذ مالي كبير يتيح لها تحقيق أرباح فلكية وشراء ضمائر وأقلام عديدة، وهي اليوم تستفيد من وضع أو ظرف تاريخي خاص. إنها لا تنتج غلا القليل من الأسلحة الثقيلة، واختصاصها يقتصر على إنتاج سلاح المشاة، وبنادق الاقتحام، والمدافع المضادة للطائرات، والألغام الموجهة ضد الأفراد. وهناك شركات سويسرية تحتكر صناعة بعض أدوات الدمار في العالم، كطائرة Pilatus المذكورة، الت تحتاج إلى مسافة قصيرة للإقلاع، وتستطيع التحليق على علو منخفض، وتستخدم في حرب العصابات للكشف عن الثوار المتوارين في الغابات.
ومن هو الزبون أو المستهلك الأول لهذه الأسلحة؟.
إنها الدول النامية التي تقبل على ابتياعها من أجل استخدامها في معاركها الحدودية التي تضاعف عددها واشتد أوارها في الآونة الأخيرة، وفي حملاتها الداخلية الرامية إلى قمع الحركات والتيارات المناهضة لأنظمتها السياسية. إن هذه الدول عاجزة عن شراء الطائرات الحربية الضخمة، ولكنها قادرة على ابتياع عدد هائل من الأسلحة الخفيفة وتدريب رجالها عليها بسرقة فائقة. إن المناضل تشي غيفارا قتل، في 8/10/1967، ببندقية اقتحام من صنع سويسري.
ونلاحظ أن معظم الأنظمة الدكتاتورية التي تشتري السلاح السويسري تكرسه لقمع حركات العمال والفلاحين والطلاب فيها. ولهذا أخذت صادرات سويسرا من السلاح تسجل ارتفاعاً مستمراً. ففي عام 1974، بلغت قيمة هذه الصادرات 236 مليون فرنك غير أن الرقم قد وصل إلى 369 في عام 1975. وأشهر زبائن سويسرا في هذا الحقل إسبانيا وإيران وجنوب إفريقيا( ).
وعلاقة سويسرا الوثيقة بالنظام العنصري المقيت في جنوب افريقية تقضي على كل ادعاء بالحياد. فسويسرا تأتي في المرتبة الثالثة بين دول العالم التي تستثمر رساميلها في هذا البلد. وحجم استثمارات الشركات السويسرية فيه ارتفع من 100 مليون فرنك في عام 1956، إلى 1300 مليون في عام 1971. وارتفع حجم الصادرات السويسرية إليه إلى 330 مليون فرنك في عام 1972، بعد أن كان 102 مليون في عام 1962. و80% من ذهب جنوب إفريقية، الذي يباع في السوق العالمية الحرة، يمر بزوريخ.
وفي عام 1968، نظمت الأمم المتحدة مؤتمراً دولياً في طهران حول حقوق الإنسان. وكان يمثل سويسرا في المؤتمر أحد سفرائها البارزين. وقد قال في الكلمة التي ألقاها: "إن الشعب السويسري يدين السياسة العنصرية التي تتبعها جنوب إفريقية". وأثيرت عاصفة ضده في البرلمان السويسري. وطالب البعض بعزله من وظيفته. وحاول وزير الخارجية أن يخفف من وقع هذه "الخطيئة" فلجأ إلى منطق غريب. لقد اعترف بمعارضة الشعب السويسري للعنصرية، ولكنه سارع إلى التأكيد بأن على الحكومة السويسرية ألا تعكر صفو العلاقات بينها وبين جنوب إفريقية، وذلك لسبب بسيط: لأن سويسرا، إذا امتنعت عن تمويل جنوب إفريقية، فسيكون هناك حتماً دولة أخرى تقوم بهذا العمل!
والحديث عن الحياد يقودنا إلى استعراض موقف سويسرا من النزاع العربي الصهيوني. إن جميع الدلائل تثبت (على الرغم من الفوائد الطائلة التي تجنيها سويسرا من ودائع العرب في مصارفها) إن موقفها من هذا النزاع، أو موقفها من مجمل القضايا العربية، يتسم بالتحيز الصارخ لأعداء العرب، ويتنافى بالتالي مع قواعد الحياد التي تعلنها. ويكفينا الاستشهاد بثلاث حوادث تثبت تواطؤ حكامها مع إسرائيل ووضعهم مقدرات بلادهم تحت تصرف الجهاز العسكري الإسرائيلي:
الأولى هي قيام مهندس سويسري يعمل لحساب العدو الصهيوني بسرقة تصاميم طائرة الميراج الفرنسية من أحد الأجهزة الرسمية السويسرية وإرسالها إلى إسرائيل. ومع أن السلطات السويسرية قد علمت بهذا الأمر الخطير، فإنها لم تفعل شيئاً.
والثانية هي مهاجمة أربعة من الفدائيين العرب، في 18/2/1969، لإحدى طائرات العال في مطار زوريخ، مبررين هجومهم بوجود معدات حربية على متن طائرة مدنية. وكانت كل القرائن تثبت ذلك، فالطائرة تتسع لـ162 راكباً، ولم يكن على متنها إلا 17 راكباً. ومع أن نسبة الركاب فيها لم تكن تتجاوز عشر قدرتها القصوى على الاستيعاب، فإن وزنها آنذاك قد بلغ الحد الأقصى من حمولتها. وهذا يعني أن مستودع الأمتعة فيها كان مكتظاً بمعدات غير عادية، مثل الأسلحة والذخيرة وقطع الغيار والأدوات الحربية. ثم أن الطاقم العادي لطائرة البوينغ يتكون، عندما تكون الطائرة كاملة العدد، من ثمانية أفراد. ولكن طاقم الطائرة الإسرائيلية كان مكوناً من 12 شخصاً، وكان أحدهم (وهو أمر مستغرب) يحمل جوازاً مصرياً. وبعد إطلاق النار على الطائرة تدخلت الشرطة السويسرية، وطلبت من الفدائيين التخلي عن أسلحتهم، فانصاعوا. وفي هذه الأثناء، وعلى مرأى من رجال الشرطة قفز من الطائرة حارس إسرائيلي مسلح صوب رشاشه نحو الفدائيين وأردى أحدهم قتيلاً، وطلب الفدائيون من السلطان السويسرية الكشف على الطائرة وتفتيشها، أو على الأقل احتجازها، بغية إجراء التحقيقات السريعة اللازمة، فرفضت. وطالب محامو الفدائيين ببيان عن حمولة الطائرة فتجاهلت سويسرا الأمر. وبعد فترة وجيزة، أفرجت السلطات السويسرية عن الحارس الإسرائيلي بكفالة، ورفضت معاملة الفدائيين بالمثل( ).
والحادثة الثالثة هي تهريب الأعتدة الحربية من سويسرا بالطائرات المدنية الإسرائيلية. ففي 28/1/1970، طالعتنا الصحف السويسرية بخبر مفاده أن مصلحة الجمارك في مطار جنيف قامت بتفتيش بضاعة للترانزيت تشحنها طائرة تابعة لشركة العال، واكتشفت شحنة مهمة من العتاد الحربي كانت معدة للإرسال إلى تل أبيب، وتشمل قطع غيار لطائرات الفانتوم الأميركية. وفتحت النيابة العامة الفدرالية تحقيقاً، ولكنها سرعان ما أسدلت الستار على الفضيحة.
وبعد وقوفنا على بعض الحقائق المرة التي ينطوي عليها النظام السويسري، لا يسعنا، في ختام بحثنا، إلا أن نبدي الملاحظات التالية:
1 – إن دعوة اليمين اللبناني إلى اعتماد نظام الكانتونات لا يمكن أن تفسّر إلا برغبته في تحويل لبنان إلى بلد شبيه بسويسرا، تتحكم بمصيره طبقة أوليغارشية كلما حققت مكسباً، أو كدست مبلغاً، أو ابتزت شعباً، قالت هل من مزيد؟
واليمين يقع في تناقض فاضح عندما يقتبس من الأنظمة السويسرية ما يلائم مصالحه فقط. إن سويسرا، مثلاً، تتبنى نظام التمثيل النسبي في الانتخابات، غير أن اليمين يرفض العمل به بحجة أنه يساعد اليساريين على الوصول إلى البرلمان. وفي سويسرا تعددية حزبية، غير أن اليمين يطالب بإلغاء الأحزاب في لبنان، أو بحصرها بثلاثة فقط مع وضع قيود مشددة على عمل الأحزاب اليسارية. ورئيس الاتحاد السويسري (أي رئيس الجمهورية) هو في نفس الوقت رئيس المجلس الفدرالي (أي الحكومة). وهو ينتخب لسنة واحدة ولا يتمتع بصلاحيات خاصة، لأن سويسرا، كما يقال، تكره السياسيين الأقوياء. ولكن اليمين يطالب دوماً بتقوية صلاحيات رئيس الجمهورية في لبنان، وينادي أحياناً بالنظام الرئاسي.
2 – إن اليمين اللبناني يتجاهل عمداً مسيرة التطور التي قطعها التاريخ السياسي والدستوري في سويسرا. إن الصلاحيات الواسعة التي كانت الكانتونات تملكها في الماضي قد تقلصت وتناقصت بالتدريج. ومعظم التعديلات التي أدخلت على الدستور كانت ترمي إلى تعزيز سلطة الدولة الاتحادية وتركيز الصلاحيات الاتحادية في يد الحكومة. وكل من يتابع تطور النظام الاتحادي في سويسرا يلمس، بصورة واضحة، ذلك الاتجاه الوحدوي الذي يتعاظم شأنه جيلاً بعد جيل فيدفع الكانتونات إلى التقارب والانصهار عن طريق التخلي التدريجي عن صلاحياتها لصالح السلطة المركزية في الاتحاد. وفي الوقت الذي يهب فيه على سويسرا تيار التوحيد والاندماج، يصر اليمين اللبناني على الوقوف في وجه التيار ويدعو إلى إضعاف وحدة الوطن عن طريق تقسيمه إلى كانتونات تتمتع بالحكم الذاتي.
3 – إن اليمين اللبناني قد مني، بعد طرحه مشروع الكانتونات، بخيبة أمل، فلم يلق التأييد الذي كان يتوقعه. وهذا ما دفعه إلى اعتماد تكتيك جديد والدعوة إلى مشروع آخر، آملاً أن يحظى بالقبول ويحقق له نفس الأهداف التي يعمل لها. إنه مشروع اللامركزية. ولكن حديث اللامركزية يحتاج إلى بحث آخر.
الحواشي:
( ) اللواء: 5/7/1976.
( ) السفير، 12/8/1976.
( ) بيروت، 13/8/1976.
( ) السفير، 14/8/1976.
( ) نفس المرجع السابق.
( ) السفير، 15/8/1976.
( ) السفير، 19/10/1976.
( ) النهار، 18/11/1976.
( ) النداء، 12/12/1976.
( ) هذه المعلومات مستمدة من نشرة: Suisse, OCDE, Etudes economiques, Paris, 1975
( ) صدر الكتاب في باريس في عام 1976، بعنوان: Une Suisse au-dessus de tout soupcon.
( ) ذكرت المجلة الألمانية Der Spiegel في 19/1/1976، أن المهربين يتقاضون عمولة مقدارها 7%، وذلك مقابل تهريبهم، بالحقائب، العملة الإسبانية من فئة الألف بيزتا.
( ) في أيلول 1974، أمرت الحكومة السويسرية بتوزيع قسم من الممتلكات المالية الأجنبية المودعة في المصارف السويسرية منذ الحرب العالمية الثانية وقد كان للمبرات اليهودية نصيب وافر منها.
( ) راجع تصريح Colby، الرئيس السابق للوكالة في مجلة "التايم" في 30/9/1974، ص24.
( ) راجع صحيفة "نيويورك تايمز" في 8/9/1974.
( ) راجع ما كتبه الدكتور ادمون رباط عن الاتحاد السويسري في كتابه "الوسيط في القانون الدستوري العام"، الجزء الأول، دار العلم للملايين، بيروت 1968، ص564 وما بعدها.
( ) Zeigler، المرجع السابق، ص100 و121.
( ) نفس المرجع، ص141.
( ) نفس المرجع، ص156 وما بعدها.
( ) راجع كتابنا عن "خطف الطائرات في الممارسة والقانون"، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة 1974، ص202.
____________________________________________________
اللامركزية المطروحة في لبنان:إدارية أم سياسية؟
خضعت الإدارة اللبنانية(*)، منذ أوائل القرن السادس عشر وحتى عام 1959، لمركزية حصرية شديدة كانت موضع انتقاد وتذمر. وفي بداية العهد الشهابي، عينت الحكومة لجنة مركزية للإصلاح الإداري كان من أهم أعمالها تحقيق شيء من اللاحصرية (التي اختلط مفهومها بمفهوم اللامركزية) في بعض المجالات. وتجلى ذلك في إنشاء العديد من الهيئات والمصالح المستقلة، وتعزيز فروع الوزارات (من مستوى مديرية أو مصلحة أو دائرة) في مختلف المحافظات، ومنح المحافظ والقائمقام أمر البت بالكثير من الأمور التي كانت قبلاً من اختصاص الإدارية المركزية.
وعلى الرغم من أهمية هذه الإصلاحات على الصعيد الإداري، فإنها لم ترو غليل المطالبين بالنظام اللامركزي. وفي عهد الرئيس شارل حلو، كثر الحديث عن اللامركزية دون التقدم خطوة واحدة إضافية على طريق الإصلاح الإداري الذي باشره العهد السابق.
ومع مطلع عهد الرئيس سليمان فرنجية استبشر الكثيرون خيراً، وراحوا ينادون بوجوب التخفيف من وطأة المركزية عن طريق توسيح صلاحيات السلطات المحلية وتعزيز استقلال المؤسسات والمصالح المستقلة. وعُقد، لهذا الغرض، اجتماع في وزارة الإعلام حضره كبار المسؤولين الإداريين. وأسفر عن رفض مبدأ اللامركزية واعتباره مشروعاً من شأنه إضعاف السلطة المركزية.
وعندما استشرى الفساد الإداري اضطرت الحكومة، في تشرين الأول (اكتوبر) 1972، إلى عقد مجمع بعبدا واتخاذ بعض المقررات التي تضمنت في بندها التاسع وعداً "بتوسيع صلاحيات البلديات والهيئات المحلية من أجل تعزيز الحكم المحلي"، وفي بندها العاشر وعداً "بتوسيع صلاحيات المحافظ والقائمقام والوحدات الإقليمية، تحقيقاً لمبدأ اللاحصرية الإدارية".
وبقيت المقررات الوعود حبراً على ورق، وكاد أمل المواطنين في تحقيق الإصلاحات المنشودة والموعودة يتبدد لولا تشكيل حكومة الرئيس تقي الدين الصلح في عام 1973، وإحداث وزارة دولة لشؤون الإصلاح الإداري عهد بها للنائب الدكتور علي الخليل. ومع أن هذه الوزارة قد درست بعمق أوضاع الإدارة العامة في لبنان، وحددت بوضوح المشكلات التي تعانيها، ووضعت برنامج عمل محدد لمعالجتها، واستطاعت في فترة وجيزة أن ترفع بعض المشاريع الإصلاحية الجريئة إلى مجلس الوزراء، فإنها لم تتطرق إلى موضوع اللامركزية( ).
وبعد اندلاع الأحداث الدامية في لبنان أثيرت مسألة اللامركزية وطرحت على الرأي العام كمخرج من الأزمة. وفي شباط (فبراير) 1976، صدرت الوثيقة المسماة بالدستورية ونصت، في أحد بنودها، على "تعزيز اللامركزية في العمل الإداري"، ومع بداية عهد الرئيس سركيس تعالت من جديد(بتبع)
ــــــــــــــــــ
(*) دراسة نشرت في مجلة شؤون فلسطينية، العدد 65، نيسان (أبريل) 1977.
أصداء اللامركزية. إلا أن إثارة موضوعها في الظروف العصيبة الراهنة قد اتسمت، هذه المرة، بطابع لم نعهده من قبل في كل الجدل الذي دار حولها.
ولكي نفهم الخلفيات والأسباب الكامنة وراء طرح اللامركزية في هذا الظرف بالذات ينبغي لنا، قبل ذلك، أن نقول كلمة موجزة في كل من النظامين المركزي واللامركزي. وبذلك نقسم بحثنا إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول: المركزية
المركزية واللامركزية، في القانون الإداري، وجهان من وجوه التنظيم الإداري. والدولة قد تتبنى هذا أو ذاك. وقد تعمل، في أحيان كثيرة، بالنظامين معاً. والمركزية، من حيث الوجود والتطبيق، سابقة للامركزية، فهي التي رافقت نشأة الدول في العصر الحديث. ولكن ما هي المركزية الإدارية؟ وعلى أي أساس تقوم؟ وهل لها صور وأشكال؟ وما هي الميزات التي تتصف بها؟
أولاً – المركزية الإدارية، في مفهومها الإداري العام المبسط، تعني توحيد الإدارة في الدولة، وحصر السلطة بالحكومة التي تتولاها بواسطة إدارتها المركزية (الممثلة برئيس الدولة والوزراء) وبواسطة ممثليها في الأقاليم والملحقات (أي الحكام الإداريين). وجعل صلاحيات البت النهائي بكل نشاط إداري من اختصاص السلطة المركزية. وكل ذلك دون مشاركة ما من هيئات أخرى.
وفي النظام المركزي يرتبط الحكام الإداريون (المحافظون، مثلاً) بالإدارة المركزية بتنظيم تسلسلي يجعل من السلطة المركزية مصدر الأوامر والتعليمات ومرجع الحسم أو البت بمعظم الأعمال الإدارية.
ثانياً – وتقوم المركزية على أساسين مهمين:
1 – تركيز السلطة في يد الحكومة المركزية، أي استئثار الحكومة المركزية في العاصمة بكل السلطات التي تشملها الوظيفة الإدارية في الدولة. وعمل الحكومة لا يقتصر على جزء معين من إقليم الدولة، وإنما يشمل الدولة بكاملها، فيشرف الوزراء في العاصمة على جميع الإدارات والمرافق العامة، سواء أكانت وطنية أم محلية. ولا مكان، في مثل هذا النظام، لمجالس إقليمية أو بلدية منتخبة تتولى الإشراف على المرافق المحلية. وإذا كان هناك موظفون محليون فهم عمال السلطة المركزية.
2 – خضوع موظفي الحكومة المركزية لنظام التسلسل الإداري والسلطة الرئاسية. فالوظائف في كل وزارة أو مصلحة درجات. وكل موظف يخضع للموظف الذي يعلوه درجة. وفي قمة الهرم الإداري يتربع الوزير.
والسلطة الرئاسية تتناول شخص المرؤوس وعمله. فللرئيس الحق في أن يخصص المرؤوس للقيام بعمل معين، كما أن له الحق في أن ينقله، أو يرقيه، أو ينزل به بعض العقوبات التي ينص عليها القانون. وبالنسبة إلى عمل المرؤوس، فإن للرئيس عليه سلطة سابقة (وهي سلطة التوصية أو سلطة إصدار الأوامر والتعليمات)، وسلطة لاحقة، هي سلطة المراقبة (كحق الموافقة على أعمال المرؤوس، أو حق تعديلها، أو إبطالها، أو استبدال غيرها بها، دون أن يكون للمرؤوس حق الاعتراض على أعمال رئيسه). غير أن السلطة الرئاسية ليست مطلقة، فهناك حالات معينة يخول المشترع فيها المرؤوس اتخاذ قرارات دون تدخل من رئيسه( )، كما أن هناك حالات يسمح فيها القانون للموظف (إذا كانت أوامر رئيسه وتعليماته مخالفة للقانون بصورة صريحة واضحة) بالامتناع عن تنفيذها، إلا إذا أكدها الرئيس خطياً( ).
ثالثاً – وللمركزية الإدارية صورتان:
1 – الحصرية، أو التركيز الإداري. وفي هذا النظام تتركز الصلاحيات كلها في أيدي السلطة المركزية دون أن يكون لممثليها، في العاصمة أو الأقاليم، أية سلطة خاصة في تصريف الأمور.
2 – اللاحصرية، أو عدم التركيز الإداري. وفي هذا النظام تقوم السلطة المركزية بتوسيع صلاحيات ممثليها المحليين بغية تخفيف الأعباء عن كاهل الإدارة المركزية. فهي قد تخول الحكام الإداريين (كالمحافظ والقائمقام) صلاحيات أوسع، كأن تمنحهم حق اتخاذ بعض القرارات، أو تعيين بعض فئات من الموظفين، أو إعطاء بعض الرخص في مناطقهم الإدارية. وقد تمنحهم صلاحية البت النهائي ببعض الأمور دون الرجوع إلى الوزير المختص. وقد تفوضهم ممارسة الوصاية الإدارية على السلطات المحلية بدلاً منها.
فاللاحصرية تعني، إذن، توسيع صلاحيات ممثلي السلطة المركزية في المناطق الإدارية مع بقائهم تابعين لها ومعينين من قبلها. ولكن ممارسة هذه الصلاحيات لا تعني الاستقلال عن السلطة المركزية. إن ممارستها تتم دائماً تحت إشراف الوزير المختص أو الرئيس الإداري.
وظاهرة اللاحصرية تتجسد أساساً في عملية تفويض الاختصاص التي تزايدت أهميتها في الآونة الأخيرة. فالقانون المصري، مثلاً، المتعلق بالحكم المحلي، والصادر في عام 1971، ينص على أن "لرئيس مجلس الوزراء أن يفوض أحد الوزراء مباشرة بعض اختصاصاته"، وعلى أن "للمحافظ أن يفوض بعض سلطاته واختصاصاته إلى مساعد المحافظ، أو سكرتير المجلس التنفيذي للمحافظة، وإلى رؤساء المدن والأحياء والقرى".
رابعاً – وللمركزية الإدارية حسنات يمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
1 – تقوية السلطة الحكومية وتعزيز نفوذها. ولهذا فإن الدولة، عند نشأتها، تشعر بضرورة اللجوء إلى المركزية المتطرفة المكثفة. ولهذا، كذلك، فإن الحكم المطلق يرى في اعتماد المركزية الشديدة ضماناً لاستمرار وجوده وتأمين مصالحه.
2 – تأمين الخدمات بالعدل والمساواة لكل المواطنين والأقاليم في الدولة، لأن وحدة الميزانية والمالية تسهل على الحكومة المركزية مهمة السهر على كل المرافق العامة، وتساعدها على توزيع كل الخدمات العامة وتنظيمها بشكل عادل وموحد. ثم إن الدولة، بما تملكه من إمكانات فنية ومادية ضخمة، تستطيع القيام بالمرافق القومية الكبرى التي تعجز عنها الوحدات الإقليمية.
3 – استقرار الأنظمة الإدارية، وضمان وحدتها وتجانسها وتناسقها في كل إدارات الدولة ومرافقها.
4 – الاقتصاد في النفقات العامة، وتلافي عمليات التكرار والازدواجية، والاعتماد في تسيير الدوائر العامة على الفنيين الاختصاصيين المعينين، لا على الرجال الشعبيين المنتخبين الذين تنقصهم، في أغلب الأحيان، الخبرة والمؤهلات.
غير أن المركزية الإدارية، التي كانت ضرورية في مرحلة نشوء الدول الحديثة، لم تعد مقبولة اليوم، ولا سيما بعد انتشار الأنظمة الديموقراطية، واستتباب الاستقرار السياسي في هذه الدول. لقد تكاثرت واجبات الدولة وتعددت أعمالها الإدارية حتى ناءت بها إدارتها المركزية، وأضحى من الواجب والمصلحة معالجة الخلل بالإصلاح لكيلا تتفاقم النقمة وتنقلب إلى ثورة تطيح بالدولة نفسها. ولهذا فضلت معظم الدول التخلي عن النهج الإداري القائم على المركزية والسير في طريق اللامركزية.
القسم الثاني: اللامركزية
ما هي اللامركزية الإدارية؟ وما هي الأسس التي ترتكز إليها؟ وما هي أنواعها؟ ولماذا يعتبرها البعض من ضرورات النظام الديمقراطي؟ وكيف يتم تحديد الوحدات الإدارية أو الإقليمية في دولة ما؟ وهل اللامركزية هي النظام السائد في معظم الدول الحديثة؟ وما الفرق بين اللامركزية الإدارية واللامركزية السياسية؟ وهل من صلة بين اللامركزية الإدارية واللاحصرية؟
أولاً – اللامركزية الإدارية هي طريقة من طرق الإدارة تقضي بتوزيع الوظيفة الإدارية بين الحكومة وهيئات عامة أخرى (محلية أو مرفقية) تباشر اختصاصاتها تحت إشراف السلطة المركزية ورقابتها. ومن أبرز مظاهر اللامركزية الإدارية في دولة ما قيام سكان مدينة معينة بانتخاب هيئاتها الإدارية المحلية دون تدخل السلطة المركزية في الانتخاب.
واللامركزية الإدارية، بوجهيها الإقليمي والمرفقي، تخضع لمبدأ عام يتلخص بتمتع الإدارة، أو المؤسسة اللامركزية، بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري، مع الخضوع لوصاية وزارة أو إدارة مركزية معينة.
والأنظمة السياسية المستبدة، من عسكرية أو فاشية أو أوتوقراطية، تميل إلى اعتماد النظام المركزي المطلق، في حين أن الأنظمة الديمقراطية التي تحترم الحريات والإرادات الشعبية تفضل اعتماد اللامركزية. بل إن البعض يذهب بعيداً في هذه المقارنة فيعتبر اللامركزية سمة للنظام الإداري في الدول التي تعتمد النظام الديمقراطي في الحكم.
ثانياً – وتقوم اللامركزية الإدارية على أسس أربعة مهمة:
1 – التسليم بوجود مصالح محلية متميزة من المصالح الوطنية. فهناك أحياناً مصالح محلية لا تتعارض مع المصلحة الوطنية، ولكنها تستلزم أساليب مختلفة في معالجتها. ويستحسن، في هذه الحالة، ترك الاهتمام بها والإشراف عليها للمواطنين المحليين الذين يستفيدون منها بشكل مباشر. والمشترع هو الذي يحدد، عادة، هذه المصالح ويعهد بها إلى هيئات أو أجهزة محلية.
2 – السماح بقيام هيئات أو أجهزة محلية تؤمن هذه المصالح.
3 – الاعتراف لتلك الهيئات بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري.
وقد يتضمن الدستور، أحياناً، مبادىء أو توجيهات عامة حول هذا الاستقلال. والفقهاء على خلاف حول كيفية تحقيق هذا الاستقلال، غير أن غالبيتهم ترى أن الاستقلال لا يكون حقيقياً وكاملاً إلا باختيار أعضاء الهيئات اللامركزية عن طريق انتخابات شعبية محلية. فالسلطات المحلية يجب أن تختار من بين الناخبين المقيدين في المدينة أو أفقليم التابع للسلطة المحلية، ومن قبل هؤلاء الناخبين. وإذا كان يحق للسلطة المركزية، في بعض الحالات أو لبعض الأسباب المعينة والمنصوص عليها، أن تحل محل السلطة المحلية، فإنه لا يحق لها عند ذلك أن تقوم بتعيين سلطة سواها. كل ما تستطيع أن تفعله، في هذه الحالة، هو دعوة الناخبين إلى الاقتراع ضمن مهلة محددة لاختيار هيئة محلية جديدة.
وللاعتراف بالشخصية المعنوية للهيئات المحلية نتائج قانونية، أهمها: التمتع بالوجود القانوني المستقل، والجهاز الإداري الخاص، والذمة المالية الخاصة، وحق التعاقد والتقاضي، وأهلية اكتساب الحقوق وتحمل المسؤوليات الناتجة عن أعمال موظفيها.
4 – احتفاظ السلطة المركزية بحق مراقبة الهيئات المحلية، فاستغلال هذه الهيئات ليس مطلقاً. إن السلطة اللامركزية، أي المحلية، تبقى خاضعة لرقابة السلطة المركزية أو لرقابة ممثليها المحليين، وهو ما يعرف بالوصاية أو الرقابة الإدارية. غير أن هذه الرقابة ينبغي أن تكون محدودة لئلا يقضى على اللامركزية.
وإذا كانت السلطة المركزية تمارس رقابتها على إدارتها وموظفيها عن طريق الرقابة التسلسلية، فإنها تمارسها على السلطات أو الهيئات المحلية عن طريق الرقابة الإدارية التي تتجلى في:
- حق التصديق المسبق (فلا يصبح قرار الهيئة المحلية نافذاً إلا بعد أن تصدق عليه سلطة الوصاية).
- وحق وقف تنفيذ قرار السلطة المحلية أو حق تعديله.
- وحق سلطة الوصاية في الحلول محل السلطة المحلية.
ثالثاً – واللامركزية الإدارية نوعان:
1 – اللامركزية الإقليمية أو المحلية. وتسمى كذلك الإدارة المحلية أو الحكم المحلي. وهي تقضي بمنح الأقاليم في الدولة الشخصية المعنوية وسلطة الإشراف على المرافق المحلية. ويشترط لقيام هذه اللامركزية: أن يكون للمجموعة المحلية شؤون خاصة بها، وأن تدير هذه المجموعة شؤونها بنفسها، وأن لا تخضع أجهزتها لرقابة صارمة من قبل السلطة المركزية( ).
2 – واللامركزية المرفقية، أو المصلحية، أو التقنية. وهي لامركزية المصالح، أو اللامركزية في المصالح، وغايتها إنشاء مؤسسات عامة، وطنية كانت أم إقليمية، ومنحها الشخصية المعنوية وقدراً من الاستقلال الإداري والمالي، مما يسمح لها بإدارة شؤونها بنفسها دون تدخل السلطة المركزية، ولكن ضمن إطار الرقابة الإدارية. وأبرز صورة لهذا النوع من اللامركزية في النظام اللبناني هي المؤسسات العامة والمصالح المستقلة التي أرسى قواعدها المرسوم الاشتراعي رقم 150، الصادر في 12/6/1959. وعلى سبيل المثال نذكر: الجامعة اللبنانية، والمجلس الوطني للبحوث العلمية، والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، ومصلحة كهرباء لبنان.
وتعتبر اللامركزية المرفقية شكلاً من أشكال التنظيم الإداري. وإنشاؤها يحتاج إلى نص قانوني. وهي تتمتع بالشخصية المعنوية، وتستهدف تحقيق الصالح العام، وتباشر أعمالها تحت مراقبة الأجهزة المركزية.
رابعاً – واللامركزية تنطوي على محاسن عديدة. ولهذا يعتبرها البعض من ضرورات الأنظمة الديمقراطية. وذلك لعدة أسباب:
1 – لأن واجبات الدولة وخدماتها قد تعددت وتعقدت وتشعبت حتى أصبح من العسير على الحكومة المركزية أن تقوم وحدها بكل الأعباء وتنجز كل المهام. إن الوزير اليوم لا يستطيع وحده أن يُعنى بكل شؤون وزارته كما كان لويس الرابع عشر، في الماضي، يعنى وحده بأمور دولته ويدّعي أنه هو الدولة. إن حكام عصرنا قد أصبحوا، كما كان الفيلسوف أوغست كونت يريدهم أن يكونوا: اختصاصيي عموميات.
2 – لأن اللامركزية تكفل قدراً كبيراً من العدالة في توزيع النفقات والمشروعات العامة على مختلف المناطق في الدولة.
3 – لأن الديمقراطية السياسية لا تتحقق إن لم تصاحبها ديمقراطية إدارية تتجسد باللامركزية الإدارية. فاللامركزية تتجاوب وتتلاءم مع المفهوم الحديث للديمقراطية، وتتيح للمواطنين فرصة الإسهام في إدارة شؤونهم الخاصة المحلية والتمرس بالعمل الإداري والسياسي، مما يؤدي إلى إعدادهم وتهيئتهم لمعالجة الشؤون الوطنية العامة وتحمل المسؤوليات الجسام.
وتعتبر اللامركزية عاملاً " له أثره البعيد في إذكاء الحيوية الوطنية، لأن المركزية تقتل الحياة العامة بسبب الحيوية التي تحيط بالعناصر المركزية والبرود الذي يقابلها في أطراف الدولة، في حين أن الناس في اللامركزية يتخلصون من عبء تلك السلطة المركزية التي كانت لا تقبل النقاش في مقرراتها ولا الجدل في أعمالها ويرون في العناصر اللامركزية مجالاً حيوياً يتفتق فيه نشاط الأفراد في كافة أقسام الدولة، ويكون العمل الإداري المحلي مدرسة للعمل السياسي العام. وإذا كان يُعاب على الانتخاب في النهج اللامركزي أنه قد يأتي إلى توجيه العمل الإداري بأشخاص لا يتمتعون بالكفاءات المطلوبة، فإن إصلاح نهج الانتخاب هو الذي يجب أن يعمد إليه، وليس استبعاد النهج اللامركزي"( ).
4 – لأن اللامركزية تخفف الأعباء عن كاهل الإدارة المركزية، وتختصر النفقات، وتساعد على تبسيط المعاملات الإدارية، وتكفل حسن سير المرافق العامة في المناطق.
وبعض الفقهاء الفرنسيين يتندرون بحادثة تصور لنا النتائج المضحكة التي تتمخض عنها، أحياناً، المركزية الشديدة: إن رئيس الجمهورية الفرنسية، بمرسوم صادر في 15/1/1933، رخص لأحدهم بإقامة قن (للدجاج)، طوله ثلاثة أمتار، بمحاذاة طريق السكة الحديدية. واستوجب استصدار المرسوم تقديم التماس من صاحب العلاقة، ورفع ملاحظات من شبكة السكة، وإجراء تحقيق في الأمر، ومعرفة رأي المحافظ، والحصول على اقتراحات مصلحة المراقبة في السكة، وطلب تقرير من وزارة الأشغال العامة. وكل ذلك من أجل قن طوله ثلاثة أمتار!( ).
5 – لأن المواطنين في المناطق أو الأقاليم يعتبرون أدرى الناس بمصالحهم وحاجاتهم، وأكثرهم معرفة بشؤون مناطقهم، وأشدهم حرصاً عليها واهتماماً بها. وهم يرغبون في إدارة شؤونهم بأنفسهم عن طريق انتخاب الهيئات المولجة بإدارة هذه الشؤون.
والتيار المطالب باللامركزية الإدارية شبيه بالتيار المنادي بتطبيق الديمقراطية السياسية وإتاحة الفرصة أمام المواطنين كي يحكموا أنفسهم بأنفسهم بواسطة نوابهم. وهناك طرفة تصور رغبة المواطنين في إدارة شؤونهم المحلية بأنفسهم، ففي عام 1906، لخص أحد المفكرين الفرنسيين انطباعاته عن حركة فلاحي القوقاز بقوله: "إنهم يطالبون بالاهتمام بشؤونهم الخاصة وبتعيين رؤسائهم. ويريدون، إذا ما سرقهم أحد، أن يكون السارق منهم"( ).
6 – لأن التجارب والأحداث برهنت على أن اللامركزية أقوى على مواجهة الأزمات الداخلية والخارجية من أي نظام مركزي.
وعلى الرغم من كل هذه الحسنات والميزات فقد تعرضت اللامركزية للانتقاد. لقد أُخذ عليها بأنها تفتت أو تضعف السلطة التنفيذية المركزية في الدولة، وتباعد بين هذه السلطة وبين مختلف الأقاليم، وتهدد الوحدة السياسية والقانونية للدولة بالخطر، وتشجع مختلف الوحدات اللامركزية على التناحر والتنابذ، وتغري هذه الوحدات برعاية مصالحها الخاصة وإهمال المصلحة العامة.
ولكن هذه المآخذ تتلاشى إذا ما اعتبرنا أن الهيئات المحلية أو المصالح المستقلة لا ينبغي لها ان تتمتع باستقلال مطلق. إن القانون (وأحياناً الدستور) يضع، عادة، حدوداً لاستقلالها. ولعل الرقابة أو الوصاية الإدارية التي تمارسها السلطة المركزية هي الأداة أو الوسيلة القادرة على تحقيق التلاحم والتعاون بين هذه السلطة والهيئات اللامركزية. ثم إن اللامركزية لا يمكن أن تشمل كل الوظائف والمرافق في الدولة، فهناك شؤون وطنية عامة، كالخارجية والدفاع والاقتصاد والتربية، يجب أن تبقى دوماً من اختصاص السلطة المركزية. وهذه المرافق لا يمكن أن تدار بغير النظام المركزي وإلا تفككت أوصال الدولة وتحولت إلى عدة دويلات.
خامساً – ومن المسائل المهمة التي تطالعنا لدى دراستنا للامركزية الإدارية مسألة تحديد التقسيمات الإدارية. وهذه المسألة تنطوي على عدة مشكلات، أهمها:
1 – مشكلة تحديد الوحدات الإدارية التي تتكون منها الدولة.
2 – مشكلة تحديد مستويات هذه الوحدات (هل تتكون هذه الوحدات من مستوى واحد، مثل البلديات أو الكومونات في يوغوسلافيا، أم من عدة مستويات، مثل الوحدات في مصر وبريطانيا؟).
3 – مشكلة تحديد الوضع الأنسب للعلاقات بين الوحدات. هل يكون ذلك أفقياً (أي مساواة بين الوحدات)، أم هرمياً (أي خضوع الوحدة الدنيا للوحدة العليا)؟
وسبب قيام هذه المشكلات يعود إلى تعدد العوامل المؤثرة وتداخلها: فهناك عوامل معينة تؤثر في مسألة عدد الوحدات الإدارية، منها عدد السكان والأوضاع الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية. وهناك عوامل أخرى تؤثر في مسألة عدد مستويات الوحدات الإدارية، وفي نوع العلاقات التي تربط فيما بينها، وفي مدى الاختصاصات التي تمارسها. ويأتي نوع النظام السياسي للدولة في طليعة هذه العوامل.
ويمكن تلخيص الاعتبارات التي يسترشد بها، عند معالجة مسأة الوحدات الإدارية في النظام اللامركزي، بما يلي:
1 – المصالح المشتركة التي تمثل روابط قوية بين مواطني الوحدة المحلية.
2 – الروابط الاجتماعية، كروابط البيئة أو الجوار أو القرابة، التي تشد المواطنين بعضهم إلى بعض.
3 – العدد المناسب من السكان الذي يسمح بتوفير الكفايات المطلوبة للخدمة المحلية والقدرة المالية لأداء هذه الخدمات.
4 – القدر المناسب من الثروات الطبيعية أو الصناعات المحلية، الذي يسمح بتوفير الواردات اللازمى لسد النفقات.
وهذه الاعتبارات أو العوامل تتفاوت، من حيث الحجم والأهمية والتأثير، بتفاوت نوع الخدمات التي يطلب تقديمها، فالحجم السكاني الأنسب لتقديم خدمة الإنارة يختلف، من وجهة النظر الاقتصادية، عن الحجم الأنسب لتقديم خدمات التعليم أو إقامة المكتبات العامة( ).
ونلاحظ أن غالبية دول العالم تأخذ بفكرة تكوين المجالس المحلية من مستويين اثنين أو ثلاثة مستويات، ففي فرنسا، مثلاً، وحدتان للإدارة المحلية (المحافظات والبلديات)، بالإضافة إلى أقاليم ماوراء البحار. وهناك اتجاه عالمي نحو تخفيض عدد مستويات الحكم المحلي إلى اثنين فقط. والمؤتمر العربي الأول لخبراء الإدارة المحلية الذي عقد في القاهرة، في نيسان (أبريل) 1971، قد أوصى بتبني هذا الاتجاه.
وتقوم العلاقة بين الوحدات الإدارية في بعض الدول على أساس هرمي بحيث تخضع الوحدة الأدنى لإشراف الوحدة الأعلى، في حين أن دولاً أخرى تتبع أسلوب المساواة بين الوحدات، فلا تمارس أي منها إشرافاً على الأخرى. وهذا هو الأسلوب المتبع في النظام البريطاني( ).
سادساً – ومعظم دول العالم، شرقية كانت أم غربية، بسيطة كانت أم مركبة، متقدمة كانت أم نامية، تعمل اليوم بنظام اللامركزية الإدارية. وكانت بريطانيا (لأسباب تاريخية خاصة) الدولة الأولى في العالم التي طبقت اللامركزية. واللامركزية الإقليمية فيها تتمثل بالمقاطعات، والمدن الكبرى، والمدن البلدية، والمراكز الحضرية والريفية، والأبرشيات.
وأخذت فرنسا بهذا النظام منذ القرن الماضي. ودستورها الحالي يكرس فصله الحادي عشر للحديث عن المجموعات أو الوحدات الإقليمية في فرنسا. وتنص المادة 72 منه على أن هذه الوحدات تتكون من البلديات والمحافظات وأقاليم ما وراء البحار، وعلى أنه لا يجوز إنشاء وحدات إقليمية أخرى إلا بقانون. وتدير هذه الوحدات شؤونها الخاصة بواسطة مجالس منتخبة.
أما في مصر، فقد نصت المادة 161 من دستورها الراهن (الصادر في 11/9/1971) على وجوب تقسيم جمهورية مصر العربية إلى ثلاث وحدات إدارية على الأقل، هي المحافظات والمدن والقرى، وعلى وجوب تمتع كل منها بالشخصية المعنوية.
سابعاً – وفي دراستنا للامركزية الإدارية يجب أن ننتبه إلى الفروق التي تفصل بينها وبين اللامركزية السياسية من جهة، وبينها وبين اللاحصرية من جهة ثانية.
فاللامركزية الإدارية تتحرك أو تتهادى بين قطبين متباعدين: إداري وسياسي. فكلما اتسعت صلاحيات ممثلي السلطة المركزية في الأقاليم اقتربنا من القطب الإداري، أي من اللاحصرية. وكلما توزعت مظاهر السيادة في الدولة بين عدة سلطات اتجهنا شطر القطب السياسي، أي شطر اللامركزية السياسية أو النظام الفدرالي.
ولتوضيح الفكرة نقول إن اللامركزية الإدارية لا تنال من الوحدة السياسية للدولة لأنها، في الواقع، ليست سوى نظام إداري صالح للتطبيق في أية دولة من الدول، سواء أكانت بسيطة أم مركبة. وبإمكان الدولة أن تعمل بالمركزية واللامركزية في آن واحد، فتخضع بعض المرافق أو المصالح، مثلاً، للامركزية، وتترك الشؤون الأخرى، الإقليمية أو المرفقية، لسلطتها المركزية.
أما اللامركزية السياسية فنظام بعيد كل البعد عن الشأن الإداري. إنها نظام سياسي لا نجد له أثراً إلا في الدول المركبة التي تتكون من عدة ولايات تتوزع مظاهر السيادة فيها بين الحكومة المركزية (الفدرالية) والحكومات الإقليمية (أو الولايات). ويتجلى ذلك في وجود سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، خاصة بكل ولاية، إلى جانب السلطات الثلاث الاتحادية التي تمارس اختصاصاتها على إقليم الدولة الاتحادية بكامله.
ومع ذلك فليس من السهل تحديد المعيار الواضح الذي يميز بسهولة بين اللامركزية والفدرالية. إن بعض الفقهاء الفرنسيين اهتموا بهذه المسألة عندما انتشرت الدعوة إلى اعتماد اللامركزية في فرنسا. ويمكننا تلخيص أفكارهم بما يلي:
1 – وجد Duguit أن اللامركزية لا تطال إلا صلاحيات الإدارة. أما الفدرالية فتمتد إلى صلاحيات الحكومة. ولاحظ أن كلاً من اللامركزية والفدرالية يفترض توزيعاً في الصلاحيات بين السلطة المركزية والسلطات المحلية. ولهذا فإن معيار التفرقة بينهما يكمن في السلطة المختصة بتعديل هذا التوزيع في الصلاحيات. فإذا كانت الدولة تعمل بنظام اللامركزية أمكنها، من طرف واحد، تضييق الصلاحيات التي تتمتع بها السلطات المحلية. أما إذا كانت تخضع لنظام الفدرالية فإن تضييق صلاحيات كل ولاية لا يمكن أن يتم إلا بموافقة هذه الولاية.
2 – وتبنى Carré de Malberg وجهة النظر التي عرضها Duguit وأضاف إليها ملاحظتين:
أ – في الدولة الفدرالية، تضع كل ولاية لنفسها دستورها الخاص، في حين أن الوحدات أو المصالح اللامركزية، في الدولة ذات النظام اللامركزي، تنظم بموجب قانون صادر عن السلطة المركزية في الدولة.
ب – في الدولة الفدرالية، يمكن أن يكون للولاية جيش خاص بها، في حين أنه يحظر وجود قوة عسكرية مستقلة في الوحدات اللامركزية.
3 – واقترح Le fur معياراً أوضح. قال في كتابه المشهور عن "الدولة الفدرالية": "الولايات في الدولة الفدرالية تتميز من المجموعات الأخرى، التي لا تتمتع بالسيادة، بأنها مدعوة إلى الإسهام في تكوين إرادة الدولة"، (وفي ذلك إشارة إلى المجالس العليا، أو مجالس الولايات، في الدول الفدرالية حيث تتمتع الولايات بتمثيل متساو، بصرف النظر عن عدد السكان في كل منها)( ).
والحقيقة أن الفرق بين اللامركزية الإدارية واللامركزية السياسية هو فرق في الطبيعة وليس في الدرجة. ففي الدول الفدرالية يرسم الدستور حدود استقلال السلطات الثلاث في كل ولاية، بينما تقوم السلطة التشريعية في الدولة البسيطة بتعيين اختصاصات الهيئات والمصالح اللامركزية. إن اللامركزية الإدارية او الإدارة المحلية "تتناول الجانب الإداري فقط وتعالج الأمور العمرانية والحضارية التي تقوم بها، عادة، السلطة الإدارية. أما الفدرالية السياسية فإنها تتعدى النطاق الإداري إلى القضاء والتشريع، وهي تفرض، حكماً، استقلالاً في الدساتير المحلية والهيئات المشرعة والتنظيمات القضائية"( ).
ثامناً – وعندما ننتقل إلى المقارنة بين اللامركزية الإدارية واللاحصرية نجد أن التمييز بينهما ليس بالأمر العسير. إن الاختلاف بينهما تام وبيّن. فاللاحصرية لا تخرج عن كونها صورة من صور المركزية الإدارية. وفي هذا النظام تتنازل السلطة المركزية لبعض ممثليها المحليين عن شيء من سلطتها التقريرية، مما يمنحهم نوعاً من الاستقلال في تصريف بعض الشؤون الإدارية والصحية، وفرض العقوبات التأديبية، والترخيص بإنشاء بعض أنواع المصانع والمحلات. وأناط قانون البلديات ممارسة سلطة الوصاية، حسب أهمية القرارات، بكل من القائمقام والمحافظ ووزير الداخلية.
فالفرق الأساسي بين اللامركزية واللاحصرية يكمن، إذن، في إن صلاحيات التقرير، في النظام اللاحصري، تمنح لموظفين يبقون تابعين للسلطة المركزية، في حين أن صلاحيات التقرير التي تملكها المصالح والوحدات اللامركزية، في النظام اللامركزي، تستمد من النصوص الدستورية أو القانونية.
وتعزيز اللاحصرية قد يقود إلى اللامركزية الإدارية. أما تقوية اللامركزية الإدارية فقد تكون مقدمة للامركزية السياسية، أو للانفصال السياسي، وخصوصاً إذا كانت العوامل الطائفية، أو الحوافز الإقليمية، أو البواعث العنصرية هي الدافع، في الأساس، إلى العمل باللامركزية. إن اللامركزية الدافع، في الأساس، إلى العمل باللامركزية. إن اللامركزية تتحول، إذا ما تسيست وتجاوزت الإطار الإداري، إلى نظام فدرالي. وقد تؤدي كذلك إلى انفصال سياسي كلي، فالولايات المتحدة العثمانية التي كانت تعرف باسم بلاد الروم، أو الروملي (وهي رومانيا وبلغاريا واليونان والصرب) حصلت في البداية على لامركزية إدارية، ولكنها استطاعت أن تستغلها وتطورها إلى لامركزية سياسية ثم إلى استقلال تام عن الإمبراطورية العثمانية. "وهذا هو السر في المعارضة التي كانت الحكومة العثمانية تبديها لمطالب أحرار البلاد العربية بمنحها استقلالاً ذاتياً، أو لامركزية إدارية على الأقل، لأنها كانت تخشى أن يساعد هذا النظام على تقوية الشعور القومي فيها وانتشار روح التحرر والسعي للاستقلال"( ).
تلك لمحة موجزة عن المركزية واللامركزية. ونود، قبل الانتقال إلى القسم الأخير من البحث، أن نبدي بعض الملاحظات:
الملاحظة الأولى هي أنه أصبح من الصعب على الدولة الحديثة الاكتفاء بتطبيق أحد النظامين فقط. إنها تأخذ اليوم بالنظامين معاً وتمزج بينهما مزجاً يلائم ظروفها وأوضاعها التاريخية والاجتماعية والسياسية، فتطبق كلاً منهما على قطاع معين، أو تحدد لكل منهما نطاقه الذي يعمل فيه. وقد تأخذ بأحد النظامين أو بكليهما لفترة معينة من الزمن ولتحقيق هدف معين، حتى إذا ما تحقق هذا الهدف أعادت النظر في أمرهما. فالظروف التاريخية التي تمر بها الدولة، والأخطار التي تحدق بها، والمشكلات السياسية والاجتماعية التي تتعرض لها، والتطورات التي تطرأ عليها، تحتم عليها، في كثير من الأحيان، ومن أجل مجابهة الأخطار أو مواكبة التغيرات، أن تختار هذا النظام أو ذاك، أو كليهما.
وإذا كنا نعتبر كلاً من النظامين وسيلة إلى غاية، وليس غاية في حد ذاته، فمن الطبيعي أن تعمد الدولة، من وقت إلى آخر، إلى تغيير الوسيلة للوصول إلى الغاية المنشودة. ولعل التغير الذي أصاب النظام الإداري الفرنسي أكبر مثال على ذلك. فقد خضعت فرنسا، في العهد الإقطاعي، لنظام اللامركزية. وعندما قويت الملكية فيها على حساب الإقطاع، في القرن الخامس عشر، اعتمدت المركزية المطلقة وحصرت جميع السلطات في يد الملك. وبعد نجاح الثورة، وخصوصاً في عهد نابليون، أبقت فرنسا على النظام المركزي المطلق بغية تحقيق وحدتها. وحينما استقرت الأوضاع السياسية فيها، ولم تعد وحدتها موضع شك وخلاف، انصرفت إلى معالجة إدارتها العامة وراحت تتخلى تدريجياً عن المركزية لصالح اللامركزية.
والملاحظة الثانية هي أن بعض المفكرين ينادون باتباع نهج إداري وسط تخضع فيه الدوائر العامة لهيئات مركزية ولا مركزية معاً دون أن يكون إحداها تفوق على الأخرى في ميدانها الخاص. وبذلك يشترك النظامان في العمل الإداري اشتراكاً فعالاً يقوم على التعادل والتعاون، فالسلطات اللامركزية تكون حرة في اتخاذ القرارات وتنفيذها، ويكون للسلطة المركزية، مقابل ذلك، صلاحية الموافقة فقط. ولعل الفقيه الفرنسي Eisenmann( ) كان أول الداعين إلى النهج الإداري الوسط حيث تتعادل السلطة المركزية مع السلطات اللامركزية، وحيث تكون السلطات اللامركزية حرة في تقرير أعمالها الإدارية، فإذا ما وافقت عليها السلطة المركزية أصبحت قابلة للتنفيذ.
والملاحظة الثالثة هي أن المركزية (وكذلك اللامركزية) قد تكون إدارية، وقد تكون سياسية. فإذا كانت سياسية أخضعت مختلف الأقاليم في الدولة لسلطة سياسية موحدة، ولم يعترف بأي استقلال ذاتي لهذه الأقاليم. وهناك دلائل متعددة تشير إلى أن التطور السياسي في عدد لا يستهان به من الدول يتجه شطر عزيز المركزية السياسية على حساب اللامركزية السياسية. وتقوية السلطة الاتحادية في الدول الفدرالية (في الولايات المتحدة وسويسرا والهند، مثلاً) خير شاهد على ذلك. وإذا صح هذا الاتجاه كانت الدعوة إلى اللامركزية السياسية في لبنان خطوة إلى الوراء، أو محاولة للوقوف ضد تيار تاريخي متجه نحو المركزية السياسية.
والملاحظة الأخيرة هي أن الجدل القائم في لبنان حول اللامركزية يقتصر على اللامركزية الإقليمية ولا يمتد إلى اللامركزية المرفقية. والبلديات في لبنان هي الهيئات اللامركزية الوحيدة في إطار التنظيم الإداري، فقانون 29/5/1963 يعتبر البلدية "إدارة ذات صفة عامة وشخصية معنوية تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي..."، ويجيز للمجلس البلدي القيام بكل عمل له طابع المنفعة العامة، كإنشاء المساكن الشعبية، والمدارس، والمكتبات العامة...
وبعد هذه الملاحظات نصل إلى السؤال المهم المتعلق بحقيقة اللامركزية المطروحة على الساحة اللبنانية.
__________________________________________________
القسم الثالث: اللامركزية المطروحة في لبنان
إذا كانت الأطراف اللبنانية المختلفة تتحدث عن اللامركزية، فهذا لا يعني أن الجميع من أنصارها ومتفقون على مضمونها. وإذا كان اليمين اللبناني هو الذي رفع رايتها في الآونة الأخيرة،فهذا لا يعني أن اللامركزية بشكلها الإداري والتنظيمي هي رائده ومقصده. وإذا كان البعض يخشى أن يطول الجدل حول مضمون اللامركزية ويتحول إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار عند أبسط احتكاك، فإن أقطاب العهد الجديد قد حسموا الأمر وأعلنوا موقفهم الصريح من هذه المسألة.
أولاً – اللامركزية هي اليوم حديث الساعة في لبنان، وهي موضع جدل وخلاف بين بعض الأوساط السياسية والفكرية. والحديث عنها يتسم، في كثير من الأحيان، بالغموض أو السطحية أو المناورة. ولعل البعض يتعمد تغليفها بالغموض لإخفاء الأغراض الحقيقية الكامنة وراء المناداة بها.
وإذا كانت هناك فئة ترى أن لبنان، في ظروفه الراهنة، بحاجة إلى لامركزية إدارية، وتعتقد بأن هذه اللامركزية يمكن أن تكون المنقذ من الضلال والضياع، والحامي من الأخطار التي تشكلها فكرة "التعددية في المجتمع اللبناني"( )، فهناك فئات أخرى:
- ترفض اللامركزية، حتى ولو كانت إدارية( ).
- وترى "أن أي نوع من اللامركزية، في الوقت الحاضر، هو عمل تقسيمي"( ).
- وتؤكد "أن طرح اللامركزية بعد الانفراجات النسبية التي حصلت في سماء لبنان، وفي ظل الأجواء الملبدة بالحذر وعدم الاطمئنان، من شأنه إثارة المخاوف وتعميق جذور الفرقة وبقاء الأوضاع العامة والخاصة سائبة ينقصها فرض هيبة السلطة ويعوزها سلطان القانون"( ).
- وتجزم "بأن أي تحول اللامركزية بعد الحرب يعتبر نتيجة للحرب، وبالتالي سيكون أعمق من حجمه الذي يريده اللبنانيون"( ).
- وتردد أنه "لا يمكن القبول باللامركزية (على الأقل حالياً) لأنه لم تترسخ لدى المواطنين اللبنانيين الروح الديموقراطية الحقة التي تسمو فوق الاعتبارات الطائفية والعنصرية والتي تمكنهم من تحقيق إدارة ذاتية ضمن اللامركزية من خلال اعتبارات وطنية سليمة"( ).
- وتنصح "بأن نبتعد، ولو في الوقت الحاضر فقط، عن طرح أي شعار للامركزية، وأن يكتفي بتوسيع صلاحيات المحافظين ورؤساء الوحدات في المحافظات وبوضع خطة إنمائية اجتماعية واقتصادية لكل منطقة حسب حاجة كل منها"( )، أو تنصح "بالعودة، ولو لمدة ست سنوات مثلاً، إلى الصيغة المركزية المكثفة أكثر من السابق"( ).
ثانياً – واليمين اللبناني هو الذي طرح بإلحاح، قبيل عودة الهدوء إلى الربوع اللبنانية، فكرة اللامركزية. وقد اضطر إلى طرحها والتركيز عليها بسبب فشل كل المحاولات والجهود التي بذلها من أجل الحفاظ على امتيازاته، أو من أجل نقل التجربة السويسرية (العمل بنظام الكانتونات) إلى لبنان، أو من أجل انتزاع موافقة أهل الحل والعقد على أي مشروع فوري للتقسيم.
واللامركزية التي طرحها كمخرج من الأزمة اللبنانية لا تختلف في شيء عن النظام الفدرالي. ومما لا شك فيه أن اليمين يدرك الفرق بين اللامركزية الإدارية واللامركزية السياسية، ويعلم أن الموافقة على اللامركزية السياسية تعني القبول بتغيير الهيكل الوحدوي للدولة اللبنانية. فاللامركزية السياسية تطبق في الدولة المركبة، وكل مطالبة بإدخالها إلى رحاب دولة بسيطة موحدة لا يمكن أن تفسر إلا بأنها دعوة صريحة إلى إحداث تبديل جذري في البنية الوحدوية للدولة.
وبما أن كل دعوة علنية إلى اللامركزية السياسية كان من شأنها، في الأشهر الأخيرة من عام 1976، أن تسيء إلى مخططات المنادين بها وتؤلب الرأي العام عليهم، فإن أهل اليمين لم يجدوا من المناسب أ يفصحوا عن نياتهم ويجهروا بها. لقد فضلوا، كعادتهم، أن يتبعوا أسلوباً لا يخلو من ذكاء ومرونة لبلوغ أغراضهم.
1 – ففي البداية اكتفوا بترداد كلمة "اللامركزية" بغرض التغطية والتمويه. لقد اقتصروا على التلويح بها وتعمدوا استعمال الكلمة مجردة من أي وصف، مع تركيز خاص على فكرة الدولة الموحدة أرضاً وشعباً. وكانوا يهدفون، من وراء ذلك، إلى إظهار محاسن اللامركزية، وتهيئة الأجواء والنفوس لتقبلها والإقبال عليها، وجعلها بالتالي شعاراً ومطلباً للمرحلة التي تلي فترة انتهاء الاقتتال. ففي شهر آب (أغسطس) الماضي، دعا الشيخ بيار الجميل، رئيس حزب الكتائب، في أحد تصريحياته اليومية، إلى نوع من اللامركزية يتيح للمسيحيين "أن يكونوا أحراراً في مناطقهم... فلا تفرض عليهم تربية معينة لأولادهم أو تاريخ معين للبنانهم، أو تراث يسحق تراثهم..."( ). وأعلن بعده، ابنه بشير، رئيس المجلس الحربي للكتائب، "رفض التقسيم رفضاً باتاً"، ووصم كل من يبحث معه في موضوع التقسيم بالخيانة، وصرح "بأن نظام اللامركزية سيوفر المشالك والمتاعب ويلزم كل منطقة بأن تدير شؤونها وتعنى بتقدمها في إطار دولة موحدة أرضاً وشعباً..." ( ).
2 – وفي هذه الأثناء أخذت منشورات اليمين اللبناني تزخر بأقوال المتطرفين حول استحالة التعايش بين اللبنانيين، وتكون لبنان من عجينتين حضاريتين( ). وكانت أوساط اليمين تذيع، حيناً بعد حين، ما أسمته "بالاعتبارات" التي تحول دون استمرار التعايش المشترك بين المسلمين والمسيحيين. ويمكننا تلخيص هذه "الاعتبارات" بما يلي:
- إن في لبنان حضارتين، إسلامية ومسيحية، والخلافات بينهما تتجلى في المعتقد والتاريخ. فالإسلام يفرض على المؤمنين به حاكماً مسلماً وحكماً إسلامياً. وفي حكم إسلامي لا يبدو التعايش مع العلمانية ممكناً، لأن المسلم ينتمي إلى دينه، لا إلى أرض وحدود وميثاق اجتماعي.
- إن القومية العربية ليست إلا مرادفاً للإسلام، فإذا كانت وحدة تاريخ وثقافة ولغة، فهذا التاريخ إسلامي، وكذلك اللغة والثقافة. الإسلام إذن هو العروبة، والعروبة هي الإسلام.
- إن المارونية لا يمكن أن تنصهر مع العروبة أو الإسلام.
- أن الأحزاب اليسارية، ومعها المسلمون، على تعاطف دائم مع الفلسطينيين ضد الفريق اللبناني الآخر. والوحدة الوطنية في هذا المجال نوع من "الكذب الرسمي" لأنها أتاحت حق النقض لفريق طائفي معين، فتعطل الاختيار السياسي على صعيد السلطة المركزية الواحدة.
- إن المشكلة الفلسطينية دافع آخر إلى الصيغة البديلة( ).
3 – وعندما ترسخت فكرة اللامركزية في الأذهان وأصبح الحديث عنها معزوفة شبه يومية، انتقل أهل اليمين إلى مرحلة متقدمة سمحوا فيها لأنفسهم بإيراد أوصاف معينة للامركزية التي يشتهون. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أعلن بشير الجميل، أكثر من مرة، بأن "صيغة اللامركزية الإدارية والسياسية تبدو الحل المرحلي الوحيد لإعادة بناء هيكلية الدولة بعد الحرب"( ).
4 – وانتقلوا بعد ذلك إلى مرحلة أخرى راحوا فيها يحددون تصورهم للبنان الجديد ويشيرون من طرف خفي إلى تفضيلهم للنظام الفدرالي. فقد قال النائب طوني سليمان فرنجية مرة: "أتصور لبنان الجديد موزعاً إلى محافظات أصغر بكثير من المحافظات الحالية، وكل محافظة تتمتع بحكم ذاتي نسبي"( ).
5 – وقبيل غروب شمس العام المنصرم أتحف اليمين اللبناني المواطنين بنتائج استفتاء، مدعياً أن بعض الأفراد الذين ينتمون إليه ويطلقون على أنفسهم اسم "جبهة المواطن اللبناني" نظموه لمعرفة رأي اللبنانيين، من مختلف الطوائف والمشارب والمناطق، في لبنان الجديد. وورد في هذه النتائج أن أكثر من 95% من اللبنانيين يرغبون في تغيير صيغة عام 1943 (الميثاق الوطني)، منهم 80% يريدون تغيير الصيغة لصالح اللامركزية السياسية. وعرّفت "الجبهة" المذكورة اللامركزية السياسية بأنها "شكل مركب للدولة يقضي بتخفيف الحكم المركزي لصالح الحكم المحلي في المناطق، أي بإعطاء المحافظات أو المناطق أكبر قدر ممكن من الاستقلالية، سواء لجهة صلاحيات التقرير والتنفيذ أم لجهة اختيار السلطات المحلية عن طريق الانتخاب... ولا يجب الخلط بين اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية، فاللامركزية الإدارية تتعلق بتنظيم إدارات الدولة، كأن توسع صلاحيات المحافظ أو مجلس البلدية، وهذا لا يشكل صيغة جديدة للبنان"( ).
6 – وفي نفس الفترة الزمنية تقريباً، كان المحامي موسى برنس (عضو المكتب السياسي لحزب الوطنيين الأحرار) يذيع خريطة مشروعه الفدرالي، تحت عنوان "المناطقية"، ويقسم فيه لبنان إلى ثلاث مناطق (أي ولايات) تتمتع كل منها بالاستقلال الذاتي، وبدستورها الخاص.
وبذلك يكون اليمين قد ودّع العام الراحل بإثارة ضجة كبرى حول اللامركزية، وبالإفصاح، بعد طول انتظار، عن نوع اللامركزية الذي يريد.
ومع إطلالة العام الحالي، غدا الحديث عن اللامركزية السياسية أمراً عادياً ويومياً، لا حرج فيه ولا حذر. ففي اليوم الأول منه، صدرت الصحف تحمل تصريحاً لكميل شمعون، رئيس الوطنيين الأحرار، يدعو فيه إلى اللامركزية السياسية عبر النظام الفدرالي. قال: "إن اللامركزية هي النتيجة التي توصلنا إليها خلال محادثاتنا مع النواب... فمن أجل راحة الجميع، ومنع الاحتكاك والعودة إلى أسباب الصدام وتعريض حياة المواطنين للأخطار، يجدر بكل منطقة أن تكون مستقلة استقلالاً ذاتياً، وقابلة للعيش بإمكاناتها وحدها، وتتحمل ميزانيتها ومشاريعها. وفوق ذلك تقوم السلطة الفدرالية بمعاونة المناطق المحتاجة ومساعدتها ودعمها بما يحقق استقرارها وازدهارها..."( ).
وفي نفس اليوم بادر رئيس حزب الكتائب إلى تأييد الرئيس شمعون والتأكيد على تمسكه بمشروع اللامركزية، وأبلغ بعض النواب، بعد اجتماع عقده مع المدير العام لقوى الأمن الداخلي، أنه لا بد من تطبيق نوع معين من اللامركزية، وأن الكتائب طالبت بها قبل وقوع الحرب بأكثر من خمس سنوات، وأنه عندما كان وزيراً للداخلية اقترح برنامجاً لتعاون البلديات الصغيرة، وأن اللامركزية إذا طبقت ستكون مرحلة هادئة لا بد منها لتبديل الشعور بالانقسام النفسي بين اللبنانيين( ). ومع أنه لم يقرن كلمة اللامركزية بأي وصف، فإن اللامركزية بمضمونها السياسي لم تكن، بالاستناد إلى سلسلة تصريحاته السابقة، بعيدة عن تفكيره.
وقيل للرئيس شارل حلو بأنه "أبو فكرة الكانتونات في لبنان"، فأجاب بأن الفكرة منتشرة لدى عدد من مفكري "المنطقة الشرقية"، وبأنه لا يؤيد ما يذهب إليه البعض في "المنطقة الغربية" من حيث أن الوحدة لا يمكن أن تتم إلا بالمركزية الضيقة. وأكد أنه "مبدئياً، ومرحلياً، من أنصار اللامركزية، بانتظار أن تتوطد الوحدة المطلوبة"( ).
وفي كانون الثاني (يناير) الماضي، عقد اليمين عدة اجتماعات أو خلوات مهمة انتهت بإصدار بيانات تتضمن دعوة صريحة إلى اعتماد "لامركزية إدارية واسعة"، أو "لامركزية ذات صلاحيات واسعة"، أو "لامركزية سياسية وإدارية مطلقة". وحاول في إحداها تجنب الحديث عن اللامركزية والتركيز على "تعددية المجتمع اللبناني".
1 – فمجلس أقاليم الجنوب في حزب الكتائب عقد حلقته الدراسية الأولى وأصدر مقررات وتوصيات جاء في بندها السادس أن هذا المجلس "يدعو الدولة... إلى تحقيق لامركزية إدارية واسعة في الجنوب، انطلاقاً من الوضع الجغرافي والسكاني..."( ) والحديث هنا عن "اللامركزية الإدارية الواسعة" يأتي، بعد كل التوضيحات التي أدلى بها أقطاب الحزب، ليؤكد المضمون السياسي للامركزية.
2 – والقيادة الموحدة لـ"القوات اللبنانية" عقدت خلوة دراسية استثنائية في بلدة فقرا، أذاعت على أثرها بياناً جاء في بنده الأول ما يلي: "في شأن دولة لبنان الحديث، قررت القوات اللبنانية التحرك من أجل تحقيق نظام اللامركزية ذات الصلاحيات الواسعة، هذا النظام الذي يضمن اتحاد الأمة اللبنانية أرضاً ومجموعات إنسانية وحضارية"( ). فاستعمال كلمة "اتحاد" وتعبير "مجموعات حضارية"، أمر ذو مغزى ودلالة، فالاتحاد نظام واضح المعالم في القانون الدستوري، والتذرع بوجود مجموعات حضارية كان دائماً الحجة التي تثار قبل ولوج عتبة الفدرالية.
3 – ولم تتورع "الجبهة اللبنانية"، لدى زيارة وفد منها لدمشق، في 18/1/1977، واجتماعه بالرئيس حافظ الأسد، عن ترويج خبر مفاده أن ثمة اتفاقاً تم بين الرئيس الأسد وأعضاء الوفد "على درس موضوع اللامركزية بمزيد من الدقة وإجراء استفتاء لمعرفة رأي اللبنانيين فيه"( ). ولعل الجبهة كانت تهدف، من إذاعة الخبر، إلى إقناع أتباعها بأن الرئيس السوري لا يمانع في اعتماد اللامركزية حسب المضمون الذي ستحدده الجبهة لها في خلوتها القريبة، وإلى إيهام اللبنانيين بأن موضوع اللامركزية السياسية أصبح أمراً مفروغاً منه، لا تراجع عنه ولا مساومة فيه.
4 – بعد ثلاثة أيام من ترويج الخبر. عقدت الجبهة خلوة في دير سيدة البير. ومع أن الخلوة كانت سرية فقد استطاعت الصحافة أن تطلع على أهم أوراق العمل التي قدمت إلى المجتمعين، ومنها مثلاً ورقة العمل التي أعدتها لجنة بحوث مؤتمر الكسليك، وتضمنت في جزئها الثاني الحلول المقترحة للأزمة اللبنانية. وتتلخص الحلول بالدعوة إلى اعتماد اللامركزية السياسية الإدارية المطلقة( ).
واستطاعت الصحافة كذلك أن تزودنا، عن طريق التصريحات التي حصلت عليها، بمعلومات قيمة عن موقف بعض الكتل التي شاركت في الخلوة. فقد عالج النائب طوني فرنجية، وهو عضو إحدى الكتل المشاركة، موضوع اللامركزية في تصريح له، فقال: "إننا نؤيد اللامركزية الإدارية والسياسية في إطار الحل السياسي المنشود، ونعلق عليها أملاً كبيراً"( ).
وفي نفس الوقت الذي كان فيه رئيس الحكومة اللبنانية يعلن معارضة حكومته للامركزية السياسية، كانت الجبهة تنهي خلوتها، في 23/1/1977، ببيان يتجنب الحديث عن اللامركزية ويستبدله بالتركيز على التعددية. لقد جاء فيه أن الجبهة قررت:
"اعتماد تعددية المجتمع اللبناني، بتراثاتها وحضاراتها الأصيلة، أساساً في البنيان السياسي الجديد للبنان الموحد... بحيث ترعى كل مجموعة حضارية فيه جميع شؤونها، وبخاصة ما تعلق منها بالحرية، وبالشؤون الثقافية والتربوية والمالية والأمنية والعدالة الاجتماعية وعلاقاتها الثقافية والروحية مع الخارج وفقاً لخياراتها الخاصة"( ).
وهذه الفقرة من البيان تسترعي الانتباه وتثير العجب، لأنها تحتوي على نغمة غريبة غير مألوفة. فهي تعتبر لبنان مجتمعاً تعددياً من حيث التراث والحضارة، وهذا ادعاء لم يطلق من قبل بهذا الشكل الرسمي. وهي تقر للمجموعات الحضارية في لبنان بحق رعاية جميع شؤونها، وهذا مطلب لم يخطر من قبل ببال أحد.
5 – وفي 5 آذار (مارس)، ألقى بشير الجميل، قائد "القوات اللبنانية"، خطاباً في جونية جاء فيه أن في لبنان تعددية دينية وطائفية وقومية واتنية واجتماعية، وأن اللامركزية هي الصيغة المناسبة للجمع بين هذه التعدديات، وأن لبنان يجب أن يتكون من محافظات "يكون لكل محافظة بنيانها الأساسي بحيث تنشىء أجهزتها الإدارية والأمنية والتربوية ووسائل اتصالها بالعالم، وتحدد شروط التجنّس وتملك الأجانب وتنقلهم انطلاقاً من واقعها وحاجاتها، كما تتمتع كل محافظة بحق التفاعل مع الثقافات التي تختارها...".
ونظرة تأملية بسيطة إلى هذه الصيغة تقنعنا بأن الجبهة ذهبت بعيداً في اندفاعها نحو اللامركزية السياسية، فتخطت كل الحدود، ولم تعد تلتزم بالمضمون الذي حدده أقطابها للامركزية. إن الصيغة المطروحة لم تعد اتحادية (فدرالية)، وإنما أصبحت تعاهدية (كونفدرالية). إنها لم تعد تطالب بتحويل لبنان من دولة بسيطة إلى دولة فدرالية، بل أصبحت ترمي إلى تقسيم لبنان إلى أكثر من دولة وربط هذه الدول بميثاق تعاهدي.
وبعبارة أوضح: إن الصيغة المطروحة هي صيغة تفتيت لوحدة لبنان. إنها صيغة لا يمكن أن تتحقق إلا بتجزئة لبنان إلى عدة دول ذات سيادة يجمع بينها نظام عارض واه لا يقوى على الصمود أمام الأعاصير والنزوات، يعرف دستورياً باسم الكونفدرالية. والفرق شاسع بين النظام الفدرالي والنظام الكونفدرالي. فالأول يتكون من دولة واحدة ذات سيادة، وإن كانت مركبة من عدة ولايات يتمتع كل منها بالاستقلال الداخلي. أما النظام الثاني فيتكون من عدة دول ذات سيادة لا يجمع بينها إلا معاهدة دولية تنص على التعاون لتحقيق غرض معين مشترك.
إن الدولة الفدرالية تسمح للولايات فيها (التي قد تضم، عند نشأتها، مجموعات حضارية مختلفة) برعاية بعض شؤونها الثقافية والتربوية والمالية، ولكنها لا تسمح لها مطلقاً بأن يكون لها جيش مستقل، وأسلوب خاص في تطبيق الحرية، وطريقة خاصة في تحقيق العدالة الاجتماعية، واستقلال تام في رعاية علاقاتها الثقافية والروحية مع الخارج، وفي تحديد شروط التجنس وتملك الأجانب والتفاعل مع الثقافات التي تختارها. إن العلاقات مع الخارج، سياسية كانت أم ثقافية، تبقى، في الدولة الفدرالية، من اختصاص الحكومة المركزية. ولهذا فإن مطلب الجبهة بإطلاق حرية المجموعات الحضارية اللبنانية في اختيار علاقاتها الثقافية والروحية مع الخارج، ورعاية جميع شؤونها وفقاً لخياراتها الخاصة، يتجاوز حدود كل الأنظمة والقوانين والأعراف التي تطبقها الدول الفدرالية.
وخيل إلى البعض، بعد إذاعة بيان "الخلوة"، أن ما ورد فيه يمثل وجهة نظر "الصقور" في الجبهة، وأن هناك فئات أو شخصيات مشاركة ترفض الالتزام بكل ما تضمنه البيان. غير أن مختلف التصريحات والمواقف التي ظهرت فيما بعد جاءت لتثبت العكس وتبرهن على وجود إجماع شامل على كل الأفكار الواردة في البيان. وقد اتضح ذلك عندما سألت صحيفة "السفير" بعض النواب عن موقفهم من اللامركزية وتحديدهم لها، فاعتبر السادة طوني فرنجية، وأمين الجميل، والدكتور عبد الله الراسي (والثلاثة من أعضاء الجبهة والمشاركين في خلوتها) أن المقررات الصادرة عن الخلوة تتضمن الجواب عن السؤال( ).
ثالثاً – وإذا ما تساؤلنا، بعد استعراضنا لموقف اليمين من اللامركزية، عن مواقف الأطراف الأخرى، فماذا نجد؟
ليس هناك، في الواقع، مقابل اليمين اللبناني الموحد والمجسد بالجبهة اللبنانية، يسار أو تكتل آخر موحد يمثل بقية اللبنانيين. غير أن ذلك لم يمنع مختلف الأحزاب والجمعيات والشخصيات من الإدلاء برأيها حول موضوع الساعة. ونستطيع أن نؤكد، دون خطأ أو شطط، أن غالبيتها العظمى قد أدركت أخطار اللامركزية السياسية فرفضتها، واستوعبت معنى اللامركزية الإدارية والحاجة إليها فرحبت بها.
وليس بمقدورنا سرد كل ما صدر عن الأطراف الأخرى من تصريحات. إنها كثيرة ومتشابهة. ويمكننا، لأسباب لا تغرب عن فطنة اللبيب، أن نستشهد بآراء بعض الشخصيات.
1 – قال الرئيس رشيد كرامي لوفد من المحررين: "... إنني مع اللامركزية الإدارية التي تهدف إلى تقريب الإدارة من المواطن من أجل تسهيل خدمة مصالحه، ولكن إذا كانت اللامركزية هي من أجل التقسيم أو بعض أنواعه، فأنا أرفضها لأنني مع وحدة هذا الوطن تراباً وشعباً"( ). وقال في حديث أدلى به لصحيفة "الدستور" الأردنية أنه يعارض اللامركزية السياسية لأنها الطريق إلى التقسيم( ).
2 – وقال الرئيس صائب سلام، بعد زيارة قام بها للشيخ بيار الجميل في بلدة بكفيا: "أنا مع اللامركزية الإدارية، وضد كل ما يشتم منه أنه للتقسيم"( ).
3 – وسئل السيد رياض طه، نقيب الصحافة، بعد اجتماعه بأركان حزب الكتائب، عما إذا كان البحث قد تطرق إلى مسألة اللامركزية، فأجاب: "لم أشأ أن أناقش موضوع اللامركزية، لأن لي فيه رأياً خاصاً يتلخص بعبارة: كلمة حق يراد بها باطل. فإذا كان المقصود باللامركزية تخفيف قبضة السلطة في العاصمة وجعل المناطق اللبنانية قادرة على الوصول إلى السلطة وحاجاتها، فهذه من المطالب المزمنة في لبنان ولا ينكرها أحد. أما إذا كان المقصود باللامركزية ما يجاهر به بعض المتطرفين المتعصبين، فإنها ستكون مقدمة للتقسيم، وهذا ما لا يمكن أن يرضى به أي مخلص للبنان"( ).
رابعاً – وأخيراً، ما هو موقف الحكومة اللبنانية من موضوع اللامركزية؟ لقد كان موقفها، منذ البداية، واضحاً وصريحاً. وآراء رئيس الدولة، ورئيس الحكومة، ووزير الخارجية، تشهد بذلك.
1 – صحيح أن رئيس الجمهورية لم يدل (وهو ليس، في الحقيقة، مضطراً إلى الإدلاء) برأي مباشر في اللامركزية، أو في أي موضوع مطروح على بساط البحث والجدل، ولكن تصريحاته وأحاديثه مع زواره تدور دائماً حول "وحدة الدولة كسبيل لتحقيق وحدة لبنان شعباً وأرضاً". وأكد الكثيرون أن الرئيس سركيس "يرفض اللامركزية إذا كانت سبيلاً إلى التجزئة والتقسيم وإذا كانت تقوم على أساس سياسي وطائفي، إلا أنه مع اللامركزية الإدارية التي تسهل شؤون الناس ومصالحها وتختصر سير المعاملات..."( ).
2 – وقبل مرور شهر على تسلم الدكتور سليم الحص مقاليد رئاسة الحكومة، أعلن في حديث متلفز أن الحكومة مع اللامركزية الإدارية إلى أقصى حد، وضد اللامركزية السياسية لأنها ضرب من ضروب التقسيم( ). وسئل بعد يومين عما إذا كان، بحديثه، يعبر عن رأيه الشخصي، فأكد "إن هذا هو موقف الحكومة، وقد جاء ذلك في البيان الوزاري"( ).
3 – وأدلى الأستاذ فؤاد بطرس، وزير الخارجية والدفاع، بتصريح لإحدى الصحف علق فيه على الجدل القائم، حول الصيغة الجديدة للبنان، بين المنادين باعتماد لامركزية إدارية فحسب وبين الداعين إلى لامركزية سياسية، فقال: "لقد قلت إنني كمواطن أطمح إلى لبنان موحد. وسأسعى جهدي إلى تحقيق هذه الغاية، وهي غاية لا تتنافى مع ما يسمونه اللامركزية الإدارية أو ما يشبهها"( ).
ولم يبقَ لنا، في ختام بحثنا، إلا أن نبدي الملاحظات التالية:
1 – إن اللامركزية الإدارية نظام لا غبار عليه، ولكن الظرف الذي طرحت فيه، وأسلوب التحدي الذي رافق كل حديث عنها، وانكباب المسؤولين على أمور كثيرة أخرى يعتبرونها أهم وأجدى، وعدم حماسة الشعب المثخن بالجراح لهذا النظام أو لغيره... إن كل ذلك سيجعل من اللامركزية، لمدة قد تطول وقد تقصر، موضوعاً قابلاً للجدل والمناقشة.
2 – إن المسؤولين، الذين اعترفوا بحسنات اللامركزية الإدارية، لن يعمدوا في وقت قريب إلى تكريس الجهود للاهتمام بهذا الموضوع، فالوضع الراهن للبلد لا يسمح بذلك ولا يشجع عليه، واللامركزية، كما قال رئيس الحكومة، "عملية شاقة وطويلة لأنها تحتاج إلى أجهزة واسعة من الموظفين في كل منطقة ومحافظة في لبنان"( ).
3 – إن نجاح اللامركزية في بلد ما مرتبط، إلى حد كبير، بمدى انتشار المؤسسات والتنظيمات الديمقراطية في هذا البلد. ويؤلمنا أن نعترف بأن لبنان يفتقر إلى هذه العناصر.
_____________________
الحواشي:
( 1) راجع الكراس الذي نشرته الوزارة المذكورة بعنوان: منجزات الإصلاح الإداري.
( 2) د. سليمان الطماوي: الوجيز في القانون الإداري. دار الفكر العربي. القاهرة 1973. ص53 – 54.
( 3) راجع، مثلاً، الفقرة الثانية من المادة 14 من المرسوم الاشتراعي رقم 112، الصادر عام 1959، في لبنان.
( 4) د. جان باز: الوسيط في القانون الإداري اللبناني. بيروت 1971. ص52.
( 5) د. مصطفى البارودي: الوجيز في الحقوق الإدارية. الطبعة الرابعة. دمشق 1958، ص107.
( 6) M. Waline, Droit administrative, Paris 1950, p.182.
( 7) نفس المرجع السابق.
( 8) راجع كراس: وحدات الإدارة المحلية، الصادر عن مركز البحوث الإدارية، للمنظمة العربية للعلوم الإدارية. القاهرة 1971. رقم99.
( 9) نفس المرجع السابق.
( 10) Waline، المرجع السابق، ص184.
( 11) عزت الأيوبي: مبادىء في نظم الإدارة المحلية. دار الطلبة العرب. ص10.
( 12)شفيق حاتم: محاضرات في القانون الإداري، للسنة الثانية من الحقوق، بيروت 1974، ص236.
( 13) راجع ما كتبه في هذا الموضوع في المجلة الفرنسية: Revue du droit public et de la science poliqitque, 1947.
( 14) راجع ما قاله الدكتور محمد علي مكي عن "التعددية"، في مجلة الأسبوع العربي، عدد 9/2/1977، ص21.
( 15) من حديث للإمام موسى الصدر لصحيفة الأنوار، في 27/12/1976.
( 16) من حديث للإمام الصدر لمجلة الحوادث، في 24/12/1976، ص17.
( 17) من تصريح للنائب ناظم القادري، رئيس اللجنة البرلمانية للإدارة والعدل، لصحيفة السفير، في 17/2/1977.
( 18) من تصريح للإمام الصدر للسفير، في 18/1/1977.
(19 ) راجع مقال المحامي واصف الحركة في مجلة الحوادث، في 18/2/1977، ص39.
( 20) من التصريح المذكور للنائب ناظم القادري.
( 21) من التصريح المذكور للإمام الصدر، في 18/1/1977.
( 22) صحف بيروت في 13/8/1976.
( 23) من تصريح له في النهار، في 13/8/1976.
( 24) قال رئيس حزب الكتائب في 13/8/1976 "إن المشكلة في جوهرها تكمن في تصور البعض أن لبنان من عجينة حضارية واحدة، بينما هو في الواقع يتألف من عجينتين".
( 25) نقلاً عن السفير، في 20/11/1976.
( 26) السفير، في 28/11/1976.
( 27) الأنوار، في 20/12/1976.
( 28) الأنوار، في 23/12/1976.
( 29) صحف بيروت، في 1/1/1977.
( 30) الحوادث، في 7/1/1977، ص10.
( 31) نفس العدد من الحوادث، ص16.
( 32) النهار، في 17/1/1977.
( 33) النهار، في 18/1/1977.
(34 ) النهار، في 19/1/1977.
( 35) النهار، في 21/1/1977.
( 36) النهار، في 23/1/1977.
( 37) النهار، في 24/1/1977.
( 38) السفير، في 20/2/1977.
( 39) السفير، في 27/11/1976.
( 40) الأنوار، في 21/12/1976.
(41 ) النهار، في 11/2/1977.
( 42) النهار، في 25/11/1976.
( 43) النهار، في 25/11/1976.
( 44) الصحف الصادرة في 23/1/1977.
( 45) السفير، في 25/1/1977.
( 46) النهار، في 28/1/1977.
( 47) من تصريح له لمجلة "ذي ميدل ايست" البريطانية، نقلاً عن السفير، في 20/2/1977.
________________________________________________________________________
تدويل الأزمة اللبنانية
في السابع من نيسان (أبريل) 1977(*)، وجّهت "الجبهة اللبنانية" إلى الملوك والأمراء والرؤساء العرب نداء (صيغ بأسلوب أدبي، وتضمن غمزاً من أكثر من قناة) طالبتهم فيه باتخاذ تدبير عاجل لفرض "تنفيذ اتفاق القاهرة بالقوة"، ووضع حد "للتباطؤ والتردد والتمييع"، لئلا تصبح "مسألة لبنان في حاجة إلى معالجة غير هذ المعالجة"( 1).
وتساءل البعض عن المقصود بالجملة الأخيرة من النداء فأوضحه، بعد يومين اثنان من أقطاب "الجبهة". لقد سئل السيد كميل شمعون عن الإجراءات التي ستقوم بها "الجبهة" في حال عدم تطبيق اتفاق القاهرة، فأجاب بأن "هذا يتوقف، إلى حد بعيد، على تصرف المنظمات الفلسطينية المسلحة. إذا تصرفوا وكأنهم قبلوا بنصوص اتفاق القاهرة، تكون الأمور عادت إلى نصابها، وإلا يصبح الموقف دولياً، ويصبح من الضروري عندئذ مراجعة الدول المسؤولة في مجلس الأمن كي تتخذ التدابير الضرورية للمحافظة على سلامة لبنان وسلامة شعبه"(2 ). وسئل الشيخ بيار الجميل عن الخطوات التي يمكن اتخاذها بعد صدور النداء، فأجاب: "لقد أردنا أن نضع العرب في مستوى مسؤولياتهم ونلفتهم إلى التزاماتهم نحو لبنان... ونرجو ألا نفقد الأمل والثقة بقدرة الجامعة العربية لئلا نضطر إلى اللجوء إلى هيئات عالمية أخرى"(3 ).
فالمقصود، إذن، بالتحذير الذي ختمت "الجبهة" به نداءها هو التهويل أو التهديد من جديد بفكرة التدويل. ونقول "من جديد"، لأنه سبق لأقطاب "الجبهة" أن لجأوا، أكثر من مرة، إلى هذا الأسلوب خلال الأحداث الدامية واستخدموه كورقة ضغط لتحقيق أغراض معينة.
والعودة إلى إثارة موضوع التدويل تطرح الأسئلة التالية:
1 – ما المقصود باصطلاح التدويل؟
2 – وما هي الأغراض الكامنة وراء التلويح بالتدويل؟
3 – وهل يحق للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء؟
4 – وما هي السلطات المحلية أو الدولية التي يحق لها التقدم بطلب التدويل؟
5 – وهل من السهل بحث الأزمة اللبنانية في الأمم المتحدة؟
**********
أولاً: المقصود بالتدويل
لاصطلاح "التدويل"، في القانون الدولي العام، معنى واضح ومضمون محدد. غير أن هذا الاصطلاح قد استعمل، خلال الأزمة اللبنانية، للدلالة على مسألة سياسية خاصة. فالتدويل نظام إدارة تشترك فيه عدة دول، بموجب اتفاقية ولية، ويطبق على بعض المناطق أو الأقاليم التي تكون موضع أطماع من قبل الدول الكبرى. فهذه الدول تعجز أحياناً عن ابتلاع أحد الأقاليم المتنازع عليها، أو تخشى تألب الدول الأخرى عليها فيما لو احتلت الإقليم بمفردها وضمته إلى أراضيها، فتختار أضمن المكاسب وتغري الدول الطامعة فيه بتقاسم الغنيمة. وبذلك يُفصل الإقليم عن دولة الأصل، ويُنقذ من مغبّة الوقوع بين فكي دولة واحدة، ويوضع تحت نظام إدارة دولية تشترك فيه عدة دول( 4).
وجميع الأقاليم التي خضعت لنظام التدويل في القرن العشرين استعادت اليوم حريتها وعادت إلى حظيرة الدول التي سلخت عنها بالقوة. فمرفأ دانتزج، أعيد إلى بولونيا بعد الحرب العالمية الثانية. ومنطقة طنجة، أعيدت إلى الوطن الأم، في العام 1956، بعد نيل المملكة المغربية استقلالها. ومنطقة تريستا، قسمت في العام 1954، بين يوغوسلافيا وإيطاليا. ومقاطعة السار، ضمت، في العام 1955، إلى ألمانيا الاتحادية، بعد إجراء استفتاء فيها. ومقاطعة إيريان الغربية التي تشكل نصف جزيرة غينيا الجديدة، أعيدت إلى أندونيسيا في العام 1969( 5).
والتدويل، في القانون الدولي العام، لا يشمل إلا جزءاً من إقليم الدولة وليس الدولة بكاملها، فالدولة المستقلة لا تُدوّل، أي لا تخضع للتدويل. وليس المقصود بالتدويل الذي دعت إليه "جبهة الكفور" سابقاً، و"الجبهة اللبنانية" حالياً، تدويل الدولة اللبنانية، أي إخضاع لبنان، السيد المستقل، لنظام إدارة دولية بإشراف الدول الكبرى، فمجرد التفكير في هذا الأمر (ولو تمناه البعض في لحظة انهيار أو ضياع أو انحراف) هو، في رأينا، خيانة وطنية. إن المقصود بالتدويل هو تدويل الأزمة اللبنانية، أي نقل الأزمة إلى منظمة الأمم المتحدة وعرضها على أجهزتها المختصة ومحاولة انتزاع قرار منها لصالح أنصار التدويل( 6).
ثانياً – التدويل تكتيك وتهويل:
طرح اليمين اللبناني، منذ بداية الأزمة اللبنانية، شعار التدويل وأخذ يلوح به مهدداً، كلما وجد نفسه في مأزق، أو كلما شعر بهبوب الرياح ضده. ولم تَخلُ التصريحات والبيانات الفردية الصادرة عن زعمائه، في معظم الأحيان من إشارات وتلميحات إلى التدويل.(7)
وفي أول الصيف الماضي، تحركت "جبهة الكفور" وهددت بطلب التدويل، فنددت المنظمات الوطنية بهذا الأسلوب الابتزازي ووصفته بالمؤامرة التي ترمي في النهاية إلى فرض التقسيم. وكان الرائد عبد السلام جلود، رئيس الوزراء الليبي، يقوم آنذاك بمساع حميدة في بيروت، فانفعل عندما بلغه حديث التقسيم والتدويل وصرح في أحد مؤاتمراته الصحافية "بأن هناك ثلاث قضايا نقاتل من أجلها بصورة انتحارية... هي حماية الثورة الفلسطينية، ورفض التقسيم، ورفض التدويل"( 8).
وعبرت حكومة الرئيس رشيد كرامي، في مناسبات مختلفة، عن رفضها لفكرة التدويل. ففي النداء الذي وجهه الرئيس كرامي إلى رؤساء حكومات السعودية والكويت ومصر وسوريا، بمناسبة اجتماعهم في الرياض في 24 حزيران (يونيو) 1976، قال: "إننا نرفض رفضاً قاطعاً فكرة التدويل التي يلوحون بها، لا لأننا نخشى على حقنا الصريح بل لأننا نحن أقدر وأولى في حل قضايانا بأنفسنا، فمصلحتنا هي رهن إرادتنا دائماً لئلا تصبح قضيتنا ويصبح حقنا عرضة للضياع في سوق المساومات"( 9). ويبدو أن رئيس الجمهورية (سليمان فرنجية) كان قد صمم، في تلك الفترة، على التهويل بالتدويل فعهد إلى المندوب الدائم للبنان لدى الأمم المتحدة (ادوار غرة) بالترويج لهذه الفكرة، مما اضطر رئيس الحكومة، بصفته وزيراً للخارجية بالوكالة، إلى الاعتماد على دبلوماسي لبناني آخر (يحيى المحمصاني) لمجابهة الفكرة في المنظمة العالمية وتوضيح موقف الحكومة اللبنانية منها.
وعندما عقدت الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم (جناح بدوي أبو ديب)، في نهاية حزيران (يونيو)، مؤتمراً في عاصمة الأكوادور، استغلت "الجبهة" هذه المناسبة وأوحت إلى المسؤولين عن المؤتمر بوجوب إصدار توصية بمباركة التدويل، فصدرت التوصية الأولى وهي تتضمن "إرسال برقية إلى رئيس مجلس الأمن الدولي وأمين عام الأمم المتحدة وكل من رؤساء الدول الأميركية يعلن فيها المؤتمر رفضه لقوات سلام إقليمية أو فئوية أو ضالعة... وأن الهيئة الوحيدة الصالحة والمحايدة التي في استطاعتها القيام بذلك والحفاظ على سيادة لبنان هي مجلس الأمن"( 10).
ولم يدع أركان "الجبهة" مناسبة تتعلق بالأمم المتحدة إلا انتهزوها لتوجيه اللوم إلى المسؤولين فيها بسبب عدم اكتراثهم بما يجري في لبنان. ففي 6 تموز (يوليو)، سئل رئيس حزب الأحرار عن رأيه في العمل الذي ارتكبته إسرائيل في مطار عنتبة الأوغندي، فسارع إلى إبداء استغرابه لتصرفات مجلس الأمن الذي كرس لهذه المسألة عدة جلسات، كما خصص دورة كاملة للنظر في الخلافات العربية، دون أن يبدي أي اهتمام حتى الآن بالأزمة اللبنانية. واعتبر هذا الموقف دليلاً "على فقدان الضمير الدولي وقصر نظر الأمين العام للأمم المتحدة"( 11).
وفي 6 تموز (يوليو)، تخلت "جبهة الكفور" عن لغة الرموز وتبنت رسمياً ودون مواربة فكرة التدويل وأعلنت أنها اتخذت قرارها النهائي بتدويل المسألة اللبنانية، وأنها أبلغت قرارها للعقيد السوري محمد الخولي، وأن شخصيات سياسية ودبلوماسية ستنتدب لزيارة عدد من الدول الغربية للترويج لفكرة التدويل، وأنها اضطرت إلى اتخاذ هذا الموقف بحجة "فشل المبادرات العربية، وآخرها مبادرة جامعة الدول العربية، واستمرار التصعيد العسكري"( 12).
وحاولت "الجبهة" تجنيد بعض الحكومات الصديقة لمناصرة فكرة التدويل ومطالبة الأمم المتحدة، عند الاقتضاء، بمناقشة الأزمة اللبنانية، فأجرت اتصالات مكثفة بالحكومتين الفرنسية والأميركية "لحملهما على تأييدها بالنسبة إلى طرح الأزمة اللبنانية على مجلس الأمن، وذلك في نطاق مشروع تدويل القضية"( 13). وحاولت الاستعانة ببعض الشخصيات السياسية المسؤولة في الخارج، فلم يبد أي مسؤول أو صديق استعداده لدعم وجهة نظرها، باستثناء عضو في مجلس الشيوخ الأميركي. ففي 26 تموز (يوليو)، قدم السيد جورج ماكغفرن طلباً إلى الإدارة الأميركية دعاها فيه إلى إرسال قوة أميركية ودولية إلى لبنان، تعمل تحت راية الأمم المتحدة، إذا فشلت قوات الأمن العربية في إحلال السلام ووقف القتال( 14).
ولوحظ، في هذه الفترة، أنه لم يكن يمر أسبوع (وأحياناً يوم واحد) دون أن تزود المصادر المقربة من "الكفور" الصحافة بخبر يتعلق بموقف الجبهة من التدويل، أو بالنشاط الذي تبذله في هذا السبيل. ففي 11 تموز (يوليو)، لخص رئيس حزب الكتائب والأباتي شربل قسيس، رئيس المؤتمر العام للرهبانيات، موقف محور "الكفور" من مداولات وزراء الخارجية العرب في القاهرة بعدة نقاط ورد فيها "إن طلب السند الخارجي وارد إن لم تحزم المبادرة السورية أمرها وتحسم الموقف نهائياً، لأن عدم ذلك معناه أن تسير الأزمة في طريق التدويل"( 15). وكان الدكتور شارل مالك (وهو من أركان الجبهة) قد حاول، في 4 تموز (يوليو)، حشر مسألة التدويل في دوامة التفلسف اللفظي عن طريق إيهام الرأي العام بأن تعريب القضية اللبنانية يستتبع حتماً تدويلها، وتدويلها يستتبع حتماً تعريبها، دون أن يبين كنه العلاقة بين الأمرين، ودون أن يشرح كيف أن التعريب، في حال نجاحه، يستتبع التدويل، وكيف أن العكس صحيح كذلك( ).
وفي 26 تموز (يوليو)، برزت ظاهرة جديدة في مجال الدعوة إلى التدويل، فقد ناشد رئيس الكتائب جامعة الدول العربية إعلان عجزها عن حل الأزمة اللبنانية والإسهام في تدويلها أي "في وضع القضية بين أيدي الأمم المتحدة"( 16). وفي 27 منه، دعا إلى الاعتماد على هذه الجامعة وعلى مؤازرتها للاستعانة بالأمم المتحدة على إطفاء الحريق، وشدد على "أن تتم الخطوة بواسطة جامعة الدول العربية وبرضى اللبنانيين الصادقين في دعوتهم إلى إنقاذ البلاد.." ( 17). وفي اليوم التالي ركز على هذه الناحية وتمنى النجاح للمبادرة العربية، ولكنه أكد أنه "في حال الفشل لا يبقى أمامنا غير الأمم المتحدة... لا يبقى لنا إلا هذا الأمل الطبيعي تساعدنا على بلوغه جامعة الدول العربية ويوافق الجميع في لبنان على التوجه بالقضية إلى المنظمة الدولية..." (18 ). وبررت أوساط حزب الكتائب الدعوة إلى التدويل بأن "الوضع في لبنان لم يعد يحتمل اختبارات وتجارب جديدة، لأن استمرار الأحداث يقلل يوماً بعد يوم من فرص عودة التلاحم بين اللبنانيين ويمكن المتطرفين من تحقيق المعالم التنظيمية والإدارية والعسكرية للدويلات المقسمة"( 19).
وفي الوقت نفسه الذي كان فيه رئيس الكتائب يكثر من أحاديثه عن التدويل، كان رئيس الجمهورية يجتمع بالقائم بالأعمال الفرنسي والسفير البابوي ويبلغهما قرار "جبهة الكفور" بتدويل الأزمة والطلب من دولتيهما دعم هذا الاتجاه في المحافل الدولية(20 ). كما كان الأباتي شربل قسيس يقوم بجولة أوروبية يزور فيها حاضرة الفاتيكان ويرفع إلى قداسة البابا، بواسطة مستشاره السياسي، تقريراً وضعته لجنة الكسليك وتمنت فيه على البابا بذل جهوده الشخصية لنقل الأزمة اللبنانية إلى الصعيد الدولي "بحيث تضع الأمم المتحدة يدها على لبنان ويرسل الكبار قوات إليه تضمن إعادة ترتيب الأوضاع بصورة جذرية بمعزل عن البلبلات الوافدة"( 21). وفي هذا الوقت كذلك كانت صحيفة "العمل" الكتائبية تشارك أقطاب "الكفور" في الدعوة إلى التدويل، عبر تشكيكها في قدرة جامعة الدول العربية على حل الأزمة( 22).
وقبل انعقاد قمة الرياض بيومين، ألقى المندوب الدائم للبنان لدى الأمم المتحدة خطاباً أمام الجمعية العامة تضمن نقداً عنيفاً للفلسطينيين، فوجه رئيس الحكومة (رشيد كرامي) رسالة إلى رئيس الجمعية العامة، وأخرى إلى الأمين العام للأمم المتحدة، انتقد فيها موقف المندوب الدائم وأكد أن خطابه لا يعكس سياسة الحكومة اللبنانية، وأنه يشوه الوقائع، ويتغافل عن الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها بعض المسؤولين اللبنانيين خلال الأعوام الماضية، ويستهدف في نهاية الأمر فتح الباب أمام تدويل الأزمة اللبنانية( 23).
وقبل أيام قليلة من مباشرة قوات الأمن العربية لمهمتها الشاملة في لبنان، ارتفع صوت قطبين في "الجبهة" يهدد، في حال الفشل بإمكان اللجوء إلى التدويل. فرئيس الكتائب أعرب عن اعتقاده بأن قوات الردع العربية هي الوسيلة الوحيدة الآن إلإنقاذ لبنان وقال: "إذا فقدت وضاعت الثقة بها فهناك الكارثة، وآنذاك يعذرنا الآخرون إذا ما لجأنا إلى مقلب ثان من الأرض لطرح قضيتنا. وآنذاك أيضاً يكون الذين يعترضون على تدويل الأزمة هم أنفسهم الذين حملوها بأيديهم إلى ساحة التدويل"( 24). وأدلى النائب ادوار حنين بتصريح قال فيه: "إن قوة الردع أنشئت خصوصاً لردع المعتدين لا المعتدى عليهم. وفي حال فشل الردع ننتقل إلى التدويل، وهو آخر الطب، وتكون النهاية نهاية فعلية"( 25).
وعندما حصلت بعض الاشتباكات العسكرية الموجهة ضد قوات الردع في المناطق الخاضعة لسيطرة "الجبهة"، تساءل الكثيرون عما إذا كان هناك ترابط بين التصريحات المذكورة والاشتباكات الراهنة، وعما إذا كانت تلك الاشتباكات مقصودة لإثبات فشل قوات الردع و"رفع الموضوع إلى الأمم المتحدة وتصويره اعتداء عربياً شاملاً على لبنان يستدعي نجدة أجنبية معينة"( 26). بل إن بعض الساسة أكد أن قصد الذين يشنون الهجمات على هذه القوات هو إثارة الأزمة اللبنانية دولياً، "أي رفع قضية لبنان إلى مجلس الأمن مما يساعدهم على استقدام قوات دولية يستعيضون بها عن القوات العربية، وبذلك يكونون قد خطوا خطوة أخرى نحو التقسيم ونحو قيام لدولة المارونية"( 27). وهناك من رأى "في تصعيد الموقف العسكري على الحدود والتلويح باجتياح إسرائيلي للجنوب ما يهيىء المناخ لبروز دعوات استدعاء القوات الدولية، أي تنفيذ حلقة التدويل"( 28).
والخلاصة أن "الجبهة اللبنانية" لم تتوقف، منذ نشوب الأزمة، عن التلويح بالتدويل تارة والتهديد به طوراً. وهي تفسر إحجامها حتى الآن عن طلب التدويل بحرصها على استمرار الصيغة اللبنانية، ورغبتها في توفير الظروف الملائمة لإنجاح المبادرات العربية، وعلى رأسها المبادرة السورية، ورفضها المبدئي (إلا مُكرهة) لفكرة أي تدخل (ولو كان من جانب الأمم المتحدة) في الشؤون الداخلية للبنان.
وإطلاع بسيط على سلوك "الجبهة" في هذا الصدد يثبت أن التلويح بالتدويل، أو إبقاء موضوع التدويل قائماً، قد استخدم (حتى الفترة الراهنة على الأقل) كتهويل وتكتيك لتحقيق أغراض معينة، أو بانتظار تحقيقها. وأهم هذه الأغراض:
1 – إخافة الفريق الوطني من نتائج التدويل والادعاء، كما قال رئيس الكتائب، أنه في حال فشل مبادرة جامعة الدول العربية "لا يعود أمام الأزمة اللبنانية سوى التدويل، وهذه في نظرنا مغامرة خطرة"( 29). ولعل الغرض من ذلك طمس معالم المطالب الإصلاحية الوطنية التي رفعها الفريق الآخر، والضغط عليه لانتزاع موافقته على معظم الشروط التي ترتئيها "الجبهة".
2 – بث الذعر في قلوب العرب جميعاً وإيهامهم، كما فعل رئيس الكتائب، "بأن الخطورة في تدويل القضية اللبنانية تكمن في أنها قد لا تقتصر رداتها على لبنان وحده، بل تتناول منطقة الشرق الأوسط كلها وتجعل المصير مجهولاً"( 30).
3 – الرغبة في عرقلة أي مسعى يرمي إلى تحسين العلاقات أو توطيدها بين الحكومة السورية والحركة الفلسطينية والونية. وهذه الرغبة تنبع من إرادة انتهاج سياسة مستقلة خوفاً من احتمال حدوث أي غيير في الموقف السوري أو العربي.
4 – المماطلة والتسويف في الوصول إلى حل ممكن للأزمة، كسباً للوقت، وانتظاراً لحل شامل للقضية الفلسطينية، وطمعاً في انتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب والامتيازات.
5 – رص الصفوف والتخفيف من حدة الخلافات الداخلية التي بدأت تحتدم بين أطراف "الجبهة"، وذلك بتوجيه اهتمامها وتجنيد طاقاتها من أجل موضوع خارجي.
وبالإضافة إلى هذه الأغراض فقد كانت هنالك عوامل من شأنها أن تؤدي إلى تلكؤ "الجبهة" أو ترددها في الإقدام على تنفيذ الفكرة، وأهمها:
1 – ارتباط مسألة التهويل بالتدويل (ولنقل: فورة التدويل) بالوضع السياسي والعسكري "للجبهة"، ففي الوقت الذي كانت فيه نشوة الانتصارات تلغي أو تطمس كل حديث عن التدويل، كانت الهزائم تطرحه وتؤججه.
2 – عدم اتفاق أركان "الجبهة" على المراد أو المطلوب من التدويل: مناقشة الأزمة فقط؟ طلب التقسيم؟ استدعاء قوات دولية؟ إثارة موضوع وجود الفلسطينيين في لبنان؟ توجيه تهمة العدوان أو التدخل إلى بعض الدول؟
3 – إدراك "الجبهة" سلفاً بأن نقل الأزمة إلى الأمم المتحدة لن يؤدي، في الظروف الراهنة للعلاقات والأوضاع المحلية والدولية، إلى أية نتيجة إيجابية.
***************
ثالثاً: الأمم المتحدة ومسألة التدخل في لبنان
في أواخر آذار (مارس) 1976، وجه الأمين العام للأمم المتحدة كتاباً إلى رئيس مجلس الأمن نبهه فيه إلى خطورة الوضع في لبنان وتأثيره المحتمل في السلام العالمي. غير أن بعض رجال السياسة والقانون في لبنان تسلحوا بالفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة ليثبتوا أن الحداث اللبنانية مسألة داخلية لا يجوز للأمم المتحدة أن تتدخل فيها.
فهل بإمكاننا، حقاً، الاعتماد على وجهة النظر هذه لننفي إمكان تدخل المنظمة العالمية في الأزمة اللبنانية؟ وهل صحيح أن الميثاق الأممي يحرم على المنظمة معالجة أية مسألة تدخل في صميم السلطان الداخلي لدولة ما؟ وهل بإمكاننا الاستنتاج بأن المنظمة سترفض مناقشة الأزمة اللبنانية، لدى عرضها عليها، بمجرد إبداء اعتراض والتلويح بالفقرة السابعة المذكورة؟
للإجابة عن هذه التساؤلات علينا، أولاً، أن نتعرف إلى الفقرة السابعة. هذه الفقرة تنص على أنه "ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يلزم الأعضاء بإخضاع مسائل من هذا النوع لأصول تسوية طبقاً لأحكام هذا الميثاق. ومع ذلك فإن المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع".
وتمثل هذه الفقرة مشكلة معروفة في التنظيم الدولي، هي مشكلة الاختصاص بين المنظمة والدول الأعضاء، أو مشكلة التمييز بين الاختصاص الداخلي والاختصاص الدولي. وتعرف كذلك بنظرية القطاع المحجوز للدولة. وهي تعني أن الدولة، عند اشتراكها في تأسيس منظمة دولية ما، لا تتنازل عن جميع صلاحياتها وإنما تحتفظ لنفسها بقدر معين، أو بقطاع معين من الصلاحيات لا يجوز للمنظمة أن تتدخل فيه. والمشكلة هنا شبيهة بمشكلة حقوق الولايات في الدول الاتحادية (الفدرالية). وهي مشكلة تنشأ بسبب توزيع الصلاحيات بين الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات.
وعند إنشاء عصبة الأمم، لم تُثر هذه المشكلة أية صعوبة فقد اتفق المؤسسون على أن يقتصر اختصاص العصبة على الأمور التي يعينها الميثاق لها، كما اتفقوا على أن ترجح كفة سيادة الدولة عند حدوث أي شك أو التباس حول توزيع الاختصاصات بين العصبة والدول الأعضاء.
ويبدو أن ألميركيين خافوا، آنذاك، من قيام حكومة عالمية تتمثل بالعصبة وتتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، فحاول صائغو الميثاق تبديد مخاوفهم من أجل تشجيعهم على الانضمام إلى العصبة، فعمدوا إلى إدخال فقرة على المادة 15 تتعلق بالتسوية السلمية للمنازعات، وتتضمن شرطاً ينص على أنه "إذا ادعى أحد الأطراف، وثبت للمجلس، أن النزاع يتعلق بمسألة يتركها القانون الدولي للاختصاص الداخلي المطلق لهذا الطرف، فإن على المجلس أن يثبت ذلك في تقرير، ولكن دون اتخاذ توصية بأي حل".
وفي اجتماع مؤتمر سان فرنسيسكو (نيسان – حزيران/أبريل – يونيو 1945) الذي انبثقت عنه منظمة الأمم المتحدة، وجد المؤتمرون ان اتجاه العصبة في هذا الصدد لا يتلاءم كلياً مع المخطط الدولي الجديد الرامي إلى توسيع النطاق الوظائفي للمنظمة الجديدة، فصاغوا الشرط الخاص بالاختصاص الداخلي أو الوطني للدول الأعضاء بطريقة تترك لهذه المنظمة اختصاصات أوسع. وجاءت الفقرة السابعة من المادة الثانية تمنع المنظمة من "أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما".
ومن هذا النص نفهم أن الميثاق يحتفظ بقطاع خاص من الصلاحيات للدولة، ويقيم بالتالي حاجزاً في وجه المنظمة العالمية يمنعها من التمتع بصلاحيات مطلقة( ).
وعلى الرغم من الغموض الذي يكتنف هذا النص (مما أدى إلى اختلاف الفقهاء في تفسيره)، فإننا نلمس، من اطلاعنا على التصرفات الصادرة عن الأمم المتحدة في هذا الصدد، وجود اتجاه واضح نحو توسيع نطاق الموضوعات التي يحق لهذه المنظمة أن تعالجها.
ولو اعتمدنا على الميثاق الأممي فقط لعثرنا فيه على أكثر من دليل على تكريس هذا الاتجاه. فلو كانت الأمم المتحدة لا ترغب في إناطة مهمة معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بالمنظمة الأممية، لما رضيت بإنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ولما جعلت منه فرعاً رئيسياً من فروع المنظمة. ولو كانت تعتبر الاستعمار مسألة اخلية لا تعني إلا الدول الاستعمارية، لما وافقت على إنشاء مجلس للوصاية، ولما صدقت على ميثاق يتضمن تصريحاً يتعلق بالأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي. ولو كانت تعتقد أن لكل دولة مطلق السيادة في معاملة رعاياها على أي نحو تريد (حتى وإن يكن نحواً تعسفياً) لما قبلت بنصوص الميثاق المتعلقة بحقوق الإنسان، ولما وافقت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إن موافقة الأمم المتحدة على هذه الالتزامات التي ألقاها الميثاق على عاتقها برهان ساطع على التزامها بمفهوم واسع وشامل لمهمة المنظمة العالمية.
ونذكر هنا أن إحدى اللجان الفرعية قدمت إلى مؤتمر سان فرنسيسكو مذكرة أقرت فيها بأن مشكلة حقوق الإنسان هي، بصفة أولية، مسألة داخلية، وإن كانت قد أكدت أنه "إذا عرضت الحريات الأساسية للأفراد لانتهاك مخلّ بحيث يخلق ذلك ظروفاً تهدد السلام، أو تعوق تطبيق نصوص الميثاق، فعندئذٍ لا تصبح هذه المسألة من شأن الدولة وحدها".
ولقد تذرع بهذا المبدأ كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. ففي العام 1946، وأثناء مناقشة المسألة الإسبانية. أكد المندوب السوفياتي بأن في وسع مجلس الأمن أن يتدخل دون حرج في شؤون إسبانيا على أساس أن الظروف الداخلية لتلك الدولة تشكل تهديداً للسلام والأمن الدوليين.
وعند مناقشة القضية الأندونيسية قال المندوب الأميركي في مجلس الأمن أنه "عندما تطلق النيران ويقتل الناس، فللمجلس كامل الحق في أن يأخذ بزمام المسألة في يده". وأكد في الجمعية العامة، لدى مناقشة مسألة فورموزا، في العام 1950، "إن هذه المسألة ليست من مسائل الاختصاص الداخلي لأنها مسألة يمكن أن تفضي إلى خلافات بين الدول، بل ومن الممكن أن تؤدي إلى اندلاع الحروب"( ).
ومع ذلك فنحن نعترف بأن تحديد المسائل التي تدخل في نطاق السلطان الداخلي للدولة يثير، في أغلب الأحيان، مناقشات طويلة وتفسيرات متفاوتة. ويحتدم الخلاف بين الفقهاء حول إمكان احترام السلطان الداخلي للولة في الحالات التي يعمد فيها ميثاق المنظمة إلى تحديد صلاحيات المنظمة بشكل واسع، أو إلى منحها صلاحيات شاملة. إذ كيف يمكننا، مثلاً، تعيين القطاع المحجوز للدولة، وبالتالي احترامه، إذا كانت المنظمة ذات اختصاص في كل ما يتعلق بحقوق الإنسان، أو بالتقدم الاقتصادي والاجتماعي، أو بكل ما يهدد السلام العالمي بالخطر؟
فمما تقدم نستنتج أن الأمم المتحدة تتجه، تارة بحذر وتردد، وطوراً بجرأة وإقدام، نحو توسيع الاختصاص الدولي على حساب الاختصاص الوطني، ونلاحظ أن الجمعية العامة قد حاولت عدم التقيد بالنص المذكور لتتمكن (وهي قد تمكنت فعلاً) من التدخل في جميع الشؤون الدولية والوطنية. فهذه الجمعية تعتبر نفسها برلماناً عالمياً من صلاحياته الاهتمام بكل ما يحدث في العالم للحفاظ على السلام العالمي.
ولعل خلو الميثاق من تعريف واضح للسلطان الداخلي جعل من الصعب تحديد المسائل التي تدخل في صميم هذا السلطان وشجع أجهزة الأمم المتحدة على محاولة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الدول (وخصوصاً الدول الكبرى) تفسر، في كثير من الأحيان، مسألة الاختصاص بأسلوب يتناسب مع مصالحها، فتراها تسلح بمبدأ الاختصاص الداخلي عندما يخدم هذا المبدأ أغراضها، وتُشهّر به حينما يتعارض مع هذه الأغراض.
وبعد هذا التوضيح لمعنى الفقرة السابعة من المادة الثانية، ولملابساتها على الصعيد العملي، نعود إلى السؤال المطروح: هل بإمكاننا أن نعتد بالفقرة المذكورة لنحول دون عرض الأزمة اللبنانية على الأمم المتحدة؟ وهل يكفينا أن نؤكد بأن ما حدث ويحدث في لبنان ليس سوى نزاع داخلي محض حتى نطمئن إلى أن الأمم المتحدة ستمتنع عن مناقشة الأزمة واتخاذ القرارات المناسبة فيها؟
إن طرح أزمتنا على الأمم المتحدة لم يعد رهن إرادتنا. إن وجودنا في المنظمة العالمية يحتم علينا أن نعترف باتساع صلاحياتها وبحقها في مناقشة أية مسألة ترى فيها خطراً على السلام أو الأمن الدولي. وينبغي أن نتذكر أننا كنا في طليعة الدول التي طالبت الأمم المتحدة مراراً بمناقشة قضايا كانت تعتبر من صميم السلطان الداخلي لبعض الدول. وكنا دائماً نبرر موقفنا هذا بفكرة الخطر على الأمن أو السلام العالمي، أو بفكرة حق تقرير المصير، أو ما شابه ذلك.
إن في وسع أي عضو في الأمم المتحدة أن يرفع إلى مجلس الأمن أو الجمعية العامة أية مسألة، ويصفها بأنها نزاع أو وضع من شأنه إثارة الخلافات بين الدول أو تعريض السلام العالمي للخطر. وإذا استطاع هذا العضو أن يحشد لها الأصوات اللازمة أدرجت المسألة في جدول الأعمال ونوقشت.
إن تركيب الأمم المتحدة يسمح بمناقشة أية قضية وباتخاذ قرارات فيها في كل مرة تتجمع فيها أصوات كافية لبحثها ومعالجتها. وعندما تتوافر الغالبية المطلوبة لذلك فلن يكون للاحتجاجات أو المواقف أو المبررات القانونية أي وزن يذكر.
لقد قال الأستاذ الجامعي Clyde Eagleton أن "في وسع أي فرع من فروع الأمم المتحدة أن يفعل الآن ما يشاء إذا حصل على الأصوات التي تتيح له ذلك"( ).
وقال زميل له، Inis Claude "إن التطور الدستوري للأمم المتحدة قد تمخض ليس فقط عن اتجاه نحو توسيع الاختصاص الدولي على حساب الاختصاص الداخلي، ولكن أيضاً عن اتجاه نحو معركة مريرة حول مسألة توازن الاختصاص بين المنظمة الدولية والدول القومية"( ).
والخلاصة أن الأمم المتحدة تستطيع، إذا شاءت، أن تضع يدها على الأزمة اللبنانية وتناقشها وتتخذ فيها القرارات الملائمة. ولكنها لن تفعل ذلك إلا بطلب رسمي من إحدى السلطات المختصة، محلياً أو دولياً. فما هي هذه السلطات التي يمكنها طلب التدويل؟ وهل يجوز "للجبهة اللبنانية" التي لا تني تهدد بالتدويل، أن تلجأ بنفسها إلى الأجهزة العالمية طالبة منها التدويل؟
****
رابعاً: السلطات المخولة طلب التدويل
إن طلب تدويل الأزمة اللبنانية يمكن أن يصدر عن الحكومة اللبنانية، أو عن الأمين العام للأمم المتحدة، أو عن الجمعية العامة، أو عن إحدى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
1 – إن أي طلب يرفع إلى الأمم المتحدة، بغرض تدويل الأزمة، يجب أن يصدر عن الحكومة اللبنانية. والحكومة أو السلطة التنفيذية في دولة ما تعرف، في حقل العلاقات الدولية، من خلال ثلاث من شخصياتها: رئيس الدولة، ورئيس الحكومة، ووزير الخارجية. ومن المتفق عليه دستورياً أنه لا يحق لرئيس الدولة، في النظام الديمقراطي البرلماني، أن ينفرد بممارسة السياسة الخارجية، أو أن يسمح لنفسه بكتم الأمور المتعلقة بهذه السياسة عن أعضاء حكومته.
وإذا كان رئيس الجمهورية في لبنان يتمتع بصلاحيات واسعة في حقل العلاقات الخارجية، فإن الدستور اللبناني (الذي يستمد أحكامه في هذا الصدد من قواعد النظام البرلماني) اشترط عليه وجوب ممارسة هذه الصلاحيات بواسطة الوزارة المختصة بالعلاقات الدولية (أي وزارة الخارجية) وبموافقة مجلس الوزراء كذلك. وقد حاول رئيس الجمهورية السابق (سليمان فرنجية)، وخصوصاً خلال الأزمة، أن ينفرد بالسياسة الخارجية ويروج لفكرة التدويل فلم يوفق في تحريك أي جهاز في الأمم المتحدة للاهتمام بما يجري في لبنان. وإذا كانت آخر حكومة للعهد المنصرم قد تميزت بالنفور بين رئيسي الدولة والحكومة والتباعد بين أعضائها، فإن الحكومة الحالية للعهد الراهن تتميز بالانسجام والتلاحم والتفاهم. وإذا كان بعض الأعضاء في الأولى قد سعوا عبثاً إلى التدويل، فإن جميع الأعضاء في الثانية لا يسمحون لأنفسهم بمجرد التفكير في هذا الأمر.
إن الحكومة الحالية، التي آلت على نفسها إعادة الاستقرار إلى البلاد، لن تفكر في التدويل، لأن طلب التدويل لا يمكن أن يفسر إلا بأنه اعتراف بالإخفاق الذريع المشين: إخفاق الحكومة في تنفيذ ما وعدت به، وإخفاق القوات العربية (ومعها كل الحكومات العربية) في المهمة الأمنية التي تصدت لها. والإخفاق هنا لن يكون إلا دليل عجز وإفلاس للعهد الجديد، وضربة قاضية لكل محاولات التعريب في المستقبل، أي لكل حل عربي للأزمات والخلافات العربية.
فمن المستبعد إذن، إن لم يكن من المستحيل، أن تقدم الحكومة اللبنانية، أو إحدى الحكومات العربية التي رأت الحل في التعريب، على ارتكاب عملية انتحارية من هذا النوع. وإذا كانت الحكومة السابقة، على الرغم من انقسامها على نفسها ورغبة بعض أعضائها في تحقيق التدويل، قد عجزت عن بلوغ هذا الهدف، فمن الطبيعي أن يكون تماسك الحكومة الحالية التي تحظى بتأييد كلي في الداخل والخارج، درعاً واقياً لها ضد إغراءات التدويل وترهاته.
2 – غير أن الأمين العام للأمم المتحدة يستطيع، إذا اراد، أن يقرع باب التدويل. إنه أرفع موظف في المنظمة العالمية. والميثاق الأممي قد اعتبر الأمانة العامة جهازاً من الأجهزة الرئيسية فيها، إبرازاً لأهمية الدور الذي تقوم به في ميدان العلاقات الدولية. ومن الصلاحيات التي منحها الميثاق للأمين العام حق تنبيه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تعرض للخطر حفظ السلام والأمن الدوليين (المادة 99).
وفي 30/3/1976، استخدم الدكتور كورت فالدهايم، كما ذكرنا، هذا الحق ووجه كتاباً إلى رئيس مجلس الأمن اعتبر فيه أن من واجبه لفت انتباه المجلس إلى خطورة الوضع في لبنان. ولكن الكتاب اكتفى بلفت نظر المجلس دون أن يطلب من الرئيس، رسمياً، دعوة أعضاء المجلس إلى الاجتماع فوراً لمناقشة هذا الوضع واتخاذ الترتيبات أو القرارات الملائمة. وقد فسر الجميع هذا السلوك بأنه تعبير واضح عن اقتناع الأمين العام بأن الوضع اللبناني لا يشكل تهديداً للسلام العالمي، ويستوجب بالتالي دعوة مجلس الأمن إلى الاجتماع وتدويل الأزمة. والبرهان على صحة هذا الاستنتاج أن الأمين العام لم يعمد، منذ ذلك التاريخ، إلى توجيه أي كتاب آخر مماثل إلى رئاسة مجلس الأمن، ولم يدل بأي تصريح ينم عن رغبته في تكرار المحاولة، بل إنه اعترف، عندما رد على برقية الرئيس كرامي موضحاً الأسباب التي حملته على القيام بمبادرته، إنه "كان متأكداً من أن النزاع القائم في لبنان هو نزاع داخلي..." ( ).
3 – وتبنت الجمعية العامة نفس الموقف الحكيم عندما أمسكت، لدى عقد دورتيها الأخيرتين (في خريف العام 1975، والعام 1976)، عن الخوض في موضوع الأزمة اللبنانية.
4 – ومع أن الميثاق الأممي، في المادة 35 منه، يمنح كل عضو من أعضاء الأمم المتحدة (وحتى كل دولة غير عضو، إذا وافقت على بعض الشروط والالتزامات) حق تنبيه مجلس الأمن أو الجمعية العامة إلى أي نزاع أو وضع قد يؤدي إلى اندلاع خلاف أو خصومة بين الدول، فإن أي عضو في الأسرة الدولية لم ير في الأحداث اللبنانية نزاعاً بين لبنان ودولة أو دول أخرى، ولم يقدم بالتالي على طلب التدويل. ومع أن رئيس الجمهورية السابق وأحد وزرائه (الذي عينه وزيراً للخارجية بصورة مخالفة للأعراف الدستورية) قد وجها إلى بعض الدول اتهامات صريحة بالتدخل في الشؤون الداخلية للبنان، وتعمدا استعمال تعبير "عدوان" لتحريض الأمين العام، أو اي عضو في الأمم المتحدة، على الإسراع في طلب التدويل، فإن مساعيهما لم تلق آذاناً صاغية( ).
ومما قدم نستنتج أنه لا يحق "للجبهة اللبنانية" أن ترفع بنفسها طلباً بالتدويل إلى الأمم المتحدة. إنها تحتاج، لتحقيق ذلك، إلى مساعدة الغير. والغير لا يمكن إلا أن يكون دولة أو مجموعة دول تتتبنى وجهة نظر "الجبهة" فتتقدم من الأمم المتحدة بطلب التدويل.
و"الجبهة" قد تقع على دولة أو دول مستعدة لتنفيذ هذه المهمة. ومع أن هذا التصرف سيُفسّر بأنه تنكر صريح للعهد وحكومة العهد من قبل "الجبهة"، وبأنه عمل عدائي للشرعية اللبنانية من قبل الدولة أو الدول التي ستقدم على هذا العمل، فعلينا أن نعد أنفسنا لإمكان تصور حدوثه. إن الأحداث والتجارب والسوابق الدولية علمتنا انتظار كل مستغرب وحدوث كل مستنكر، فالعلاقات والروابط بين الدول تقوم، في معظم الأحيان، على المصلحة والعاطفة أكثر مما تقوم على التجرد والعقل.
ولكن المهم هنا ليس التقدم بطلب التدويل، بل إمكان بحث الأزمة اللبنانية واتخاذ قرار فيها. وسيكون ذلك حتماً أمراً صعب المنال.
*************
خامساً: صعوبة بحث الأزمة اللبنانية في الأمم المتحدة
لو افترضنا أن طلباً بالتدويل رفع إلى الأمين العام للأمم المتحدة، وأن الأمين العام اقتنع بأن الأزمة اللبنانية تهدد السلام والأمن الدوليين بالخطر، فرفع الطلب بدوره إلى الجهاز الأممي المختص، فما هي الأصول التي تُتّبع عند ذلك لبحث الأزمة، وما هي النتائج المرتقبة؟
في الأمم المتحدة جهازان رئيسيان مخولان النظر في القضايا السياسية، وخصوصاً في قضايا السلام والأمن، هما: مجلس الأمن والجمعية العامة.
ومجلس الأمن مكون من 15 عضواً، خمسة منهم دائمون، وعشرة غير دائمين نتخبهم الجمعية العامة لمدة عامين. والدول الخمس الكبرى هي الدائمة في المجلس. والمجلس هو الأداة التنفيذية للأمم المتحدة. وهو المسؤول الأول عن حفظ السلام وصيانة الأمن في العالم، وقمع أعمال العدوان، وإنزال العقوبات بالأعضاء المخالفين.
أما الجمعية العامة فهي بمثابة برلمان عالمي تتمثل فيه جميع الدول الأعضاء على قدم المساواة. ومن حق الجمعية أن تناقش أية مسألة أو أمر يدخل في نطاق الميثاق الأممي، أو يتصل بصلاحيات أو وظائف أي فرع من فروعها، وأن توصي أعضاء الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، أو كليهما، بما تراه في تلك المسائل والأمور.
وهذا الحق يضيق مداه في المجال السياسي ويتسع في المجالات الأخرى. ففي الشؤون السياسية تتمتع الجمعية بحرية المناقشة دون أن تستطيع اتخاذ قرارات فاصلة بشأنها. إن صلاحياتها هنا تقتصر على إبداء التوصيات وتنبيه مجلس الأمن إلى الأوضاع التي تجعل السلام والأمن العالميين عرضة للخطر. والمجلس هو الذي يقرر ما يجب اتخاذه.
وفي كل مرة تعرض فيها على الجمعية مسألة تقتضي اتخاذ عمل من أعمال المنع أو القمع يجب على الجمعية إحالتها على مجلس الأمن. وعندما يباشر المجلس، بصدد نزاع أو وضع ما، الوظائف التي خوله إياها الميثاق، فليس للجمعية أن تقدم أية توصية بهذا الصدد، إلا إذا طلب المجلس منها ذلك.
غير أن الجمعية العامة استطاعت أن تتجاوز نصوص الميثاق وتوسع اختصاصاتها السياسية وتتعدى على اختصاصات مجلس الأمن وتتسلح، في العام 1950، بقرار معروف باسم "الاتحاد من أجل السلام"، يرمي إلى التغلب على عجز المجلس عن اتخاذ القرارات العاجلة بسبب لجوء الدول الخمس الدائمة فيه إلى كثرة استعمال حق النقض.
والقرار ينص على أنه في حال وجود تهديد للسلام، أو إخلال به، أو حدوث عمل عدواني، وفي حال فشل المجلس في القيام بمسؤولياته لحفظ الأمن الدولي نظراً لاختلاف الأعضاء الدائمين فيه، فإن للجمعية العامة أن تجتمع فوراً (ولو في دورة استثنائية طارئة) وتبحث المسألة لتقدم إلى الأعضاء التوصيات اللازمة حول التدابير التي يجب اتخاذها، ومن ضمنها استعمال القوة المسلحة، وذلك لإعادة الأمن والسلم إلى نصابهما.
وبذلك أصبح بإمكان الجمعية أن تحل محل المجلس عند عجزه، وأن تجتمع بناء على طلب الغالبية فيها أو بناء على طلب تسعة أعضاء من مجلس الأمن. فقرار "الاتحاد من أجل السلام" وضع، عملياً، الجمعية والمجلس على قدم المساواة. وقد استخدم هذا القرار، منذ العام 1956، في عدة حالات، أشهرها: أزمة المجر، والعدوان الثلاثي على مصر، وأزمة الكونغو، وحرب حزيران (يونيو) 1967...
فطلب تدويل الأزمة اللبنانية يجب أن يرفع أولاً إلى مجلس الأمن. ولا يمكن أن يعرض على الجمعية العامة إلا بعد فشل المجلس في اتخاذ قرار.
ولنتصور الآن أن الأمين العام رفع الطلب إلى مجلس الأمن ودعاه إلى الاجتماع فوراً لمناقشة الوضع في لبنان واتخاذ القرار الملائم. ففي هذه الحالة ستعترض الطلب صعوبتان: صعوبة تحديد طبيعة الطلب، وصعوبة اتخاذ القرار المناسب.
إن على المجلس، قبل أن يشرع في مناقشة الطلب، أن يوافق أو يتفق على أن الأزمة اللبنانية تشل نزاعاً بين لبنان ودولة أخرى، أو نزاعاً داخلياً من شأن استمراره تهديد السلام والأمن الدوليين. والمطلوب من الأطراف التي رفعت الطلب أو زكّته أن تثبت ذلك.
وقد يعترض أحد أعضاء المجلس على عرض القضية على المجلس ويرى أنها ليست سوى مسألة داخلية لا تعرّض السلام العالمي للخطر. وقد يحتدم الجدل بين الأعضاء حول هذه النقطة فينقسمون على أنفسهم. وقد يضطر رئيس المجلس إلى استعمال صلاحياته وإيقاف المناقشة وطرح الأمر على التصويت.
ونعلم أن لكل عضو في المجلس صوتاً واحداً، وأن القرارات التي تصدر عن المجلس على نوعين:
1 – القرارات الصادرة في مسائل إجرائية، وهي تصدر بغالبية تسعة أعضاء على الأقل، دون تفرقة بين أصوات الأعضاء الدائمين وأصوات غير الدائمين.
2 – والقرارات الصادرة في مسائل موضوعية، وهي تصدر بغالبية تسعة على الأقل بشرط أن يكون من بينها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة.
ومعنى ذلك أن كل عضو دائم في المجلس يملك حق الاعتراض أو النقض على إصدار القرارات الموضوعية، فإذا اعترض بمفرده، أو إذا اعترض الأعضاء الدائمون مجتمعين، على مشروع قرار في مسألة موضوعية لم يعد بإمكان المجلس إصدار قرار في المسألة. أما العضو غير الدائم فلا يملك هذا الحق بمفرده، بل بتكتله مع ستة آخرين من الأعضاء غير الدائمين وإعلان عدم موافقتهم.
ومع أن الميثاق الذي فرق بين المسائل الإجرائية والمسائل الموضوعية لم يضع معياراً لهذه التفرقة، فإن طبيعة الأزمة اللبنانية لن تثير أي خلاف، على ما نظن. إنها ولا شك مسألة موضوعية. وحتى لو نشأ خلاف حول وصفها أو تصنيفها فإن التصويت في المجلس لحسم الأمر سيجري على اعتبار أن المسألة مسألة موضوعية. فتتمكن الدول الكبرى بذلك من استعمال حق النقض عند الحاجة.
ولو طلب رئيس المجلس من الأعضاء أن يقرروا بالتصويت: (هل الأزمة اللبنانية مسألة داخلية لا يحق للمجلس أن يتدخل فيها، أم أنها أزمة تهدد السلام العالمي بالخطر)، فإن أي قرار يجب أن ينال الأكثرية المطلوبة، أي تسعة أصوات على الأقل من الخمسة عشر، بشرط ألا تستعمل إحدى الدول الخمس الدائمة حقها في النقض.
وفي رأينا إن اعتبار الأزمة اللبنانية مسألة تعرض السلام العالمي للخطر لا يمكن، في الظروف الراهنة، أن ينال الأكثرية المطلوبة لأسباب عديدة، أهمها:
1 – أن الدول الخمس الدائمة في المجلس ليست على خلاف حول هذا الموضوع، فحتى اليوم لم يصدر عن أي مسؤول في هذه الدول تصريح يعبر عن خشيته من أن يؤدي استمرار الأزمة اللبنانية إلى تعكير صفو السلام في العالم. ولم تقدم، حتى اليوم كذلك، دولة من هذه الدول على تنبيه المجلس أو الجمعية إلى خطورة الوضع اللبناني. ثم إن هذه الدول قد رحبت بالتعريب وأعلنت تأييدها للعهد اللبناني الجديد وأبدت استعدادها لتقديم كل مساعدة إليه لتمكينه من التغلب على الصعوبات الناتجة عن الأزمة.
2 – إن معظم الدول الخمس تمر بأزمات سياسية واقتصادية، بعد أن مرت في السابق بتجارب استعمارية مريرة، لا تشجعها على اتخاذ أي قرار قد يؤدي إلى تفاقم مسؤولياتها الدولية، وزيادة أعبائها المالية، واتساع متاعبها النفسية.
3 – إن للدول الخمس مصالح مادية كبيرة في الوطن العربي ليست على استعداد للتضحية بها أو تعريضها للخطر بسبب قرار أو موقف قد يثير نقمة الأنظمة والجماهير العربية.
4 – إن الدول العشر غير الدائمة تنتمي أما إلى المجموعة الأوروبية، وأما إلى كتلة عدم الانحياز، وأما إلى معسكر الدول النامية. ولكل منها مصلحة خاصة في عدم إثارة موضوع الأزمة اللبنانية في المجلس. فالمجموعة الأوروبية التي قاست الأمرين من انقطاع النفط العربي عنها، ومن تعرضها، بسبب مواقفها العدائية أو المعادية، لردود فعل عربية دامية، تحرص اليوم على عدم استعداء الدول العربية. أما مجموعة الدول النامية أو اللامنحازة فتعرف أن موافقتها على التدويل ستفقدها صداقة عشرين دولة عربية وتعرضها لخطر التدويل عند تعرض أمنها أو نظامها لأقل اهتزاز.
فمن الصعب إذن أن يوافق مجلس الأمن على وصف الأزمة اللبنانية بأنها خطر يهدد السلام العالمي، أو بأنها نتيجة اعتداء خارجي. وإذا صوت الأعضاء سلباً، أو إذا استعمل أحد الكبار حق النقض, أو إذا عجز المجلس عن اتخاذ قرار في الموضوع، فإن رئيس المجلس سيضطر إلى اختتام الاجتماع والاكتفاء بما حصل ونفض اليدين من المسألة. وهذا ما فعله المجلس، مثلاً، في تموز (يوليو) 1976، عندما فشل في اتخاذ قرار حول الغارة الإسرائيلية على مطار عنتبة الأوغندي.
وحتى لو افترضنا أن التصويت في المجلس كان إيجابياً، فإن المجلس سيضطر، في هذه الحالة، إلى الخوض في مناقشة المسألة اللبنانية من أساسها ومن مختلف جوانبها. وقبل التصويت على أي قرار سيصطدم من جديد بنفس الصعوبات التي اعترضت طريقه في المرحلة السابقة.
*******************
وبقي احتمال أخير: تحرك الجمعية العامة بموجب قرار "الاتحاد من أجل السلام"، عند فشل المجلس في اتخاذ قرار، وحلولها محل المجلس وبحث القضية من جديد. ولكيلا نطيل الحديث عن الصعوبات التي ستنتصب في وجه الجمعية وتعرقل عملها، سنكتفي بالإشارة إلى نظام التصويت فيها، مستشهدين بأحد الأمثلة العملية البارزة.
إن طريقة التصويت في الجمعية العامة تتميز بأنها تتبع، خلافاً لما كان يجري في عصبة الأمم، قاعدة الأغلبية وليس قاعة الإجماع. والجمعية تصدر قراراتها بأغلبية الأعضاء الحاضرين المشتركين في التصويت. ولكن المادة 18 من الميثاق تنص على أن قراراتها، في المسائل المهمة تصدر بأغلبية الثلثين. ومن المسائل المهمة التي تذكرها هذه المادة: التوصيات الخاصة بحفظ السلم والأمن الدوليين. وإن أتيح للجمعية، المكونة حالياً من 146 دولة، أن تعالج الأزمة اللبنانية فستدخلها تحت هذا البند. وكل تصويت فيها سيحتاج إلى أغلبية الثلثين. والاعتبارات التي أشرنا إليها، عند حديثنا عن مواقف الدول الأعضاء في مجلس الأمن، يمكن أن تتكرر هنا وتقف حاجزاً دون نجاح الجمعية في تأمين الأغلبية المطلوبة.
أما المثل العملي فيتعلق بمشكلة التصويت في الجمعية العامة على تمثيل الصين. فمنذ العام 1950 وحتى العام 1971، كانت هذه المشكلة تثار في كل دورة من دورات الجمعية، وكان يطلب من الأعضاء أن يجيبوا بالتصويت عن السؤال التالي: "من يمثل الصين: وفد فورموزا، أم وفد الصين الشعبية؟". وكان الاقتراح يجري في كل عام دون أن ينال مشروع القرار المؤيد لتمثيل لصين الشعبية أغلبية الثلثين. وبعد 21 عاماً من التصويت تمكنت الأكثرية في الجمعية (76 صوتاً ضد 35 وامتناع 17) من أن تصدر قرارها التاريخي بإعادة كل الحقوق إلى جمهورية الصين الشعبية، وطرد ممثلي فورموزا من أروقة الأمم المتحدة، واعتبار ممثلي حكومة بكين الممثلين الشرعيين والوحيدين للصين لدى الأمم المتحدة.
وقد أوردنا هذا المثل لنبين أن عملية التصويت في الجمعية على أمر ينطوي على ملابسات واعتبارات متعددة، ويتعلق بمصالح ومواقف متباينة، ليست بالأمر اليسير.
**********************
ولا يسعنا، في ختام بحثنا، إلا أن نشير إلى أننا، في حديثنا عن احتمال عرض المسألة اللبنانية على مجلس الأمن أو الجمعية العامة، قد اكتفينا باستعراض جزء من الصعوبات الإجرائية. والحقيقة أن هناك صعوبات أخرى، أهم وأعمق، ستواجه الأعضاء وتؤثر في طريقة تصويتهم عند بحث أسباب الأزمة اللبنانية. أو عند مناقشة أوضاعها وملابساتها، أو عند توجيه تهمة التدخل والإثارة إلى أية دولة، أو عند تحديد القرار المطلوب من الأمم المتحدة... ولكن مصير هذه الصعوبات سيرتبط في النهاية بكيفية التصويت ونتائجه. ولهذا ركزنا على عملية التصويت في كل من مجلس الأمن والجمعية العامة.
الحواشي
راجع الصحف اللبنانية الصادرة في 8/4/1977.
راجع الصحف اللبنانية الصادرة في 9/4/1977.
نفس المصدر السابق.
راجع محاضراتنا في القانون الدولي العام، لطلاب الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية وجامعة بيروت العربية.
Claude-Albert Colliard, Institutions Internationales, Dalloz, Paris, 1970.
راجع مقالنا في السفير، في 12/7/1976.
السفير، في 30/6/1976.
راجع الصحف الصادرة في هذا اليوم.
السفير، في 10/7/1976.
النهار، في 7/7/1976، وبعد شهر وجه كميل شمعون عبر الصحافيين "نداء توبيخياً للأمين العام للأمم المتحدة ولما يسمى الضمير العالمي المفقود". النهار، في 6/8/1976.
السفير والنداء، في 8/7/1976.
المحرر، في 12/7/1976.
السفير، في 28/7/1976.
الصحف الصادرة في 12/7/1976.
الصحف الصادرة في 5/7/1976.
السفير، في 27/7/1976.
النهار، في 28/7/1976.
النهار، في 29/7/1976.
نقلاً عن السفير، في 27/7/1976.
النداء، في 29/7/1976.
بيروت، في 8/8/1976، والسفير، في 9 منه.
كان عدد العمل في 28/7/1976، يحمل، في صفحته الثانية، تعليقاً سياسياً بعنوان "هذه الجامعة ماذا تنتظرون منها؟".
السفير، في 9/11/1976.
السفير، في 7/11/1976.
النهار، في 7/11/1976.
السفير، في 9/11/1976.
من تصريح لكمال جنبلاط في النداء، في 14/11/1976. وفي تصريح آخر له قال: "إن المعركة لم تنته... لأن جبهة الكفور، بما فيها من أحزاب، تطمح إلى تدويل القضية اللبنانية، ولم تسقط من حسابها تحقيق الوطن القومي الماروني الانعزالي..". لسفير في 16/11/1976.
من تصريح لإبراهيم قليلات، رئيس مجلس قيادة "المرابطون". النهار، في 21/11/1976.
بيروت، في 7/8/1976.
النهار، في 9/7/1976.
راجع محاضراتنا في المنظمات الدولية والإقليمية لطلاب الحقوق والعلوم السياسية.
راجع كتاب: النظام الدولي والسلام العالمي، تأليف اينيس كلود (الابن)، ترجمة الدكتور عبد الله العريان، دار النهضة العربية، القاهرة، 1964، ص258-259.
راجع الصفحة 594 من بحثه المنشور في عدد تموز (يوليو) 1953 من مجلة Foreign Affairs.
كتاب: النظام الدولي والسلام العالمي، المذكور، ص 260.
راجع نص رسالته في النهار، في 2/4/1976.
راجع، مثلا، رسائل الرئيس فرنجية إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية في أواخر حزيران (يونيو) 1976، ورسالته إلى رؤساء مصر والسودان والسعودية في 19/7/1976، ورسائل الوزير كميل شمعون إلى البعثات الدبلوماسية المعتمدة في لبنان، في 2/7/1976. وكلها تتضمن اتهامات ضد إحدى الدول العربية.
_________________________________________________________
المطالبة بالبوليس الدولي في لبنان
عادت نغمة البوليس الدولي(*) من جديد إلى الظهور، وهي، كنغمة الكانتونات السويسرية، وموال اللامركزية الإدارية والسياسية، ومعزوفة تدويل الأزمة اللبنانية، من تلحين فئة معينة من اللبنانيين. ففي جعبة هذه الفئة مشروعات ومقترحات تتحين الفرص لطرحها، اعتقاداً منها أنها قادرة على إلهاء الشعب، وصرف المسؤولين عن مهمة إعادة البناء والتعمير، والحفاظ على امتيازاته التي كانت السبب في الدمار الذي أصاب البلاد والعباد.
وفكرة البوليس الدولي ترتبط بوجود هيئة الأمم المتحدة التي قامت، كما نص ميثاقها، لإنقاذ لأجيال المقبلة من ويلات الحروب، وحماية الحقوق الأساسية للإنسان، والمحافظة على السلام والأمن الدوليين، وحل المنازعات الدولية بالوسائل السلمية. وقد خول الميثاق الأممي مجلس الأمن (كما خول قرار الاتحاد من أجل السلام الجمعية العامة، فيما بعد) حق إرسال قوات دولية إلى بعض الدول أو المناطق المعرضة لخطر العدوان أو الانفجار.
والقوات الدولية يمكن، بصورة عامة، أن تقوم بنوعين من المهام:
- مهمة الردع أو القمع، أو مهمة فرض السلام بالقوة.
- ومهمة الحفاظ على السلام، بالتمركز على الحدود الفاصلة بين الدول المتنازعة.
فمن حق الأمم المتحدة أن تتخذ، في بعض الحالات، إجراءات عسكرية ضد دولة أو دول وإرسال قوات دولية إليها لفرض السلام باسم المنظمة العالمية. ولم تلجأ هذه المنظمة إلى تدبير من هذا النوع إلا مرة واحدة منذ إنشائها. وكان ذلك في العام 1950، وضد كوريا الشمالية التي اتهمت بالاعتداء على كوريا الجنوبية، وفي غياب المندوب السوفياتي عن اجتماعات مجلس الأمن احتجاجاً على عدم قبول الوفد الممثل للصين الشعبية. وإرسال هذه القوات إلى الدولة المذنبة أو المعاقبة، أو سحبها منها فيما بعد، لا يحتاج إلى موافقة تلك الدولة.
والمطالبون بالقوات الدولية للبنان لا يقصدون هذا النوع من القوات. إنهم يقصدون بها القوات التي تقوم بمهمة حفظ السلام على الحدود وتقف حاجزاً عازلاً بين لبنان والكيان الإسرائيلي. وفي هذه الحال يطلق على القوات الدولية اسم البوليس الدولي، أو الشرطة الدولية، أو قوة الطوارىء الدولية. واصطلاح البوليس الدولي هو الشائع والمتداول.
والمرة الأولى التي تعرف العالم المعاصر فيها إلى قوة الطوارىء الدولية كانت في خريف العام 1956، أي بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر وقبول حكومة القاهرة بتمركز هذه القوات على حدودها المتاخمة للكيان الإسرائيلي. والسيد ليستر بيرسون L.Pearson، وزير خارجية كندا السابق، هو صاحب الفكرة. ومع أن قرار الجمعية العامة، الصادر في 7/11/1956، قد نص على وضع قوة الطوارىء على جانبي خط الهدنة، فإن إسرائيل رفضت استقبالها على حدودها( ).
ـــــــــــــــــ
(*) دراسة نشرت في مجلة شؤون فلسطينية، العدد 68/69، تموز – آب (يوليو – أغسطس) 1977.
وقوة الطوارىء، بعكس القوات الدولية لفرض السلام، يمكن أن ترسل إلى الحدود المشتركة لدولتين بطلب منهما أو برضاهما. ويمكن أن ترسل إلى حدود الدولتين لتتمركز على جانب واحد من الحدود. وفي هذه الحالة تحتاج إلى موافقة الدولة التي ستنزل في أرضها. وفي الحالتين يبقى وجود هذه القوة في أراضي الدولة أو الدولتين مرهوناً باستمرار الموافقة السابقة.
ونحن في لبنان لم نحظ بعد بمعرفة أصحاب "الخوذ الزرقاء" أو "القبعات الزرق" (وهي التسمية التي تطلق على جنود قوة الطوارىء). لقد أتيح لنا أن نتعرف فقط إلى المراقبين الدوليين الذين يقيمون على حدودنا الجنوبية، بأعداد قليلة، منذ العام 1949. ففي 23 آذار (مارس) من هذا العام، وقعت اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل ونصت في مادتها السابعة على أن "تكون للجنة الهدنة المشتركة سلطة استخدام المراقبين من بين المنظمات العسكرية التابعة للفريقين، أو من بين عسكريي هيئة مراقبة الهدنة التابعة للأمم المتحدة، أو من كلتا الجهتين، بالعدد الذي يعتبر ضرورياً للقيام بمهمتها. وفي حال استخدام مراقبي الأمم المتحدة لهذه الغاية فإنهم يظلون تحت قيادة رئيس أركان هيئة مراقبة الهدنة التابعة للأمم المتحدة...".
وتم اختيار المراقبين آنذاك من العسكريين التابعين للهيئة الدولية لمراقبة الهدنة. ومارسوا مهمتهم على جانبي الحدود الدولية الفاصلة بين لبنان وفلسطين حتى بداية آب (أغسطس) 1967. فابتداء من هذا التاريخ وحتى اليوم، لم يعد لهم وجود على الجانب الإسرائيلي. وجرت محاولات عدة لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، لم تكلل بالنجاح.
والفرق الأساسي بين المراقبين وقوة الطوارىء أن مهمة المراقبين تقتصر على مراقبة الحوادث والاشتباكات، وما شابه ذلك من الأعمال والتصرفات التي تعتبر خرقاً للهدنة، وإبلاغ الأمر إلى الأمين العام للأمم المتحدة. أما مهمة قوة الطوارىء فتتجاوز ذلك إلى الوقوف بشكل حاجز مسلح على جانبي الحدود، أو على جانب واحد منها، يحق لأفراده أن يطلقوا النار على كل مخترق للحدود بلا إذن.
وكل حديث عن البوليس الدولي في لبنان يقترن (أو يجب أن يقترن) باسم العميد ريمون اده، رئيس حزب الكتلة الوطنية. فهو أول من طرح هذه الفكرة على الرأي العام اللبناني في بداية العام 1965، فعقد عشرات الندوات والمؤتمرات والمناظرات من أجل الدفاع عنها وإقناع المسؤولين بها، وألقى الخطب العديدة، والتصريحات التي لا تحصى من أجل إظهار محاسنها وإثبات فوائدها للوطن، ووجه إلى الحكومات السؤال تلو السؤال لإحراجها أو حثها على اتخاذ موقف إيجابي من هذا الموضوع. لقد أثبت أنه، في الحقيقة، بطل الفكرة ورائدها الذي لا يعرف الكلل أو الملل.
وحتى نقف على مختلف جوانب الفكرة المطروحة، ونطلع على حجج المنادين به وردود المناهضين لها، ونحلل موقف إسرائيل منها، لا بد لنا، في البداية، من استعراض تاريخي للمراحل والتطورات والملابسات التي مرت بها الفكرة في لبنان. وبذلك نقسم بحثنا إلى أربعة أقسام:
- المراحل التي قطعتها فكرة المطالبة بالبوليس الدولي.
- حجج المنادين بها.
- حجج المعارضين لها.
- موقف إسرائيل منها.
القسم الأول: مراحل فكرة البوليس الدولي
تأثرت الفكرة، في كل المراحل التي قطعتها، بالظروف والأوضاع السياسية والعسكرية للبنان والمنطقة العربية، فكان الإقبال عليها، أو الإحجام عنها، أو اللغط حولها، يشتد تارة ويفتر طوراً، تبعاً للأحداث والظروف والتطورات التي كانت تتوالى على البلاد، وبإمكاننا توزيع هذه المراحل على خمس فترات زمنية:
- مرحلة الانطلاق التي تبدأ مع تباشير العام 1965 وتمتد حتى نهاية العام 1968.
- ومرحلة الانتشار والجدل، التي تشمل فترة العام 1969 كلها.
- مرحلة التبلور ووضوح المواقف، التي تستوعب الفترة الممتدة من العام 1970 حتى نهاية العام 1974.
- مرحلة الركود النسبي، التي دمغت عامي الحرب الأهلية (1975 - 1976).
- وأخيراً، مرحلة الانتكاس والتراجع عن الفكرة والتشكيك في فعاليتها، التي أخذت معالمها تتضح في الآونة الأخيرة.
أولاً – مرحلة الانطلاق (1965 - 1968):
تميزت هذه الفترة بثلاثة أحداث مهمة: التفكير في تحويل روافد نهر الأردن، وقبول الحكومة اللبنانية بقراري وقف إطلاق النار بعد نكسة حزيران (يونيو)، وحدوث الغارة المشؤومة على مطار بيروت. وتخلل هذه الأحداث جدل كبير حول ضرورة استدعاء البوليس الدولي، أعقبه انقسام في الرأي العام وتباين في مواقف المسؤولين. ولم يكتف العميد إده بطرح الفكرة والدعوة إليها، بل وجه أسئلة نيابية إلى الحكومة وهدد بتحويلها إلى استجوابات. وعندما بدأ البعض بمهاجمته، تسلح بالسابقة المصرية وراح يصطاد تصريحات المسؤولين المصريين ويجابه بها المناوئين للفكرة.
1 – في 12/1/1965، بحثت لجنة الشؤون الخارجية في المجلس النيابي موضوع تحويل روافد الأردن، فتقدم العميد إده، لأول مرة، باقتراح استدعاء القوات الدولية لتوفير الحماية لعملية تحويل مجرى الوزاني والحاصباني. وأشار إلى أن موافقة الأمم المتحدة على إرسال هذه القوات ستعني موافقتها على التحويل.
2 – وبعد انتهاء حرب حزيران (يونيو) وإعلان وقف إطلاق النار، تسرعت الحكومة اللبنانية فبعثت إلى الأمين العام للأمم المتحدة (يو ثانت) برسالة أبلغته فيها قرارها بقبول قراري وقف إطلاق النار (رقم 233 و234)، وطلبت منه توزيع قرارها كوثيقة صادرة عن الأمم المتحدة. ولبى الأمين العام طلبها في 31/7/1967، فسارعت إسرائيل، في اليوم التالي، وأعلنت للمرة الأولى، أن اتفاق الهدنة بينها وبين لبنان أصبح لاغياً. وأخذت، منذ ذلك التاريخ، تتصرف على هذا الأساس وتمتنع عن حضور اجتماعات اللجنة اللبنانية الإسرائيلية المشتركة للهدنة، وترفض وجود مراقبين دوليين داخل حدودها.
3 – في 25/6/1968، وبعد قيام إسرائيل بغاراتها على الجنوب، وخلال جلسة للجنة الشؤون الخارجية النيابية، كرر العميد إده اقتراحه باستدعاء بوليس دولي لحماية منطقة الحدود الجنوبية( )، فأثار اقتراحه عاصفة من اللغط والجدل على الصعيدين الرسمي والشعبي.
4 – وأعلن معظم السياسيين البارزين (وفي طليعتهم: عبد الله اليافي، وصائب سلام، وكمال جنبلاط، وكامل الأسعد) معارضتهم لأي اتجاه يرمي إلى وضع بوليس دولي على الحدود اللبنانية( ). وشن بعضهم حملة على العميد إده. واشترط آخرون (بيار الجميل ونسيم مجدلاني)، للموافقة على الاستعانة
بهذا البوليس "أن يوافق عليه جميع اللبنانيين بمختلف اتجاهاتهم وميولهم وطوائفهم، وأن يحظى بموافقة جامعة الدول العربية"( ).
5 – واستغرب العميد اده الحملة عليه واعتبر أن اقتراحه "ينبع من حرصه على مصلحة لبنان وسلامة حدوده". واستشهد بما فعلته مصر التي "وافقت على أن ترابط القوات الدولية على حدودها مع إسرائيل طوال سنوات للدفاع عن حدودها ولضمان أمنها". وقال: "لو رأت مصر في وجود القوات الدولية أي انتقاص من سيادتها لما وافقت على ذلك"( ). ثم وجه سؤالاً إلى الحكومة استوضحها فيه السبب الذي يمنعها من مباشرة بناء خزان ميفدون، "فإذا كان السبب هو خطر التعدي الإسرائيلي، فلماذا لم تطلب الحكومة من هيئة الأمم المتحدة إرسال البوليس الدولي، ولماذا لم نحاول إقناعها أن لبنان بحاجة إلى استثمار مياه الحاصباني وأننا لا نتمكن من البدء بالعمل إلا إذا أمنت البوليس الدولي على الحدود لمنع أي اعتداء؟"( ).
وفي اليوم التالي، أعلن أنه سيحوّل سؤاله إلى استجواب إذا لم تجب الحكومة ضمن المهلة القانونية، وأنه سيقترح عقد جلسة سرية لمجلس النواب لمناقشة موضوع البوليس الدولي "على مستوى المسؤولية وليس كما يناقش الآن على مستوى الدعاية والاستهلاك المحلي بقصد تملق الجماهير"( ).
6 – وكتب الشهيد كمال جنبلاط بهذه المناسبة مقالاً بعنوان: البوليس الدولي أو أوحال الحلف (أي الحلف الثلاثي الذي كان يضم شمعون والجميل وإده) استنكر فيه هذه "المعزوفة المستهجنة العجيبة"، ولاحظ أن هذه النغمة "تأتي بعد حادثين صغيرين يقعان على الحدود اللبنانية، وكأن هنالك اتفاقاً مسبقاً بين الحلفيين وحكام إسرائيل لكي يخرجوا... بنغمة البوليس الدولي...". ونصح العميد بأن يعمد إلى المطالبة بأحداث الخدمة العسكرية الإلزامية، وتسليح قرى الحدود، وفتح المعسكرات لتدريب اللبنانيين على ألوان الدفاع( ).
7 – وانبرى بعض الصحافيين للدفاع عن السابقة المصرية والرد على المقارنة التي يحاول العميد إده إجراءها بين قبول مصر بالبوليس الدولي في العام 1956، وبين مطالبته بالبوليس الدولي للحدود اللبنانية، فأكدوا "أن القاهرة قبلت البوليس الدولي كتكتيك لاسترداد سيناء وغزة، بينما يطالب العميد بالبوليس الدولي كاستراتيجية حماية.. فنحن في لبنان لا نزال نتهرب من الاستعداد لمواجهة الخطر الإسرائيلي بدون بوليس دولي، فماذا لو كان عندنا بوليس دولي؟"( ).
واعتبر آخرون اقتراح العميد إده إحدى الخطوات الفعلية لتنفيذ مشروع "تحييد لبنان" وإقامة نوع من التعايش السلمي بينه وبين إسرائيل. وهذا ما دعا أحد الصحافيين إلى رفض اقتراح العميد إده باستدعاء البوليس الدولي، ورفض حديث قداسة البابا عن التعايش السلمي بين الطوائف اللبنانية وعن "لبنان المسالم حيال المأساة الفلسطينية"، والتعليق بمرارة على هذين الموقفين والتساؤل عما إذا كنا
"أبرشية أو ضيعة تعيش من تربية البقر، وكل مطلبها حراس يؤمنون لها الاستمرار في حلب البقر.. نطلب البوليس الدولي ليحمينا ممن؟ من العرب أم من إسرائيل؟ أم من نصف اللبنانيين؟ أم لتوفير زبائن لفنادق البلد؟"( ).
8 – وصدف أن أوردت وكالات الأنباء العالمية، في بداية تموز (يوليو) 1968، تصريحاً للدكتور محمد حسن الزيات، الناطق الرسمي بلسان حكومة القاهرة، قال فيه أنه "إذا اقتضى تنفيذ القرار الذي اتخذه مجلس الأمن الدولي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وجود قوات سلام دولية، فإننا لن نعترض عليه". فسارع العميد إده إلى اصطياد هذا التصريح ووجه إلى الحكومة سؤالاً طلب منها فيه الإجابة عما يلي:
أ – هل أن قرار 22/11/1967... يتضمن عند تنفيذه وجود قوات دولية على الحدود التي ستفصل بين الأراضي العربية وتلك التي يحتلها العدو؟
ب – هل ترى الحكومة رأي القائلين بأن وجود قوات دولية على حدود لبنان الجنوبية يمس سيادة الوطن واستقلاله؟
ج – هل ترى الحكومة أن من الأفضل للبنان أن يطلب إرسال قوات دولية إلى حدوده الجنوبية قبل وقوع هجوم من الجيش الإسرائيلي، أو بعد وقوع مثل هذا الهجوم؟
د – ما دام وزير الخارجية قد اعترف أمام لجنة الشؤون الخارجية اللبنانية بأن "لإسرائيل مطامع في أراضي لبنان ومياهه"، إذن هل تنوي الحكومة إثارة طلب قوات دولية لوضعها على حدود لبنان الجنوبية في جامعة الدول العربية؟
هـ - هل وجود القوات الدولية يمنع الحكومة من اتخاذ جميع التدابير التي تؤدي إلى تعزيز قوة لبنان الدفاعية؟
و – ألا ترى الحكومة أن وجود قوات دولية يحول دون هجوم إسرائيل محتمل؟
ز – هل سبق لدولة أن هاجمت دولة أخرى مع وجود قوات دولية بينهما؟( ).
9 – وفي هذه الأثناء، نقل عن لسان رئيس الجمهورية (شارل حلو) أنه يرفض مناقشة اقتراح العميد اده ويقول: "إن اقتراح المطالبة بإقامة بوليس دولي على الحدود الجنوبية لا يمكن أن ينفذ ما دام هو على رأس الدولة"( ).
ومع أفول شمس العام 1968، كاد المحاربون على جبهة البوليس الدولي أن يخلدوا إلى الراحة لولا الغارة المشؤومة التي شنتها إسرائيل على مطار بيروت وما أعقبها من خسائر مادية ومشاحنات سياسية أدت إلى استقالة الحكومة وتأزم الوضع الداخلي.
ثانياً – مرحلة الانتشار والجدل (1969):
تعتبر هذه المرحلة العهد الذهبي لفكرة البوليس الدولي، ففيها قامت سلسلة من الإضرابات والمظاهرات احتجاجاً على ظاهرة اللامقاومة التي اتسم بها موقف السلطة بعد الغارة على المطار. وفيها اتهمت واشنطن بالتمهيد للحماية الأجنبية. وفيها انضم حزب الكتائب إلى العميد إده في اصطياد التصريحات الصادرة عن المسؤولين المصريين حول القوات الدولية. وفيها اشتد الجدل واحتدمت
المعارك الكلامية بين الزعماء السياسيين والمنظمات الحزبية. وفيها اتخذ كل من رئيس الدولة ورئيس الحكومة موقفاً واضحاً من الفكرة. وفيها أخيراً قدّم اقتراح، لم يحالفه التوفيق، بزيادة عدد المراقبين الدوليين وإعادة توزيعهم على جانبي الحدود.
1 – في بداية العام 1969، أعلن رئيس مجلس النواب (صبري حماده) معارضته الشديدة لاقتراح العميد إده، ورفضه لبحثه رسمياً في المجلس، وخاصة في لجنة الشؤون الخارجية، وقال: "إن على لبنان أن يستعد في هذه المرحلة ويعمل لإقامة حماية ذاتية ضد الاعتداءات الإسرائيلية"( ).
2 – وكانت البلاد تشهد، في هذه الفترة، سلسلة إضرابات احتجاجاً على سياسة "الاستسلام واللامقاومة" التي اتبعها النظام الحاكم تجاه الغارة على المطار. ومما زاد في تأجيج النفوس، أن الحاكمين ارتكبوا غلطة فاحشة حينما حاولوا تبرير سلوكهم هذا "بأنه يكسبنا عطف العالم" (على حد تعبير المرحوم حسين العويني، وزير الخارجية والدفاع)، أو بأن "قوة لبنان في ضعفه" (حسب تعبير الشيخ بيار الجميل، وزير الداخلية).
3 – ولاحظت بعض الصحف أن سياسة الحماية الأجنبية التي لم تستطع في السابق، أمام الضغوط الشعبية، أن تحقق أحلامها في استقدام قوات أجنبية إلى لبنان، أو في وضع قوات دولية على حدوده الجنوبية، أو في إقرار تحييد لبنان أو تدويله، عادت اليوم، بعد حادث المطار والتهديد الإسرائيلي بالاحتلال، إلى طرح هذه المشاريع المشبوهة.
وعندما استنكرت الولايات المتحدة الغارة الإسرائيلية وتظاهرت بتأييد لبنان، أدركت الأوساط الوطنية حقيقة الموقف الأميركي وخلفياته السياسية، واعتبرت أن حكومة واشنطن تدعم في الواقع الهجوم الإسرائيلي لأنه يحقق قوة للتيار الذي ينادي بالحماية الأجنبية، ويجعل النظام اللبناني كله يطالب بها، بعد إظهار عجزه عن الرد والمقاومة. "وهكذا فإن أميركا اكتفت باستنكار تصرف إسرائيل لفظياً، بينما كانت في حقيقة الأمر تؤيده، كي تخلق الظرف المناسب لمشاريع الحماية الأجنبية"( ).
4 – وعندما طالب العميد إده بالبوليس الدولي واقترح (كيلا يُظنّ أن وراء اقتراحه مخططاً استعمارياً) بأن تكون القوات تابعة لدول إسلامية، كباكستان وتركيا وأندونيسيا، لاحظت بعض الأوساط أن هذه الدول الإسلامية تابعة لأحلاف عسكرية غربية( ).
5 – وفي 14/1/1969، أوردت إحدى وكالات الأنباء العالمية تصريحاً للسيد محمود رياض، وزير الخارجية المصرية، قال فيه: "إن الحكومة المصرية مستعدة لقبول وجود قوات تابعة للأمم المتحدة على الحدود المصرية – الإسرائيلية، بعد جلاء القوات الإسرائيلية.. ويمكننا أن نقبل أيضاً قيام جنود القبعات الزرق بين قواتنا المسلحة وقوات إسرائيل في أثناء فترة انسحاب هذه الأخيرة.." ( ). فتلقفت صحيفة العمل الكتائبية هذه الفرصة الغالية لتعلق على هذا الخبر في موضعين:
أ – في زاوية "من حصاد الأيام"، حيث قالت: "كل ما في الأمر أن مصر التقدمية الاشتراكية والعربية المناضلة لم تجد حرجاً في موضوع القوات الدولية، ولا كان رأيها هذا منقصاً من قدر نضالها أو من إخلاصها".
ب – وفي الافتتاحية حيث سألت "أساطين نضال الصالونات والأراكيل" عن رأيهم في الموضوع وتساءلت: "كيف يكون وجود البوليس الدولي على الحدود المصرية – الإسرائيلية عزة وشهامة ووطنية وحنكة ودهاء وتحرراً وتقدما واشتراكية وكرامة ورخاء، بينما يكون ذلك الوجود نفسه على الحدود اللبنانية الإسرائيلية ذلاً واستسلاماً وخيانة وعمالة ورجعية واستعماراً وصهيونية.."( ).
6 – وتحولت مسألة البوليس الدولي إلى موضوع يومي تتداوله الصحف والألسن، وتعالجه المنظمات والأحزاب، وتختلف حوله الشخصيات السياسية البارزة. واتسمت الفترة التي أعقبت تشكيل الحكومة الجديدة (برئاسة رشيد كرامي) باندفاع العميد اده في حملته، والتبشير باقتراحه، ومهاجمة المناوئين له. لقد دافع مرة عن اقتراحه الرامي إلى حماية لبنان من مطامع إسرائيل، واتهم كمال جنبلاط بأنه يريد أن يجعل من لبنان دولة اشتراكية لإضعافه وإفقاره كي يصبح لقمة سائغة في فم إسرائيل( ). ووجه من جديد سؤالاً إلى الحكومة قرر فيه مطلبه "لأن خطر تعدي إسرائيل على لبنان بهجوم عسكري جديد خطر حقيقي وممكن الحدوث في أي وقت"( ).
وشارك، في الجامعة اليسوعية، إلى جانب الرئيس صائب سلام، والوزير جوزف أبو خاطر، والنائب نصري المعلوف، في مناظرة حول "الخطر الصهيوني ومفاهيم الدفاع عن لبنان"، كرر فيها أفكاره المعروفة، فتصدى له الرئيس سلام ووصف فكرة البوليس الدولي بأنها أصبحت عقدة نفسية لدى فئة من اللبنانيين، وعدد الأسباب التي تدفعه إلى معارضة الفكرة، ومنها عدم إجماع رأي اللبنانيين وعدم فعالية القوات الدولية( ).
وسئل العميد اده، أكثر من مرة، عما إذا كان سيطالب ببوليس دولي فيما لو أصبح رئيساً للجمهورية، فأجاب بالإيجاب ورد على التهمتين اللتين تثاران عند الحديث عن هذا البوليس: تهمة العمل لتدويل لبنان أو تحييده، وتهمة إقامة حاجز يمنع الفدائيين من التسلل إلى إسرائيل( ).
وابتداء من نهاية أيار (مايو) طرأ تغير على موقف العميد من العمل الفدائي فأخذ يدلي بتصريحات يعلن فيها رفضه لوجود هذا العمل في لبنان. وفي 13/6/1969، اجتمع حزب الكتلة الوطنية بجميع هيئاته وقرر بالإجماع تأييد البيان الذي أدلى به العميد حول القضايا السياسية، وطالب فيه المسؤولين بوجوب "الإسراع في تقديم طلب إلى الأمين العام للأمم المتحدة أو إلى مجلس الأمن، لإرسال قوات دولية إلى لبنان قبل وقوع هجوم إسرائيلي عليه"( ).
وفي حزيران (يونيو)، وعندما كانت الأزمة الوزارية في أوجها، قابل العميد اده رئيس الجمهورية وصرح قائلاً: "طلبت من الرئيس حلو استدعاء قوات دولية فرفض، ثم طلبت منه إخراج الفدائيين فأجاب أنه لا يمكنه إخراجهم وحده". وأوضح أن القوات الدولية لن تأتي إلى لبنان تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الصادر في 22/11/1967، وقال: "لذلك أكرر ما قلته مراراً أن على السلطات اللبنانية طلب قوات دولية استناداً إلى قرار 22 تشرين الثاني (نوفمبر)، وليس تنفيذاً له. وعندئذ تتمركز القوات الدولية على أرض لبنان وتبقى إلى أن يطلب لبنان سحبها..." ( ).
وفي أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)، أكد العميد للإذاعة الفرنسية رفضه للحماية الغربية، وطالب بحماية الأمم المتحدة لتفادي الانتقام الإسرائيلي، وتعهد بسحب اقتراحه هذا "إن قدر الفدائيون أو أحد من الجيوش العربية على حمايتنا"( ).
7 – وأحب رئيس الحكومة الجديدة التي تشكلت في منتصف الشهر الأول من العام 1969، أن يدلي بدلوه في موضوع البوليس الدولي، فصرح في ندوة صحافية بأن الفكرة قديمة وأنها ليست "موضع اتفاق في الرأي بين اللبنانيين"، وألمح إلى أنه سيعمل بالمبدأ القائل بأنه "يجب أن نطرح جانباً كل ما نختلف عليه"( ). وبعد أيام أدلى بتصريح واضح حسم به الموقف الرسمي. قال: "إن وضع قوات ولية على الحدود اللبنانية لا يمكن أن يحمي لبنان، ذلك أن القوات الدولية التي وضعت على حدود بلدان أخرى لم تمنع إسرائيل من تنفيذ سياستها العدوانية"( ).
8 – وكان الحلف الثلاثي، بزعامة شمعون والجميل وإده، يعيش آنذاك أسعد أيامه، فعقد، باسم النواب من أعضائه، مؤتمراً في مصيف برمانا، ما بين 7 و9 آذار (مارس)، أذاع على أثره بياناً أعلن في أحد بنوده المتعلقة بالسياسة الخارجية، وجوب "الإفادة من كل حق يولينا إياه انتسابنا إلى منظمة الأمم المتحدة، ولا سيما حق الاستعانة بقوات الطوارىء الدولية لضمان سلامة أراضينا"( ).
وقابل فرسان الحلف الثلاثة رئيس الجمهورية ورفعوا إليه مذكرة مستوحاة من البيان الصادر عن المؤتمر( ). وخلال المناقشة قال الرئيس حلو أن قضية البوليس الدولي يقوم خلاف أساسي عليها بين اللبنانيين ولا يمكن الموافقة عليها في ظل هذا الخلاف. وتولى العميد إده مهمة الدفاع عن وجهة نظر الحلف مؤكداً أن قوة الطوارىء الدولية تقف في وجه مطامع إسرائيل التوسعية، ولا يشكل دخولها أي افتئات على سيادة البلاد( ).
وفي نفس اليوم أذاع الرئيسان عبد الله اليافي وحسين العويني نص المذكرة التي سلماها إلى الرئيس حلو، رداً على بيان الحلف. وقد جاء فيها ما يلي:
"إن الحلف يطالب باستقدام قوات أجنبية، وسواء سميت قوات طوارىء دولية أو غير ذلك، ففي هذا الطلب نقض صريح لأسس الميثاق الوطني ومس في الصميم لسيادة لبنان واستقلاله، فضلاً عن أنه يعطي انطباعاً في الخارج بأن لبنان قد انفصل عن المجموعة العربية وعزل نفسه عنها، وأنه يساهم، مباشرة أو غير مباشرة، بالمخططات التي ترسم لتدعيم كيان إسرائيل وإثارة الشكوك والخلافات بين الدول العربية.
"إن الميثاق الوطني الذي اتفق عليه اللبنانيون سنة 1943، وما زالوا يتمسكون به شرعة وطنية استقلالية يقضي برفض مبدأ الحماية الخارجية ورفض وجود قوات أجنبية على أراضيه. ولذلك فإن مطالبة الحلف بحماية دولية أجنبية هو نقض صريح لهذا الميثاق كما قلنا، وتهديد مباشر للوحدة الوطنية المرتكزة عليه، ناهيك بأن مبدأ الاعتماد على الأجنبي لحماية الوطن والدفاع عن أراضيه خطر وغير مجد ومن شأنه أن يزرع بذور الاتكالية والانهزامية في نفوس المواطنين ولا سيما الشباب منهم، وبالتالي فإنه يضعف معنوياتهم ويعطل منابع الشعور الوطني في نفوسهم"( ).
ورد كميل شمعون على هذه المذكرة، وأكد أن الاستعانة بالبوليس الدولي ليست لحماية المناطق المسيحية، بل للذود عن الحدود الجنوبية، وهي ليست حدوداً مسيحية( ).
9 – وفي النصف الثاني من آذار (مارس)، دار حوار سياسي بين حزبي الكتائب والهيئة الوطنية تركزت المناقشة فيه حول المواضيع السياسية التي تسبب الانقسام الداخلي، وفي مقدمتها مطالبة الحلف
الثلاثي بالبوليس الدولي. وأعلن ممثل الهيئة الوطنية رأي حزبه بالبوليس الدولي فأكد "أنه لن يرضى به لأنه دون فائدة، فغولدا مايير قالت منذ عدة أيام أن البوليس الدولي هو حائط بسيط ويمكن اجتيازه بسهولة ولا يشكل أي ضمان لأي بلد"( ).
10 – وفي نهاية آذار (مارس) نشرت صحيفة "الأوريان" رداً على تصريحات أركان الحلف الثلاثي نسبته إلى شخصية مقربة من رئيس الجمهورية. ولكن الأسلوب الذي كتب به قد ذكر، بغمزاته وتورياته واستطراداته، قراء الفرنسية في لبنان بتلك المقالات التي كان الصحافي شارل حلو يكتبها في افتتاحية صحيفة "لوجور". وقد جاء في الرد أنه "إذا كانت غاية دعوة البوليس الدولي للإقامة على الحدود هي جلب الرساميل والسواح. فإن أي سائح أو رأسمال سوف يتحول عن لبنان لمجرد علمه بأن لبنان في خطر وأنه يستنجد بالبوليس الدولي"( ).
11 – وفي 11 آب (أغسطس)، قام الأسطول الجوي الإسرائيلي بهجوم على بعض قرى الجنوب، فرفع لبنان شكوى إلى مجلس الأمن. واقترح الأمين العام للأمم المتحدة، على كل من لبنان وإسرائيل، الموافقة على زيادة عدد المراقبين الدوليين ووضعهم على جانبي حدودهما المشتركة. وجاء ذلك في رسالة رسمية وجهها إلى كل من الحكومتين في 16/8/1969. ولم يحدد الأمين العام عدد المراقبين الذي يرتئيه، ولكنه اكتفى باقتراح "عدد يكفي لإجراء مراقبة فعالة". ولكن الحكومتين رفضتا، لأسباب متباينة، هذا الاقتراح، فبقي وضع المراقبة الدولية على ما كان عليه.
12 – وفي أيلول (سبتمبر)، عقد في لبنان مؤتمر للأساتذة والطلاب المنتمين إلى عدة حركات مسيحية في المشرق العربي، ضم المطران غريغوار حداد، والأب جورج خضر، والأب دوبريه لاتور، واتخذ عدة قرارات، منها "إن الحل الوحيد لقضية فلسطين هو بيد الكفاح المسلح الذي يخوضه شعبنا والذي لا يمكن أن يتوقف قبل إزالة الدولة الصهيونية كدولة عدوانية وكواقع استعماري..."، ومنها كذلك "إن حرية العمل الفدائي ضمن جميع أجزاء الأرض العربية أصبح أمراً لا يمكن التنازل عنه في أي ظرف، لأننا لا يمكن أن نقبل بأن تصبح حدود أي بلد عربي حدود أمن وحماية لإسرائيل. إن العمل الفدائي في نظرنا يشكل على المدى الطويل أحد العوامل الرئيسية لحماية الأرض العربية من الهمجية الصهيونية التي تتهددها بأسرها"( ).
ثالثاً – مرحلة التبلور ووضوح المواقف (1970 - 1974):
شهدت هذه الفترة الزمنية عدة أحداث سياسية مهمة، في المجالين الداخلي والخارجي، أبرزها:
- انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية بفارق صوت واحد في صيف العام 1970.
- إجراء آخر انتخابات نيابية في لبنان، في ربيع العام 1972، في ظل أجواء ملبدة بغيوم الصراع السياسي.
- حدوث الاصطدام المسلح بين السلطة والمقاومة الفلسطينية في أيار (مايو) 1973، بعد تمكن الإسرائيليين وعملائهم من التسلل إلى بيروت ليلاً واغتيال بعض قادة المقاومة.
- تحقيق العرب لبعض الانتصار في معركة أكتوبر 1973.
وعلى صعيد حملة المطالبة بالبوليس الدولي برزت عدة ملامح جديدة، أهمها:
- التزام أحزاب اليمين وأحزاب الحركة الوطنية بموقف معين وواضح تجاه هذه المسألة التي ترددت أصداؤها في المعركة الانتخابية.
- تغيير بعض السياسيين لمواقفهم من المسألة.
- انضمام بيار الجميل وحزبه إلى قافلة المبشرين بالبوليس الدولي.
- بداية التحرك رسمياً باتجاه البوليس الدولي.
- استمرار العميد إده، الذي ساءت علاقته بالسلطة وانفصل عن الحلف الثلاثي، في دعوته التي راح يقرنها بالحملة على اتفاق القاهرة، والتشكيك في تسليح الجيش، والمطالبة بتقليد السلوك السوري.
1 – في بداية العام 1970، انضم رئيس حزب الكتائب (وكان وزيراً للداخلية) إلى العميد اده في حملته، ودعا إلى فتح حوار بناء بهذا الشأن، وتساءل عن أسباب عدم طلبنا الحماية من الأمم المتحدة "بدل أن ندفع كل ثروتنا لشراء السلاح من أجل معركة خاسرة؟"( ).
وزار رئيس الجمهورية وصارحه بأن بقاءه في الحكم مرهون بتنفيذ اتفاق القاهرة، وكرر أمام الصحافيين دعوته لفئة المعارضين لفكرة البوليس الدولي كي يدخلوا، مع المؤيدين لها، "في حوار إيجابي.. للوصول إلى ما يحفظ سيادة لبنان وسلامة أراضيه"( ).
وزار جمعية المراسلين الأجانب وعقد ندوة كرر فيها رأيه بوجوب استقدام قوات الطوارىء الدولية التي تقوم بمهمة "الدفاع عن الضعيف ضد القوي وتكون مع العدالة ضد الظلم". ولكنه أكد، مرة أخرى، أن أمر دعوة هذه القوات مرهون بموافقة جميع اللبنانيين عليه( ).
وفي نهاية شباط (فبراير) 1972، كان موعد الانتخابات النيابية يقترب، وكانت الغارات الإسرائيلية تتكرر على قرى الجنوب، وكان حزبا الكتائب والوطنيين الأحرار (بعد انسحاب حزب الكتلة الوطنية من الحلف الثلاثي) يعقدان الاجتماعات الدورية للتنسيق بينهما، وكان رئيس الكتائب ينتهز كل فرصة ليدعو إلى "السعي للمطالبة بالبوليس الدولي لحماية الحدود الجنوبية"( ).
2 – واستمر العميد اده في حمل مشعل البوليس الدولي، ولكنه لاحظ، بعد توقيع اتفاق القاهرة، أنه "أصبح من الصعب أن تأتي القوات الدولية اليوم بعدما وافقت الحكومة اللبنانية على اتفاق القاهرة الذي.. ينقض اتفاق الهدنة مع إسرائيل واتفاق وقف إطلاق النار.." ( ). وكان قد قال في جلس النواب إن اقتراح طلب قوات الطوارىء الدولية تجاوزته الظروف ولم يعد وارداً. وإذا طلبنا اليوم هذه القوات فإن الأمم المتحدة لن تلبي طلبنا( ).
إلا أن العميد كان يحنّ إلى الشعار الذي أطلقه فيعود إلى بعد كل غارة إسرائيلية. ففي بداية العام 1971، تعرضت منطقة الصرفند للهجوم فسارع إلى المطالبة من جديد البوليس الدولي( ).
وعندما كانت تقدم مشروعات لتسليح الجيش كان ينبري لمعارضتها والتشكيك في نتائجها، مؤكداً أن تعزيز قواتنا العسكرية، في الظروف الراهنة، لن يغير من واقعنا المر شيئاً. ونذكر على سبيل المثال ما قاله في اللجنة النيابية للمال والموازنة، في 15/2/1971، لدى مناقشة مشروع المئتي مليون ليرة لتسليح الجيش. لقد طرح السؤال التالي:
"إذا اشترى لبنان أسلحة حديثة وزود بها الجيش، فهل يصبح في الإمكان الموافقة على إعطاء أمر للجيش للرد على إسرائيل وإسقاط طائرة هليكوبتر للعدو، مثلاً، من دون التخوف من ردود الفعل الإسرائيلية والتذرع بالتغطية الجوية التي يملكها العدو؟ فإذا كان الوضع برغم تسليح الجيش وإنفاق الملايين لن يتبدل وسيظل الخوف من ردود الفعل الإسرائيلية قائماً، فلماذا نخصص إذن كل هذه الملايين ونحرم المناطق اللبنانية من المشاريع الحيوية ومن المدارس والطرق؟ ألا يكون من الأفضل، والحالة هذه، أن نظل على ما نحن، لأن قوتنا هي في ضعفنا؟"( ).
وفي مستهل العام 1972، تكرست القطيعة بينه وبين قطبي الحلف الثلاثي السابق (شمعون والجميل). وبدأت علاقاته بعهد فرنجية تتدهور. ورغم ذلك فإن إيمانه بالبوليس الدولي لم يتزعزع( ).
وفي صيف العام 1974، كرر زياراته للجنوب، محرضاً الأهالي على التكتل والتقدم باستدعاء القوات الدولية "لأنها الوسيلة الوحيدة التي في إمكانها أن تضع حداً للهجوم الإسرائيلي على لبنان"( ). وسئل عن رأيه في استمرار قصف قرى الجنوب، فقال: "إن على الحكومة أن تختار بين ثلاثة مواقف: وضع الجيش اللبناني على الحدود، أو الاستمرار في سياسة اللامبالاة، مع استمرار وجود "الجزمة" الإسرائيلية على أرض الوطن، أو طلب قوات دولية تمنع إسرائيل من الخرق الدائم لاتفاق الهدنة.."( ).
وعندما جرت، في شباط (فبراير) 1974، مفاوضات لإيقاف إطلاق النار في الجولان وإيفاد قوات دولية للفصل بين الطرفين المتحاربين، انتهز العميد هذه الفرصة ليقول: "إذا وافقت سوريا غداً على وجود قوات دولية على أرضها تتمركز بين الجيش السوري والجيش الإسرائيلي، فإني سأطلب من الحكومة أن تطلب أيضاً قوات دولية تتمركز على الحدود اللبنانية والإسرائيلية، لكي تمنع اعتداءات الجيش الإسرائيلي على قرانا.." ( ). وكرر هذه الفكرة بعد ذلك في لجنة الشؤون الخارجية النيابية( ). وفي الندوة الصحافية التي عقدها بعد عودته من باريس( ).
ولعل من أعظم المكاسب التي استطاع العميد اده تحقيقها على صعيد دعوته، في هذه الفترة، أنه تمكن من كسب تأييد رئيس مجلس النواب، وجعل وزير الداخلية (كمال جنبلاط) يعود إلى طرح فكرة الاستعانة بقوات عربية. فالرئيس كامل الأسعد، بعد معارضته العنيفة لفكرة البوليس الدولي وتصريحه بأنه "ضد مناداة لبنان بطلب البوليس الدولي في هذه الظروف.. لأن طلب السلطات اللبنانية للبوليس الدولي ليوم.. يعني عزل لبنان عن المجموعة العربية وتخليه عن دوره في المعركة المصيرية"( ) عاد وتخلى عن هذا الموقف وأعلن تبنيه لاقتراح العميد اده( ).
وبعد تدهور الوضع في الجنوب وتوجيه إسرائيل لتهديداتها إلى لبنان، طرح الشهيد جنبلاط اقتراحاً قديماً له يدعو إلى الاستعانة بقوات من دول المغرب العربي، باعتبار أن هذه الدول لا مطامع لها في لبنان( ).
3 – وحاولت بعض وكالات الأنباء العالمية، المرتبطة بالإمبريالية والصهيونية، أن تذيع أخباراً ملفقة من شأنها إشاعة الفرقة والبلبلة في صفوف الفئات المعارضة لفكرة البوليس الدولي، فادعت يوماً
(كما نشرت وكالة رويتر في نبأ لها من باريس) "أن الزعيم الروحي للمسلمين الشيعة في أوروبة دعا إلى وضع قوات دولية لحفظ السلام لحماية الشيعة في جنوب لبنان"، وأنه بعث برسالة إلى البابا والأمين العام للأمم المتحدة ورؤساء الدول الأربع الكبرى تحدث فيها "عن المصير المفجع للمسلمين الشيعة المقيمين بالقرب من الحدود الإسرائيلية"، واقترح إرسال قوات دولية إلى جنوب لبنان "كيلا تبقى الأقلية الشيعية المقيمة هناك ضحية العسكرية الصهيونية".
وسارع الإمام موسى الصدر آنذاك إلى تكذيب الخبر مؤكداً أن ليس للشيعة زعيم روحي في أوروبة، وليس لهم أية علاقة بالاقتراح المقدم( ).
4 – وفي بداية العام 1972، وفي أثناء الزيارات التي كان المبعوث الصامت للأمم المتحدة (السفير يارينغ) يقوم بها لدول المنطقة، سرت إشاعات مفادها أن اتصالات دبلوماسية سرية تجري لإحياء فكرة البوليس الدولي بين لبنان وإسرائيل، وذلك من ضمن مشروع التسوية السياسية الذي يعمل له مبعوث الأمم المتحدة. وقيل أن بعض الشخصيات السياسية اللبنانية كانت تشارك في هذه الاتصالات الرامية إلى حل مسألة الوجود الفدائي في لبنان بصورة تجعل انطلاق عمليات المقاومة ضد العدو من الأراضي اللبنانية أمراً غير ممكن. وذكرت بعض المصادر المطلعة أن لبنان أبلغ الجهات الدولية التي يجري اتصالات صامتة معها أنه يبحث جدياً في دعوة مجلس الأمن لإرسال قوات دولية إلى منطقة الحدود الجنوبية، على أن يتخذ في ذات الوقت قراراً بإلغاء اتفاق القاهرة الذي يعتبره متناقضاً مع طلب إرسال القوات الدولية. غير أن السلطات اللبنانية تفضل انتظار بدء الجولة الجديدة للمبعوث يارينغ في المنطقة، التي تهدف إلى تحقيق حل جزئي عن طريق إعادة فتح قناة السويس على أساس القبول بمرابطة بوليس دولي على جانبيها. والدوائر اللبنانية تعلق أهمية كبرى على نتائج المساعي الدولية التي يقوم بها المبعوث يارينغ، فإذا أسفرت عن اتفاق، حتى ولو كان جزئياً، فإن الأمر يصب في نظرها اقل تعقيداً، ويمكن عندئذ الإقدام على خطوة استدعاء البوليس الدولي( ).
5 – واضطرت الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية إلى أن تعبر عن وجهة نظرها وتحدد موقفها من اقتراح البوليس الدولي الذي لا يختلف في شيء عن مشاريع الضمانات الأجنبية والدولية، فعقدت في 28/2/1972، اجتماعاً أصدرت على أثره بياناً عن الوضع في الجنوب جاء فيه ما يلي:
"... ومرة أخرى عاد الحديث عن الضمانات الدولية يتجدد. وهو حديث لا يرمي في الحقيقة إلا إلى عزل لبنان عن مجابهة إسرائيل.. لم يعد للمطالبين بالضمانات الدولية من مخرج سوى المطالبة باستقدام بوليس دولي تكون مهمته حماية إسرائيل وحدودها وإقفالها في وجه الشعب الفلسطيني نهائياً.. لا لخرافة الضمانات الدولية. لا للبوليس الدولي. جماهير لبنان بتلاحمها مع المقاومة هي التي تحمي أرض لبنان"( ).
6 – وفي نهاية العام 1974، ذكرت الصحف أن بعض الوزراء (المنتمين، ولا شك، إلى التيارات اليمينية) طالبوا، في جلسة مجلس الوزراء، بوضع قوات دولية على الحدود اللبنانية مع إسرائيل كحل مؤقت لقضية حماية حدود لبنان، وأن هذا الاقتراح قوبل بمعارضة شديدة من الوزراء الآخرين الذين اعتبروا أن هذه القوات لن تستطيع تشكيل رادع يمنع إسرائيل من القيام بهجماتها( ).
رابعاً – مرحلة الركود النسبي (1975 – 1976)
في هذه الفترة، وبسبب الأحداث الأليمة التي أصابت لبنان، تضاءل الاهتمام كثيراً بفكرة البوليس الدولي. والصوت الوحيد الذي بقي يذكّر الناس بها هو صوت العميد إده. لقد ذكّر بها في بداية الأحداث، وخلالها، وعند نهايتها.
1 – في بداية العام 1975، كرر العميد إده طرح اقتراحه في مناسبات متعددة. ولعل الشيء الوحيد الذي تميزت به دعوته، هذه المرة، هو مطالبته الحكومة اللبنانية، لدى موافقتها على استقدام القوات الدولية، بوضع شرط: وجوب انسحاب هذه القوات عندما تطلب الحكومة السورية انسحاب القوات الدولية الموجودة في الجولان( ).
2 – وخلال الأحداث، تبنت اللجنة التنفيذية لحزب الكتلة الوطنية آراء العميد إده، وأصدرت، في 6/8/1975، بياناً استعرضت فيه الأوضاع الراهنة والهجمات الإسرائيلية المتكررة على قرى الجنوب وختمته بالفقرة التالية:
"... فعلى ضوء هذا الواقع يرى الحزب أنه بات من الملح أن تبادر الدولة إلى مطالبة مجلس الأمن الدولي باتخاذ التدابير الفورية التي من شأنها أن تضع حداً نهائياً لاعتداءات إسرائيل المتكررة على مدن وقرى لبنان الجنوبي، وفي طليعتها وضع قوات الطوارىء الدولية على الحدود اللبنانية، على أن يصار إلى سحبها فور سحب القوات الدولية التي تمركزت على الحدود السورية – الإسرائيلية إثر حرب تشرين (اكتوبر) 1973"( ).
وعندما تكونت هيئة الحوار الوطني كان العميد إده من أعضائها، فاغتنم هذه السانحة ليعرض اقتراحه على "النخبة" السياسية في البلاد. ففي إحدى الجلسات تساءل عن طريقة حماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية، فقال: "إني أدعو إلى اقتراح قديم، بل إلى الطريقة التي استعملها الرئيس عبد الناصر، هي استحضار قوات دولية لحماية الحدود الجنوبية..". وتساءل أيضاً: "لماذا نعارض القوات الدولية؟ أليست موجودة في سوريا؟ لماذا لا تمدد وجودها من الجولان إلى الناقورة لتحمي لبنان وأهل الجنوب بالدرجة الأولى؟"( ).
3 – ومر، بعد ذلك، عام كامل لم يأت أحد فيه على ذكر البوليس الدولي. لقد كان المواطنون يعيشون تحت وطأة كابوس رهيب. لقد كادوا من شدة المعارك، وهول الانفجارات، وسيطرة القلق أن ينسوا لهم حدوداً في الجنوب، متاخمة للكيان الإسرائيلي، تعيش تحت رحمة الأقدار. ولم تكد الأوضاع الأمنية، في نهاية العام 1976، تتحسن قليلاً حتى خرج العميد اده عن صمته، وعاد ليثير موضوع القوات الدولية ويطالب الحكومة باستقدامها لإنقاذ الجنوب من الضياع( ).
خامساً – مرحلة الانتكاس والتشكيك (1977)
على الرغم من حدوث انقلاب في موقف الرئيس صائب سلام لصالح فكرة البوليس الدولي، فإن هذه الفكرة، أصيبت، في الربع الأول من العام الحالي، بانتكاسة، وتعرضت لحملة تشكيك كان لموقف سوريا أثر فعال في حدوثها.
ففي نهاية شباط (فبراير)، ذكرت الصحف أن رئيس الجمهورية أجرى مع عدد من النواب مقابلات استمع خلالها إلى آرائهم ومقترحاتهم، ومن بينها طلب قوات طوارىء دولية للحدود الجنوبية( ).
وفي نفس اليوم، أعلن الرئيس سلام: "إن العدو الإسرائيلي المسلح الذي توصل إلى احتلال أراض عربية واسعة في الجولان وسيناء والضفة الغربية جاء اليوم بتخطيط خبيث يحقق احتلالاً مشابهاً في لبنان بأساليب متنوعة لم يعد في الإمكان إرجاعه عنها سوى بقوة ردع دولية تحفظ حدود لبنان وتمنع عن الجنوب ما يصيبه"( ). ولم يخف رئيس الكتائب سروره بهذا الانقلاب المفاجىء، فصرح قائلاً: "ها نحن نرى الآن أن الأصوات التي ارتفعت من قبل تعارض استقدام قوات دولية إلى الجنوب ترتفع اليوم مطالبة بهذه القوات، أو تبدي الموافقة على وجودها"( ).
ومع بداية آذار (مارس)، بدأت تظهر معالم الانتكاسة التي حلت بالفكرة، وتلوح في الأفق السياسي تباشير التراجع عن الفكرة والتشكيك في فعالية البوليس الدولي. وقد تجلى ذلك في الدلائل والمؤشرات التالية:
1 – تصريحات وزير الخارجية اللبنانية: فقد سئل الوزير فؤاد بطرس، بعد جلسة مجلس الوزراء في 28/2/1977، عما إذا كان مجلس الوزراء قد قرر طلب قوات دولية للمرابطة في جنوب لبنان، فأجاب: "لم يتخذ أي قرار في هذا الموضوع ولا بحث فيه"( ). وكان الوزير بطرس قد اجتمع، نفس اليوم، بالسفير الأميركي في بيروت، فسئل بعد الاجتماع عما إذا كان قد طلب استقدام قوة أمن دولية إلى الحدود، فأجاب: "أنا لم أطلب شيئاً"( ).
2 – موقف السياسيين الشيعة: فقد عقد تجمع السياسيين الشيعة اجتماعاً برئاسة الإمام الصدر، في أول آذار (مارس). وسئل الإمام، إثر الاجتماع، عما إذا كان التجمع قد بحث مسألة استقدام قوات طوارىء دولية إلى الجنوب، وعما إذا كانت ورقة العمل التي سيضعها المجتمعون ستوافق على هذه الفكرة، فنفى أن تكون ورقة العمل التي صدرت عن المجلس الإسلامي الشيعي، أو برامج تجمع السياسيين الشيعة، قد تضمنت هذا الموضوع، وأشار إلى وجود شكوك حول مدى فاعلية القوات الدولية( ).
3 – تصريح الأمين العام للأمم المتحدة: فقد صرح أنه لم يتلق حتى الآن أي طلب من لبنان لإرسال قوات دولية إلى حدوده الجنوبية، وأن هذا الموضوع لم يثر خلال زيارته الأخيرة للبنان( ).
4 – تصريح المندوب الدائم للبنان لدى الأمم المتحدة (ادوار غرة)، بعد مقابلته للأمين العام للأمم المتحدة. فقد قال بأن "لا معلومات لديه عن الأنباء التي تحدثت عن مطالبة لبنان الأمم المتحدة بالمشاركة في حفظ الأمن فوق أراضيه"( ).
5 – الموقف الظاهري الجديد لقطبي "الجبهة اللبنانية" (شمعون والجميل): فقد بدأت تتراءى في تصريحات الأول ملامح الشك في قدرة القوات الدولية على حماية الجنوب، وفي تصريحات الاثنين بوادر المطالبة بوجوب الاعتماد على القوات النظامية اللبنانية لوضع حد لمأساة الجنوب.
صرح رئيس "الأحرار" بعد اجتماع "الجبهة" قائلاً: "لا أجد سبباً لعدم استعمال القوات اللبنانية النظامية من جيش وقوى أمن للمحافظة على الشرعية في الجنوب. أنا لست ضد اقتراح استقدام قوات دولية إلى الجنوب، ولكن هذا الأمر – ولنكن واقعيين – ليس في يدنا". وتساءل: "هل أكي أن القوات الدولية تستطيع منع التخريب والحوادث التي تقع في الجنوب؟"( ).
وأدلى رئيس الكتائب بتصريح جاء فيه ما يلي: "... وعلينا ألا ندع لإسرائيل الحجج إزاء الجنوب لنعو إلى مواجهتها على الصعيد الدبلوماسي والرأي العام العالمي. وليس ما يمنع، إلى جانب ذلك، أن تكون في الجنوب قوة نظامية لبنانية، أو قوة دولية خارجية يتفق على هويتها، بغية وضع حد نهائي لمأساة الجنوبيين"( ).
6 – موقف الحكومة السورية من فكرة البوليس الدولي. ويبدو أنه كان لهذا الموقف الأثر الفعال في كل مظاهر التغير، أو التبدل، أو التراجع، أو الاعتدال، التي طرأت على مواقف البعض من الفكرة. فقد نددت صحيفة "الثورة" السورية، وشبه الرسمية، في تعليق لها بفكرة إرسال قوات دولية إلى الجنوب، وقالت: "إن القضية هي عبارة عن مسألة عربية محضة، وأن قوات الردع العربية هي التي يحق لها أن تتواجد في لبنان، وليس قوات دولية كما تطالب بذلك إسرائيل"( ).
7 – موقف الأنظمة العربية، المهتمة حالياً بمسألة التسوية الشاملة، من فكرة البوليس الدولي. إنها عتقد أن قطار التسوية السياسية قد تحرك ولا بد له من بلوغ الهدف قريباً. وهي تريد أن تتسلح بمشكلة الحدود الجنوبية للبنان لتناور وتضغط على مفاوضاتها المقبلة، لأنها تخشى، في حال التوصل إلى حل لتلك المشكلة بمعزل عن إطار الحل السياسي الشامل الذي تسعى إليه، أن يزداد الموقف الإسرائيلي تعنتاً وتصلباً.
* * * *
القسم الثاني: حجج المنادين بالبوليس الدولي
يمكننا تلخيص منطق المؤيدين للفكرة على النحو التالي:
إن الجيش اللبناني، بوضعه الحاضر، عاجز عن حماية حدودنا الجنوبية. وهو يحتاج إلى بعض الوقت ليجهز نفسه بالمعدات الحربية الحديثة ويصبح بالتالي قادراً على رد الهجمات والغارات الإسرائيلية. ومن الأفضل لنا، خلال فترة تجهيزه وتدريبه، أن نعتمد على مساعدة قوة عسكرية خارجية. والمصلحة تقضي باللجوء إلى قوات الأمم المتحدة حيث تتمثل الدول الكبرى. وضمانات المنظمة العالمية، في الظروف الراهنة، هي أحسن الضمانات. وليس من العار أن يلجأ لبنان إلى هذه الوسيلة للدفاع المؤقت عن حدوده، فقد سبقته إليها دول عربية أخرى لا يشك أحد في تمسكها بسيادتها وإخلاصها للقضية العربية والفلسطينية.
من هذا المنطق تنطلق معظم المبررات والحجج التي يسوقها العميد إده وصحبه من أنصار البوليس الدولي. وللوقوف على أهم التفاصيل نوجز آراءهم حول الموضوع بالنقاط التالية (دون تكرار الاستشهاد بأقوالهم وتصريحاتهم التي وردت في الصفحات السابقة):
1 – أن لبنان بلد صغير لا يستطيع أن يحارب وينتصر بإمكاناته العسكرية. وهو مضطر إلى مواجهة أحد أمرين أما الحرب وأما السلم. وبما أنه عاجز عن خوض غمار الحرب، وراغب في المحافظة على جيشه وأرضه وسيادته، فلا بد له من طلب قوة طوارىء دولية( ).
2 – أن هذه القوة "تفسح في المجال أمامنا لتعزيز وسائل دفاعنا، وفقاً للأساليب الحديثة والعصرية"( ).
3 – "إذا كان لبنان يريد المحافظة على سيادته وسلامة أراضيه، بانتظار أن تستعيد الجيوش العربية، بما فيها الجيش اللبناني، القوة التي تمكنها من محاربة إسرائيل من جديد. فليس أمامه سوى طريقة واحدة هي استدعاء قوة الطوارىء الدولية"( ).
4 – إن هذه القوة هي "الضمان الوحيد لمنع إسرائيل من الاعتداء على لبنان". والحصول على هذه القوة سيتم بقرار من مجلس الأمن الدولي، أي بموافقة الدول الكبرى. "وعندئذ لن تتجرأ إسرائيل على ضرب لبنان. وعلى افتراض أنه برغم وجود القوات الدولية أغارت واعتدت على لبنان، تكون الحكومة قامت بما يمليه عليه ضميرها وواجبها الوطني، وتكون، تجاه الشعب، قد قامت بكل ما يمكن القيام به لحمايته"( ).
5 – أن الدول الأربع الكبرى التي صوتت على قرار مجلس الأمن، رقم 242، متفقة ضمناً على تنفيذ مضمون هذا القرار بواسطة قوات الأمم المتحدة. وقد وافق الأردن ومصر، ضمناً، بقبولهما قرار مجلس الأمن، على مبدأ استقدام القوات الدولية لمراقبة الحدود المشتركة بينهما وبين إسرائيل بعد انسحاب هذه الأخيرة من الأراضي المحتلة. ومجلس الأمن، بقبوله إرسال هذه القوات، سيكون منسجماً مع قراره. ومن الأفضل لنا أن نطلب الحماية منه اليوم لئلا نضطر إلى التوسل إليه يوماً بالبكاء، طالبين منه رد الأراضي التي تكون إسرائيل قد استولت عليها. وأن وجود القوات الدولية على حدود لبنان الجنوبية سيمنع إسرائيل من وضع يدها على منطقة الجنوب، أو على قسم منها، ويمنع أي اعتداء عسكري إسرائيلي على لبنان، لأنه من غير المعقول أن تتجرأ إسرائيل على مهاجمة دولة تحميها قوات الأمم المتحدة( ).
6 – أن القوات الدولية هي "الحل الوحيد لمشكلة لبنان". ووجودها على حدودنا يمنع الجيش الإسرائيلي من الاعتداء علينا، لأنه إن فعل خرق حرمة هذه القوات ومس المجتمع الدولي الذي تمثله( ).
7 – أن "البوليس الدولي ليس عاراً على لبنان. فدول أخرى عديدة طلبته. إنه حل مؤقت سريع كي نؤمن تسليح أنفسنا". ولا يجوز انتظار هجوم العدو واستيلائه على أرضنا حتى نسارع إلى طلب النجدة من القوات الدولية( ).
8 – أن البوليس الدولي الذي قبلت به مصر في العام 1956 هو "الذي أمن تراجع الجيش الإسرائيلي عن أراضي سيناء المحتلة وعودته إلى ما وراء حدود هدنة 1949. والذي حال دون وقوع أي اعتداء إسرائيلي طوال إحدى عشرة سنة لم تر فيه مصر افتئاتاً على كرامتها ونيلاً من سيادتها، وهي لم تتعرض لنكسة 5 حزيران (يونيو) إلا عندما قررت الاستغناء عنه"( ).
9 – أن المطالبة بالقوات الدولية لا تشكل خطوة أولى نحو تدويل لبنان وتحييده. فلبنان "لا يمكن أن ينادي بالحياد والتدويل ما دام في حالة حرب مع إسرائيل، وما دامت تشكل خطراً عليه". وليس الهدف من وضع القوات الدولية على الحدود منع تسلل الفائيين إلى داخل إسرائيل عبر الأراضي اللبنانية، "فالسوابق لا تتحدث عن سابقة من هذا النوع، وليس هناك ما يثبت أن قوات دولية تمكنت من منع تسلل فدائيين من أرض إلى أرض ثانية... وإذا كان التسلل ممكناً بوجود قوات دولية فإن الهجوم العسكري غير ممكن"( ).
10 – أن الغرض من طلب القوات الدولية هو توفير الظروف للشعب اللبناني كي "يطمئن وينصرف إلى الأعمال البناءة وتنفيذ المشاريع التي يتردد الآن في الإقدام عليها... فلبنان هو الدولة العربية الوحيدة بين الدول المجاورة لإسرائيل، التي بإمكانها أن تطلب قوات دولية لوضعها على الحدود لأن حدودها لم تتعرض لاحتلال خلال حرب حزيران (يونيو)"( ).
11 – أن إسرائيل "ليس من مصلحتها وجود مثل هذه القوة الدولية لأنها تمنعها من تنفيذ خطة التوسع ومن وضع يدها على مياه لبنان الجنوبي وإعادة مملكة داوود بجعل حدود إسرائيل تمتد حتى نهر الأولي. لذلك فإن كل شخص يعارض قوة الطوارىء الدولية يخدم مصلحة إسرائيل ومطامعها"( ).
* * * *
تلك هي أهم المبررات التي يدلي بها أنصار البوليس الدولي. ولا بد لنا، قبل الانتقال إلى استعراض وجهة نظر المعارضين، من إبداء الملاحظات المهمة التالية:
الملاحظة الأولى: هي أن العميد إده ما زال حتى اليوم زعيم الحملة المطالبة بالبوليس الدولي. ولهذا اعتمدنا في معظم الاستشهادات والأمثلة التي أوردناها على أقواله وتصريحاته. غير أن أقطاب "الجبهة اللبنانية"، وبعض السياسيين التقليديين، أخذوا اليوم، في غياب العميد عن لبنان، يرددون، دون تغيير أو تحوير يذكر، نفس الحجج والمبررات التي ما فتىء يدلي بها منذ العام 1965.
والملاحظة الثانية: هي أن الرئيس صائب سلام قد تخلى مؤخراً عن موقفه السابق المعارض لاستقدام قوات دولية، وأتى بحجة جديدة تنسجم، إلى حد بعيد، مع فكرة التدويل التي يرفعها أركان "الجبهة اللبنانية". فاللبنانيون، في رأيه، قد بدأوا يشعرون بالأمن والاستقرار بعد دخول قوة الردع العربية، "ولكن الظروف الدولية حالت دون قيام هذه القوة بتوطيد هذا الأمن والاستقرار في الجنوب وحماية أبنائه، فأصبح الواقع الخطير المرير يتطلب قيام قوة ردع دولية بهذا الواجب الملح في المحافظة على حدود لبنان. وليس من مصلحة أحد أن يتوانى في المطالبة به... فالقوات الدولية أصبحت محيطة بإسرائيل في كافة حدودها مع سوريا ومصر والأردن، وأصبحت الحاجة ملحة بحيث يمتد الحزام الأمني الدولي في الأرض العربية فيشمل حدود لبنان"( ).
والملاحظة الثالثة: هي أن السابقة المصرية، أي قبول مصر بالقوات الدولية بعد العدوان الثلاثي، بقيت حتى معركة أكتوبر 1973، المثال المفضل الذي يستند إليه معظم المنادين بفكرة البوليس الدولي في لبنان. وبعد المعركة المذكورة أقلع الجميع تقريباً عن الإتيان على ذكرها وراحوا،
من وقت إلى آخر، وبشيء من الخجل، يطالبون بالتشبه بسوريا التي رضيت بتمركز القوات الدولية في الجولان. ولعل السبب في إغفال كل حديث عن السابقة المصرية يكمن في أن القوات الدولية لم تتمكن، خلال عامي 1967 و1973، من منع الصدام بين الطرفين المتنازعين.
والملاحظة الرابعة: هي أن أنصار القوات الدولية كانوا، في البداية، يعتبرون أن وجود هذه القوات على الحدود لا يتناقض مع العمل الفدائي والتسلل إلى الأرض المحتلة. ولكنهم غيروا موقفهم مؤخراً وراحوا يؤكدون على أن وجود الفدائيين على الأرض اللبنانية يتنافى مع نصوص الهدنة ويعطي إسرائيل ذريعة لمهاجمة لبنان ويجرد القوات الدولية من كل فعاليتها.
والملاحظة الأخيرة هي أن العميد إده لم يتخل حتى اليوم عن موقفه من القوات الدولية، إلا أن حماسته لهذا الأمر قد عرفت حالات من الارتفاع والهبوط. ولعل السبب في ذلك يعود إلى التغيرات والتقلبات والتطورات التي كانت تعتري مواقفه من العهود والحكومات المتعاقبة. ثم أن الدوافع والمبررات التي كانت تدعوه إلى المطالبة بهذه القوات كانت تختلف باختلاف الظروف والأحداث. ففي 12/1/1965، بحثت لجنة الشؤون الخارجية النيابية موضوع روافد نهر الأردن، فتقدم العميد باقتراح استدعاء بوليس دولي وقال: "قبل أن نحول مجرى الوزاني والحاصباني علينا أن نطلب قوات دولية تتمركز على الحدود، فإذا حصلنا عليها تكون هيئة الأمم قد وافقت على التحويل". وعلى أثر انهيار الجيوش العربية في حزيران (يونيو) 1967، رأى العميد "أنه أصبح من السهل على إسرائيل أن تستولي على قسم من لبنان الجنوبي وعلى المياه التي تجري هناك، خصوصاً بعدما أعطيناها العذر للقيام بعمل عسكري عندما وافقنا رسمياً على النشاط الفدائي عبر الأراضي اللبنانية"( ). وعندها، وللمرة الثانية، طالب بالقوات الدولية. وطالب بها، للمرة الثالثة، بعد الغارة على المطار. أما اليوم فمبرراته تتلخص في الأوضاع المتردية التي تعيشها البلاد بعد عامين من الحرب الأهلية، وفي انقسام الجيش على نفسه وصعوبة الاعتماد عليه لحماية الحدود، وفي احتمال التوصل إلى تسوية سلمية للقضية الفلسطينية.
* * * *
القسم الثالث: حجج المعارضين للبوليس الدولي
وللمعارضين حججهم ومبرراتهم كذلك. وهي ترتكز على عدة أسس، أهمها:
أ – الاعتقاد بأن القوات الدولية لن تستطيع منع إسرائيل من مهاجمة لبنان.
ب – الشك في قدرة هذه القوات على حماية حدودنا.
جـ - وجوب التشبه بإسرائيل التي لم تلجأ حتى الآن إلى الحماية الدولية.
د – اعتبار القوات الدولية حماية أجنبية مقنّعة.
هـ - التأكيد على أن الغرض من هذه القوات حماية إسرائيل من العمل الفدائي، وإجهاض هذا العمل، وعزل لبنان عن المحيط العربي، وعرقلة أي مشروع للخدمة العسكرية الإلزامية.
و – التركيز على وجوب استعداد لبنان عسكرياً للقيام بواجب الدفاع عن النفس وحماية الحدود.
وسنستعرض بشيء من التفصيل وجهة نظر المناهضين للفكرة، دون ترداد ما سبق لنا أن استشهدنا به من أقوالهم.
1 – أكد المعارضون، في مناسبات عدة، على أن إسرائيل لن تتورع عن غزو الجنوب واجتياح أية بقعة في لبنان عندما تصمم على ذلك. إن إسرائيل لا حترم العهود، ولا تقيم وزناً للمواثيق، ولا تجم عن ارتكاب المحرمات في سبيل الوصول إلى غاياتها. وأقوال التلمود، وكتابات زعماء الصهيونية، وتصرفات الساسة العسكريين فيها، خير شاهد على ذلك. ولهذا فإن إسرائيل ستجتاح، عندما تجد الفرصة مؤاتية، القوات الدولية، إذا وضعت على حدودنا، وتبطش بها دون أن تخشى في ذلك لومة لائم. وهذا ما حصل لقوات الطوارىء الدولية في حزيران (يونيو) 1967، عندما اجتازت القوات الإسرائيلية حدود الهدنة وقتلت العشرات من جنود القوات الدولية التي تأخر انسحابها في ذلك الوقت( ).
وفي العام 1968، رد الرئيس عبد الله اليافي على اقتراح العميد إده، فقال: "إن إسرائيل عندما تريد أن تعتدي، لا يهمها البوليس الدولي ولا هيئة الأمم المتحدة. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى"( ).
وتحدث المرحوم الشيخ موريس الجميل (وكان من أركان المكتب السياسي لحزب الكتائب) عن موضوع البوليس الدولي في لجنة التصميم النيابية فقال: "إن إسرائيل عندما ترى نفسها قادرة على الاستيلاء على منابع المياه ومضطرة إلى ذلك بحكم نفاد الاحتياطي من مياهها الجوفية، وذلك ما سيحصل فعلاً في مدة أصبحت وجيزة، لن تعدم الحجة والمبررات للاستيلاء على الجنوب ومنابعه"( ).
2 – وأكد المعارضون على أن لبنان عضو مؤسس في الأمم المتحدة التي قامت للمحافظة على السلام والأمن الدوليين، وحماية أعضائها من خطر العدوان أو التهديد بالعدوان. فإذا كانت هذه المنظمة قادرة ومصممة على رد غائلة العدوان عنا، فوجود البوليس أو عدم وجوده سيان. ولكن المؤسف أن هذه المنظمة العالمية ما زالت تخضع للمساومات بين الكبار، وتتردد في تنفيذ قراراتها، وتحجم عن إنزال أية عقوبة بإسرائيل التي أدينت عشرات المرات منذ قبولها المشروط في العضوية الأممية( ).
ولاحظ المعارضون أن العميد إده، وهو عميد المطالبين بالقوات الدولية، يكرر دائماً القول بأن لبنان، بسبب ضعف إمكاناته، عاجز عن تأمين الدفاع عن نفسه، ويعبر عن إيمانه بقدرة القوات الدولية على حماية لبنان من أي هجوم إسرائيلي( ). غير أن العميد إده قد ناقض نفسه بنفسه عندما اجتمع بالملك حسين، في 13/9/1969، واقترح عليه أن تتفق الدول العربية على الانسحاب من هيئة الأمم المتحدة لأنها "تحولت إلى حائط مبكى دون أن تكون لها القدرة على تنفيذ قراراتها"( ).
وتساءل المعارضون بدهشة: إذا كانت الأمم المتحدة، كما يؤكد العميد، عاجزة حقاً عن تنفيذ قراراتها، فكيف يريد منا أن نطمئن إلى أن القوات الدولية التي سترسلها إلينا ستكون قادرة على حمايتنا؟
وانتهز العقيد نجيب الخوري، نائب جبيل، صدور هذه الهفوة عن العميد فأبرز التناقض في موقفه واتهمه بالازدواجية، وقال: "إن الازدواجية في شخص النائب ريمون إده بدأت تناقض نفسها، فهو
يطالب باستدعاء البوليس الدولي لحماية الحدود الجنوبية، ومن جهة ثانية يطالب بانسحاب الدول العربية من الأمم المتحدة، لأن هذه المنظمة، حسب تعبيره، عجزت عن تنفيذ مقرراتها بالنسبة لإسرائيل"( ).
3 – وشبه أحد المعارضين مشروع البوليس الدولي "بثري عنده بستان ولا يريد أن يسهر عليه ويحميه، فيستأجر ناطوراً ثم ينام هو ويرتاح..." وتساءل: "هل الوطن اللبناني بلاد بلا شعب، أو شعب بلا رجال، أو رجال بلا رجولة، حتى يبحثوا له عمن يحميه؟... إسرائيل المطوقة بالقوى العربية تتجنب طلب الحماية الدولية، شكلياً، فيجب أن نرفض أي وجود دولي في المنطقة قبل أن نثبت وجودنا"( ).
ووجد معارض آخر أن "اقتراح الاستعانة بالبوليس الدولي أشبه بمن يحاول صيانة زهرة نادرة من أعاصير الرياح وخطر الجراثيم والسموم، فيعمد إلى وضعها في بيت من زجاج تجنباً لها من الهلاك... ثم تثبت له الأيام أن الأزهار بحاجة إلى الرياح، وأن مواجهة الجراثيم والسموم تكسبها مناعة وقوة، وأن الحياة لا تؤخذ إلا في ظل خطر الموت. ولو قدر لاقتراح العميد إده أن يوضع موضع التنفيذ، فسوف تكون النتيجة أن الحس الوطني سوف يزول، وأن لبنان اللاوطن سوف يتدعم... وبذلك يكون الخوف على حدود لبنان قد أودى بمعنى الوجود اللبناني... كنا نفهم لهفة العميد على المطالبة ببوليس دولي لحماية حدود لبنان لو أننا استنفدنا كافة امكانياتنا الذاتية ووجدناها غير كافية للوقوف أمام العدو"( ).
4 – وبعد الغارة على مطار بيروت، واشتداد الحملة من جديد للمطالبة بالبوليس الدولي، وجدت الأوساط الوطنية أن تصميم المسؤولين على عدم مقاومة الهجمات الإسرائيلية ينسجم مع سياسة الحماية الأجنبية التي تبنتها العهود السابقة، وأن هذه السياسة تحقق بالفعل الأهداف التي يسعى إليها كل من الاستعمار وإسرائيل:
أ – فالحماية الأجنبية هي الوجه الآخر لسياسة اللامقاومة، أي رفض الاستعداد لمجابهة خطر إسرائيل الدائم. وهذا يعني ضرب الحركة الشعبية التي تريد المقاومة والاستعداد.
ب – والحماية الأجنبية، سواء أكانت بوجود قوات أجنبية أم بوجود قوات دولية على الحدود، تعني ضرب العمل الفدائي ووضع حاجز منيع ضده.
ج – والحماية الأجنبية تعني التمهيد لمشاريع تصفية القضية الفلسطينية التي تُعدّ الآن تحت اسم: الحل السلمي والسياسي( ).
5 – وتحدث الشهيد جنبلاط عن شعار استقدام البوليس الدولي (الذي أطلقه العميد إده)، وعن شعار تدويل لبنان (الذي أطلقه بيار الجميل بعد نكسة حزيران/يونيو، مباشرة)، فوجد "أن الشعارين متلازمان يكمل أحدهما الآخر، ويستهدفان سلخ لبنان عن الكيان العربي وانتمائه الطبيعي لهذا المصير"، واعتبر "أن استقدام البوليس الدولي يعني في الحقيقة والواقع أول مرحلة من مراحل المخطط الذي وضعته الانعزالية اللبنانية، في شكلها المتآمر الحلفي، مع إسرائيل لأجل تمكين الحلف من القيام بدوره الفعال في هذا الاتجاه". وأكد أنه يكاد يرى مراحل هذا التخطيط تتوالى على الشكل التالي:
- أولاً، استقدام البوليس الدولي لحماية الحدود بين لبنان وإسرائيل، وكذلك للفصل بين لبنان وسوريا.
- ثانياً، قيام أرباب الحلف الثلاثي، بعد استقدام هذا البوليس، باستنفار شامل لطاقاتهم ورجالهم من أجل القيام بفتنة شعبية يفتعلونها بقصد استقطاب معظم الجماهير المسيحية حولهم.
- ثالثاً، مطالبة ارباب الحلف، في ظل وجود هذا البوليس، بتدويل لبنان، أي بجعله محكوماً مباشرة من الأمم المتحدة، أو بالحصول على كفالة دولية من بعض الدول الكبرى لحدوده، أو (وهو الأمر الأكثر احتمالاً وخطورة) قيام أرباب الحلف بالمطالبة بإنشاء وطن قومي طائفي... ( ).
وبعد أسبوع، كتب الشهيد جنبلاط مقالاً كشف فيه خطورة الدعوة إلى البوليس الدولي. وجاء فيه:
"... إن استقدام البوليس الدولي، في هذا الظرف، يعني عملياً استغناء لبنان عن القيام بأي واجب دفاعي لتقوية جيشه، وانسحابه من المعركة العربية المشتركة. وأن استقدامه ليس لأجل صيانة حدود لبنان ضد أي عدوان مرتقب من إسرائيل بقدر ما هو توكيد الطابع الدولي للبنان، والاستعانة بهذا البوليس فيما بعد لمراقبة الحدود العربية بيننا وبين سوريا، وللقضاء على أي نشاط فدائي. وإذا توغلنا أكثر في استكشاف بواطن الأمور رأينا أرباب الحلف جادين متحفزين للقيام ببعض أعمال التخريب، أو لإطلاق لهيب الفتنة الداخلية والطائفية في البلاد فور ما يستقر بالبوليس الدولي المقام، لكي يستطيع هذا البوليس الدولي حماية هذه الفتنة، ولكي يستطيع أرباب هذه الفتنة من التقدم من الأمم المتحدة ومن العالم للمطالبة بما هم يكونون قد صمموا عليه من تجزئة الكيان اللبناني، وتحقيق جزء من المشاريع الصهيونية"( ).
6 – وكشف المعارضون عن هاوية التناقض التي يقع فيها أنصار البوليس الدولي عندما يدّعون (وأحياناً يفاخرون) بأن قوة لبنان في ضعفه، أو في براعة دبلوماسيته، أو في عمق صداقاته الدولية، ثم لا يتورعون عن إبداء تخوفهم من الهجمات الإسرائيلية والمطالبة بحماية البوليس الدولي. لقد تحدث رئيس الكتائب، بعد إحدى الغارات الإسرائيلية على الجنوب. فقال: "إذا استطاع لبنان أن يحافظ على حدوده حتى الآن، فذلك بفضل دبلوماسيته لا بفضل القوة العسكرية. وإذا كان الإسرائيليون قد انسحبوا من أراضينا فإن ذلك يعود إلى دبلوماسية لبنان وصداقته الدولية، لا إلى قوته العسكرية"( ).
والمعارضون يتساءلون عن مبررات استدعاء البوليس الدولي ما دامت الدبلوماسية أو الصداقة الدولية أقوى من القوة العسكرية، وما دام لبنان يستطيع الاعتماد على إحداهما أو كليهما ليضمن عدم الاعتداء عليه.
7 – وأثار المعارضون موضوع التجهيز العسكري للقوات الدولية، فأكدوا أن هذه القوات تكون عادة مزودة بمعدات حربية بسيطة لا تسمح لها بالتصدي لأية قوة نظامية. ومعنى ذلك أن إسرائيل، إذا قررت غزونا أو ارتكاب عمل انتقامي ضدنا، فستجد القوات الدولية نفسها عاجزة كل العجز عن صدها أو تجميد تحركها. هذا بالإضافة إلى أن هذه القوات لا تلجأ إلى استخدام سلاحها إلا عند الضرورة القصوى، أي في حال الدفاع المشروع عن النفس.
قال الإمام الصدر، بعد اجتماع للسياسيين الشيعة، "إن هناك شكوكاً واضحة في مدى فاعلية هذه القوة، باعتبار أن إسرائيل تستغل الخلاف القائم، ثم أنها تشجع على هذا الخلاف وتقصف الجانبين بصورة مباشرة أو غير مباشرة وتجعل الصراع الداخلي متفجراً باستمرار إذن ما هو المطلوب من القوة الدولية للسلام؟ أين تقف وماذا تفعل؟"( ).
8 – وأوضح المعارضون أن المنادين بالبوليس الدولي يحاولون دائماً إيهام الرأي العام بأن الخطر الإسرائيلي لا يطل إلا من الحدود الجنوبية. والحقيقة أن القوات الإسرائيلية ليست بحاجة إلى عبور حدودنا عند تصميمها على غزونا، أو الإغارة على مطارنا ومرافئنا، أو تخريب مؤسساتنا ومنشآتنا. إن بإمكانها استخدام الجو أو البحر. وإذا لجأت إلى هذا الأسلوب، كما فعلت عند ضرب المطار واغتيال القادة الفلسطينيين في وسط بيروت، أفقدت البوليس الدولي كل فعاليته.
وحول هذها لنقطة كتب زميلنا الدكتور جورج ديب يقول:
"من يمكنه أن يؤكد أن إسرائيل ستهاجم لبنان براً من الجنوب؟ هل نقع في نفس الغلطة مرة ثانية؟ في المرة الأولى انتظر العرب الضربة الإسرائيلية من الشرق فجاءت من الغرب، وفي المرة الثانية انتظر لبنان أن تضرب إسرائيل جنوب لبنان، فإذا بها تضرب مطار بيروت. هل نقع في نفس الغلطة فننتظر الهجوم على لبنان براً من الجنوب فنضع قوات دولية هناك، فإذا بإسرائيل تأتينا جواً وبحراً؟... وهذا يعني أن البوليس الدولي لا يمكن أن يمنع اعتداء إسرائيلياً"( ).
9 – وبعد كل ما تقدم طرح المعارضون على أنفسهم السؤال المهم التالي: هل تمركز البوليس الدولي ضمن الأراضي اللبنانية كفيل بحمايتنا ومنع إسرائيل من الإغارة علينا، أو احتلال جزء من أرضنا؟
ووجدوا أن كل السوابق تجيب بالنفي (مقتل العشرات من القوات الدولية المرابطة في غزة من قبل الإسرائيليين، عند بداية معركة 1967، وبعضهم قتل عمداً).
ووجدوا كذلك أن تاريخ إسرائيل الحافل بالإرهاب والإجرام لا يوحي بالثقة (اغتيال الكونت برنادوت. وطرد المراقبين الدوليين من منطقة العوجة في العام 1955. وتهديد الجنرال فون هورن، كبير المراقبين، ومعاونيه بالقتل. ارتكاب مجازر دير ياسين وكفرقاسم...).
ووجدوا أيضاً أن إسرائيل تتعامل مع الأمم المتحدة وفروعها باستهتار واحتقار. ألم تهن إسرائيل المنظمة العالمية وتحقّر مجلس الأمن عندما اعتبرت القرار الصادر عنه في 26/8/1969، والمتعلق بالهجوم على جنوب لبنان، إنه "كالإجراءات التي سبقته حادث دبلوماسي مصيره سلة الزبالة"؟( ).
وتساءل المعارضون أخيراً عن دوافع المندفعين وراء سراب البوليس الدولي وأغراضهم فوجدوها في الرغبة في عزل لبنان وإبعاده عن مسيرة المصير العربي المشترك، وأيقنوا أن المطالبة بالبوليس الدولي تنطوي (أدرك الأنصار ذلك أم لم يدركوا) على:
- محاولة لوأد كل مشروع يرمي إلى إقرار خدمة العلم.
- تسليم أو اقتناع ساذج بأن إسرائيل لا تطمع في لبنان، وبأن الدول والمنظمات العالمية قادرة على حمايتنا وراغبة فيها.
- خطوة تمهيدية، قد تعقبها خطوات أخرى، لإقامة تعايش سلمي بيننا وبين إسرائيل.
- تنازل فاضح عن حق اللبنانيين في إعداد أنفسهم للدفاع عن وطنهم بأنفسهم.
- إجهاض العمل الفائي وحماية إسرائيل منه، لا حماية لبنان من إسرائيل.
- تشجيع الدول العربية المتاخمة للكيان الإسرائيلي على المطالبة، فيما بعد، بالبوليس الدولي، مما يسفر عن حماية إسرائيل وتخلي الأجيال العربية نهائياً عن فكرة التحرير.
- مرحلة أولية لتعميم فكرة الحماية الدولية على النطاق العربي، فقد تعمد بعض الأنظمة العربية إلى افتعال الأزمات مع جيرانها العرب لتطالب ببوليس دولي على حدودها، فتعزل نفسها عن بقية الأقطار العربية، وتقضي بذلك على عملية التفاعل والتقارب بين الجماهير العربية( ).
* * * *
القسم الرابع: موقف إسرائيل من البوليس الدولي
تميز موقف إسرائيل، منذ إنشاء هذا الكيان، بالرفض المطلق لفكرة القوات الدولية على حدودها الشمالية، بل بالرفض المطلق لأي وجود دولي يمت بصلة إلى منظمة الأمم المتحدة. إن اتفاقية الهدنة بينها وبين لبنان تنص على وجود مراقبين دوليين على انبي خط الهدنة. ومع أن عدد هؤلاء المراقبين كان ضئيلاً، فإنها انتهزت فرصة انتصارها في العام 1967، وارتكاب الحكومة اللبنانية لخطأ الموافقة على قراري وقف إطلاق النار، لكي ستغني نهائياً عن خدمات المراقبين المرابطين على حدودها.
وعندما كانت مسألة القوات الدولية تثار على الصعيد اللبناني أو العالمي، كان المسؤولون في إسرائيل يسارعون إلى حسم الأمر وإعلان الرفض. ففي حزيران (يونيو) 1972، ألقت غولدا مايير (رئيسة الحكومة) خطاباً في فيينا تطرقت فيه إلى هذه المسألة وأعلنت رفضها لأي اقتراح بإرسال قوات دولية تعمل على إحلال السلام في المنطقة( ). وفي شباط (فبراير) 1974، أكد ناطق بلسان وزارة الخارجية الإسرائيلية أن الوزارة لم تطلب من الأمم المتحدة، بشكل رسمي أو غير رسمي، إرسال قوات دولية إلى الحدود اللبنانية الإسرائيلية( ). وفي حزيران (يونيو) من نفس العام، أعلن شمعون بيريز (وزير الدفاع) رفضه للقوات الدولية وقال إن على لبنان أن يتحمل مسؤولية تسلل الفدائيين لا الأمم المتحدة( ).
ورفض إسرائيل للقوات الدولية كان رفضاً مزدوجاً يشمل إمكان تمركز هذه القوات على أي من جانبي خط الهدنة. وبقيت إسرائيل متمسكة بهذا الموقف المتصلب حتى نهاية العام 1976.
فكيف نفسر هذا الرفض؟ أو ما هي العوامل أو الخلفيات الكامنة وراء معارضة إسرائيل لإرسال قوات دولية إلى الطرف الشمالي من حدودها، أو إلى الطرف الجنوبي من حدود لبنان؟ لعل التفسير يكمن في أحد الأسباب، أو في كل الأسباب التالية:
1 – إن لإسرائيل مطامع في جنوب لبنان، وهي تريد أن تبقى حدودها المشتركة مع لبنان بلا قوات دولية لئلا تحول هذه القوات دون تحقيق هذه المطامع.
ولهذا كان العميد إده يطالب دائماً بوجوب تمركز القوات الدولية على الحدود اللبنانية فقط، لأن إسرائيل لا تقبل مطلقاً بوجود مثل هذه القوات على حدودها بسبب أطماعها التي ترجع إلى سنة 1919( ). وتحدث، في إحدى المناسبات، عن هذا الموضوع فقال إن "موقف إسرائيل بالنسبة إلى لبنان واضح. فإسرائيل تريد تنفيذ الخطة المرسومة منذ العام 1919، عندما كانت تطالب بمرتفعات
جبل الشيخ وبأن تكون حدودها الشمالية مع لبنان نهر الليطاني، كي تتمكن من استثمار قسم من مياهه وأن تستثمر مياه الحاصباني. وهذا الموقف واضح في رسالة وايزمان إلى لويد جورج، سنة 1919... لذلك رفضت إسرائيل في الماضي وترفض اليوم وسترفض غداً تمركز القوات الدولية على حدود لبنان"( ).
2 – أن إسرائيل تحتل بعض المواقع والمراكز المهمة في الأراضي اللبنانية. وهي تخشى أن تكتشف القوات الدولية ذلك وتجبرها على الانسحاب منها، فهذه القوات، إن قدر لها المجيء، ستتمركز على الحدود الدولية التقليدية، وقد تختار نفس المراكز المحتلة أو بعض المراكز الملاصقة أو المتاخمة لها.
3 – أن إسرائيل ترغب (وإن كان الكثيرون لا يصدقون ذلك) في عقد معاهدات صلح مع الأقطار العربية. وهي تعتقد أن وجود القوات الدولية على الحدود قد يؤدي، في حال نجاحها، إلى تمنع أو تلكؤ لبنان وبقية الأقطار العربية في عقد هذه المعاهدات.
4 – أن إسرائيل تعتقد أن ثمة فرقاً بين القوات الدولية المرابطة في سيناء والجولان وبين القوات التي يمكن أن ترابط على حدودها مع لبنان. إن الأولى تتمركز في مناطق تتميز بقلة سكانها، وضعف أهميتها الاقتصادية، وبعدها عن مراكز الثقل في إسرائيل. أما الثانية فستكون على مقربة من مراكز النشاط والحركة والإنتاج فيها، وستعرقل مشاريعها التوسعية في جنوب لبنان.
5 – أن إسرائيل قد بذلت حتى الآن كل الجهود واستخدمت كل الوسائل للقضاء على العمل الفدائي، فعجزت ورفضت الاعتراف بهذا العجز وادعت أن النشاط الفدائي لا ينبع من الداخل وإنما يأتي من الخارج، وخصوصاً من لبنان. ومع أن الأيام والأحداث قد برهنت على أن السنابل الفدائية أصبحت تنبت في أرض فلسطين، فإن هدوء الأوضاع على جبهات دول الحدود العربية، باستثناء الحدود اللبنانية، قد سمح لإسرائيل بتحميل لبنان مسؤولية كل عملية فدائية تجري على حدودها أو في داخل الأرض المحتلة. وإسرائيل تخشى وجود قوات دولية على الحدود لأن هذا الوجود كفيل بالكشف عن تحرك الفدائيين، وإثبات صحة العمل الفدائي الداخلي، وتبرئة الساحة اللبنانية مما ينسب إليها زوراً في معظم الأحيان.
والحقيقة أن موقف إسرائيل من مسألة القوات الدولية على الحدود اللبنانية كان دائماً موضع استغراب وتعجب. وكان الكثيرون يبحثون عن تفسير أو تعليل لموقفها المتناقض من هذه القوات: فهي ترضى بها في سيناء والجولان، وترفضها على حدود لبنان، على الرغم من شكواها الدائمة من تسلل الفدائيين عبر هذه الحدود، وعلى الرغم من كون هذه القوات أشد فاعلية من السلطات اللبنانية في منع التسلل الفدائي.
ولاحظ العميد أده هذا التناقض، في صيف العام 1974، عندما جمدت جميع العمليات الفدائية التي كانت تنطلق من الأراضي اللبنانية دون أن يؤدي ذلك إلى توقف العمليات التي كانت تنطلق من داخل الأراضي المحتلة. وعثر العميد على التفسير عندما أكد أن "إسرائيل تريد أن تقول العكس، لكي تجد ذريعة لضرب لبنان والمدنيين الآمنين في لبنان"( ).
6 – إن إسرائيل تعرف حق المعرفة أن الحرب بينها وبين العرب قادمة يوماً، وأن عدوها الذي تخشاه في الشمال هو سوريا وليس لبنان. ولكن الاستراتيجية العسكرية تحتم على إسرائيل، عند اندلاع الحرب، مهاجمة سوريا من الأراضي اللبنانية. ووجود القوات الدولية على الحدود اللبنانية قد يعرقل مخططاتها الهجومية( ).
7 – أن الولايات المتحدة لا ترغب في إرسال قوات دولية إلى المنطقة. إن مصلحتها تقضي بأن تبقى المنطقة على فوهة بركان. إن اهتمامها بالمنطقة يرتبط بمدى توافر النفط فيها. وتأمين السيطرة على النفط لا يتم إلا بحرمان المنطقة من الراحة والاستقرار.
وقد وعى العميد إده هذه الحقيقة عندما اتهم الولايات المتحدة بأن "ليس لها مصلحة في أن تقف هذه الغارات وهذا الهجوم الإسرائيلي العسكري ضد لبنان". وشرح ذلك بقوله: "مصلحة أميركا هي مصلحة إسرائيل، ومصلحة إسرائيل هي مصلحة أميركا. ويمكن أن تكون إسرائيل اليوم هي النجمة الـ52 أو الـ53 في العلم الأميركي. وأميركا عندها أسطول سادس في البحر، وأسطول سادس بري هو إسرائيل، وإسرائيل موجودة لتدافع عن مصالح أميركا. وأنا أعتقد أنه في اليوم الذي تفرغ فيه آبار البترول في المنطقة ستترك أميركا إسرائيل تتدبر أمرها بنفسها"( ).
وبقيت إسرائيل متمسكة بموقفها الرافض من مسألة القوات الدولية حتى نهاية العام 1976. ففي هذه الفترة التي تدفقت فيها قوات الأمن العربية على لبنان، زعم إسحق رابين (رئيس الحكومة) "أن ليس لدى إسرائيل مطامع في شبر واحد من الأرض اللبنانية"( ).
* * * *
وابتداء من نهاية شباط (فبراير) 1977، بدأت التصريحات الإسرائيلية تسجل تراجعاً ملموساً في هذا المضمار. وهذا التراجع يتميز بأمرين بارزين:
الأمر الأول هو اكتفاء إسرائيل بمعارضتها لإرسال قوات دولية إلى حدودها وإعلان عدم اعتراضها على إرسالها إلى لبنان. ففي نهاية شباط (فبراير)، ذكرت مصادر قريبة من وزارة الخارجية الإسرائيلية أن إسرائيل لم تتلق رسمياً اقتراحاً للرئيس سركيس بشأن مرابطة قوة دولية في جنوب لبنان. وذكرت مصادر أخرى أن ييغال الون (وزير الخارجية) أعلن في مجلس الوزراء "أن لبنان دولة ذات سيادة، وإسرائيل لن تتدخل في اختيارها المحتمل دعوة قوات من الأمم المتحدة للمرابطة على أي جزء من أراضيها، بما في ذل جنوب لبنان. ولكن الموقف قد يتغير كلياً إذا تضمن اقتراح سركيس رغبة لبنان في أن يرى على الجانب الآخر قوات لمنظمة الأمم المتحدة في الجليل، فمثل هذا الاقتراح سيكون مرفوضاً رفضاً قاطعاً في هذه الحال"( ).
والأمر الثاني هو اشتراطها عدم التخلي عن حقها في ملاحقة الفدائيين داخل لبنان. فقبل زيارة رابين لواشنطن واجتماعه بالرئيس الأميركي كارتر، أذاعت الأوساط السياسية الإسرائيلية أن مسألة تمركز قوات دولية في جنوب لبنان ستكون من بين المواضيع التي ستبحث في الاجتماع. وقالت صحيفة "هاآرتس" أن إسرائيل ترغب، في حال إرسال قوات دولية إلى جنوب لبنان، في الإفادة من "ترتيبات خاصة" تسمح لها بملاحقة الفدائيين داخل الأراضي اللبنانية في حال شنهم هجمات جديدة رغم
وجود القوات الدولية( ). وحاول شمعون بيريز، في اليوم التالي، أن يحرض السلطات اللبنانية، كالعادة على اتخاذ "التدابير المناسبة" في الجنوب لتصبح القوات الدولية ذات فائدة، فهذه القوات، في رأيه "يمكن أن تكون ذات فائدة في المناطق التي يسودها الهدوء إذ أنها ليست قوة تهدئة بل قوة مراقبة... والوضع في جنوب لبنان لا يشكو من عدم وجود مراقبة بل من عدم تدابير مناسبة"( ).
ما هو التعليل الصحيح لهذا التغيير الطارىء أو الانقلاب المفاجىء في موقف إسرائيل؟ وهل هو تغير صادق وثابت يأتي ليصحح سياسة خاطئة، أم أنه تكتيك ظاهري يتخذ ليخدم أغراضاً مرسومة في مرحلة معينة؟ إن كل تعليل، في رأينا يجب أن ينطلق من الوقائع والحقائق والخلفيات التالية:
أولاً: إن السياسة الخارجية لدولة ما ليست، في الغالب، سوى انعكاس لسياستها الداخلية. ويبلغ الترابط أحياناً بين السياستين درجة من التلاحم والتشابك تصبح فيه السياسة الخارجية صورة أخرى للسياسة الداخلية. وتتجلى هذه الظاهرة في إسرائيل أكثر من أية دولة أخرى. وإسرائيل تمر الآن بأزمات داخلية خانقة. وأوضاعها السياسية والاقتصادية تجتاز مرحلة عصيبة. وإسرائيل، عندما تتعرض لأزمة، تعمد إلى تنظيم شؤون البيت وإعداد الخطط لمفاجأة الجميع بعمل تظن أنه قادر على طمس معالم الواقع وإحداث تغيير جذري في العقليات والمفاهيم والأوضاع. إن استراتيجيتها في هذا الصدد أصبحت معروفة. إنها الآن في أزمة، وهي تود إعادة ترتيب بيتها. ومصلحتها تقضي بعدم استثارة الغير وإثارة المتاعب لنفسها.
ثانياً: إن وجود قوات الردع العربية بكثافة في لبنان وإمكان تحولها، في الملمات المصيرية، إلى قوة أمن رادعة تتعاون مع الجيش اللبناني (كله أو بعضه) للذود عن حياض لبنان، أمر يدعو إلى التبصر والتروي. ومصلحة إسرائيل تقضي باتباع الحكمة وانتظار رحيل هذه القوات أو انخفاض عددها قبل الإقدام على أي عمل عسكري. كما تقضي مصلحتها بإيهام العرب العالم بأنها غيرت موقفها السابق من مسألة تمركز القوات الدولية على الحدود اللبنانية، مما قد يدخل الطمأنينة على قلوب اللبنانيين والعرب: قلوب اللبنانيين ليصرفوا النظر عن تحصين الجنوب وتعزيز قوتهم العسكرية، وقلوب العرب ليتسابقوا إلى سحب قواتهم واختصار نفقاتهم.
ثالثاً: إن فكرة استقدام قوات دولية إلى الحدود اللبنانية تطرح الآن، من جديد، وبإلحاح، من جانب بعض الأطراف المتنازعة في لبنان. والرأي العام اللبناني والعربي حائر ومنقسم على نفسه حول هذه المسألة. ومن مصلحة إسرائيل أن تتظاهر بالمرونة والاعتدال لتزيد النار اشتعالاً، وترسّخ في الأذهان ربط فكرة القوات الدولية بالوجود الفلسطيني في الجنوب، وتوغر الصدور ضد الفلسطينيين وضد المناهضين للبوليس الدولي، وتطرح أمام اللبنانيين في النهاية اختيارات حرجة، أحلاها مر. وهي، في كل ذلك، الرابحة، لأن المنازعات الداخلية في أي قطر عربي، وخصوصاً إذا ان هذا القطر لبنان المتاخم لها والحافل بكل ما يقلقها وينغّص عيشها، تخفف من مشاغلها وهمومها وتساعدها على الانصراف إلى إعداد الخطط التوسعية للغد القريب.
رابعاً: إن كل الدلائل تشير، بعد تسلم كتلة ليكود بزعامة الإرهابي بيغن مقاليد الحكم في إسرائيل، إلى ارتفاع أسهم المتطرفين. ومن المنتظر أن تجتاح إسرائيل موجة من التغيير تحدث انقلاباً
في مخططاتها ومؤسساتها وتصرفاتها، وليس من المستبعد أن يصبح التطرف المقرون بالخبث والعنف شعارها، فالناس، في كثير من الأحيان، على دين حكامهم، وإذا كان الحاكم بالعنف مفاخراً فشيمة أهل البيت كلهم الإجرام. ويبدو أن إسرائيل، التي أصبحت تحت رحمة أرباب الإرهاب، ستسلك الآن نفس الطريق الذي اتبعته المنظمات اليهودية الإرهابية تجاه عرب فلسطين إبان الانتداب البريطاني: التظاهر بالتعاون والاستعداد سراً لتنفيذ المخططات الإجرامية. إن الحكومة الإسرائيلية الجديدة ستعمد إلى التظاهر بمهادنة جيرانها (ولبنان منهم)، وإغداق "مشاريع السلام" عليهم، وإلهائهم بأمور ثانوية جانبية تافهة. وكل ذلك بانتظار أن تهدأ الأزمات الداخلية والخارجية، وتنجز الخطط المدروسة، وينجلي الموقف الدولي، ويصبح الإمكان توجيه الضربات الحاسمة إلى الخصوم وإملاء الشروط عليهم من موقع النصر.
خامساً: إن الولايات المتحدة تعاني كغيرها من أزمة الوقود والطاقة. وقد شعر الرئيس كارتر بوطأة هذه الأزمة فوضع برنامجاً لمعالجتها. وحاجة الدول الصناعية، والولايات المتحدة في طليعتها، إلى النفط تزداد شهراً بعد شهر. والأنظار تتجه حالياً إلى الدول النفطية في الوطن العربي، فهي تعوم فوق بحيرات من النفط تختزن في جوفها أكثر من 70% من الاحتياطي العالمي. ويبدو أن حكومة واشنطن، في عهد الرئيس الجديد، باشرت بتنفيذ سياسة جديدة تستهدف التوفيق بين الحاجات والأطماع، وبين التكتيك والاستراتيجية، كما تستهدف كسب ود العرب وابتزاز أموالهم بأسلوب منمق مستحدث ودون التضحية بالعلاقة العضوية التي تربطها بإسرائيل. ولهذا عددت اللقاءات بين المسؤولين العرب والأميركيين، وكثرت التصريحات والوعود المعسولة بتسوية ما يسمى بأزمة الشرق الأوسط وإنشاء ما يسمى بالوطن القومي الفلسطيني، فانعكس ذلك على سلوك المسؤولين الإسرائيليين (المشتركين خفية في إعداد السياسة الأميركية الجديدة) فأخذوا يبدون استعدادهم للتفاهم مع جيرانهم. وما تظاهرهم بالتساهل في قبول القوات الدولية على الجانب اللبناني من الحدود إلا تكيف ذكي وانسجام مراوغ مع الخط السياسي المرسوم للمرحلة الراهنة.
* * * *
وإن كان لكل بحث خلاصة، فالخلاصة هنا، بعد أن طال البحث، فكرة بسيطة: إن أحسن بوليس دولي هو البوليس الوطني.
الحواشي
لمزيد من المعلومات راجع كتاب: قوة الطوارىء الدولية، للأستاذ مصطفى مؤمن، القاهرة 1960.
النهار، 26/6/1968.
3 اليوم، 26/6/1968.
4 النهار، 27/6/1968.
5 نفس المرجع السابق.
6 النهار، 28/6/1968.
7 النهار، 29/6/1968.
8 الأنباء، 29/6/1968.
9 الحوادث، 5/7/1968، ص7.
10 راجع ما كتبه أنسي الحاج في ملحق النهار 7/8/1968، ص19. غير أن مارك رياشي كتب في "زاويته" بعد أشهر مطالباً باستقدام قوات دولية "تكون في الوقت نفسه جحافل سياحية تفيد بلدنا على الصعيد الاقتصادي، فضلاً عن حمايته على الصعيد الكياني...". النهار، 14/1/1969.
النهار، 10/7/1968.
الحوادث، 5/7/1968، ص6.
النداء، 8/1/1969، ص5.
النداء، 8/1/1969، ص5.
نفس المرجع السابق.
وكالة الصحافة الفرنسية، 14/1/1969.
العمل، 16/1/1969.
نفس المرجع السابق.
المحرر، 11/2/1969.
النهار، 15/2/1969.
النهار، 31/3/1969. وقد كرر العميد تصميمه على الاستعانة بالبوليس الدولي فيما لو أصبح رئيساً للجمهورية، ورده على التهمتين المذكورتين في مقابلة صحافية أخرى. النهار، 29/4/1969.
النهار، 13 و14/6/1969.
النهار، 18/6/1969.
النهار، 30/11/1969.
النهار، 17/1/1969.
النهار، 26/1/1969.
العمل، 11/3/1969.
العمل، 18/3/1969.
النهار، 18/3/1969.
المحرر، 18/3/1969.
النهار، 23/3/1969.
الأنوار، 23/3/1969.
الحوادث، 4/4/1969.
الأنباء، 4/10/1969.
النهار، 1/2/1970. وعلق العميد اده على هذا الموقف بقوله إن على الوزير بيار الجميل، إن كان مقتنعاً بمقدرة القوات الدولية على حمايتنا من الغزو الإسرائيلي، "أن يحمل مجلس الوزراء على إقرار ذلك، وإلا استقال من الحكومة". النهار، 2/2/1970.
النهار، 4/2/1970.
النهار، 22/2/1970.
النهار، 29/2/1970.
النهار، 2/2/1970.
راجع محضر جلسة مجلس النواب في النهار، 6/12/1969.
راجع محضر جلسة مجلس النواب في 19/1/1971. وراجع ما ورد في الكلمة التي ألقاها العميد في "نادي النسور الاجتماعي". النهار، 16/1/1971.
النهار، 16/2/1971.
أعلن في ندوة متلفزة أن "البوليس الدولي هو الحل الوحيد". الأنوار، 18/1/1972.
النهار، 17/9/1974.
النهار، 5/11/1974.
النهار، 8/2/1974.
قال في اللجنة: "إذا (واشدد على إذا) وافق السوريون على وجود قوات دولية بينهم وبين إسرائيل، فهل هناك مانع أن نطلب نحن قوات دولية تقف حتى (وأشدد على كلمة حتى) على أرض لبنان وحده، لأن إسرائيل ربما رفضت وجود قوات دولية على أرضها. وأنا من الآن أقول إن إسرائيل ستعارض حتى وجود قوات دولية على أرض لبنان لأن لها مطامع وتنوي وضع يدها على المياه اللبنانية...". النهار، 12/42/1974.
راجع ما دار فيها في النهار، 26/42/1974.
النهار، 24/3/1970.
اقرأ كلمته خلال المأدبة التي أقامها في فندق "هوليداي إن". الأوريان 16/2/1974.
النهار، 7/3/1970.
النهار، 2/6/1970.
مجلة البلاغ، 31/1/1972.
راجع نص البيان في النهار 29/2/1972.
النهار، 20/6/1974.
النهار، 24/2/1975.
السفير، 7/8/1975.
النهار، 4/11/1975.
النهار، 25/11/1976.
النهار، 28/2/1977.
السفير، 28/2/1977.
النهار، 1/3/1977.
نفس المرجع السابق.
نفس المرجع السابق.
السفير، 2/3/1977.
النهار، 3/3/1977.
النهار، 5/3/1977.
النهار، 3/3/1977، ويبدو أن نائب رئيس "الأحرار" (النائب كاظم الخليل) لم يتنبه إلى التغير الذي طرأ على سياسة الحزب و"الجبهة"، أو أنه لا يحسن التنسيق مع رئيسه، فصرح في 12 آذار (مارس) قائلاً: "ليس من جيش لبناني قابل للوجود في الجنوب، وقد طالبنا ونطالب بإيجاد قوة ردع دولية تضع حداً للمأساة، لأن إسرائيل تزعم أن قوة الردع العربية تشكل خطراً على أمنها". النهار، 13/3/1977.
النهار، 9/3/1977.
الثورة (السورية)، 2/3/1977.
من تصريح للعميد اده. النهار، 29/4/1969، وقال في تصريح آخر أنه بعد ضرب مطار بيروت وجد أن الجيش اللبناني قد سيسته العهود السابقة، فتخوف واقتنع بأن ليس عندنا جيش بالمعنى الصحيح. ولذلك طالب بالبوليس الدولي. النهار، 21/12/1972.
من تصريح للعميد اده. النهار، 1/5/1969.
من تصريح للعميد اده. النهار، 6/5/1969.
من تصريح للعميد اده. النهار، 19/5/1969.
من تصريح للعميد اده. النهار، 27/5/1969.
من تصريح للعميد اده. النهار، 7/2/1975.
من أقوال العميد اده، في مناظرة الجامعة اليسوعية. العمل، 16/2/1969.
من تصريح للرئيس شمعون. النهار، 23/3/1969.
من تصريح للعميد اده، النهار، 31/3/1969. وكان قد قال في تصريح سابق: "أما الذين يقولون إن استدعاء قوات طوارىء دولية من شأنه أن يمنع تسلل الفائيين، فهو قول مردود وغير صحيح لأنه من الصعب على أية قوة تقف على الحدود الطويلة أن تمنع هذا التسلل، إلا إذا كان عدد قوات الطوارىء ضخماً للغاية". النهار، 13/3/1969.
من تصريح للعميد اده. النهار، 31/3/1969.
من تصريح للعميد اده. النهار، 13/3/1969.
السفير، 28/2/1977.
النهار، 2/2/1970.
راجع مقالنا عن: التدويل والتحييد والبوليس الدولي، في مجلة الطريق، عدد شباط (فبراير) 1969، ص59.
الأنوار، 28/6/1968.
العمل، 11/5/1969.
إسرائيل هي، من بين جميع الدول التي انضمت إلى الأمم المتحدة العضو الوحيد الذي ارتبط قبوله في العضوية الأممية بتعهده بتنفيذه بعض القرارات الصادرة عن الجمعية العامة. راجع دراستنا عن: فلسطين وإسرائيل في الأمم المتحدة، في مجلة دراسات عربية، عدد أيار (مايو) 1975، ص31.
النهار، 4/9/1969.
النهار، 15/9/1969.
الأنوار، 24/9/1969.
راجع مقال عزت صافي. الأنوار، 28/6/1968.
الحوادث، 5/7/1968، ص7.
الحرية، 13/1/1969.
راجع افتتاحية المحرر، 16/1/1969، التي كتبها جنبلاط بعنوان: البوليس الدولي ومخطط الحلف.
المحرر، 23/1/1969.
النهار، 1/3/1972.
السفير، 2/3/1977.
راجع ما قاله في ندوة النادي الثقافي العربي حول: قضايا الدفاع عن الوطن. مجلة الثقافة العربية، عدد شباط (فبراير) 1969، ص80.
راجع كتابنا: أعمال إسرائيل الانتقامية ضد الدول العربية. مركز الأبحاث، سلسلة دراسات فلسطينية، رقم 70، ص182.
راجع مقالنا، المذكور، عن التدويل...، ص60.
وكالة رويتر، 25/6/1972.
الأوريان، 16/2/1974.
النهار، 9/6/1974.
الأنوار، 13/8/1972.
النهار، 8/8/1974. وراجع مقالاً عن: المشاريع الصهيونية وجنوب لبنان، في مجلة مركز الدراسات الفلسطينية، جامعة بغداد، عدد اكتوبر 1976، ص83.
النهار، 8/8/1974.
النهار، 9/6/1974.
من حديث له لإذاعة مونت كارلو. نقلاً عن السفير، 7/12/1975.
النهار، 4/12/1976.
النهار، 28/2/1977.
النهار، 3/3/1977.
النهار، 5/3/1977.
__________________________________________________
حياد لبنان أو تحييده يعني:
عزله وعزلته
النائب ادوار حنين(*)، أمين عام "الجبهة اللبنانية"، كتب مرة عن الحياد اللبناني، فاعتبر "الخارجين على الحياد خارجين على لبنان بالذات"، وحدد مفهومه للحياد بالعبارات التالية:
"الحياد الذي ينشده اللبنانيون أصيل ومعقد، فهو حياد عن الشرق والغرب، حياد عن الأبعدين والأقربين، حياد في كل آن وحين، في حالة حرب، في حالة سلم، وفي حالة تحضر وتحضير. حياد كامل ناجز، لا ثغرة فيه، ولا شائبة، ولا عيب، حياد صادق، مخلص، نزيه، حكيم، محكم، أمين... حياد يكون حياداً وحسب. فلا هو حياد إيجابي، ولا هو حياد عطوف، ولا هو حياد جماعي. حياد يكون، بالنسبة إلينا، حكومة وشعباً، كنجم القطب، به نهتدي وعلى ضوئه نسير".
ورد على مآخذ المعارضين للحياد فقال إننا نطالب بالحياد ليصير من حقنا أن نقول: "ليس لبنانياً أي لبناني لا يكون إلا لبنانياً"!!( ).
وفي البيان الذي وجهه رئيس الكتائب إلى المؤتمر الخامس عشر للحزب، طالب بحياد لبناني "يكون حياداً خاصاً، وليس كأي حياد آخر..."( ).
وألقى النائب الكتائبي ادمون رزق، محاضرة بعنوان: "في سبيل حياد لبناني"، فطالب بحياد لبناني دون تعريف ولا حصر ولا تخصيص. واعتبر أن لبنان المحايد "هو الأنفع لعياله والأبر بإخوانه، يفتح آفاق المجد لشعبه، والأمان والبحبوحة، ويخدم العرب، بأن يكون ملتقى لهم وموعداً، يأتونه أصفياء ومتصافين، يحفظونه خارج الخلافات والنزاعات، ليوم مصالحة وتفاهم، لمساع حميدة وجلسات أنس ومودات"( ).
بهذه البلاغة الكلامية، وبهذا الأسلوب العاطفي المنمق الغامض، يعالج معظم أركان "الجبهة اللبنانية" وأنصارهم فكرة الحياد اللبناني. ومع أن هذه الفكرة ليست بالجديدة، فهي تطرح علينا اليوم لاعتقاد أنصارها أن الظروف السياسية الراهنة تسمح بتحقيقها.
ومشروع الحياد، كمشروع التدويل أو القوات الدولية أو الكانتونات، من وحي واحد، ويستهدف أغراضاً متشابهة، وطرح هذه المشاريع في فترات معينة، وإثارة الجدل حولها، وتجنيد بعض الأقلام للدعوة لها، أصبح خطة معروفة ومفضوحة. ولعل وضع الحركة الوطنية، في لبنان وبقية الأقطار العربية، هو المؤشر الصحيح لمعرفة توقيت ظهور هذه المشاريع أو اختفائها، فعندما تكون هذه الحركة في مرحلة مد وانطلاق تختفي كل دعوة مشبوهة، فإذا ما أصيبت بنكسة أو تعرضت لانحسار، أطلت الأفكار والمشروعات الخبيثة من جحورها وسعت إلى فرض وجودها ترسيخ أقدامها. وسنلمس هذه الحقيقة في القسم الثاني من بحثنا المخصص للحديث عن الدعوة للحياد كما ظهرت في السياسة اللبنانية والفكر الانعزالي اللبناني. أما القسم الأول فسنكرسه لحديث موجز عن مفهوم الحياد وتطوره.
ـــــــــــــــــــ
(*) دراسة نشرت في مجلة شؤون فلسطينية، عدد 71، تشرين الأول (أكتوبر) 1977.
القسم الأول: لمحة عن مفهوم الحياد وتطوره
أولاً – مفهوم الحياد قبل الحرب العالمية الأولى
الدولة الحيادية أو المحايدة هي الدولة التي تمتنع، بمحض اختيارها، عن الاشتراك في حرب قائمة بين دولتين أو أكثر، وليس في القانون العام ما يلزم الدول بالتزام الحياد، فلكل دولة، بما تملك من سيادة، مطلق الحرية في الاشتراك في الحروب المشروعة أو البقاء بمعزل عنها والاحتفاظ بعلاقاتها السلمية مع الجميع. غير أنه يترتب على الدولة التي تفضل التزام الحياد اتباع سلوك معين تجاه الدول المتحاربة وتحمل بعض التصرفات الصادرة عنها. وهذا ما يعرف بقانون الحياد. ولا علاقة لهذا القانون بقانون الحرب الذي يحكم وينظم العلاقات بين المتحاربين.
ونظام الحياد يقوم على ركيزتين: واجبات المتحاربين التي تقضي باحترام السيادة الإقليمية، وحرية التنقل والاتصال للدول المحايدة، وواجبات المحايدين التي تقضي بالامتناع عن كل تدخل في النزاع، وبالتعامل مع المتحاربين دون تحيز أو انحياز.
ومفهوم الحياد لم يتبلور، قانوناً وممارسة، ولا هذه ومن قريب، ففي الفترة التي كانت فيها العلاقات الدولية تخضع لسيطرة القوى البحرية الكبرى (مثل انكلترا وهولندا)، لم يكن للحياد وجود، لأن هذه القوى كانت لا تعترف بحياد الآخرين ولا تقيم وزناً لمصالحهم.
ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، ومع حدوث شيء من توازن القوى بين الدول الكبرى، أخذ الحياد يظهر وينمو ويرتدي أشكالاً مختلفة. وكان لموقف الولايات المتحدة الأميركية، في هذا الصدد، أهمية خاصة. فالبيانات التي صدرت عن الرئيس جورج واشنطن في عامي 1793 و1794، وقانون الحياد الأميركي الصادر في 5 – 5 – 1794 (والمجدد في العام 1818) تشكل العناصر الأساسية للممارسة الدولية في حقل الحياد.
وجرت محاولات لتحديد القواعد التقليدية للحياد، وتقنين واجبات المحايدين، لم تكلل بالنجاح، فبقيت هذه القواعد والواجبات مطاطة تسمح للمحايد بتقديم كل المساعدات إلى المحاربين ومنها مرور جيوشهم في أرضه والتحاق مواطنيه بجيوشهم. إن اعتماد الدول الأوروبية في حروبها على المرتزقة السويسريين قد استمر حتى العام 1848، أي إلى أن حرّم ذلك الدستور الفدرالي. وكان إعلان باريس لعام 1856 حول الحرب البحرية أول اتفاق دولي يعالج موضوع الحياد. ولكن الفضل في إقرار التنظيم الدقيق والتفصيلي لحقوق المحايدين وواجباتهم يعود إلى المؤتمر الثاني للسلام الذي عقد في لاهاي في العام 1907.
ثانياً: مفهوم الحياد في القرن العشرين
تعرض مفهوم الحياد، في الحرب العالمية الأولى، لانقلاب في القيم. لقد انتشرت فكرة جديدة تنادي بإلزام كل دولة باتخاذ موقف من المعتدي. فالحرب لم تعد مجرد مبارزة دموية لا علاقة للمحايدين بها، بل أصبحت موجهة ضد الأسرة الدولية جمعاء تحتم على كل دولة التعاون والتضامن لقمعها.
وتسربت هذه الفكرة، ولو بشكل متواضع، إلى ميثاق عصبة الأمم. فواضعو الميثاق لم يجرؤوا، في الحقيقة، على إعلان إلغاء نظام الحياد لئلا ينالوا من مبدأ سيادة الدول، فتبنوا حلاً يعتمد مبدأ التمييز بين الحروب المشروعة، أي الحروب التي يجيزها الميثاق، والحروب غير المشروعة، أي الحروب التي تنتهك
حرمة الميثاق. ففي الحالة الأولى يتم تطبيق المفهوم القديم للحياد التقليدي، وفي الحالة الثانية يعمل بالمفهوم الجديد للحياد الذي سمي بالحياد "الموصوف"، أو الحياد الذي تنص عليه المادة 16 من الميثاق، ومفادها أن أعضاء العصبة، ممن يُعفون من الاشتراك في إنزال العقوبات العسكرية بالمعتدي، ملزمون بالاشتراك في التدابير الجماعية ذات الطابع المالي أو الاقتصادي، وبالسماح للجيوش الأجنبية المتعاونة على قمع المعتدي بالمرور في أقاليمها. أما بالنسبة إلى الدول غير الأعضاء في العصبة فتستطيع التزام الحياد حتى في الحروب التي لا يقرها الميثاق.
وفي بداية الحرب العالمية الثانية، أصيبت الأصول التقليدية للحياد بنكسة من جراء العمل بقواعد تتعارض مع المفهوم التقليدي للحياد. لقد طرأ تغير واضح على وضع بعض الدول المحايدة، وفي طليعتها الولايات المتحدة، فقامت، في فترة حيادها في بداية الحرب، بدور "اللامحارب"، فلم تشترك فعلاً في العمليات الحربية الدائرة بين المتحاربين، ولكنها تدخلت في النزاع باتخاذها تدابير دبلوماسية واقتصادية لصالح أحد الطرفين المتنازعين. فقانون الحياد الأميركي الصادر في 4 – 11 – 1939 أجاز، مثلاً، تصدير الأسلحة للمحاربين مشترطاً دفع ثمنها ونقلها بوسائلهم الخاصة.
ومع ظهور الأمم المتحدة خيل إلى البعض أن المفهوم التقليدي للحياد قد زال، لأن الميثاق الأممي قد تولى تنظيم الأمن الجماعي الذي يجعل الرد على كل تهديد للسلام مهمة جماعية تشترك فيها كل الدول الأعضاء. غير أن الفقهاء الدوليين على خلاف حول هذه الفكرة.
ويبدو لنا أن أحكام الميثاق نفسه، بالإضافة إلى الممارسة التي سارت عليها الأمم المتحدة، منذ العام 1945، تثبت أن قانون الحياد التقليدي لم يطرأ عليه أي تغيير منذ توقيع اتفاقيات لاهاي. فمن حق الدول غير الأعضاء في المنظمة العالمية الالتزام بحالة الحياد في كل حين. وإذا عجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرار حاسم ضد دولة معتدية بسبب استعمال حق النقض، فمن حق الدول الأعضاء اعتماد الحياد، بل إن الأمم المتحدة نفسها قد شجعت ودعمت موقف الدول الحيادية، ففي اتفاقيات جنيف، المبرمة في 12 – 8 – 1949، عهدت إلى هذه الدول بالسهر على تنفيذها. وعند إبرام الهدنة في كوريا، دعت المنظمة السويد والهند (اللتين أعلنتا حيادهما) وسويسرا (ذات الحياد الدستوري الدائم، وغير العضو فيها) إلى تأمين المراقبة على الهدنة ووقف إطلاق النار. وفي العام 1955، وافقت المنظمة على انضمام النمسا إليها بعد اعتراف الدول بحيادها الدائم( ).
ثالثاً: الحياد الدائم
والحياد، في القانون الدولي العام، نوعان: مؤقت ودائم، فالمؤقت موقف تلتزمه الدولة – كما رأينا – تجاه حرب معينة. أما الدائم فوضع قانوني تتعهد فيه الدولة الحيادية بعدم اللجوء إلى القوة، كما تتعهد الدول الكبرى أو المجاورة باحترامه وضمانه. والدول المحايدة، بشكل دائم أو مؤقت، تخضع لنفس الواجبات وتتمتع بنفس الحقوق. وواجباتها على نوعين:
- واجبات منع تقضي بمنع أي من المتحاربين من القيام بأي عمل من أعمال الحرب في إقليم الدولة المحايدة.
- وواجبات امتناع تفرض على الدولة المحايدة الامتناع عن تقديم أية مساعدة لأحد الأطراف المحاربة.
أما حقوقها فتتلخص بما يلي:
- احترام سيادة الدولة المحايدة وسلامة أقاليمها.
- وحرية العلاقات التجارية بين الدول المحايدة، أو بينها وبين المحاربين.
- واحترام رعاياها وصيانة أموالهم في حال وجوهم في أقاليم الدول المحاربة، أو في الأقاليم التي تحتلها هذه الدول. واحترام الرعايا يستلزم عدم تحميلهم من الأعباء والقيود أكثر مما يتحمله الأشخاص الآخرون. إلا أن الدول المحاربة تصبح في حل من احترامهم إذا قاموا بأعمال تتنافى مع حياد دولهم.
ومن الدول التي وضعت في حالة حياد دائم في القرن الماضي: سويسرا في العام 1814، وبلجيكا في العام 1831، ولوكسمبورج في العام 1867. وكان لكل حياد ظروفه وأغراضه، ومع أن ألمانيا كانت من ضمن الدول الضامنة لحياد الدولتين الأخيرتين، فلم تتورع عن غزوهما في الحرب العالمية الأولى، مما دفعهما إلى التخلي عن نظام الحياد. وفي السنوات الأخيرة فرض الحياد الدائم، لأسباب تتعلق بالمساومات والخلافات بين الكبار، على دولتين: النمسا في العام 1955، واللاووس في العام 1962.
والحياد الدائم نظام أوجدته السياسة الأوروبية في القرن التاسع عشر لتحقيق غرضين: حماية الدول الضعيفة التي يعتبر وجودها ضرورياً للمحافظة على التوازن الدولي، ثم حماية السلام العالمي بإقامة حاجز عازل بين دولتين قويتين لتجنب الاحتكاك أو التصادم بينهما( ).
فالمصلحة الخاصة للدول الكبرى هي العامل القوي الذي يملي عليها فرض الحياد على بعض الدول الصغرى، والتعهد بضمانه واحترامه. والتاريخ يثبت بأن مصلحة ألمانيا هي التي كانت السبب في احترام حياة بلجيكا ولوكسمبورج، والسبب كان في انتهاكه. وحياد سويسرا، إن كان قد حظي في البداية، بشيء من الاحترام فلأن جيرانها (أو اثنين منهم على الأقل) كانوا أقوياء، وكان لكل منهم مصلحة خاصة في الحفاظ على هذا الحياد. ولكن، ما أن تغير الوضع واستطاعت إحدى الدول المجاورة (وهي فرنسا النابليونية) التغلب على الآخرين حتى أصبح حياد سويسرا بالنسبة إليها "كلمة جوفاء"، فعمدت إلى ضم قسم من الكانتونات السويسرية إليها. وإحجام هتلر عن مهاجمة سويسرا لم يكن بدافع الاحترام لحيادها، بل لأنه كان يصعب عليه، قبل اجتياح هولندا وبلجيكا وفرنسا، احتلال بلد كسويسرا يتكون من جبال شاهقة ويتمتع بجيش شديد المراس. وبعد أن احتل معظم أوروبة لم يعاود التفكير في قوة سويسرا لأنه لم يعد لها ولحيادها أهمية استراتيجية( ).
رابعاً: الحياد والتحييد
المطالبون بالحياد اللبناني يستعملون غالباً كلمة: تحييد. والفرق شاسع بين الحياد والتحييد في القانون الدولي العام. فالحياد يطبق على دولة مستقلة بكاملها، بينما لا يطبق التحييد إلا على جزء من إقليم دولة معينة، والحياد لا يعني حرمان الدولة من حق التسلح، بينما يحتم التحييد تجريد الجزء المحيد من السلاح.
ولتحييد أغراض، أهمها: إبعاد الخصومات العسكرية عن منطقة متنازع عليها، أو حماية بلد من خطر الاعتداء المفاجىء عليه، أو توفير ضمانات أمنية لدولة مجاورة... وقد ينشأ التحييد باتفاق جماعي. وقد يُفرض أحياناً على دولة دون أن تكون طرفاً في المعاهدة. وكثيراً ما يكون التحييد من أجل تطبيق بعض الأنظمة الدولية على القنوات والمضايق والأنهار.
ومن أشهر الأمثلة على التحييد: تحييد منطقة السافوا الفرنسية (ما بين عامي1815 و1919)، وتحييد جزر آلاوند بين روسيا وفنلندا بعد حرب القرم، وتحييد المنطقة الواقعة بين السويد والنروج بعد زوال الاتحاد بينهما في العام 1905، وتحييد قناة السويس والمضايق التركية في بعض الفترات الزمنية.
ومما لا شك فيه أن المنادين بتحييد لبنان لا يقصدون البتة تحييد قسم منه. إنهم يجانبون التعبير الصحيح، فهم يبغون تحييد لبنان كله، أي تحويله إلى دولة حيادية تعلن حيادها في دستورها، وتعترف به وتضمنه بقية الدول. إن كلمة تحييد، في مخيلاتهم وأمانيهم، مرادفة لكلمة حياد قانوني.
* * * *
القسم الثاني: فكرة الحياد في السياسة والفكر اللبنانيين
أولاً – سياسة الحياد اللبناني بعد الاستقلال
فكرة الحياد اللبناني يعود تاريخها إلى الأيام الأولى للاستقلال. وقد أثيرت آنذاك بمناسبة البحث في تحديد معالم السياسة الخارجية. وتحمس لها زعماء الاستقلال لسببين: دولي وعربي. ففرنسا، التي رضيت مكرهة بمنح الاستقلال للبنان، أرادت تقييده بمعاهدة تحفظ لها بعض الامتيازات دون بقية الدول. ورفض لبنان ذلك وأصر على عدم التمييز بين فرنسا وغيرها من الدول التي كان لها دور في نيل الاستقلال. وكانت فكرة الحياد وقتئذ تعني عدم التمييز، من حيث التعامل الخارجي، بين دولة وأخرى.
أما المبرر العربي لاتباع سياسة الحياد في لبنان فيتلخص في تجنب الصراع الذي كان قائماً بين المعسكرين: الهاشمي (الأردن والعراق) والسعودي (السعودية مدعومة بنظام الملك فاروق). فالخلاف لم يكن عقائدياً، بل تسابقاً وتهافتاً على الزعامة والسيطرة. ولهذا فضل لبنان التزام الحياد إزاء المعسكرين، والقيام بدور حمامة السلام، والاستفادة من خيرات العرب. وعادت هذه السياسة بالفوائد الجمة على الطبقة الحاكمة في لبنان فجعلتها شعاراً للدولة.
فالحياد اللبناني إذن "ليس حياداً أيديولوجياً، بمعنى أنه حكم على سياسة ما إنها خير وعلى أخرى أنها شر. وهو ليس حياداً طموحاً، بمعنى أنه مساهمة في حل مشاكل العالم عن طريق السياسة الحيادية، كما هو الأمر بالنسبة إلى الهند مثلاً. وهو ليس حياداً قانونياً، كالنمسا وسويسرا. ولكنه حياد عملي واقعي، هو أشبه ما يكون بسياسة نفض اليد وعدم حرق الأصابع بنار الخصومات والمشاكل الدولية. فالعمل، أي عمل، مجازفة. والرأي، أي رأي، يسبب مشاكل ومتاعب. والحكمة كل الحكمة في حركة باطنها سكون، وكلمة باطنها التنصل"( ).
غير أن هذه السياسة التي كان لها ما يبررها في السنوات الأولى لعهد الاستقلال لم تعد صالحة للاستمرار، ولم تعد قادرة على مواكبة الأحداث المستجدة وإرضاء الطموح اللبناني، ولا سيما بعد بروز عاملين: قيام إسرائيل التي أصبحت تهدد، بأطماعها التوسعية، لبنان وبقية دول المنطقة، ثم تغير طبيعة الخلافات العربية التي أصبحت خلافات حول العقائد والمبادىء والاتجاهات السياسية والاجتماعية.
وكان من المفروض أن تقلع الطبقة الحاكمة عن خطة الحياد السابقة، ولكنها لم تفعل، لأسباب تتعلق بمصالحها ومكاسبها المادية. بل إنها في منتصف الخسمينات، حاولت خداع الرأي العام اللبناني والعربي وتمويه حقيقة انحيازها إلى الغرب الإمبريالي، فادعت أن الحياد اللبناني ليس سوى امتداد طبيعي للميثاق
الوطني الذي يدعو إلى تخلي لبنان عن الارتباط العضوي بالشرق والغرب على حد سواء. وهذا الادعاء الذي يرمي إلى ربط سياسى الحياد اللبناني بالميثاق الوطني ذكر زميلنا الدكتور جورج ديب بقصة عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، التي انتهت بخلع الإمام علي وحده، لأن الحياد، كما أرادوه وطبقوه، أدى إلى التخلي عن العرب فقط والانحياز إلى الغرب، وحافظ على الفكرة اللبنانية القديمة القائلة بأن لا حماية للبنان بغير الضمانات الأجنبية( ).
ثانياً – ارتباط فكرة الحياد بالأوضاع السياسية
وعندما تعرض الوطن العربي، بعد نجاح الثورة المصرية وتحقيق التقارب بين مصر وسوريا الذي انتهى بالوحدة، لأشرس هجمة امبريالية استهدفت تفتيت وحدته القومية والمصيرية ووجه في أحلاف عسكرية غربية، بادر البعض في لبنان، متستراً بأقنعة براقة، إلى اقتراح تدويل حياد لبنان. وكان الرئيس شارل حلو (الذي كان يكتب في الصحافة في العام 1958) أول من عالج هذا الموضوع معتبراً أن تدويل الحياد مخرج للبنان من المأزق السياسي الذي يتخبط فيه. والمأزق لم يكن، في الحقيقة، مأزق الشعب. لقد كان فقط مأزق الخائفين من نتائج أول خطوة وحدوية، واللاهثين وراء الضمانات الأجنبية بأي شكل من الأشكال.
ومنذ ذلك الحين، ارتبطت فكرة الحياد اللبناني بالأوضاع والمتغيرات السياسية في المنطقة العربية، فواكبت، بخفر وحياء، كل حدث مهم، حتى إذا ما هدأ أو زال، اعتلت المنابر تقنع الناس بفضائلها. والحدث قد يكون انتصاراً للحركة العربية، وقد يكون انهزاماً. لا فرق في ذلك، ففي حالتي المد والجزر ينشط المنادون بالحياد. إن المد العربي يرهبهم فيتوهمون أنه موجه ضدهم. والجزر العربي يريحهم فيسارعون إلى اغتنام الفرصة لانتزاع لبنان من "الخلية" العربية وإنقاذه من "الورطة" الفلسطينية.
فطرح فكرة الحياد كان إذن، منذ أواخر الخمسينات، يعقب الأحداث العربية البارزة. ومعرفة هذه الأحداث مؤشر ضروري يساعدنا على تفسير سلوك المبشرين بالحياد. فرئيس الكتائب تقدم بمشروع رسمي لتحييد لبنان إلى مجلس الوزراء عنما كانت الوحدة المصرية السورية في عزها. وأثار فكرة الحياد في بيانه الافتتاحي للمؤتمر العاشر للحزب، المنعقد في أواخر أيلول (سبتمبر) 1967، عندما كان العرب في فترة انهيار وتفكك على أثر هزيمة حزيران (يونيو). والنائب الكتائبي ادمون رزق، ألقى في مستهل العام 1968، وفي النادي الثقافي العربي، محاضرة دعا فيها إلى تدويل الحياد اللبناني، بعد موافقة الدول العربية والدول الكبرى، ثم إبلاغ ذلك إلى الأمم المتحدة التي تعتبر موافقتها ضمنية بمجرد تسلم الإعلان الدستوري للحياد دون الاعتراض عليه. وقد فعل ذلك عندما كانت القضية العربية تمر بأحلك الظروف. والدكتور شارل مالك، ألقى محاضرة في الجامعة اليسوعية، بعد ضرب مطار بيروت أواخر أيلول (سبتمبر) 1967، عندما كان العرب في فترة انهيار وتفكك على أثر هزيمة حزيران (يونيو). والنائب الكتائبي ادمون رزق، ألقى في مستهل العام 1968، وفي النادي الثقافي العربي، محاضرة دعا فيها إلى تدويل الحياد اللبناني، بعد موافقة الدول العربية والدول الكبرى، ثم إبلاغ ذلك إلى الأمم المتحدة التي تعتبر موافقتها ضمنية بمجرد تسلم الإعلان الدستوري للحياد دون الاعتراض عليه( ). وقد فعل ذلك عندما كانت القضية العربية تمر بأحلك الظروف والدكتور شارل مالك، ألقى محاضرة في الجامعة اليسوعية، بعد ضرب مطار بيروت بأقل من شهر، طرح فيها، بأسلوبه "الفلسفي" المبطن، فكرة الحياد اللبناني( ). وأمانة سر "لجنة البحوث اللبنانية"
المنعقدة في جامعة الروح القدس (الكسليك)، أصدرت في أثناء الحرب الأهلية، دراسة تنادي بالحياد الدائم للبنان( ). وقد تبنى الكتائبيون ما جاء فيها ونشروها دون الإشارة إلى مصدرها، في كتاب "العمل" الشهري الذي وزع مؤخراً( ).
وكما تتأثر الدعوة للحياد بالأوضاع السياسية العربية فإنها تتأثر كذلك، أحياناً بالاعتبارات والمصالح الشخصية. ويكفينا الاستشهاد بالرئيس حلو الذي اضطر، في العام 1964، أي بعد ست سنوات من طرح اقتراحه بتدويل حياد لبنان، إلى إعلان التراجع عنه وإصدار بيان توضيحي نشر في صحيفتي (الأوريان والجريدة) وجاء فيه: "إن مشروع تدويل حياد لبنان قضت به ظروف معينة. وقد انتفت هذه الظروف ولم يعد المشروع وارداً في ذهنه بتاتاً". وتفسير هذا التراجع يكمن في أن الرئيس حلو كان، في هذه الفترة، مرشحاً لرئاسة الجمهورية. "وبعد إذاعة هذا البيان بـ 36 ساعة، وافق المجتمعون في فندق كارلتون على انتخاب شارل حلو رئيساً للجمهورية"( ).
والموضوعية تقضي بأن نعترف بالتزام الرئيس حلو، خلال مدة ولايته، بالتعهد الذي قطعه على نفسه، وبتحذيره، في بعض المناسبات، من مخاطر فكرة الحياد في النزاع العربي الإسرائيلي. وقد أدلى مرة بحديث لمجلة "الإكسبريس" الفرنسية قال فيه: "كان البعض يتمنى، أمام مصاعبنا الحالية، أن نعلن حيادنا في النزاع. إن ذلك وهم. موقعنا الجغرافي وروابطنا المختلفة مع العالم العربي تجعلنا، بالطبع، متضامنين مع العالم العربي. إن الانعزالية فكرة خاطئة وملجأ خاطىء. إن مصيرنا مرتبط، إلى حد كبير، بمصير المنطقة كلها"( ).
ولكن الموضوعية تقضي كذلك بالاعتراف بأنه غير، خلال الحرب الأهلية، موقفه وعاد إلى الحديث عن "لبنان سويسرا الشرق"، والتساؤل: "ولماذا لا يكون لبنان سويسرا الشرق"، والتساؤل: "ولماذا لا يكون لبنان سويسرا الشرق على الصعيد السياسي؟"( )، مما يثبت تأثر دعوة الحياد، أحياناً، بالعوامل والانفعالات الشخصية الآنية.
ثالثاً – التشبه بحياد سويسرا
وعلى ذكر سويسرا نشير إلى أن المنادين بالحياد اللبناني يضعون دائماً نصب أعينهم واعين مواطنيهم المثل السويسري، ويطالبون بالاقتداء به، مع أن التشبه بسويسرا، في هذا المضمار لا يجوز. وذلك لأسباب عديدة:
إن حياد سويسرا كان نتيجة أوضاع أوروبية وحصيلة ملابسات سياسية خاصة لم يعرفها لبنان. وحيادها لم يحمها من الغزو النابليوني. ولا علاقة لحيادها بتعفف هتلر عن اجتياحها. وحيادها سلبي انعزالي انكماشي يهدف إلى التنصل من كل قضية دولية، ولو كانت إنسانية، وإلى تجاهل كل خلاف دولي، ولو كان فيه هلاك العالم، وإلى تجنب المشاركة في أي مجهود بناء، ولو كان الغرض منه توفير الرفاهية للناس وتأمين المزيد من السلام والوئام في الكون. وهذا النوع من الحياد المقيت يتعارض مع ما يتمناه أنصار الحياد للبنان من انفتاح على العالم لنشر رسالته "الحضارية". وحياد سويسرا مادي نفعي أناني، غرضه الرئيسي اجتذاب الرساميل الأجنبية لتوظيفها في خدمة الإمبريالية العالمية وصنع الأسلحة الفتاكة( ). ثم إن سويسرا ليست مهددة بخطر صهيوني جاثم على الحدود يترقب الفرص للانقضاض عليها. ومع أنها ليست مهددة بأي خطر
في الوقت الحاضر، فهي تحرص دوماً على أن يكون لديها جيش نظامي قوي( ). ولعل ذلك يتنافى مع ادعاء البعض من أنصار الحياد بأن قوة لبنان في ضعفه، وبأن الصداقات الدولية قادرة على حمايته من كل اعتداء.
رابعاً – حجج المنادين بالحياد اللبناني
ما هي الحجج التي يدلون بها لدعم موقفهم؟ إن حججهم لا تتسم دائماً بالوضوح والترابط. إنهم يخلطون غالباً بين الحياد كنظام قانوني وبين السياسة الحيادية التي تمارسها الحكومة في بعض المجالات وتجاه بعض القضايا، مما يدل على عدم معرفة عميقة بقواعد الحياد وأسسه، وعدم وضوح في الصورة المرسومة للحياد. والغريب أن بعضهم يتحدث عن الحياد اللبناني كأنه سياسة ينص عليها الدستور، أو سلوك متفق عليه من قبل الجميع، أو أمر مسلم به لا يقبل الجدل. ولا نستبعد أن يكون ذلك من نتائج طغيان أحلامهم وأمانيهم على تفكيرهم، وحجب معالم الواقع عنه. ولو ألقينا نظرة على آرائهم لوجدنا أن حججهم تتلخص بالنقاط التالية:
1 – المطالبة بالحياد ليتمكن لبنان من تأدية دوره الإقليمي ورسالته الكونية، "فأول ما يفترض فيه أن يكون أميناً نحو نفسه، غير متنكر لشخصيته، أو مساوم عليها، أو متهرب منها، أو مزيف لها، أو خجول بها!"( ).
وتعابير: الدور الحضاري، والرسالة الكونية... تتردد كثيراً في كتابات البعض. ولعل مصدرها حب المبالغة والإغراق في الخيال الجامح أو المجنح. وتلك صفة غير مستحبة تنطوي على عدم استقرار نفسي. والمرحوم كمال يوسف الحاج كان يتحدث عن "رسولية لبنان" ويقول إن "لبنان مكلف أكثر من غيره. لقد دعاه القضاء والقدر إلى رسولية عاجلة في الوقت الحاضر... أن يلعب الدور الحضاري الذي تحتاج إليه الشعوب انطلاقاً من قضية فلسطين"( ).
2 – اعتبار مبدأ الحياد اللبناني مبدأ يفرضه الواقع اللبناني، ومبدأ كياننا يرسخ قواعد الكيان. "وعندما يكون الحياد مبدأ كيان يصير الحياد، في مراتب القيم، مثله مثل كل قيمة أخيرة من أجلها يحيا أبناء الشعوب، ومن أجلها يموتون"( ).
3 – الاعتقاد بأن حرص لبنان على الحرية والديمقراطية، والوضع الداخلي فيه يفرضان عليه الحياد( ).
4 – الإيمان بأن في الحياد "خير مخرج للبلاد من أزماتها السياسية والاجتماعية والروحية"( ).
5 – المناداة بالحياد ليكون للبنان علاقات طيبة مع جميع الدول.
إننا نعتقد أن هذه الأهداف أو المزايا التي ينسبها أنصار الحياد إليه يمكن أن تتحقق دون أن يكون لبنان دولة حيادية. إن بإمكان لبنان أن يوطد علاقاته بكل الدول، ويؤدي مهمات خيرة على الصعيدين العربي والدولي، ويعزز مكانة الحرية والديمقراطية في مؤسساته، ويجد حلولاً عادلة لأزماته، دون أن يضطر إلى اتباع النظام الحيادي. ولو افترضنا أن الحياد كفيل بتحقيق هذه الأهداف، فهل تتوافر الشروط المطلوبة للحياد في الوضع اللبناني؟
خامساً – شروط الحياد
هل بإمكان لبنان أن يصبح دولة محايدة؟ أو ما هي شروط الحياد؟ وللتبسيط نقول إن الحياد يتطلب، بشكل عام، أربعة شروط أساسية:
الأول هو موافقة جميع رعايا الدولة أو غالبيتهم الساحقة على مبدأ الحياد.
وهذا الشرط غير متوافر حتى، الآن، في لبنان. بل إنه يصبح مستحيلاً إذا اتبعنا رأي بعض الأنصار الذين يشترطون، بالإضافة إلى موافقة لبنان والدول العربية، موافقة دول العالم على الحياد.
والشرط الثاني هو موافقة الدول المجاورة على الحياد. ومن الصعب أن نتصور قبول سوريا، التي تخوض صراعاً قومياً مصيرياً مع إسرائيل، بنظام حيادي للبنان من شأنه أن يعزله عن قضايا الأمة العربية. وإذا اعتبرنا الدول العربية دولاً مجاورة فإن موقفها لن يختلف عن موقف سوريا. أما إسرائيل فلن توافق على حياده لأن هذا الحياد سيقف عائقاً في وجه أطماعها التوسعية. ولو افترضنا أنها تساهلت ووافقت فسيكون غرضها من ذلك انتزاع الاعتراف بها منه، وإخراجه من المجموعة العربية، واستفراده عندما تسنح الفرصة.
والشرط الثالث هو قدرة الدولة المحايدة على حماية حيادها بنفسها، وسويسرا هنا تقدم إلينا المثل الصالح، فقد قدر الخبراء العسكريون أن هتلر كان بحاجة إلى عشر فرق على الأقل لاحتلال سويسرا. وفي التقرير الذي رفعه رئيس أركان الجيش السويسري إلى حكومته، عقب الحرب، أعلن "أن سلسلة من الظروف المؤاتية جعلت الدول المتحاربة الكبرى تنتهي في حساباتها إلى أن أي عمل عسكري ضد سويسرا يحمل بين طياته احتمالات للخسائر تفوق مجمل الأرباح المبتغاة. وكان العامل الأهم في حساباتها... صلابة جيشنا ومزاياه القتالية"( ). وإذا كان لبنان المتعاون مع الأشقاء العرب يجد صعوبة في الدفاع عن نفسه فكيف سيكون شأنه عندما يصبح محايداً ومسؤولاً وحده عن حماية أرضه وصيانة حياده؟
والشرط الرابع هو أن يكون الحياد في مصلحة الوطن وملائماً لحاجاته. فالبعض يعتقد أن للحياد اللبناني ميزتين أساسيتين: تجنيب لبنان شر إسرائيل، وبالتالي تخفيف عبء الاستعداد العسكري عن كاهله، ثم تأمين أسباب الازدهار له. ولكن الحياد الذي يستعي المزيد من القوة العسكرية يزيد أعباء لبنان ولا يخففها. وأما الازدهار المنتظر فلن يكون من نصيب لبنان الحيادي. فالرساميل التي تتدفق على لبنان عربية في معظمها، وهي ستتوقف أو تقل عندما يشعر أصحابها بابتعاد لبنان عن مسيرة العروبة. والدول الغربية تتعامل اقتصادياً مع لبنان لأنه مركز انطلاق نحو المجالات العربية، فإن فضّل العزلة بحثت عن منطلق آخر لنشاطها. ثم ماذا سيكون موقفه من المقاطعة العربية لإسرائيل؟ وهل من مصلحته التخلي عن تعاطفه مع العرب ليعزل نفسه في حياد لا مبرر له سوى التهرب من مسؤولية الاستعداد لمجابهة الخطر الإسرائيلي، أي التضحية ببعض المكاسب الآنية في سبيل ضمان مستقبله وكيانه وازدهاره في المنطقة؟( ).
فهذه الشروط كلها غير متوافرة بالنسبة إلى لبنان. وقد وافق الدكتور شارل مالك على ذلك عندما استعرض هذه الشروط واستنتج أن "ليس واحد من هذه الأسس الأربعة قائماً حتى الآن بالنسبة للبنان"( ).
وإبان اشتداد الدعوة للحياد، كرس الصحافي ميشال أبو جودة إحدى افتتاحياته لهذا الموضوع، فعرّف الحياد بأنه الاستغناء أو الاكتفاء الذاتي وتساءل عما إذا كان هذا الشيء الأساسي متوافر لدى الشعب اللبناني ليكون على الحياد المطلق. وأجاب بالنفي مؤكداً أن لبنان، منذ تكون الجمهورية اللبنانية، وخلال الانتداب، وبعد الاستقلال، وحتى الآن، لم يكن بلد الاكتفاء الذاتي اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو سياسياً( ).
سادساً – النزعة الانعزالية وراء دعوة الحياد
إذا كان المنادون بالحياد يدركون (على الأقل في أعماقهم) صعوبة الوصول إلى هذا النظام، فلماذا يصرون من وقت إلى آخر، على طرحه والدفاع عنه؟ أو ما هي الأغراض والدوافع الحقيقية الكامنة وراء دعوتهم؟
الأغراض كلها تنطلق من مصدر واحد، هو النزعة الانعزالية القديمة المتجددة. وغالبية أصحاب النزعة أناس متحجرون يعيشون، فكراً ووجداناً، في عصر غير عصرنا. وهم يريدون عزل لبنان عن محيطه العربي، ومنعه بالتالي من التفاعل مع الحركة القومية العربية والإسهام الجدي في حل القضية الفلسطينية. وهم يسعون كذلك إلى عزله عن قضايا الدول النامية والتيارات والتحركات الإنسانية في العالم، والحيلولة دون إسهامه في الانتفاضات التحررية التي يحفل بها العالم، ودون تكتله مع الفئات الخيرة في مختلف الأقطار لتكوين قوة ضاغطة أو رادعة تقف في وجه العابثين بمستقبل البشرية.
ومحاولات الانعزاليين أخذت، في الآونة الأخيرة، تتجه شطر عزل لبنان عربياً، لأن عزله عربياً، أي قومياً، يؤدي، حُكماً وآلياً، إلى عزله فلسطينياً. أما مسألة عزله عن العالم النامي والتيارات التحررية العالمية فتتم، في رأيهم، تدريجياً وبشكل طبيعي، بعد قطع وشائجه وصلاته بمحيطه العربي.
وتهيبوا في البداية، الكشف مباشرة عن نياتهم، فعمدوا إلى أسلوب ذكي يبعد عنهم الشبهات. لقد أخذوا، خلال دعوتهم للحياد، يُطنبون في امتداح دور حمامة السلام الذي يقوم به لبنان بين الأقطار العربية، ويؤكدون على أن حياده لا يتنافى مع عضويته في الأمم المتحدة، لأن الميثاق الأممي "يفسح للحياد مجالاً أكيداً"( )، ولأن في الميثاق "ما يمكن تفسيره بأنه تشجيع على اختيار النظام الحيادي"( )، ولا يتعارض كذلك مع عضويته في جامعة الدول العربية "ما دامت الجامعة ليست منظمة وحدوية ولا اتحادية، ولا خوف منها على استقلالنا..." ( ).
وذهب البعض إلى أبعد من ذلك – بغية إلقاء المزيد من الاطمئنان أو التخدير في قلوب الواجفين الحذرين – فاشترط موافقة الجميع (اللبنانيين والعرب والعالم) على الحياد، وأوحى بأن تحقيقه سيكون لخير العرب وسيتم بإرادتهم. فعندما تحدث رئيس الكتائب في مؤتمر الحزب عن "الحياد اللبناني الخاص" سئل عن كيفية التوفيق بين هذا الحياد وكون لبنان عضواً في الأسرة العربية، فأجاب: "ليس ما يمنع أن يكون لبنان حيادياً بالاتفاق مع الدول العربية، فيكون الأخ المصلح بينها والترجمان بين العرب والخارج، ولا أحد غير لبنان يستطيع القيام بهذا الدور"( ).
وحاول البعض الآخر إيهام العرب بأن حياد لبنان مؤقت أو ظرفي، وبأنه لم يقم إلا بسبب كثرة الخلافات بينهم، وبأن "لبنان سيتخلى عن حياده في العالم العربي يوم يصبح فيه هذا العالم على وئام..."( ). وهذا الاجتهاد في تفسير مبرر قيام الحياد اللبناني لا ينسجم مطلقاً مع فكرة "الرسالة الكونية" وضرورة الحياد لتعزيز الديمقراطية والحرية. وفي ذلك برهان على اضطراب مفهوم الحياد لدى أنصاره.
سابعاً – موقف لبنان المحايد من الجامعة وإسرائيل
وعندما اتسعت الحملة المنادية بالحياد، طرح على رجال الفكر السؤالان التاليان: هل يؤدي حياد لبنان إلى انسحابه من جامعة الدول العربية؟ وهل يقود إلى الاعتراف بإسرائيل والتعامل معها؟
وعبر بعضهم بصدق ووضوح عن رأيه، فأجاب الأستاذ باسم الجسر، مثلاً، بالإيجاب عن السؤالين واعتبر "الحياد الذي لا يعترف بإسرائيل ولا ينسحب من الجامعة من المفارقات والمضاربات الفكرية"( ).
وأدرك العميد ريمون إده المغزى الحقيقي للحياد فأكد أن معناه "إقامة العلاقات السياسية والتجارية مع إسرائيل، وهذا ما لا يمكن أن نوافق عليه"( ). ورفض شقيقه، الأستاذ بيار اده، فكرة "الحياد تجاه قضايا الدول العربية" مؤكداً أن "هذا ما لا يقبله العقل والمنطق والمصير المشترك بين لبنان والدول العربية"( ).
واضطر أقطاب الحياد إلى الإفصاح عن رأيهم، فترددوا في البداية ثم قرروا مسايرة التيار المعارض مكرهين. فالنائب إدمون رزق طمأن "المصابين بالهواجس العربية الشكلية إلى أن الحياد لا يتعارض مع عضويتنا في الجامعة"، وأكد أن موقف لبنان من إسرائيل، عند إعلان حياده، سيظل كما هو( ). وكان الدكتور شارل مالك أشد صراحة عندما استنتج أن تحييد لبنان يحتم علينا "الخروج من عضوية الجامعة، أو على الأقل من الالتزام ببعض بنودها". غير أن نباهته جعلته يستدرك ويضيف: "وهذا شيء مستحيل، وحتى إذا كان ممكناً فلا يجوز"( ). ويبدو أن النتيجة كانت معبرة عما يدور في النفس أكثر من الاستدراك. ولعل الدكتور منوال يونس كان أشدهم صدقاً وذكاء عندما طالب الدولة اللبنانية بأن تتبنى حياداً إقليمياً، قانونياً، علنياً، متكافئاً، إزاء جميع الدول العربية فقط، دون أن يؤد ذلك إلى انسحابها من الجامعة( ).
والظاهرة الغريبة التي تطالعنا لدى دراستنا للتصريحات أو البيانات الصادرة عن المنادين بالحياد هي التناقض بين الأقوال والأفعال، والتعارض بين مواقف المنتمين إلى حزب أو اتجاه واحد، والتباين بين التصريحات التي يدلي بها الشخص الواحد في فترات زمنية متباعدة. ولتقديم مثل واضح نكتفي باستعراض شيء مما جاء في كتاب "العمل" الشهري، الصادر مؤخراً عن الكتائب، والحامل لتاريخ آذار "مارس" الماضي. وما يعنينا منه بيان ودراسة. أما البيان فصادر عن إحدى خلوات الكتائب، المنعقدة في 17/8/1975. وأما الدراسة فمتعلقة بالحياد الدائم للبنان.
في البند الثامن من البيان أكد الحزب "حرصه على الوفاء بالتزامات لبنان العربية، كمقررات ومؤتمرات القمة ومجلس جامعة الدول العربية ومجلس الدفاع العربي المشترك، وما انبثق عنها أو تفرع منها". ولكن الدراسة تتناقض كل التناقض مع ما ورد في البيان ومع ما ورد في العديد من البيانات والتصريحات الحزبية.
إن الدراسة تطالب، بصراحة متناهية، بحياد لبنان لتحقيق غرضين: تحييد لبنان عربياً، أي إخراجه من الجامعة، وتحييده فلسطينياً، أي نفض يديه من قضية العرب الأولى.
تقول الدراسة: "لا تستطيع الدولة ذات الحياد الدائم أن تكون عضواً في أية منظمة سياسية إقليمية...". وبما أن جامعة الدول العربية ينطبق عليها هذا الوصف، فليس بإمكان لبنان أن يبقى عضواً فيها. إن الدراسة لا تعلن ذلك بوضوح، بل تفضل استعمال جملة تؤدي إلى نفس النتيجة، لأنها تحول لبنان في الجامعة إلى عضو مراقب أو مستمع عن طريق مسخ وره وتقزيم وجوده. فهي تقول: "... وهكذا لن يكون بوسع لبنان البقاء فريقاً في معاهدة الدفاع العربي المشترك أو الاشتراك في اجتماعات اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية".
وبالنسبة إلى علاقة لبنان بإسرائيل، تنص الدراسة على أن لبنان المحايد "لا يستطيع أن يعلن كونه في حالة حرب مع إسرائيل"، وأنه "لن يعلن بقاءه في حالة حرب مع إسرائيل، ولكنه لن يكون في حالة سلم
معها". والدراسة تشير إلى بعض أحكام الميثاق الأممي التي تمنع اللجوء إلى الحرب وتلزم أعضاء الأمم المتحدة بتسوية نزاعاتهم الدولية بالطرق السلمية، كأنها تريد التأكيد على أن لبنان لن يخوض حرباً ضد إسرائيل في المستقبل.
وكل من يتأمل هذا الكلام السافر، الذي لم يعترض عليه أحد من المهللين للحياد أو ممن زعموا أن حياد لبنان لا يغير شيئاً من التزاماته العربية إزاء العدو الإسرائيلي، يكتشف النتيجة التي يقود إليها تحييد لبنان، وهي التخلص نهائياً من كل الالتزامات المترتبة على لبنان كعضو في الجامعة وطرف في معاهدة الدفاع المشترك وشريك في مهمة الذود عن المصير العربي. وكل ذلك تمهيداً لمصالحة إسرائيل بعد مهادنتها، والتعامل معها بعد إلغاء الهدنة وإنهاء حالة الحرب.
ويبقى لنا، في ختام البحث، أن نبدي بعض الملاحظات:
الأولى هي أن الحياد اللبناني الذي ينشده البعض ليس غاية لخير الوطن، بل وسيلة لتحقيق حلم انعزالي. وبما أن الداعين له يريدون بلوغه بأي شكل أو ثمن، فقد أهملوا، في معرض شرحهم لمحاسنه، كل حديث عن مضمونه وأسسه وتطبيقه ونتائجه. كل ما يهمهم من الحياد هو تحييد لبنان ليتسنى لهم "اقتلاع" جذور الفلسطينيين منه (كما يقول سعيد عقل في برنامج حزبه "التبادعي")، وقطع دابر العروبة فيه، لأن القومية العربية (كما كان يدعي كمال الحاج) تتساوى في خطرها على لبنان مع القومية الصهيونية( )، ولأن "كلمة عربي تعني الإسلام"، ولأن علماء التاريخ والجغرافيا لم يتمكنوا بعد من تحديد مسألة عروبة لبنان (كما يردد اليوم رئيس الكتائب) ( ).
ولشدة اندفاعهم في سبيل إنجاز مخططهم بأقصى سرعة ارتكب معظمهم أخطاء جسيمة في معالجته لموضوع الحياد. بل إن غالبيتهم (كما لاحظ الدكتور نعيم) لم تفهم تماماً ما تعنيه كلمة حياد( ). وفي غمرة حماستهم لمشروعهم لم يتنبهوا إلى أن مبدأ الحياد يقضي بعدم الانحياز إلى الشرق والغرب، فبالغوا في هجائهم للشرق وتحاملهم عليه وبالغوا في ارتمائهم في أحضان الغرب حتى طالبوا (بلسان بشير الجميل) بإقامة "جسور صريحة ومتينة مع الغرب لكي تشعر دول الغرب أننا امتداد لحضارتها في الشرق ونمثل جزءاً من القيم التي تمثلها هي، وأنها تمثل تطلعاتنا المستقبلية"( ).
وعلى الرغم من كل هذه العثرات والهنات لا يسعنا إلا الإقرار بوجود فئة من اللبنانيين تادي بالحياد عن صدق وحسن نية لأنها تتصور أن فيه كل الخير للوطن. ولكن هذه الفئة قلة لا أثر لها في حياتنا السياسية.
والملاحظة الثانية هي أن معظم اللبنانيين يطمحون (وإن كانت سياسة حكوماتهم تخيب آمالهم في كثير من الأحيان) إلى أن يتبع بلدهم سياسة حيادية إزاء المعسكرات والأحلاف الأجنبية، وإزاء الخصومات والعنعنات الشخصية التي تندلع، من حين إلى آخر، بين الحكام العرب. والتزام الحياد هنا هو الحكمة بعينها. ولكن الحياد يصبح مرفوضاً وينقلب إلى إهمال وتقصير وتهرب من المسؤولية عندما يكون سبب الخلافات أو الانقسامات قضايا قومية أو إنسانية أو تحررية. إن الشعب اللبناني الذي يفاخر الدنيا بتعشقه للحرية يعز عليه أن يقف على الحياد عندما تتعرض الحرية للاضطهاد في أي بلد كان.
ونستشهد هنا بتعليق دبجه الشهيد كمال جنبلاط رداً على تصريح منسوب إلى رئيس الجمهورية (شارل حلو) نشرته إحدى الصحف في العام 1967( ). وكان التصريح يتحدث عن سياسة لبنان المحايد التي تسعى إلى التوفيق بين جميع الأطراف دون انحياز لفئة ضد أخرى. وبيّن الشهيد جنبلاط في تعليقه أن لبنان لا
يمكن أن يكون على الحياد في المجال العربي "لأنه كبلد وشعب ودولة ينزع إلى توكيد الخط الوطني العربي المتحرر، وإلى تحقيق سياسة التطور الاجتماعي دون أن يدخل فريقاً مباشراً في الخلافات العربية التي تخرج عن تأييد وتوكيد هذين الخطين الرئيسيين... لا يمكن الإنسان أن يكون على الحياد بين مجتمع التأخر والاسترقاق السياسي والاجتماعي وبين مجتمع الحرية والتقدم والكرامة البشرية، أي لا يمكن للإنسان أن يكون على الحياد بين سيف الإسلام الوارث للتراث التوراتي القبلي المتأخر حيث لا يزالون يبتاعون العبيد من البشر، وبين الجمهورية الديمقراطية اليمنية"( ).
والملاحظة الثالثة هي أن حياد لبنان إزاء إسرائيل مستحيل. بل هو، قومياً، وضميرياً، خيانة. ويكفينا أن نسوق الفقرة التالية من كتاب الأستاذ هنري أبو خاطر:
"تنزع بعض الفئات في لبنان إلى المطالبة بحياده سلماً وحرباً بضمانات توفرها الدول ويستقر معها البلد واحة طمأنينة في بقعة مضطربة من الشرق، عله يباعد بين الخطر الصهيوني وبين نفسه. إن الحياد لا ينقذ لبنان، في عرفنا، على المدى الطويل من خطر التوسع الصهيوني على أرضه ومياهه، بل يفتح ثغرة في الجبهة الأمامية بمواجهة إسرائيل، تفك معها هذه الأخيرة قيود الحصار لتنفذ، خطوة خطوة، إلى سوريا والأردن والعراق وما إليها، وإلى وادي النيل، تصطنع الدويلات العرقية والدينية تبريراً لوجودها وتحقيقاً لنهم في السيطرة على مرافق الحياة في بقعة رحبة تمتد من النيل إلى الفرات، وما وراءه"( ).
والملاحظة الرابعة والأخيرة هي أن نجاح مشروع الحياد في لبنان (الذي ينطوي حتماً على حياد تجاه إسرائيل والدول الإمبريالية المناصرة لها) قد يغري الأنظمة العربية الأخرى بالاقتداء بلبنان (حباً بالتقليد، أو رغبة في التملص من كل مسؤولية قومية) فماذا سيحل بالقضية الفلسطينية إن عمّم الحياد؟ وكيف ستكون طبيعة العلاقات بين الأقطار العربية؟ وكيف ستصبح علاقات العرب بالولايات المتحدة، الحامية لإسرائيل والضامنة لعنصريتها وأطماعها؟ لقد انحازوا إليها دون حياد، فالتزمت هي الحياد تجاههم، وانغمست في الانحياز لإسرائيل. لقد أعطوها شيكاً على بياض فأعطتهم شيكات بلا رصيد( ). فماذا ستعطيهم إذا اختاروا فعلاً نظام الحياد؟(انتهى)
الحواشي
راجع مقاله في صحيفة الحياة، 11/3/1967.
النهار، 23/9/1972.
راجع نص محاضرته في مجلة الثقافة العربية، عدد كانون الثاني (يناير) 1968 والمجلة تصدر عن النادي الثقافي العربي في بيروت.
راجع ص 564-570 من كتاب:
Louis Delbez, Les principes generaux du droit int. pub., Paris 1964.
القانون الدولي العام، للدكتور علي صادق أبو هيف، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1962، ص218.
راجع مقال الدكتور ادمون نعيم عن أسباب الحياد الدائم وشروطه، في كتابه:
Points de vue, Beyrouth, 1959, pp. 45-46.
راجع محاضرة الدكتور جورج ديب عن استحالة الحياد اللبناني، في مجلة الثقافة العربية، العدد المذكور، ص15.
نفس المرجع السابق، ص17 و24.
الثقافة العربية، المذكورة.
العمل، 29/1/1969.
نشرتها الصحف في 29/11/1975.
يحمل تاريخ آذار (مارس) 1977 ص34-39.
الحوادث، 4/7/1969.
النهار، 23/12/1969.
راجع تصريحه لإذاعة هولندا في السفير 12/8/1976.
راجع بحثنا عن نظام الكانتونات السويسري، في شؤون فلسطينية، عدد 63-64.
راجع مقالنا عن: التدويل والتحييد والبوليس الدولي، في مجلة الطريق، عدد شباط (فبراير) 1969.
راجع محاضرة ادمون رزق، المذكورة، في الثقافة العربية، ص8.
راجع محاضرته عن: قوميات إزاء القومية اللبنانية، في كتاب: أبعاد القومية اللبنانية، من منشورات جامعة الروح القدس (الكسليك) 1970، ص56.
راجع مقال ادوار حنين المذكور.
راجع أجوبة د. جورج حكيم، ود. منوال يونس، في تحقيق مجلة الأسبوع العربي حول الحياد اللبناني، في 17/4/1967.
مقال ادوار حنين المذكور.
من محاضرة للزعيم شوكت شقير بعنوان: كيف ندافع عن وطننا تجاه إسرائيل، نشرت المحرر، في 25/1/1973، مقتطفات منها.
راجع كتاب: لبنان والتحدي الإسرائيلي، لباسم الجسر وداود الصائغ، من منشورات نادي 22 تشرين الثاني (نوفمبر)، بيروت 1969، ص116 – 119، وراجع ما كتبه باسم الجسر في الحوادث، 17/1/1969 ص6-7، وما قاله في ندوة "قضايا الدفاع عن الوطن"، المنشورة في مجلة الثقافة العربية، عدد شباط (فبراير) 1969، ص83 وما بعدها.
راجع محاضرته، المذكورة.
راجع افتتاحية النهار في 12/3/1967.
العمل الشهري، المذكور، ص36.
محاضرة ادمون رزق، المذكورة، ص7.
نفس المرجع السابق.
النهار، 23/9/1972.
راجع مقال الدكتور وليم حداد عن: الحياد في مفهوم السياسة اللبنانية، في مجلة السياسة الدولية، عدد أبريل 1969، ص115-122. وقد سبق للكاتب أن ناقش، في فرنسا، في العام 1967، أطروحة دكتوراه بعنوان: لبنان بين سياسة الحياد والسياسة العربية.
راجع ندوته في الثقافة العربية لعام 1969.
النهار، 29/6/1968.
من محاضرة له ألقاها في طرابلس بعنوان: الوجود اللبناني في المحيط العربي ودوره. النهار، 30/3/1971.
راجع محاضرته المذكورة.
العمل، 29/1/1969.
راجع تحقيق الأسبوع العربي، المذكور.
راجع محاضرته المذكورة، ص36. ومع أنه يزعم أن "القومية اللبنانية هي وحدها الموجودة في لبنان فعلاً وقولاً" (ص32) فإنه يناقض نفسه عندما يؤكد بعد ذلك أن لبنان حتى الآن "هو البلد العربي الوحيد الذي اعترف رسمياً بالفداء" و"أن لبنان أقوى عروبة من أي بلد عربي آخر" (ص60).
راجع تصريحاته الأخيرة في السفير، 9 و30/6/1977.
راجع كتابه المذكور، ص45.
راجع نص خطابه في أحد الاحتفالات الحزبية. النهار، 12/5/1977.
راجع الجريدة، 6/3/1967.
الأنباء، 11/3/1967.
راجع ص65 من كتابه: فلسطين والخطر المصيري، منشورات عويدات، بيروت.
راجع افتتاحية النهار، 11/8/1977.(النهاية)
_______________________________________________
Last Updated (Friday, 29 June 2012 10:45)




