ريبة الزيارة .. والوداع الأخير

 

بيروت في :25-8-2002
بقلم
الدكتور حسين علي يتيم 

   لما طلب مني زاهر عباس بدر الدين أن أتذكر والده الصحافي عباس بدر الدين، بمناسبة ذكرى 31 آب لعام 2002، كان كأنه قرأ ما يختبئ في ذاكرتي من دقائق الأمور والأسرار، فمس بذلك شغاف نفسي، وألهب عواطفي، نحو قضية من قضايا العصر الكبرى، ألا وهي مؤامرة إخفاء رجل من رجال العصر الحديث، عنيت به الإمام السيد موسى الصدر ورفيقي درب آلامه، عباس بدر الدين والشيخ محمد يعقوب.    ولست هنا لأسرد واقعة غريبة، فيها من المفارقات والمصادفات الكثير من الأسئلة والتساؤل والتعجب والإعجاب، وهي قصة ملأت الدنيا وشغلت الناس..   بل لأضيء على الدور الهام الذي كان يضطلع به عباس بدر الدين في رفاقيته للإمام القائد موسى الصدر.   ذات يوم، وقبل سفر الإمام بساعات معدودات، هي أقل من عدد أصابع اليدين على ما أذكر، اتصل بي أمين سر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الأستاذ عبد الله موسى، وهو حي يرزق، أطال الله عمره، ليطلب مني أن أوافي الإمام موسى الصدر في "مؤسسة الزهراء" (الجامعة الإسلامية اليوم)، لأمر هام وعاجل، على أن يجتمع المكتب السياسي بمن توفر من أعضائه ظهر ذاك اليوم، وكلفني أن أبلغ الدعوة للسيد عباس، على أن يكون مستعداً للسفر معه إلى ليبيا.   وكان عباس بدر الدين، قد نقل مكاتبه وفريق عمله في "وكالة أخبار لبنان" التي يملكها إلى المعهد العربي. فلقد كان وسط بيروت حيث مكاتب "الوكالة" قد احترقت بفعل الحرب التي استعرت في وسط العاصمة.   وكان على السيد عباس أن يوجد مركزاً بديلاً لمكاتبه، فاستأذنني أن يكون ضيفي طيلة فترة الصيف حيث لا طلاب ولا تدريس في المعهد العربي، بولفار سليم سلام، وكنت قد وافقت فوراً على ذلك بدون تفكير أو تردد. وكان بين موظفي الوكالة المنقولة إلى المعهد العربي الصحافي الذي أصبح فيما بعد لامعاً في مجال الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب الصديق الأستاذ واصف عواضة، الذي لا يزال حياً يرزق، أطال الله بعمره.   وهكذا أبلغت السيد عباس "أمر المهمة" فظهر عليه الخوف والاكتئاب فور تبلغه الأمر، وقال لي: يا أخي حسين، أنا خائف من هذه "السفرة" إني أشعر وكأن المجهول يكمن وراءها! وإني أطلب منك برجاء حار، أن تحاول إقناع الإمام بالإقلاع عن فكرة السفر إلى ليبيا، فليس هناك ما يوحي بالأمان والإيمان. وأنت بدورك سجل رفضك الذهاب في هذه "السفرة" إذا طلب منك ذلك، فلعل في ذلك ما يجعله يعيد النظر بقراره. أجبته: سأبذل قصارى جهدي، وأنا من رأيك تماماً، وفي أي حال، إذا أصر الإمام على هذه "المخاطرة" فهو مخطئ، والذين زينوا الأمر له هم بدورهم مخطئون، وأنا أعرفهم، ولكني لن أكون معه قطعاً إلى ليبيا.   وصلت على الموعد، وكان موجوداً على ما أذكر، مع الإمام في الزهراء، الصديق الدكتور حسين كنعان، والصديق عبد الله موسى، والمرحوم أحمد اسماعيل ورفيق الإمام المغيب الشيخ محمد يعقوب.   ولن أكشف في هذا المقام ما جرى مع الإمام من حوار ساخن لثنيه عن سفره. ولا عن المشادة الكلامية العاصفة مع الشيخ محمد يعقوب، وذلك حتى لا تبهت الإضاءة على دور عباس في هذه العجالة. وأفضل ترك هذه التفاصيل المثيرة لمناسبات أخرى. لعل في ذلك ما يغني التاريخ ببعض المعلومات حول الرجل الإصلاحي الكبير الإمام موسى الصدر ومؤامرة إخفائه.   طيلة اللقاء لبثت واقفاً، إلى أن اختل مزاجي العصبي، ساعة قرأت الإصرار الحاد على السفر للشيخ محمد يعقوب، على أن هذا الرجل المؤمن الصادق ما كان يدري ما كتب له ولرفاقه..   ودعت السيد الإمام، وكان شعوري فعلاً أنه الوداع الأخير، كما كان العشاء الأخير مع السيد المسيح، وهبطت السلالم دامع العينين، غاضباً، تائهاً، حائراً، محبطاً، ولست لأنسى أن الدكتور حسين كنعان أطال الله عمره قد بذل بدوره جهده لإحباط "السفرة". وكذلك فعل الرجل الصادق المرحوم أحمد اسماعيل، اللذان رفضا بدورهما السفر إلى ليبيا.   وفي أسفل السلالم التقيت السيد عباس صاعداً لتلبية دعوة الإمام، ودعوة القدر، مرتدياً بذلة السفر، حاملاً بيده حقيبة الرحلة الأخيرة...   سألني بلهفة، ماذا فعلت يا حسين؟ بربك قل لي؟   قلت له يا عباس: حمى الله الإمام، وحماكم، فالسفر أصبح قدراً لا بد منه!   أجاب: "أمري لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قدري أن أكون مع هذا الرجل، ولست أخشى قدري معه بقدر ما أخشى قدرنا كلنا معه في رحلة فيها كل الشؤم وكل الشياطين".   ومع عباس كان الوداع الأخير الذي أصبح عمره اليوم ربع قرن تقريباً.   وأخيراً أقول: هل أصبح الإمام موسى الصدر ورفيقاه قرابين لتظهير قضية المحرومين في لبنان، كل لبنان، ثم لتغيير المعادلة السياسية في لبنان وهي كانت معادلة ظالمة، ثم لتغيير المعادلات، كل المعادلات في المنطقة، سؤال يطرح نفسه؟   في رأيي أن الإمام الصدر ورفيقيه كانوا كبش فداء عن أمة كاملة وليس عن طائفة فحسب، لأن الإمام وضع اللبنة الأولى للمقاومة في لبنان نيابة عن الأمة العربية فانكسرت بهذا شوكة الجيش الذي لا يقهر، جيش الدفاع الإسرائيلي وكان التحرير.