بيروت في: 29/7/2002
بقلم إميل خوري
الكلام على (الفقيد) الغالي الزميل العزيز عباس بدر الدين يعيدني إلى محطات من الذكريات لا تنسى، وتقرب مسافة الشوق إليه مسافة الفراق، وتحرك في العين دمعة محبوسة على غيابه الطويل.
لقد كان عباس بدر الدين من جيل الصحافيين المكافحين اللاهثين وراء الخبر والملاحقين كل حدث، يوم كانت الصحافة فعلاً وواقعاً، مهنة المتاعب بل مهنة الترهب والتنسك والتفرغ الكامل لنشاطاتها في كل المجالات، ولم تكن كما هي اليوم، ترفاً ووجاهة وتصريحات تخزنها آلات التسجيل والكاسيتات، ولا تخزنها الذاكرة ولا يسجلها القلم.
لقد كنت و(الفقيد) نلتقي كل يوم تقريباً في مختلف الدوائر الرسمية بحثاً عن خبر مثير ننفرد به، أو عند زعيم سياسي نستصرحه.
وكانت وكالة "أخبار لبنان" الوكالة الأولى التي تستقي منها الصحف الأخبار عن كل لبنان ولم تكن تفوتها شاردة ولا واردة من أحداث وحوادث تقع في أي منطقة، فكانت المصدر الرئيسي، ليس للصحف وحدها، بل للنواب والسياسيين والرسميين، الذين كانوا يعتمدونها لنشر تصريحاتهم وأحاديثهم وأخبارهم لأنها الأوسع انتشاراً.
واستطاع الفقيد العزيز أن يقيم شبكة علاقات متينة وصداقات قوية مع أهل الحكم وأهل السياسة، معارضين وموالين، وأن يكون مؤتمناً على الكثير من أسرارهم وعلى ما يسمع ويرى في مجالسهم الخاصة، يوم كانت المجالس فعلاً بالأمانات. فلا تسريب منها إلى هذه الجهة أو تلك، داخلية أو خارجية، بحيث يبقى الصحافي قادراً على أن يجمع بين شرف المهنة والأمانة لها، والصداقات في آن واحد.
لقد (استشهد) الصحافي المكافح والمثابر عباس بدر الدين في سبيل مهنته، ومن أجل ملاحقة الأحداث وتغطيتها، فكانت رغبته شديدة في أن يكون في عداد الوفد الذي زار ليبيا برئاسة الإمام موسى الصدر، رجل الوفاق والوئام، الموحد بين اللبنانيين على اختلاف اتجاهاتهم ومشاريعهم ومذاهبهم. لكن سوء الطالع وقضاء القدر حالا دون أن يعود عباس بدر الدين بالأخبار المهمة عن نشاط الوفد لتنقلها وسائل الإعلام وإذ بها تنقل الخبر المفجع.
لقد كان عباس، عباساً في ساحة الإعلام، وبدراً للدين وللصحافة لا يغيب، بل يضيء بنوره الفضي ظلمة الزمن الرديء.
لا يهمني معرفة كيف (مات) العزيز عباس وكيف اختفى وغاب أو غُيب، إنما يهمني أن أرى استمرار رسالته الصحافية عبر "وكالة أخبار لبنان" التي أنشأها وجعلها في المرتبة الأولى، وأن يتسلم نجله زاهر من بعده، المشعل الذي لا يطفئه موت، ولا يقلص مساحة الحق اضطهاد، ولا مساحة الحرية قيود. لتبقى الصحافة سلطة رابعة ولا سلطة تابعة،سلطة لا تكون قوة تدمر،بل قوة تعمر، وأن يبقى عالم الإعلام لجميع الناس، ينمي الصداقة فيما بينهم، ويزرع في نفوسهم المحبة والسلام.
وباستمرار "وكالة أخبار لبنان" حية زاهرة مع زاهر، ما يثبت أن مؤسسها عباس لم يقدم سمكة إلى أبنائه إنما علمهم كيف يصطادون السمك، وكيف ينتصرون للمظلوم على الظالم، وينحازون للمسحوقين والمستضعفين، ويحمون المجتمع من الآفات.
لقد حول (الراحل) العزيز رحلته الطويلة حدثاً مهماً لا يغيب عن ذاكرة محبيه، فيتذكرونه في كل ذكرى، صحافياً مجتهداً ومقتدراً، محباً لوطنه ومخلصاً لمواطنيه، يعتز بوطن له هويته وهو دائماً على حق، لكنه بات، بكل أسف، وطناً هويته قيد الدرس، والحق دائماً عليه لا معه...(انتهى)